الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
من معاركنا الفلسفية
نحن وقضايا الفكر في عصرنا
الإنسان والرمز
هذه الكلمات وسحرها
قيمة القيم
الأمانة التي حملها الإنسان
تشابه الناس آفة عصرنا
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
فلاسفة معاصرون
Неизвестная страница
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
من معاركنا الفلسفية
نحن وقضايا الفكر في عصرنا
الإنسان والرمز
هذه الكلمات وسحرها
قيمة القيم
الأمانة التي حملها الإنسان
تشابه الناس آفة عصرنا
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
Неизвестная страница
فلاسفة معاصرون
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
من زاوية فلسفية
من زاوية فلسفية
تأليف
زكي نجيب محمود
الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
1
كان «تهافت الفلاسفة» الذي ألفه الإمام الغزالي في ختام القرن الحادي عشر الميلادي، بمثابة الرتاج الذي أغلق باب الفكر الفلسفي في بلادنا، فظل مغلقا ما يزيد على سبعة قرون، ولم ينفتح إلا في منتصف القرن الماضي، نتيجة لحركة شاملة استهدفت نهوض الحياة الفكرية العربية من كل أرجائها، فنشأ علم، ونشأ فن، وتجدد أدب وتجددت فلسفة.
وكان قوام الفكر الفلسفي - في هذه الحركة الشاملة - هو الدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل؛ أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائما عندئذ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابة على مر القرون التي سادها الحكم التركي بصفة خاصة، هو قيد الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضا قيد النص المنقول، الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ التفكير المستقل، إلا أن يعلقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح، وهلم جرا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر لتجدها جاثمة على عقول الدارسين فكان التخلص منها والخروج عليها، هو نفسه معنى النهضة في لبها وصميمها.
Неизвестная страница
وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى. وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحس والتجربة - وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة أو المجتمع - أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها - وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية - وقد يجتمع الطريقان معا في بحث واحد بعينه، فنجمع شواهدنا من تجاربنا أولا، ثم نكون فكرة نظرية نستدل منها ما يسعنا استدلاله من نتائج؛ ذلك هو سبيل العقل. وإذن فليس من العقل أن نستند في أحكامنا إلى ما هو شائع بين الناس بحكم التقليد الموروث، لا سيما إذا كان هؤلاء الناس قد صادفتهم من تطورات التاريخ أطوار أغلقت دونهم مسالك النظر.
على أن الفكرتين - فكرة الحرية وفكرة التعقيل - مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابي يؤديه، كالسجين تخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك المتحرر من خرافة قد يقع في خرافة أخرى. ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريقة سيره. فإذا قلنا: إن الفكر الفلسفي الحديث عندنا جاء متميزا بالدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل، فقد قلنا بذلك إنه كفل أمامنا سواء السبيل بنصفيها: السلبي والإيجابي معا.
ولئن كانت العلوم المختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها كذلك أن تكفل التحرر من الخرافة كما تكفل «تعقيل» السير إلى هدف، وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي أيضا؛ إلا أن الفلسفة أفعل إيقاظا للعقل، لسبب بسيط واضح، وهو أن العلوم تقرر ما قد ثبتت عند العلماء صحته، فلا يكون أمام الدارس إلا أن «يتعلم»، وأما الفلسفة فتضع دارسها دائما بإزاء المسائل التي تثيرها موضع من يسأل قائلا: هل هذا صحيح؟ وفي سؤال كهذا بداية التفكير النقدي الحر. ولا بأس في أن يتعارض مفكران، ما دام كل منهما يحاول إقناع زميله بطريقة الحجة العقلية بأحد معنييها السابقين أو بهما معا: بالشواهد الحسية، أو بالاستنباط السليم، أو بكليهما جميعا. فلا أحسبني مخطئا إذا زعمت أن قيام الفكر الفلسفي على صورته الصحيحة التي تثير عند الدارس قوة التفكير النقدي الحر المعقول (الحر من قيود الآراء المسبقة، والمعقول في خطة سيره نحو الهدف المقصود)، هو من أوضح العلامات التي تشير إلى قيام نهضة فكرية، حتى لأوشك أن أقول في هذا الصدد: دلني على نوع الفلسفة القائمة في بلد أو في عصر، أقل لك أي بلد هو وأي عصر. وإنه ليبدو لي في وضوح أن الفكر الفلسفي عندنا قد استقام على عوده منذ أواخر القرن الماضي، على أيدي «هواة» يتناولون الأمور تناولا فلسفيا دون أن يتخذوا من الفلسفة ذاتها موضوع دراسة متخصصة، ثم أخذ يزداد نماء، فيزداد جنوحا نحو الدراسة المتخصصة، في الجامعات، بل وفي بعض صفوف المدارس الثانوية. وإن نظرة تحليلية إلى ما نشرته وما تنشره المطابع من مؤلفات فلسفية وإلى سعة انتشار تلك المؤلفات بالنسبة إلى سواها، لتدل دلالة قاطعة على مدى الفكر الفلسفي عندنا طولا وعرضا وعمقا؛ فهو فكر قد شمل الماضي بنشر تراثه، والحاضر بعرض مذاهبه، والمستقبل بالتخطيط له، وهو فكر قد ترجم وألف في كل ميدان من ميادين البحث الفلسفي، فصدرت كتب ونشرت فصول يتعذر حصرها، تناولت الفلسفة الشرقية القديمة، والإسلامية، والغربية من يونانية ووسيطة وحديثة ومعاصرة؛ تناولتها من حيث تواريخها وشخصياتها ومشكلاتها ومذاهبها.
ولم نكن في هذه الحركة الفلسفية الشاملة إلا مقتفين خطى أسلافنا ومنتهجين نهجهم في فتح الأبواب والنوافذ جميعا ليجيء الهواء من شرق أو من غرب، من قديم أو جديد، من مؤمن أو من متشكك، حتى التقت وجهات النظر المختلفة، وانصهرت وكان منها ما جاز لنا أن نسميه بمذهبنا الفلسفي الخاص. لكن إذا كان هذا المذهب الفلسفي الخاص عند المسلمين الأقدمين تلخصه عبارة واحدة هي «التوفيق بين النقل والعقل» فأحسب أن المذهب الفلسفي الخاص عندنا اليوم تلخصه عبارة واحدة كذلك هي: «الجمع بين الحرية والعقل».
2
ولقد حمل هذه الرسالة الفكرية في تاريخنا الحديث رجال من طرازين: هواة ومحترفون. على أن «الهواة» كانوا أسبق من «المحترفين» ظهورا في الترتيب الزمني، حتى ليجوز لنا القول بأنهم هم الذين مهدوا الطريق أمام محترفي الفلسفة ووجهوا انتباههم وأثاروا اهتمامهم. ومع ذلك فالفريقان يختلفان جوهرا، اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب. فالفلسفة بالمعنى الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعنى الثاني هي «فلسفة تجريد نظري». وبالمعنى الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعنى الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية.
ومن هؤلاء «الهواة» الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة: جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية على أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير،
2
وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية، وعباس محمود العقاد في دعوته إلى مسئولية الفرد أمام عقله في فكره وعقيدته. على أن هؤلاء «الهواة» أنفسهم ينقسمون فيما بينهم نوعين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام محور تفكيره، والآخر يجعل هدفه الرئيسي الدعوة إلى قيم ثقافية جديدة.
كانت نظرية النشوء والارتقاء من أهم ما أنتجه العلم الأوروبي في القرن التاسع عشر. وهي نظرية لا تصادف قبولا - للوهلة الأولى - عند من تغلب عليهم الثقافة الدينية،
Неизвестная страница
3
فطفق هؤلاء يتساءلون: أين يكون الإسلام من هذه الدعوة؟ وكان أن أرسل كاتب من فارس خطابا إلى جمال الدين الأفغاني (1838-1898م) يطلب منه أن يوضح له هذا المذهب «الطبيعي» الذي أخذ يتردد صداه بين رجال العلم والفكر، فأجابه الأفغاني بأن ألف رسالته في «الرد على الدهريين»، (والدهريون هم الماديون) لأن الأفغاني قد رأى في هذا المذهب خطرا على العقيدة الدينية، وعلى الحضارة الإنسانية، مما يوجب على المفكر المسلم أن يتصدى له.
ألف الأفغاني هذه الرسالة باللغة الفارسية، ونقلها إلى العربية الشيخ محمد عبده مستعينا بأديب أفغاني (هو عارف أبو تراب)، وهي تنقسم قسمين: اختص أولهما ببيان حقيقة المذهب الطبيعي ونشأته التاريخية، واختص ثانيهما ببيان أن الإسلام هو أفضل الأديان. وليس يهمنا الآن مضمون الرسالة بقدر ما يهمنا منهاجها؛ وذلك لأننا وإن كنا نراه قد عالج مسألة علمية - هي نظرية التطور - بغير العلم، إلا أنه كان يحتكم في كل خطوة إلى ما ظن أنه حجة عقلية. مثال ذلك أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور تقيم بناءها على أساس الصدفة، على حين أن نظام الكون نظام مدبر، ولا يجوز عند العقل أن تلد المصادفات العمياء مثل هذا النظام المحكم. ومثال ذلك أيضا أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور حين تجعل في النبات أو الحيوان جرثومة يكمن فيها نبات أو حيوان كامل التركيب وهذا بدوره يحتوي جرثومة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له، فهي بذلك تجعل اللامتناهي ينتج عن المتناهي، وهو ما لا يجوز عند العقل. ومثال ذلك أيضا قوله: «إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكله وأوراقه وأصوله وقصره وضخامته ورقته وزهره وثمره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن ألا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.»
