مغتصبا لحقوق هذا البنيان العام، وصار يكفي أن يقال في بعض البلاد إن فلانا لا دين له ليحكم عليه بأنه لا أخلاق له، ولا شك في أن هذا خلط غريب؛ لأن القواعد التي يتفق فيها الدين والأخلاق هي قواعد الأخلاق، ولم يكن أمر الدين فيها إلا تقريريا، فالفضائل القديمة الموجودة قبل أن يوجد أي دين معروف هي من الأخلاق، وإنما أخذها الدين عنها؛ وإذن فتطبيقها هو من تطبيق قواعد الأخلاق، وبما أن تلك من خلق بني آدم ألجأتهم إليها ضرورة الاجتماع فيجب أن يكون لهم حرية التصرف فيها كما تقضي به مصلحتهم.
لهذا السبب أحسب أن من أصدق النظريات وأمتنها في التطبيق رأي علماء التربية الاستقلالية، القائل بأن لا يلقن الصغير من أوليات أيامه حتى الثامنة عشرة من عمره شيئا من الدين مطلقا، وأن يترك حر الفكر إلى آخر درجات الحرية ، يتصور كما يحلو له ويثبت النظريات وينقضها بما توحي له به نفسه ويشهد به أمامه الواقع، ولم أر أقتل لحرية الفكر ولا أشد إيقافا للقوى العاقلة أكثر من موانع الدين والاعتقاد، ليكن الدين حرا مهما يكون، وليسوغ للإنسان النظر والتفكير كيفما يسوغ فإن قيوده الحديدية التي توضع في رجل الإنسان من يوم ميلاده قيود ثقال ما أصعب التحلل منها وما أمره على النفس، بل إنا لنجعل غايتنا دائما حين نفكر وحين نتناقش وحين نكتب أن نصل للنتيجة التي قررها الدين من قبل لا إلى التي تنتجها العلل والأسباب التي تقع تحت حسنا، وقليل منا الرجل أو الكاتب الحر الذي يبتدئ من المقدمات ليصل إلى النتائج لا أن يضع ثم يرجع لخلق مقدماتها.
واستمر الرجل كذلك مدة كأنه قسيس حرية الفكر أو إن شئت قسيس اللادينية، والقوم أمامه كلهم آذان يستمعون وعليهم سيما التسليم والاحترام لا ينبسون، والسيدات منهم أصخن كما يصغين لواعظ في الكنيسة، أما خصمه فقد تأثر بسكينة القوم وأصبح هو الآخر منصتا سميعا.
ولما أتم كلامه كانت الخادمة قد أحضرت زيزفونا
Tilleul
قامت ربة الدار بتحضيره، وانتقل الموجودون إلى أحاديث أخرى وانتهت الليلة كأحسن ما يكون.
31 ديسمبر
الساعة الحادية عشر مساء فلم يبق من العام إلا ساعة واحدة وها أنا أسأل نفسى إلى أين يذهب العام الماضي وبم يجيء العام الجديد، وبكلمة أخرى من أجل ماذا يعيش الإنسان.
مسألة المسائل وكبرى المعضلات، هي المسألة التي حار فيها الناس جميعا ولم يجدوا لها جوابا شافيا، يجيلون بصرهم لما هم فيه فلا يجدون إلا جدا ولغوبا وقليل من ساعات السرور التي تفرض نفسها فتأخذهم الحيرة في معنى الوجود، وساعات السرور هذه هي الساعات التي ينسون فيها أنفسهم فكأنما هم أشقياء ما ذكروها، ومع ذلك هم على الحياة دائبون، فلماذا يعيشون؟
قال قوم إنما يعيشون ليعبدوا الله، أفإن كان ذلك فما كان أغنى الله عن أن يخلقهم، وقال آخرون إنما خلقوا ليسعوا في الأرض وليأكلوا من ثمرها، وربما كان هؤلاء أعقل.
Неизвестная страница