وفي مقال له آخر عنوانه: «في معرض الصور» (نشر سنة 1924م) يبين العقاد الصلة الضرورية بين الحرية وبين القيود التي لا بد من قيامها ليتغلب عليها الإنسان الحر، وإلا فبغير قيد فلا حرية، فانظر إلى بيت الشعر وتصرف الشاعر فيه: إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهو قيود شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها، حين يخطر بين كل هذه السدود خطرة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل. وأهم مؤلفات العقاد التي يشيع فيها فكره الفلسفي: «الله» و«مطالعات في الكتب والحياة» و«الفلسفة القرآنية» و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» و«ابن رشد» و«ابن سينا». •••
كذلك كان الدكتور طه حسين فيما كتب وما بحث، داعيا إلى الحرية الفكرية وإلى التزام المنهج العقلي الصرف؛ حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضعة لذلك المنهج، فها هو ذا يقول في كتابه «في الأدب الجاهلي» (ص67): أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فكان الدكتور طه حسين بهذا الذي صدر به بحثه في الأدب الجاهلي، كأنما يضع منهاجا لحياتنا الجامعية كلها، مؤداه أن يكون الباحث موضوعي النظر، مستقلا حرا غير مقيد بالآراء السابقة التي قيلت في موضوع بحثه، لا يميل مع الهوى، ملقيا بزمام بحثه إلى المنهج العلمي وحده، ولتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، فما كان اختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض، إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء (ص69).
ولكي يؤيد الدكتور طه حسين دعوته إلى التعقيل، أخذ في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» يبين كيف كانت مصر طوال تاريخها ذات مزاج عقلي خالص، بدليل تأثيرها وتأثرها باليونان الذين هم رمز للفكر المنطقي الهادئ. وحسبنا في ذلك أن نعلم أن الإسكندرية كانت ذات يوم هي المقر الرئيسي للثقافة اليونانية بكل ما فيها من فلسفة وعلم، يقول: «فمن المحقق أن الثقافة اليونانية - على اختلاف فروعها وألوانها - قد لجأت إلى مصر فوجدت فيها ملجأ أمينا وحصنا حصينا، وظفرت فيها من النمو والانتشار بما لم تظفر بمثله، حين كانت مستقرة في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية الأوروبية أو الآسيوية» (19).
ولئن كانت مصر عقلية الطابع قبل الإسلام، فهي كذلك عقلية الطابع بعد الإسلام؛ لأن الإسلام يساير العقل ولا يضاده، وإلا فكيف يكون قوام الحياة العقلية في أوروبا هو اتصالها بالشرق الإسلامي، بحيث ينشأ في أوروبا عقل علمي خلق أوروبا الحديثة، ثم نتصور مع ذلك أن الأصل الذي أمد أوروبا بثقافتها العقلية محروم من ذلك الطابع العقلي نفسه. فهل يعقل أن تنشأ ثقافة في شرقي البحر الأبيض المتوسط «فلا تؤثر في عقول أصحابها شيئا، فإذا أرسلوها إلى غرب هذا البحر خلقت أهل هذا الغرب خلقا جديدا؟» (ص25). ومن المؤلفات الفلسفية للدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» و«قادة الفكر».
3
نشأت الجامعات فنشأت بأقسام الفلسفة فيها دراسات من نوع آخر غير ما قد عرضناه عند متفلسفة المفكرين، فلم يعد الأمر هنا مقصورا على أن يصطبغ الفكر بصبغة فلسفية، بل جاوز ذلك إلى البحوث الأكاديمية التي تناولت نشر التراث الفلسفي نشرا محققا، كما تناولت نقل المذاهب الفلسفية الغربية قديمها وحديثها، نقلا اكتفى بالترجمة حينا وأضاف إلى الترجمة تعليقا ونقدا حينا آخر. وأخيرا تناول التأليف في شتى الموضوعات الفلسفية، تأليفا قد يقتصر على مجرد عرض الفكرة عرضا علميا، وقد يزيد على ذلك بأن يجيء معبرا عن مذهب خاص يذهب إليه المؤلف.
ونبدأ بنشر التراث الفلسفي، لأنه بمثابة وضع الأساس الذي سيقوم عليه البناء الجديد؛ فما من نهضة ثقافية إلا واقترنت بإحياء التراث القديم، كأنما يريد الأبناء أن يستوثقوا من استقامة طريقهم؛ إذ هم سائرون على سبيل موصولة من أسباب الحضارة، يسلم فيها الآباء ذخيرتهم إلى أبنائهم. وإن هذه العودة إلى الماضي لهي دائما دعوة إلى الحرية الفكرية غير مباشرة، حتى ليصفوها في الحركات الأدبية «بالرومانسية»؛ لأنها في صميمها خروج على مقتضيات اللحظة الراهنة والضرورة القائمة، ابتغاء الوصول إلى ما هو أبقى على الزمن، وذلك فضلا عن أنه لا مندوحة لباحث عن مطالعة ما قد تركه السابقون في موضوع بحثه. ونذكر فيما يلي طائفة من أهم ما نشر من التراث الفلسفي الإسلامي.
فمن «الكندي» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة «رسائل الكندي الفلسفية» في جزأين، (1950-1953م) وقد صدرهما ببحث مستفيض عن حياة الكندي وفلسفته، ثم قدم لكل رسالة بمقدمة تحليلية لما تحتوي عليه الرسالة من مادة فلسفية، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1948م) «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله». كما نشر «رسالة العقل» (1950م)
ومن «الفارابي» نشر الدكتور عثمان أمين «إحصاء العلوم» (ط2، 1949م) وقدم له بمقدمة عن حياة الفارابي وفلسفته، وعلق عليه بهوامش كثيرة. ومن «ابن سينا» ما تزال تنشر أجزاء من كتاب «الشفاء»، تنشرها لجنة بإشراف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وقد نشر منه حتى الآن «المدخل» (1952م) و«المقولات» (1958م) وقام بالتحقيق في كليهما الأب قنواتي، والدكتور الأهواني، والمرحوم الأستاذ محمود الخضيري، و«البرهان» وقد حققه وقدم له الدكتور أبو العلا عفيفي (1956م)، وكذلك نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي (1954م). وحقق الدكتور الأهواني كتاب «السفسطة» (1958م)، وحقق الدكتور محمد سليم كتاب «الخطابة» (1954م) وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «فن الشعر» (1953م)، ونشر جزءان من «الإلهيات» (1960م) حقق أولهما الأب قنواتي والأستاذ سعيد زايد، وحقق ثانيهما الأساتذة محمد يوسف موسى، وسليمان دنيا، وسعيد زايد.
ونشر للدكتور محمد ثابت الفندي من مؤلفات ابن سينا رسالة في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» (1934م). وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «عيون الحكمة» (1954م). ونشر الأستاذ عبد السلام هارون «الرسالة النيروزية» (1954م).
Неизвестная страница