على هذا النحو «العقلي» كان الأفغاني يعالج الأمور التي يراها مؤدية إلى تقوية الإيمان الديني والقومي عند المسلمين، وإلى درء الخطر كلما رأي خطرا يتهدد ذلك الإيمان. على أن الأفغاني كان أقوى تأثيرا بشخصيته ودروسه وأحاديثه منه بكتابته، فكان في تاريخنا الفكري الحديث أشبه بسقراط في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان، كما كان تلميذه الشيخ محمد عبده أشبه بأفلاطون وقد استقر في «أكاديميته» ليدون ما أحدثه أستاذه في العقول من أثر، فانظر - مثلا - إلى الإمام في مقالاته التي يثبت فيها دورسا سمعها من الأفغاني، فيستهل إحداها (وهي عن فلسفة التربية) بقوله: في ليلة الأحد الماضي (يشير إلى أول يونيو سنة 1879م) انعقد درس جمال الدين الأفغاني، وانتظم في سلكه جمع غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم، ثم أخذ يبسط مضمون ما قاله الأستاذ. وفي مقالة أخرى (عن فلسفة الصناعة) يبدأ الإمام بقوله: قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل، والفيلسوف الكامل، السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة فابتدأ حفظه الله يقرأ شرح إشارات الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولا جليلة، غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة، إلا أنها تنبت فروعها في المغرب، واجتنيت ثمارها لغير غارسيها. إلا أن هذا السيد الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين، يجمع إلى الأصول فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها، بانيا جميع أقواله على البراهين الثابتة والحجج القديمة. وحسبنا من كل أقوال الأفغاني قوله بأن الدين الإسلامي يطالب المؤمنين به بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل. تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة. •••
وكان هذا نفسه هو الأساس الذي أقام عليه الإمام محمد عبده (1849-1905م) فكره الفلسفي، إذ كان أهم ما اهتم به هو أن يوضح العقائد الأساسية في الإسلام توضيحا يبين استنادها إلى منطق العقل، فتراه في كتابه «الإسلام والنصرانية» يفصل القول في الأصول التي يقوم عليها الإسلام، يجعل الأصل الأول لهذا الدين هو «النظر العقلي». والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح «فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟» (ط6، ص58)، ثم يجعل الأصل الثاني للإسلام «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» وفي شرح ذلك يقول: «... إنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان : طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل» (المصدر المذكور، ص59). وعلى هذا النحو راح الإمام يعدد بقية أصول الإسلام، لينتصر دائما لحكم العقل كلما أشكل الأمر، مما يجعله هو ومدرسته الفلسفية امتدادا صريحا للمعتزلة. ولم يقتصر الأمر عنده على ذكر مبادئ عامة، بل أخذ في مقالاته يطبق تلك المبادئ على موضوعات خاصة، كالقضاء والقدر، وتعدد الزوجات، وإصلاح التعليم، والتمدن ... إلخ الخ. ونكتفي هنا بمثل واحد لطريقته في التفكير على هذا المنهج، فنذكر مقاله عن «القضاء والقدر» - وهو جانب من العقيدة الإسلامية كثيرا ما اتخذ حجة على تأخر المسلمين، كما أنه كثيرا ما كان مقيدا لمن أساء فهمه من المسلمين - فيبين محمد عبده كيف أن هذا الاعتقاد هو نفسه الاعتقاد في الرابطة السببية بين الحادثات، على أن الإنسان قد يستطيع أن يرى من الأسباب ما هو حاضر لديه، لكن قد يمتنع عليه إدراك بقية التسلسل السببي في تتابع الحوادث. وسواء أدركه أو لم يدركه، فليس في القول بقيام الرابطة السببية ما يجوز أن يكون موضع اتهام، فقوام العلم نفسه هو هذه الرابطة في وقوع الحوادث. ولا ضير علينا في أن نتصور الإرادة الإنسانية نفسها حلقة من حلقات السلسلة السببية؛ إذ الإرادة متوقفة على إدراكنا لما يقع مما يؤثر في حواسنا؛ أي أنها تنبني على علم بما هو حادث. وما هو حادث مرتب مدبر.
إننا إذا ما خلصنا الاعتقاد بالقضاء والقدر من شناعة الجبر، وجدناه اعتقادا يحفز الإنسان على الجرأة والإقدام، ويخلق فيه الشجاعة والبسالة؛ إذ هو اعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره ويدعوها إلى الجود والسخاء، بل يحملها على بذل الأرواح في سبيل الحق، فانظر إلى هذا الاعتقاد الواحد لو أقمناه على منطق العقل، كيف يؤدي بنا إلى حرية في مجال العمل، على حين أنه إذا أسيء فهمه أدى إلى التواكل والخنوع.
هكذا تناول الإمام طائفة من المفاهيم الدينية بالتوضيح الذي يجعلها حوافز للنشاط والعمل. فمن قبيل ذلك أيضا فكرة التعارض الظاهري بين إرادة الله الكاملة وعلمه الكامل من جهة، وإرادة الإنسان من جهة أخرى؛ إذ يتساءل المتسائلون في هذا الصدد: أتجوز للإنسان حرية يفعل بها ما يريد، حين يكون الله قد علم علما سابقا بكل ما سيقع على طول الزمان؟ ويتصدى الإمام لهذا السؤال في كتابه «رسالة التوحيد» ليزيل عن موضوعه ما يكتنفه من غموض، حتى لا يكون سببا في تعطيل قدرات القادرين على العمل المنتج، فيقول في فصل عنوانه «أفعال العباد»: إن الله هو الذي قدر أن يجيء الإنسان مفكرا مختارا في عمله على مقتضى فكره، وكون علم الله محيطا بما يقع من الإنسان بإرادته لا ينفي أن يكون الإنسان حرا فيما يعمل وما يدع؛ لأن العلم السابق بما سيقع هو كعلم صاحب القضاء في الدولة أن العمل الفلاني إذا وقع حلت بفاعله العقوبة الفلانية، وإن ذلك ليكون معلوما عند فرد من الناس، ومع ذلك تراه يقدم على عمله، فانكشاف الواقع للعالم لا يصح - في نظر العقل - ملزما ولا مانعا. •••
ومثل هذا الموقف الذي وقفه الإمام محمد عبده تجاه المفاهيم الدينية من حيث تحليلها وتوضيحها لتظهر مسايرتها لأحكام العقل، ولتصبح عوامل على حرية الإنسان لا قيودا تكبله، وقفه كذلك الأستاذ عباس محمود العقاد تجاه طائفة كبيرة من المفاهيم الأدبية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن تناوله لأصول العقيدة الإسلامية تناولا يسير به في نفس الطريق التي سلكها من قبله محمد عبده؛ وأعني إقامة الحجة المنطقية على ما بين تلك العقيدة وحرية الإنسان وكرامته من توافق تام. وإنه لمما يميز العقاد في جدله قدرته على دقة التحليل وتبيين الفوارق اللطيفة بين الأفكار المتقاربة، واستخلاص النتائج من مقدماتها.
ولقد حاول في مؤلفات كثيرة أن يبين كيف أن الإسلام يشجع بصفة خاصة، بل يفرض على الناس فرضا، أن يحتكموا إلى العقل في أمورهم، وأن يكون الإنسان حرا مختارا في حياته، مسئولا عن حريته تلك وعن اختياره أمام نفسه وأمام ربه. ففي كتابه «التفكير فريضة إسلامية» يقول: إن للقرآن مزية واضحة هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف، ولئن كانت كلمة «العقل» مختلفة المعاني، فقد ألم القرآن، بهذه المعاني كلها، حتى تكون الدعوة إلى العقل شاملة له بكل معانيه، فهو يشيد بالعقل حين يكون معناه الوازع الأخلاقي الذي يمنع عن المحظور والمنكر، ويشيد به حين يكون المقصود به بعض العمليات الإدراكية كعملية إنشاء التصورات الكلية وعملية ربط هذه التصورات الكلية في أحكام، وعملية استدلال النتائج من تلك الأحكام، وكذلك يشيد القرآن بالعقل حين يكون معناه حكمة الحكيم ورشد الرشيد. وإذ يحض القرآن على العقل بمعانيه تلك جميعا: العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، تراه «لا يذكر العقل عرضا مقتضبا، بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان».
وأما الدعوة إلى الحرية، فلم يترك العقاد بابا من أبواب الحياة والفكر إلا دافع عن وجوب الحرية فيه. ويكفينا في هذا العرض السريع أن نذكر له رأيا تميز به، وهو الرأي الذي جعل به الجمال والحرية شيئا واحدا، فالشيء جميل بمقدار ما هو حر طليق من القيود التي تعوق حركة الحياة، فالماء الجاري أجمل من الماء الآسن، والوردة التي تجري فيها الحياة أجمل من شبيهتها المصنوعة من ورق، والصوت الجميل هو الصوت «السالك» والعضو الجميل هو الذي يجيء بالمقدار الذي يمكنه من أداء وظيفته الحيوية، وهلم جرا. والأمة التي تعشق الجمال في الطبيعة وفي الفن لا بد محققة لنفسها الحرية السياسية؛ لأن الجمال والحرية وجهان لحقيقة واحدة. ففي مقال للعقاد عن «الحرية والفنون الجميلة» (نشر سنة 1923م) يقول إن حب الأمم للحرية يقاس بحبها للفنون الجميلة ولا يقاس بما ينشأ بين ظهرانيها من صناعات وعلوم نفعية تخدم مطالب العيش؛ ذلك لأن مطالب العيش محتومة على الإنسان لا قبل له بردها، وأما حين يكون الإنسان غير مدفوع بقوانين الطبيعة حين يختار ما يختاره أو يدع ما يدعه، فتلك هي الحرية بمعناها الصحيح ، وهي حالة تتحقق حين يتعلق الإنسان بالفن الجميل.
Неизвестная страница
وفي مقال له آخر عنوانه: «في معرض الصور» (نشر سنة 1924م) يبين العقاد الصلة الضرورية بين الحرية وبين القيود التي لا بد من قيامها ليتغلب عليها الإنسان الحر، وإلا فبغير قيد فلا حرية، فانظر إلى بيت الشعر وتصرف الشاعر فيه: إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهو قيود شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها، حين يخطر بين كل هذه السدود خطرة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل. وأهم مؤلفات العقاد التي يشيع فيها فكره الفلسفي: «الله» و«مطالعات في الكتب والحياة» و«الفلسفة القرآنية» و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» و«ابن رشد» و«ابن سينا». •••
كذلك كان الدكتور طه حسين فيما كتب وما بحث، داعيا إلى الحرية الفكرية وإلى التزام المنهج العقلي الصرف؛ حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضعة لذلك المنهج، فها هو ذا يقول في كتابه «في الأدب الجاهلي» (ص67): أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فكان الدكتور طه حسين بهذا الذي صدر به بحثه في الأدب الجاهلي، كأنما يضع منهاجا لحياتنا الجامعية كلها، مؤداه أن يكون الباحث موضوعي النظر، مستقلا حرا غير مقيد بالآراء السابقة التي قيلت في موضوع بحثه، لا يميل مع الهوى، ملقيا بزمام بحثه إلى المنهج العلمي وحده، ولتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، فما كان اختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض، إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء (ص69).
ولكي يؤيد الدكتور طه حسين دعوته إلى التعقيل، أخذ في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» يبين كيف كانت مصر طوال تاريخها ذات مزاج عقلي خالص، بدليل تأثيرها وتأثرها باليونان الذين هم رمز للفكر المنطقي الهادئ. وحسبنا في ذلك أن نعلم أن الإسكندرية كانت ذات يوم هي المقر الرئيسي للثقافة اليونانية بكل ما فيها من فلسفة وعلم، يقول: «فمن المحقق أن الثقافة اليونانية - على اختلاف فروعها وألوانها - قد لجأت إلى مصر فوجدت فيها ملجأ أمينا وحصنا حصينا، وظفرت فيها من النمو والانتشار بما لم تظفر بمثله، حين كانت مستقرة في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية الأوروبية أو الآسيوية» (19).
ولئن كانت مصر عقلية الطابع قبل الإسلام، فهي كذلك عقلية الطابع بعد الإسلام؛ لأن الإسلام يساير العقل ولا يضاده، وإلا فكيف يكون قوام الحياة العقلية في أوروبا هو اتصالها بالشرق الإسلامي، بحيث ينشأ في أوروبا عقل علمي خلق أوروبا الحديثة، ثم نتصور مع ذلك أن الأصل الذي أمد أوروبا بثقافتها العقلية محروم من ذلك الطابع العقلي نفسه. فهل يعقل أن تنشأ ثقافة في شرقي البحر الأبيض المتوسط «فلا تؤثر في عقول أصحابها شيئا، فإذا أرسلوها إلى غرب هذا البحر خلقت أهل هذا الغرب خلقا جديدا؟» (ص25). ومن المؤلفات الفلسفية للدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» و«قادة الفكر».
3
نشأت الجامعات فنشأت بأقسام الفلسفة فيها دراسات من نوع آخر غير ما قد عرضناه عند متفلسفة المفكرين، فلم يعد الأمر هنا مقصورا على أن يصطبغ الفكر بصبغة فلسفية، بل جاوز ذلك إلى البحوث الأكاديمية التي تناولت نشر التراث الفلسفي نشرا محققا، كما تناولت نقل المذاهب الفلسفية الغربية قديمها وحديثها، نقلا اكتفى بالترجمة حينا وأضاف إلى الترجمة تعليقا ونقدا حينا آخر. وأخيرا تناول التأليف في شتى الموضوعات الفلسفية، تأليفا قد يقتصر على مجرد عرض الفكرة عرضا علميا، وقد يزيد على ذلك بأن يجيء معبرا عن مذهب خاص يذهب إليه المؤلف.
ونبدأ بنشر التراث الفلسفي، لأنه بمثابة وضع الأساس الذي سيقوم عليه البناء الجديد؛ فما من نهضة ثقافية إلا واقترنت بإحياء التراث القديم، كأنما يريد الأبناء أن يستوثقوا من استقامة طريقهم؛ إذ هم سائرون على سبيل موصولة من أسباب الحضارة، يسلم فيها الآباء ذخيرتهم إلى أبنائهم. وإن هذه العودة إلى الماضي لهي دائما دعوة إلى الحرية الفكرية غير مباشرة، حتى ليصفوها في الحركات الأدبية «بالرومانسية»؛ لأنها في صميمها خروج على مقتضيات اللحظة الراهنة والضرورة القائمة، ابتغاء الوصول إلى ما هو أبقى على الزمن، وذلك فضلا عن أنه لا مندوحة لباحث عن مطالعة ما قد تركه السابقون في موضوع بحثه. ونذكر فيما يلي طائفة من أهم ما نشر من التراث الفلسفي الإسلامي.
فمن «الكندي» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة «رسائل الكندي الفلسفية» في جزأين، (1950-1953م) وقد صدرهما ببحث مستفيض عن حياة الكندي وفلسفته، ثم قدم لكل رسالة بمقدمة تحليلية لما تحتوي عليه الرسالة من مادة فلسفية، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1948م) «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله». كما نشر «رسالة العقل» (1950م)
ومن «الفارابي» نشر الدكتور عثمان أمين «إحصاء العلوم» (ط2، 1949م) وقدم له بمقدمة عن حياة الفارابي وفلسفته، وعلق عليه بهوامش كثيرة. ومن «ابن سينا» ما تزال تنشر أجزاء من كتاب «الشفاء»، تنشرها لجنة بإشراف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وقد نشر منه حتى الآن «المدخل» (1952م) و«المقولات» (1958م) وقام بالتحقيق في كليهما الأب قنواتي، والدكتور الأهواني، والمرحوم الأستاذ محمود الخضيري، و«البرهان» وقد حققه وقدم له الدكتور أبو العلا عفيفي (1956م)، وكذلك نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي (1954م). وحقق الدكتور الأهواني كتاب «السفسطة» (1958م)، وحقق الدكتور محمد سليم كتاب «الخطابة» (1954م) وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «فن الشعر» (1953م)، ونشر جزءان من «الإلهيات» (1960م) حقق أولهما الأب قنواتي والأستاذ سعيد زايد، وحقق ثانيهما الأساتذة محمد يوسف موسى، وسليمان دنيا، وسعيد زايد.
ونشر للدكتور محمد ثابت الفندي من مؤلفات ابن سينا رسالة في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» (1934م). وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «عيون الحكمة» (1954م). ونشر الأستاذ عبد السلام هارون «الرسالة النيروزية» (1954م).
Неизвестная страница
ومن الإمام «الغزالي» نشر الدكتور عبد الحليم محمود «المنقذ من الضلال» (1955م) وقدم له، وحقق الأستاذ سليمان دنيا «تهافت الفلاسفة» (ط2، 1955م).
ومن «ابن رشد» نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي «تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر» و«تلخيص الخطابة» (1960م)، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «تلخيص كتب النفس» (1950م)، وحقق الدكتور عثمان أمين «تلخيص ما بعد الطبيعة» (1947م)، ونشر الدكتور محمود قاسم «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
ومن «ابن عربي» حقق الدكتور أبو العلا عفيفي «فصوص الحكم» (1946م).
ومن «أبي حيان التوحيدي» حقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الإشارات الإلهية» (1950م).
ومن «الكرماني» نشر الدكتور محمد مصطفى حلمي والدكتور (المرحوم) محمد كامل حسين «راحة العقل» (1948م).
وكذلك قام الدكتور محمد مصطفى حلمي (1954م) بالتحقيق والتعليق والتقديم لكتاب «توفيق التطبيق في إثبات أن الشيخ الرئيس من الإمامية الاثنا عشرية» تأليف علي بن فضل الله الجيلاني.
ومن «مسكويه» حقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الحكمة الخالدة» (1952م) وللمبشر بن فاتك نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي «مختار الحكم ومحاسن الكلم» وقدم له بمقدمة طويلة (وقد نال هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية لسنة 1962م).
وحقق الدكتور علي عبد الواحد وافي «المقدمة» لابن خلدون.
وبالإضافة إلى النصوص السالف ذكرها، نشرت مترجمات قديمة؛ من ذلك «منطق أرسطو» وقد نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي كما نشر «فن الشعر» و«في النفس» لأرسطوطاليس و«كتاب النبات» المنسوب إلى أرسطوطاليس. ونشر الدكتور أبو العلا عفيفي «مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة» لأرسطو. وأعاد نشرها الدكتور عبد الرحمن بدوي. وللدكتور بدوي أيضا مجموعات نشرها تحت عنوان «أفلوطين عن العرب»، و«أرسطو عند العرب»، كما نشر «معاذلة النفس» لهرمس، و«الآراء الطبيعية» المنسوب إلى فلوطرخس، و «الخير المحض» لأبرقلس، و«مسائل في الأشياء الطبيعية» لأبرقلس، و«حجج في قدم العالم» لأبرقلس، وكتاب «الروابيع» لأفلاطون. ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «إيساغوجي» لفرفوريوس.
وما تزال حركة نشر التراث الفلسفي قائمة، حتى ليرجى ألا يمضي وقت طويل قبل أن نكون قد أخرجنا إلى النور كنوز الأسلاف. وعندئذ فقط يمكن للدراسة العلمية أن تقوم على أساس صحيح.
Неизвестная страница
4
وإلى جانب إحياء تراثنا القديم، قامت حركة قوية في ميدان الترجمة، فنقل إلى اللغة العربية من المؤلفات الفلسفية الغربية والشرقية ما يكاد يشمل جوانب الفلسفة جميعا. ونقول «يكاد» لأن هنالك ما يزال جوانب وأعلام لم تمسها حركة الترجمة بعد، أو مستها مسا خفيفا، على أهمية تلك الجوانب وهؤلاء الأعلام. وحسبنا في هذا الصدد أن نقول إن «كانت» و«سبينوزا» و«ليبنتز» و«هيجل» لم يترجم منهم شيء، وإن «أفلاطون» لم يترجم منه إلا قدر ضئيل.
وكان في طليعة المترجمين الأستاذ (المرحوم) أحمد لطفي السيد؛ فقد ترجم من أرسطو «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس» (1924م) و«الكون والفساد» (1932م) و«علم الطبيعة» (1935م) و«السياسة» (1947م).
وترجم كاتب هذا المقال محاورات الدفاع وأوطيفرون، وأقريطون، وفيدون، من محاورات أفلاطون، وترجمت «المأدبة» مرتين، إحداهما للأستاذ محمد لطفي جمعة، والأخرى للأستاذ وليم الميري (1954م).
وفي الفلسفة الإسلامية ترجم الدكتور أبو ريدة عن دي بور «تاريخ الفلسفة في الإسلام».
وفي الفلسفة الحديثة ترجم الدكتور أبو العلا عفيفي عن وولف «فلسفة المحدثين والمعاصرين» (1936م)، وعن كولبه «المدخل في الفلسفة» (1942م)، وترجم الدكتور عثمان أمين عن ديكارت «التأملات في الفلسفة الأولى» (1959م)، وترجم الأستاذ محمود الخضيري «مقال في المنهج» لديكارت، وترجم الدكتور الأهواني «البحث عن اليقين» لجون ديوي (1960م)، كما ترجم كاتب هذا المقال كتاب «المنطق، نظرية البحث» لجون ديوي (1960م)، وترجم له أيضا الأستاذ أمين مرسي قنديل «تجديد في الفلسفة» (1958م) ولوليم جيمس ترجم الدكتور محمود حب الله «إرادة الاعتقاد» (1946م) والدكتور محمد فهمي الشنيطي «بعض مشكلات فلسفية» (1962م).
ولبرتراند رسل ترجمت كتب كثيرة من أهمها «تمهيد للفلسفة الرياضية» ترجمة الدكتور محمد مرسي أحمد (1963م) و«تاريخ الفلسفة الغربية» (1954م) ترجمة كاتب هذا المقال و«مشاكل الفلسفة» ترجمة الدكتورين عطية هنا وعماد إسماعيل (1947م) و«فلسفتي كيف تطورت» ترجمة الأستاذ عبد الرشيد الصادق (1959). ولخص كاتب هذا المقال كتاب رسل (موجز الفلسفة) وجعل عنوانه «الفلسفة بنظرة علمية».
وترجم الدكتور عبد الحميد صبرة «نظرية القياس الأرسطية» تأليف أوكاشيفتش، والدكتور مصطفى بدوي «الإحساس بالجمال» تأليف سانتياتا (1959م).
ومن أعمال المستشرقين ترجم الدكتور أبو العلا عفيفي «دراسات في التصوف الإسلامي» تأليف نكلسون، والدكتور عبد الرحمن بدوي «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» وهو دراسات لطائفة من المستشرقين.
الحق أن الحصر أو ما يشبه الحصر متعذر علينا في ميدان الترجمة الفلسفية وحسبنا هذه النماذج القليلة لتدل على سعة الحركة وشمولها، وإن كنا ما نزال نتوقع لها أن تمتد لتشمل ما لم تشمله بعد من أمهات النصوص.
Неизвестная страница
5
على أنه إذا كانت حركتا نشر التراث والترجمة تدلان على أن الفكر الفلسفي عندنا يريد أن يقيم بناءه على أسس علمية سليمة، فإن حركة التأليف الفلسفي تضيف إلى ذلك دلالة جديدة، لأنها تكشف عن مذاهب الدارسين واتجاهاتهم، كشفا صريحا أحيانا، أو متضمنا في طريقة الاختيار والعرض أحيانا أخرى. ولسنا نخطئ إذا زعمنا أنه ما من مذهب رئيسي من المذاهب المعاصرة، أو من المذاهب التقليدية إلا وقد وجد له من بين فلاسفتنا نصيرا؛ مما يدل أوضح الدلالة على أننا نتميز بما تميز به الفلاسفة المسلمون قديما، من الاستماع إلى جملة الأفكار ليتخذ كل ما يتشيع له بعد أن يصوغه صياغة يعبر بها عن فكره المستقل. لكننا على اختلافنا في وجهة النظر نلتقي جميعا عند الطابع العام، وهو - كما أسلفنا - الجمع بين الدعوة إلى الحرية والاحتكام إلى العقل. وسترى من بيننا من يبرز فكرة المذهب العقلي أكثر مما يبرز فكرة الحرية الإنسانية، ومن يبرز فكرة الحرية الإنسانية أكثر مما يبرز فكرة المذهب العقلي. سترى منا من يناصر المثالية ومن يناصر التجريبية، لكننا جميعا نعبر عن جوانب مختلفة من موقف واحد، ومع ذلك فلا بد من الاعتراف هنا بأن هذه العناصر الكثيرة ما زالت تحتاج إلى مزيد من صهر حتى تكون أفصح تعبيرا عن وجهة نظر عربية خالصة.
ولعل يوسف كرم (1886-1959م) أن يكون في مقدمة أنصار المذهب العقلي من زمرة المحترفين، وقد بسط وجهة نظره الفلسفية في كتابين هما «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة» (1959م). غير أنه لم يكن متطرفا في الأخذ بهذا المذهب، ولقد وصف هو نفسه مذهبه الفلسفي بأنه عقلي معتدل؛ وذلك لأنه لم يرد من العقل سوى أن يكون أداة صالحة للوصول إلى النتائج الصحيحة التي لا تتعارض مع مبادئ المنطق السليم، والتي تؤدي في الوقت نفسه إلى الإيمان؛ لأن الإنسان - في رأيه - حيوان عاقل متدين، فلا هو بالكائن الذي يتميز بالعقل وحده دون الإيمان، ولا بالإيمان وحده دون العقل، ولا تصلح حياته إلا إذا اجتمع عنده يقين العقل من جهة وطمأنينة القلب من جهة أخرى.
لقد أخطأ المذهب التجريبي - في رأي يوسف كرم - حين جعل الحواس مصدرا وحيدا للمعرفة، وذلك لأن «للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى العقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخر مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، وبذلك يبطل المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات» (من تصدير كتاب «الطبيعة وما بعد الطبيعة»).
وقد أخذ فيلسوفنا على نفسه خلال كتابه «العقل والوجود» أن يتقصى أنواع المدركات التي كان يستحيل على الإنسان تحصيلها إذا هو اعتمد على تحصيل الحواس وحدها، فلئن كان في مقدور الحواس أن تلم بظواهر الأشياء، فالعقل وحده هو المدرك لماهياتها، وإدراك الماهية إنما يكون بتجريد المعاني عن مادتها، وذلك فضلا عن المجردات الأخرى التي يدركها العقل عن غير طريق المادة، كأفكارنا عن الوجود والجوهر والعرض، والعلية، والخير والشر، والحق والباطل، كما يدرك العقل أيضا نسبا وعلاقات كثيرة، كالعلاقة الكائنة بين أجزاء الشيء الواحد، والعلاقات الكائنة بين الأشياء بعضها مع بعض، وكالعدد والترتيب، فإدراك علاقات كهذه لا يكون بالحواس، لأن الحواس تدرك الأطراف المتعلقة بتلك العلاقات نفسها، أضف إلى ذلك كله إدراك العقل - دون الحواس - للمبادئ العامة التي تنبني عليها العلوم، وإدراكه للموجودات غير المادية كالنفس والله.
هذه كلها ضروب من الإدراك العقلي، تثبت وجود العقل متميزا من الحواس وإدراكاتها، لكن إثبات وجوده لا يكفي وحده دليلا على قيمة ما يدركه، وإذن فلا بد للفيلسوف من خطوة أخرى يدحض بها مذهب الشك الذي يتشكك في صدق المدركات العقلية، حتى إذا ما فرغ من إثبات الصدق لتلك المدركات، خطا خطوة أخرى ليثبت بها أن ذلك الصدق ليس تصوريا بحتا، كما يقول أنصار المذهب التصوري الذين إن آمنوا بوجود العقل وبمدركاته العقلية، فهم يقصرون ذلك الوجود وتلك المدركات على داخل العقل، وبذلك ينكرون على الإنسان حق الخروج من عالم التصورات الداخلية إلى الوجود الخارجي.
هكذا عارض يوسف كرم المذهب التجريبي الذي يحصر نفسه في الإدراكات الحسية وحدها، كما عارض المذهب التصوري الذي يحصر نفسه في الإدراكات العقلية دون حق الخروج منها إلى ما يقابلها من موجودات خارجية، ومن ثم فهو «عقلي» يثبت وجود العقل ووجود مدركاته وصدق أحكامه، وهو أيضا «واقعي» يثبت وجود العالم الخارجي؛ ولذلك جاز له في كتابه «الطبيعة وما بعد الطبيعة» أن يبحث في كائنات الطبيعة من جماد وحيوان وإنسان، حتى إذا ما فرغ من ذلك انتقل إلى ما بعد الطبيعة ليقول إن العلم به يشتمل على ثلاثة موضوعات كبرى؛ أولها: مبادئ المعرفة، وثانيها: المبادئ العامة للوجود، وثالثها: موضوع الألوهية. ثم يفصل القول في هذه الموضوعات تفصيلا يعرض فيه لما قيل عند غيره من أقدمين ومحدثين، وما يحب هو أن يطرحه من رأي جديد.
4 •••
كان يوسف كرم قد اعتزم إصدار مؤلف في «الأخلاق» يكمل به معالم مذهبه «العقلي المعتدل» الذي يجمع بين المثالية والواقعية ، بل يقال إنه كان قد فرغ من كتابة فصول من ذلك المؤلف، لكن المنية عاجلته دون إتمام ما قد بدأ فيه، وكأنما أراد الله لحركة التفكير الفلسفي في بلادنا أن تكتمل بناء، بحيث يكمل واحد منا واحدا، فأخرج لنا الدكتور توفيق الطويل كتابا في «الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطورها» (1960م) استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدمين إلى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه، هو أقرب ما يكون إلى الاتجاه «العقلي المعتدل» الذي اتجه إليه يوسف كرم في الجوانب الفلسفية الأخرى. ويطلق الدكتور الطويل على اتجاهه هذا في الأخلاق اسم «المثالية المعدلة»، وفي تحديد مراده منها يقول (ص355 وما بعدها): «يشارك الإنسان النبات في النمو والحيوان في الحس وينفرد دون جميع الكائنات بالعقل، ومن أجل هذا كانت مزاولة التأمل العقلي أكمل حالات الوجود الإنساني فيما قال أرسطو قديما ... والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوق إليه الشهوات والعواطف، ويكبر السلوك الذي يجري بمقتضى الواجب؛ فإننا لا نقول للحجر الهابط بفعل الجاذبية إلى أسفل: ينبغي أن تتدحرج صاعدا إلى أعلى، ولا للوحش الذي يمزق فريسته: ينبغي أن ترأف بها وترحم ضعفها، من أجل هذا كان صعودنا سلم الإنسانية، أو هبوطنا مدارج الحيوانية، إنما يكون بمقدار حظنا من المثالية التي تعبر عندنا عما ينبغي أن نكونه.» «وتقوم المثالية المعدلة في تحقيق الذات بكل قواها الحيوانية، وهذا التحقيق يتطلب الإلمام بحقيقة الطبيعة البشرية ومعرفة إمكانياتها، ووضع مثل إنساني رفيع يكفل وحدتها ويضمن تكاملها، وفي ظله يشبع الإنسان قواه جميعها؛ الحسي منها والروحي، بهداية العقل وإرشاده، وتتآخى الأنانية والغيرية، فيزول العداء التقليدي بين توكيد الذات ونكرانها ...»
من هذا نرى كيف وقف الدكتور الطويل موقفا يجمع فيه بين طرفين لم يكونا ليتلاقيا لولا قدرته على التوفيق بين الضدين؛ فقد كان المتطرفون من الحسيين - من جهة - ينشدون أسس الأخلاق فيما يحقق للإنسان سعادته، وكان المتطرفون من العقليين - من جهة أخرى - يلتمسون أداء الواجب الذي يأمرنا منطق العقل أو يأمرنا صوت الضمير بفعله، سواء حقق هذا الأداء للواجب سعادة للفرد القائم به، أم لم يحقق، لكن لماذا لا يكون أداء الواجب محققا للسعادة في آن معا؟ لماذا نفترض أن تحقيق القيم الروحية العليا يتعارض مع الرغبات البدنية؟ ألا إن هذا الفصل بين ما هو روح وما هو بدن لمن شأنه أن يفكك الطبيعة البشرية التي هي روح وبدن ، وأن يحدث من الأمراض النفسية ما هو معروف، ومن ثم وقف باحثنا موقفه الوسط في الأخلاق، والتمس السعادة في الفضيلة والمتعة في الواجب، فكان للحواس عنده دورها وللعقل دوره، فتلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، بحيث لا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع.
Неизвестная страница
5 •••
لكن هذا الموقف «المعتدل» الذي لا يريد أن يمضي مع الحسيين إلى آخر شوطهم ولا مع العقليين إلى آخر شوطهم، لا يقنع من كان مزاجه البت الحاسم في الأمور، فلئن كانت الرءوس - كما قال وليم جيمس - صنفين: رءوس لينة ورءوس يابسة، الأولى تلاين وتداور وتأخذ الأمور على هوادة وفي شيء من الاستسلام للعاطفة القلبية، على حين أن الثانية تتصلب عند الحقائق، ولا يهمها إلا أن يرضى العقل بمثل الرضا الذي يرضاه وهو يتناول مسائله العلمية المعملية، أقول: لئن كانت الرءوس تنقسم هذين القسمين، كان الآخذون بالمذهب العقلي المعتدل هم من الصنف الأول، وكان إلى جانبهم في حياتنا الفكرية نفر من الصنف الثاني، وبين من يمثلونه في تاريخنا الفلسفي المعاصر كاتب هذا المقال. فهو في كتابه «نحو فلسفة علمية» (وقد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية لسنة 1960م) وفي كتاب له آخر «خرافة الميتافيزيقا» (1953م)
6
يدعو دعوة صريحة إلى أن تتشبه الفلسفة بالعلم، لا بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعاتهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إنه - على نقيض ذلك - يحرم على الفيلسوف - من حيث هو فيلسوف - أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك، فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ولقد كان من مزالق فلاسفة التأمل أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال.
ففيم - إذن - يريد صاحب هذه الدعوة أن تتشبه الفلسفة بالعلم؟ إنه يريد لها ذلك بعدة معان أخر، أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة مصطلحاته العلمية، حين يتحدث عن «الجاذبية» و«الضوء» و«الصوت» إلخ فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الدقة نفسها حين يتحدث - مثلا - عن «النفس» و«العقل» و«الخير» ... إلخ. نعم إن الفلاسفة الذين يستخدمون ألفاظا كهذه، يحددونها بتعريفات يشترطونها لها، لتفهم على ضوئها، ثم يستنبطون من تلك التعريفات ما يجوز لهم بحكم مبادئ الاستنباط أن يستنبطوه، ولا غبار على ذلك، لو كانوا على وعي كامل بأن نتائجهم التي ينتهون إليها مستندة في صدقها إلى التعريفات التي اشترطوها بادئ ذي بدء؛ أي أن النسق الفلسفي عندئذ إن كان صادقا، فصدقه رياضي بحت، معناه أن أوله متسق مع آخره، وأنه لا تناقض بين أجزائه، لكن ليس من حقنا أن نخرج من حدود هذا النسق لنقول إنه يصور العالم الخارجي كما يقول أصحاب الفلسفة التأملية عن بناءاتهم الميتافيزيقية، فإما أن يجعل الباحث خطوته الأولى محققة على الواقع، وعندئذ يكون من حقه أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها مطابقة لما هو واقع، وإما أن تكون تلك الخطوة الأولى تعريفا من عند المفكر لمفهومات يريد استخدامها، أو أن يكون مسلمات أخرى يضعها المفكر بادئ ذي بدء، فلا يصبح من حقه بعد ذلك أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها تحمل عن العالم خبرا أو أنها تصوره بأي وجه من وجوه التصوير.
ولكن ماذا يكون موضوع البحث الفلسفي الذي يراد للفيلسوف أن يتناوله بهذه الدقة العلمية؟
إنه - كما أسفلنا - لا يكون موضوعا مما تبحث فيه العلوم، بل يكون هو التشكيلات الرمزية - من عبارات لغوية ورموز رياضية وغيرها - التي يستخدمها العلماء في صياغة علومهم، فيحللوها تحليلا يخرج مضمراتها من الكمون إلى العلن الصريح، وهاهنا يظهر في وضوح إن كانت منطوية على تناقض أو على عناصر من شأنها أن تجعل العبارة بغير معنى علمي، أم كانت سليمة البنية المنطقية فيكون العلم كله سائرا على هدى. وبهذا تصبح الفلسفة هي التحليل المنطقي، بدل أن يكون التحليل المنطقي جزءا من الفلسفة.
وإذن فهذه «التجريبية العلمية» إنما هي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقل الصارم في فهم العبارات التي يجريها الكاتبون على أقلامهم، حتى يأخذهم سحر الألفاظ فيستعملوها لأسباب أخرى غير قوتها الدلالية. على أن اللفظة في هذه الدعوة الجديدة لا تكون لها قوة دلالية إلا إذا أشارت في نهاية التحليل إلى معطيات حسية أعطتها إيانا كائنات فعلية في العالم الخارجي، اللهم إلا أن تكون اللفظة مستخدمة بتعريف اشتراطي يعفيها من الوظيفة الإشارية، لكن التفكير عندئذ يكون مفهوما على أنه منحصر في نسقه الداخلي ولا شأن له بدنيا الواقع. •••
وإلى جانب هذه الدعوة إلى تحكيم العقل وحده - دون العاطفة - فيما يكون له صلة بالوقائع الخارجية، وصلة بالتقريرات الموضوعية العلمية التي تقال عن تلك الوقائع، تقوم في مجالنا الفلسفي دعوة إلى حرية الفرد، يقيمها صاحبها وهو الدكتور عبد الرحمن بدوي على أساس من الفلسفة الوجودية. فلئن كانت التجريبية العلمية دعوة إلى «الفهم» العقلي الواضح، فإن دعوة الدكتور بدوي هي إلى الإرادة الحرة التي لا تكتفي بمجرد الفهم العقلي، بل تضيف إليه الفاعلية المنتجة النشيطة.
ففي كتابه «الزمان الوجودي»
Неизвестная страница
7
يقسم الوجود نوعين: فزيائي وذاتي، الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء. أما الوجود الذاتي فوجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده، وأما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، والفعل ضرورة للذات؛ لأن الفعل تحقيق لإمكانياتها، فلكي تحقق نفسها لا بد لها إذن أن تفعل، والفعل لا بد أن يتم في وجود الغير وبواسطته؛ ولذا كان عليها أن تتصل بهذا الوجود المغاير.
يقول المؤلف (ص136-137): «إن الشعور بالوجود لا يكون قويا عن طريق الفكر المجرد؛ لأن الفكر المجرد انتزاع للنفس من تيار الوجود الحي، وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة، ولا يسودها فعل وحركة ...» والمؤلف حريص قبل كل شيء على أن ينعم الإنسان الفرد بوجوده الحي الفعال. وما دام هذا الوجود متعلقا بالحالة الوجدانية أكثر من تعلقه بالحالة العقلية، فإنه لا يتردد في إيثار الأولى على الثانية. نعم إن لكل حالة عاطفية مقابلا فكريا، هو إدراكنا لهذه الحالة، لكن ما أبعد الفرق بين هذا وتلك. ما أبعد الفرق بين التألم من حيث هو عاطفة وبينه من حيث هو موضوع للمعرفة.
على أنه إن كانت الذات تحقق وجودها في العاطفة أكثر مما تحققه في المعرفة، فإنها أكثر تحقيقا لوجودها في الإرادة منها في العاطفة، «إذ الإرادة قوة للوجود الذاتي، وهذه القوة مصدرها الحرية التي للذات في أن تعين نفسها بتحقيق إمكانياتها، فتختار من بين الممكن أحد أوجهه وتتعلق به ثم تحققه بواسطة القدرة.» (ص159). لكن أي الممكنات تختار الذات المريدة لتحوله إلى فعل؟ إن الممكن لا نهاية له، وقد يبدو بعض الممكنات مساويا لبعضها الآخر، ولو وقفت الذات حيرى بين المتساويات لما همت بفعل؛ ولذا يتحتم عليها أن «تخاطر» باختيار ما تنفذه، فبالمخاطرة وحدها تحقق الذات وجودها «أما الوقوف أمام التساوي والتذبذب بين حالي التقابل الذي يتصف به كل وجود، فلن ينتهي بها إلا إلى عدم الفعل، وبالتالي عدم تحقق إمكانيات وجودها. وهذه الحال الأخيرة نشاهدها عند أصحاب المعرفة الذين يختلط عليهم حال الوجود المشكل، فإما أن يقول بالسوية وعدم الاكتراث، وإما أن يتذبذب ويتمرد، وفي هذا وذاك لا ينتهي إلى تحقيق شيء. أما المخاطر، الذي يتعلق من أوجه الممكن تعلقا يصدر في الغالب عن فعل لا معقول، فهو وحده الذي يستطيع أن يحقق إمكانيات وجوده قدر المستطاع، ولا عليه بعد إن أخطأ ولم يصب نتيجة مرجوة، فالمهم أنه حيي الوجود على الأقل في هذه التجربة، بدلا من التوقف العاجز الذي لا يحيا فيه المرء غير عجزه وفراغ إرادته، بل وسلب حريته.» (ص160).
ولا شك أن الإنسان إذ يخاطر حرا باختيار ما يختاره من فعل، فإنما يتصدى لمسئولية تتناسب مع قدر الخطر وجسامة الفعل الذي أقدم عليه. ولما كان الشعور بالمسئولية مشروطا بحرية الاختيار، فإن الشعور بالحرية لا يتوافر في شيء قدر ما يتوافر في المخاطرة. هكذا جاءت فلسفة الدكتور بدوي حافزا لنا على العمل الجريء، لنكون أحرارا بقدر ما يكون في أعمالنا من جرأة. •••
ولقد كانت حياتنا الفلسفية لينقصها شيء كثير لو لم يقم فينا من يوجه دعوته إلى الاهتمام بالروح إلى جانب تلك الدعوات التي أصرت على تحكيم العقل بالمعنى المعروف لهذه الكلمة في دنيا العلم والمنطق. ولقد حمل هذه الأمانة الدكتور عثمان أمين، وأطلق على مذهبه اسم «الجوانية».
8
إشارة منه إلى التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو باطن، فعنده أن الظاهر عرض والباطن جوهر، أو هي تفرقة «بين الكمي والكيفي، بين الآتي والأبدي، بين المادي والروحي. وبعبارة أخرى هي التفرقة بين موقف الإنسان حين ينظر إلى الناس والموضوعات بعيون الجسم، فيشاهدها من الخارج، وكأنه «يتفرج عليها» وبين موقفه حين ينظر إليها بعيون الروح فيشارك فيها ويعانيها من الداخل» (من مقالته عن «الجوانية الأخلاقية عند الغزالي»).
ويقابل صاحب مذهب الجوانية بين ما هو «جواني» وما هو «براني». والأول طريق الإدراك فيه هو الحدس، والثاني طريق الإدراك فيه هو الحواس، فيقول موجها الحديث إلى من يقفون عند الظواهر «البرانية» ولا يعمقون في بواطن نفوسهم: يستطيع «الوضعيون» أن يتشككوا في يقين الحدس كما يشاءون، ويستطيع «الواقعيون» أن ينكروا حقيقة الغيب جازمين قاطعين، ولكنا نقول لهم ما قاله من قبلنا أفلاطون والفارابي والغزالي وابن عربي وديكارت وكانط وهيجل ومحمد إقبال وياسبرز، وهو أننا لا نريد منكم إلا أن تتدبروا الأمر بأيسر قدر من الجهد: انظروا إلى أنفسكم حين تطلقون على الأشخاص والأفعال حكما أخلاقيا أو حكما تقويميا على العموم، ما بالكم تصفون الفعل بصفات تختلف باختلاف فاعليه، مع أن الفعل في الظاهر واحد؟ ولماذا يكون مسعى زيد إخلاصا رفيعا، ومسعى عمرو رياء وضيعا؟ أليس مرجع الأمر في الحكم على الفعل بالحسن أو القبح إلى النية والباعث والقصد؟ أو ليست كل هذه أمورا مطوية غير مرئية؟ ولكن أمام النظرة البرانية، أعني النظرة الواقفة عند ظواهر الأمور، والتي تقيس الأشياء بمقاييس الكم والحاضر والمباشر، الكل أمامها واحد بلا تفريق، ما دامت حركات الجوارح واحدة، وما دامت ألفاظ اللغة أو نغمات الصوت واحدة، وما دامت الظروف الخارجية المصاحبة لتحقيق الفعل واحدة كذلك. أفليس الفرق بين الأفعال كله في الداخل؟ وأليس الداخل كله غيبيا غير مرئي؟ (من المقالة المذكورة).
ويأخذ صاحب هذا المذهب الروحي على المسرفين في الإعجاب بالعلم الحديث أنهم قد نسوا أن المعارف العلمية لا تكفي للحياة الإنسانية الصحيحة، وفاتهم أن تنمية القوى الروحية في الفرد أهم من تنمية قواه الذهنية؛ إذ بغير الأولى لا يصل الإنسان إلى النضج بمعناه الصحيح؟ فما نضج الإنسان إلا ذلك التطور الروحي الذي تمارسه النفوس الصافية في حياتها، فتشعر حينئذ بأنها متآزرة، لا مع أهل الوطن الواحد فحسب، بل مع جميع أفراد الإنسانية بصرف النطر عن اختلافهم في اللغات والأديان والأجناس والأوطان (مقدمة كتابه «محاولات فلسفية» 1952م). •••
Неизвестная страница
على أن الاتجاه الروحي يظهر أقوى ما يظهر في «التصوف» حين لا يقتصر أصحابه على اتخاذه موضوعا للدراسة فحسب، بل يصبح عندهم وجهة نظر ينظرون منها إلى الحياة الفكرية كلها. ومن هؤلاء الدكتور محمد مصطفى حلمي فهو يقول في كتابه «ابن الفارض والحب الإلهي» (1945م) (ص66 إلى 68): «إن الصوفية بأذواقهم الروحية وأحوالهم النفسية، ربما كانوا أقدر من العلماء والفلاسفة على إدراك الحقيقة الخفية ومعرفة الذات العلية، لا سيما أن العلماء يصطنعون منهجا تجريبيا قوامه المشاهدة الحسية والتجربة الخارجية، والذات الإلهية ليست من المادة في شيء ولا سبيل إلى إخضاعها لهذا المنهج التجريبي، وليس أدل على ذلك مما نلمسه في المذاهب المادية من عجز وقصور عن الوصول من أمر الحقيقة الإلهية إلى حل يلائم طبيعتها ويبين خصائصها في غير ما تشبيه، فنيوتن يفسر عالم المادة ودارون يفسر عالم الحياة، ولكن تفسيرهما من شأنه أن يجعل هذا العالم أو ذاك خلوا من كل روحانية ...» ويمضي المؤلف في القول بأن منهج العلوم القائم على المشاهدات الحسية والتجارب، إن صلح لدراسة الجانب المادي، فهو لا يصلح للبحث فيما يجاوز مظاهر الكون، أي أنه لا يصلح للبحث في الذات الإلهية، فإذا أريد البحث في هذه الذات الإلهية، كانت وسيلتنا هي الذوق الروحي، وهاهنا يكون الفرق بين كل من العلم والفلسفة من جهة والتصوف من جهة أخرى «فالعلم يؤسس القوانين المستندة إلى المشاهدة الخارجية والتجربة الحسية، والتي يفسر بها أحداث الكون وظواهره دون أن يتجاوز هذه الأحداث والظواهر إلى ما وراءها، والفلسفة تحاول أن تتعرف حقائق الوجود وحقيقة مبدعه ومفيضه عن طريق النظر العقلي ... أما التصوف فإن له غاية أسمى من غاية العلم والفلسفة. إذ هو يرمي إلى الاتصال المباشر بحقيقة الحقائق ويرمي إلى شيء آخر أبعد من هذا الاتصال، وهو الشعور بالاتحاد مع هذه الحقيقة العليا.»
وعلى هذا الأساس فإنه يتعين على الصوفي - وكأنما يعنى المؤلف نفسه - «أن يكون أسمى ما يكون عن عالم «المحسوس بما فيه من أحداث متغيرة، وظواهر متبدلة، وأعراض زائلة وأن يترفع بقلبه وذوقه عن النظر إلى الأشياء بعين الكثرة التي لا يعرف الماديون عينا غيرها يبصرون بها، وأن يتخذ سبيله إلى كشف الحقيقة من الإشراق الذي ينبثق من أعماق الروح وقد صفت وتحررت من سجنها المادي.» وهكذا بلغ المؤلف في كتابه عن «ابن الفارض» غاية المدى في امتزاج الكاتب بموضوعه في ميدان التأليف الفلسفي. وإن هذه الحساسية نفسها بين الكاتب وموضوعه لتبدو في كتابه «الحياة الروحية في الإسلام» (1945م). •••
كان البحث في الفلسفة الإسلامية من أهم ما قام به رجال الفلسفة عندنا، ففي هذا الباب أصدر الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885-1947م) كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة «الإسلامية»
9 (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي. وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ «هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى وتتبع مدارجه في ثنايا العصور وأسرار تطوره.» (من المقدمة) لأنه يري «أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرا فلسفيا.» (ص101)؛ والنتيجة العامة التي يستخلصها القارئ من هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها. •••
ونتيجة كهذه أيضا هي التي انتهي إليها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في كتابه «في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه»، فهو منذ مقدمة الكتاب يعيب على الباحثين في الفلسفة الإسلامية أنهم يبدءون بفروض سابقة عن العقلية السامية مثلا، أو عن العرب بصفة خاصة وطريقة تفكيرهم، وبذلك ينتهون إلى نتائج قد تكون صادقة بالنسبة إلى تلك الفروض، لكنها هي وفروضها معا ربما كانت بعيدة عن الحق والواقع؛ ذلك لأن تلك الفروض في الغالب «لم توضع بعد موضع دراسة كاملة، ولم تستمد من التفكير الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما أملتها صورة مشوهة لما كان متداولا من المخطوطات اللاتينية.» (ص4)، ويقرر الدكتور مدكور في توكيد صريح بأن «هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول، فهي تعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته ... وتحاول أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيا كما تصبح الفلسفة دينية، فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية روحية» (ص15). ويخصص المؤلف كتابه لبحث طائفة من النظريات الفلسفية التي يظنها إسلامية خالصة، كنظرية السعادة والاتصال، ونظرية النبوة. •••
وللدكتور أحمد فؤاد الأهواني دراسات إسلامية منوعة، تجدها مفرقة في كتبه، ففي كتابه «في عالم الفلسفة»
10 (1948م) فصل عنوانه «أمواج الفكر الإسلامي» يوضح فيه أولا كيف اندست عناصر الثقافات «الفارسية والوثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجت به، وتكون مع الزمن لون أو ألوان من الثقافة الإسلامية، هي مزيج من هذا الفكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجد لونا من الثقافة إسلاميا بحتا، وقد نجد لونا آخر تغلب عليه النزعة اليونانية، وقد نجد لونا ثالثا يظهر فيه الطابع الفارسي وهكذا» (ص54).
على أن الجديد في تناول الدكتور الأهواني لموضوع الفلسفة الإسلامية في هذا البحث، هو تصوره لتاريخ تلك الفلسفة على أنه فكرات رئيسية تعاقبت واحدة في إثر واحدة، جيلا بعد جيل، فقد تشغل الأذهان اليوم فكرة يدور حولها البحث والجدل، ثم يجيء الغد بفكرة أخرى يدور حولها البحث والجدل، وهلم جرا. وهكذا جاء الفكر الفلسفي الإسلامي موجات متلاحقة، على رأس كل موجة فكرة أساسية، أي أن الفلسفة الإسلامية - على هذا التصور - لم تتناول موضوعات بعينها منذ بداية نشاطها إلى فتور ذلك النشاط، مع اختلاف على مر الزمن في درجة النمو والنضج، ويجمل بنا أن نذكر أن المؤلف حريص على أن يكون موضوع بحثه هو «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية» لأن «تفكير المسلمين انصب على المسائل الفلسفية كما انصرف إلى المسائل العلمية.» ورءوس الأفكار التي شغلت الأذهان على التتابع، والتي منها تكونت «أمواج الفكر الإسلامي» هي: الكفر والإيمان، التشبيه والتجسيم، التشيع، القدرية، الإرجاء.
ومن الدراسات ذات الشأن في ميدان الفلسفة الإسلامية مؤلفات الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة عن «الكندي وفلسفته» (1950م)، «إبراهيم ابن سيار النظام» (1947م) وكتابان للدكتور علي سامي النشار، هما «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» و«مناهج البحث عند مفكري الإسلام» وقد حاول فيهما موفقا أن يبين أصالة المسلمين في التفكير منهجا وموضوعا ومن الدراسات المقارنة التي تستهدف الهدف نفسه كتاب الدكتور محمود قاسم «في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام وصلتها بالفلسفة اليونانية» وكتاب الدكتور محمد البهي «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي».
على أن المشتغلين بالدراسات الإسلامية قد انصرفوا بكثير من جهدهم إلى التصوف الإسلامي بصفة خاصة، يدرسونه دراسة علمية، وينشرون نصوصه محققة ومشروحة. وإننا لنزداد تقديرا لجهود الباحثين في هذا المجال، إذا علمنا أن العمل في هذا الميدان - كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي في مقدمة كتابه «في التصوف الإسلامي» - «لا يزال في أول شوط من أشواطه، بالرغم من الجهود العظيمة القيمة التي بذلتها طائفة من فضلاء العلماء الغربيين منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم.» وللدكتور أبو العلا دراسات كثيرة في التصوف، لكن محيي الدين بن عربي كان أهم موضوع عني ببحثه ونشره وشرحه، حتى لقد أصبح فيه حجة بين المشتغلين بالتصوف في الغرب والشرق على السواء.
Неизвестная страница
وكذلك كان من الدارسين الذين خدموا التصوف الإسلامي بمؤلفاتهم ونشراتهم الأستاذ سليمان دنيا وبخاصة عن الإمام الغزالي، وكذلك قل عن المرحوم الدكتور زكي مبارك، والدكتور أبو الوفا التفتازاني عن ابن عطاء الله وابن سبعين.
ولو جاز لنا أن نلخص النتائج التي وصل إليها الباحثون في ميدان الفلسفة الإسلامية بكل فروعها، في عبارة موجزة، لقلنا إنهم جميعا ينتهون إلى أن الفلسفة الإسلامية متميزة بطابع مستقل، وليست هي مجرد أصداء شارحة لفلسفة اليونان أو غيرها.
6
على أننا لم نذكر فيما ذكرناه من نشرات للتراث، ومن ترجمة للفلسفة الغربية، ومن تأليف مذهبي وغير مذهبي، لم نذكر في كل ذلك جهودا ضخمة قام بها رجال الفلسفة في مصر الحديثة، بما نشروه من مؤلفات وفصول أكاديمية في موضوعات اختصاصهم، فللدكتور عبد الحميد صبرة جهوده في فلسفة العلوم، وللدكتور زكريا إبراهيم سلسلة مؤلفات، كل منها يختص «مشكلة» بالبحث، كمشكلة الحرية، ومشكلة الفن، ومشكلة الإنسان، ومشكلة الفلسفة نفسها. وهو في تأليفه ينزع منزع الفلسفة الوجودية بصفة عامة. وللدكتور يحيى هريدي مؤلفاته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهو يحاول أن يخرج مما يكتب بوجهة نظر خاصة يريد لها أن تكون مصطبغة بصبغة «عربية» متميزة. وللدكتور فؤاد زكريا بحوثه عن نيتشه وسبينوزا وعن المعرفة والوجود. وكذلك يكتب الدكتور محمد فتحي الشنيطي عن مختلف الاتجاهات الحديثة والمعاصرة من هيوم ووليم جيمس إلى كارل يسبرز.
وإن القصة لتطول بنا لو أردنا إحصاء كاملا أو شبه كامل. وإنني لعلى يقين من أنني قد سهوت عن ذكر مؤلفات لها أعظم الأهمية في محيطنا الفلسفي، وعن ذكر مؤلفين لا يقلون قدرا عمن ذكرناهم، لكنه فصل موجز نكتبه عن نشاطنا الفلسفي الحديث، الذي إن اختلفت فيه الاتجاهات والمذاهب، فهو منصرف كله إلى تحقيق هدف واحد، وهو أن يضمن للإنسان حريته، وأن يجعل منطق العقل مدار أحكامه.
من معاركنا الفلسفية
1
أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر، فمن الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمة من أمة، ومن الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الحياة؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف من عوامل، أهمها اللغة العقيدة ومواضعات العرف، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر الجارفة العنيفة، بمقدار ما استطاعت أن تساير حضارة العصر في وسائله وتصوراته، وإنها لتقع بين ماضيها وحاضرها في مأزق حرج، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطريق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره، لأن له من الوسائل المادية ما لا قبل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت - من جهة أخرى - على الحاضر وعلمه وفنه وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجود متميز خاص. فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسيج ثقافي متسق منسجم، يكون هو ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه، إجابة مقنعة، هي ميدان الصراع بين المفكرين بعامة، ورجال الفلسفة من هؤلاء المفكرين بخاصة.
إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر (أو ثقافة الغرب حاضرها وماضيها على السواء) مشكلة بالنسبة إلى كل مجتمع متطور، فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - بين فلسفة اليونان وأحكام الشرع. وشهدناها عند مفكري الغرب إبان القرون الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين. وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم وبين التراث الكلاسيكي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر بين الثقافة السلافية وثقافة غربي أوروبا؛ لكن محاولة التوفيق هذه أشد إشكالا وتعقيدا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية - بما في ذلك الأمة العربية - التي ظفرت بحريتها حديثا من براثن المستعمرين، وذلك لأن المشكلة قد أضيف إليها من العناصر ما زادها عسرا، فمن هذه العناصر المضافة أن ثقافة العصر التي يراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر، وإنه لعسير على النفس أن تقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها. فإذا كان المستعمر كريها ممقوتا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثاني؛ ولهذا سرعان ما ارتبطت النزعة القومية من جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية، بالجانب الثقافي الذي حاول تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر - أو أوشك - من مقومات الحياة الماضية إبان قوتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي - إن لم تكن أهمها جميعا - فحسب، بل لأنه قد تصادف أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، كالإسلام في الشرق العربي، وكالهندوكية أو البوذية في الهند وبلاد الشرق الأقصى، فكان من الطبيعي - إذن - أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها مما قد علق بها من أوشاب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.
إن الروح السائدة في البلاد المتحررة حديثا من قبضة المستعمر، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نرد لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي - في الوقت نفسه - على كفاءتنا في ميدان التنافس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلما وعدوانا؟ فهذه السيادة المعتدية الظالمة كانت ترتكز أولا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن لا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها، لنستطيع الصمود في ميدان التنافس. وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها - ركيزة العلم والصناعة؟
Неизвестная страница
هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي - فكان منا فريق يعلي من شأن الطابع القومي الأصيل، على حساب الجوانب الأخرى جميعا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ أي إنه يلوذ بالثقافة الموروثة ليضمن لنفسه مقومات الشخصية المميزة الفريدة التي هي في ظنه درع واقية من المعتدين. وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما أعوزنا من العلم والصناعة، ولم نكن لنفلح في صده - بغير هذين العاملين - حتى وإن تجمعت لدينا كل ثقافات الغابرين. لكن أيكون الصواب إما مع أنصار التراث وحدهم، وإما مع أنصار الثقافة العصرية وحدهم؟ ألا يجوز أن يكون بين الطرفين وسط يجمعهما في تركيبة جديدة؟ تلك وقفات ثلاث؛ طرفان ووسط بينهما، وهي الوقفات التي على أساسها تفرق رجال الفكر الفلسفي عندنا منذ منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، حتى لنوشك أن نتعقب سير الحركة الفكرية خلال هذه الفترة في مراحل ثلاثية الجوانب؛ فمن طرف إلى نقيضه إلى وسط يؤلف بينهما، على أن النقيض والوسط كانا دائما يتخذان موقف المدافع عن الدين مما يظن أنه خطر عليه، سواء كان هذا الخطر حقيقيا أو موهوما، وسواء كان آتيا من مفكر غربي يتحدث عن الإسلام مباشرة، أو من فكر غربي عام يوصف بالمادية فيخشى خطره على العقيدة، أو حتى من مفكر عربي ينهج نهج الغربيين في تفكيره، فينظر إليه بعين الريبة والحذر.
فأولى المعارك الفكرية معركة كان أحد طرفيها أنصار نظرية التطور والمذهب المادي في القرن التاسع عشر، والطرف النقيض هو الرد على هؤلاء تفنيدا لدعواهم، ويتوسط بين الطرفين وسط يحاول أن يبين ألا خوف على عقائدنا الموروثة من الفكر الجديد الوافد.
وكانت المعركة الثانية أجلى وأوضح، لأن أحد طرفيها هجوم صريح على الإسلام من مفكر غربي، وطرفها الثاني دفاع صريح، لكنه دفاع من يبدأ بالتسليم بصحة عقيدته، فيقع إقناعه على المؤمن بها قبل المنكر لها. وأما الوسط فهو دفاع صريح كذلك عن الإسلام، ولكنه هذه المرة دفاع الفيلسوف الذي يوجه إقناعه نحو المنكرين قبل أن يوجهه نحو المؤمنين، لأنه اختار نقطة ابتداء محايدة، ثم أخرج منها النتائج.
وكانت المعركة الثالثة أوغل في الفلسفة بمعناها الاحترافي؛ لأنها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ أتكون هي الحواس والتجربة بحيث نغفل في ميدان العلم ما لم ندركه عن طريق المشاهدة الحسية والتجارب المعملية، أم تكون وسيلة المعرفة هي الحدس، أي العيان الوجداني المباشر ؟ وإنا لنلاحظ أن الفريق الأول يصب اهتمامه على العلم، وأن الفريق الثاني يصب اهتمامه على الدين. الفريق الأول يوجه بصره نحو ثقافة العصر، والفريق الثاني يوجه انتباهه نحو صيانة التراث. فهل يمكن أن نوفق إلى موقف وسط يعطينا علم الغرب دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة الموروثة؟
وكانت المعركة الرابعة بين فريقين: أولهما يجعل للوجود الفردي في المكان والزمان الأصالة والأولوية، وثانيهما يجعل الأصالة والأولوية للفكرة التي تسبق خلق الأفراد. وتلك هي نفسها المعركة بين أنصار الفكر الحديث الذي يصاحب التفكير العلمي المعاصر وأنصار الفكر الموروث. ومرة أخرى كذلك ينشأ السؤال: أليس هناك موقف وسط يصون فردية الأفراد لكنه كذلك لا يضحي بالفكرة المطلقة السابقة على هؤلاء الأفراد؟
ذلك موجز وسبيلنا إلى تفصيله.
2
إن حديثنا عن الصراع الفكري بين رجال الفلسفة في الأمة العربية إبان المرحلة الأخيرة من تاريخها الحديث لتتعذر فيه الدقة لاختلافنا ابتداء على ماذا تكون الفلسفة ومن هم رجالها؟ فلقد جرى العرف بيننا أن نسلك في جماعة المشتغلين بالفلسفة رجالا من طرازين يختلفان جوهرا «اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب، فالفلسفة بالمعني الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعني الثاني هي «فلسفة تجريد نظري»، وبالمعني الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعني الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية» (راجع للكاتب «فلسفة وفن» ص6). ومن ثم فقد يصطرع رجلان على فكرة بعينها، ولكن من زاويتين مختلفتين، إذ قد يكون أحدهما منصرفا إلى مجرد تحليل الفكرة وردها إلى عناصرها الأولية، على حين يكون الثاني منصرفا إلى وزن هذه الفكرة واتساقها مع بقية الأفكار السائدة في المجتمع، فيراها من هذه الناحية ضارة أو نافعة. وفي مثل هذه الحالة لا يكون في الموقف صراع حقيقي بين الرجلين، بل ربما كان ما بينهما أقرب إلى التعاون على أن يكمل أحدهما عمل الآخر، فالأول يلقي الأضواء على معنى الفكرة ومحتواها، والثاني يصدر الحكم على صلاحيتها أو فسادها بالنسبة إلى حياتنا العملية وإلى سائر معتقداتنا.
لقد كتب أستاذ جليل - هو في مقدمة المشتغلين بالفلسفة عندنا - كتابا بالغ الأهمية في هذا الميدان، ذهب فيه إلى أن «الفقه» هو «فلسفة» إسلامية أصيلة، وقرأ الكتاب كاتب هذه السطور حين صدوره منذ عشرين عاما، فأذهلته الفجوة العميقة بينه وبين المؤلف في تصورهما للفلسفة ماذا تكون وكيف تكون، لكنه لم يجرؤ على المعارضة العلنية لمكانة المؤلف في النفوس، فلجأ إلى مقال رمزي، لا أظن قارئا واحدا قد التفت إلى مرماه، ولكن الكاتب في مقاله الرمزي ذاك - وكان عنوانه «نملتان في الفلفل» (منشور في كتاب «شروق من الغرب») - قد عبر عن فكرته واستراح، إذ أخذ يقص قصة نملتين تعلمتا القراءة، لتهتديا «بالعلم» إلى ما ليست تهدي إليه الغريزة، وكان أن قرأتا على علبة بطاقة تقول إنه «سكر»، (كما قرأ صاحبنا على غلاف الكتاب عنوانا يقول إنه «فلسفة») فدخلتا على هذا الزعم، وإذا بهما تعانيان مما وجدتاه، أما إحداهما فقد وثقت ثقة - لا يأتيها الشك - فيما كتبه البقال على جدار العلبة، وأما الأخرى فقد شكت على أساس ما رأته بعينيها وما طعمته بلسانها، ودار بينهما حوار، لو زال عنه الرمز، لكان هو نفسه الحوار الذي يدور بين أي رجلين من رجال الفلسفة عندنا عما يكتبان. أيكون فلسفة أم لا يكون؟
لكننا في تعقب مواضع الصراع بين رجال الفلسفة في تاريخنا الحديث، سنجري مع العرف المألوف، فنعد شبلي مشيل فيلسوفا، مع أنه هو نفسه - فيما أظن - يأبى على نفسه أن يوصف بهذه الصفة، لأنه مؤمن بالعلم وحده، وأما الفلسفة «فإن كان لها بعض معنى اليوم» - كما قال - «فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام، فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده.» وسنعد الأفغاني فيلسوفا، كما نعد محمد عبده، وعباس محمود العقاد، برغم اعتقادنا بأنه توسع في المعنى شديد، ذلك الذي يجيز أن نسلك هؤلاء جميعا في زمرة «الفلاسفة» بالمعنى الذي تكتب به مؤلفات المؤرخين للفلسفة كما تدرس في أقسامها بالجامعات.
Неизвестная страница
نقول بعد هذا التمهيد ، إن المعركة الفلسفية الأولى قد دارت رحاها حول نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في الأحياء دون أن تلتزم المذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا، فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور). أقول إن المعركة الأولى قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من ناحية، وبين المناصرين للعقيدة الدينية من ناحية أخرى، على اعتبار من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.
وكان الدكتور شلبي شميل، بكتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» هو أول ناقل إلى اللغة العربية للمذهب المادي على صورته التي سادت ألمانيا في القرن التاسع عشر، على يدي «بختر»، كما نقل كذلك نظرية دارون في التطور. ولعله لم يفطن إلى الفرق بين أن تناصر النظرية الداروينية من جهة، وأن تنكر كل ما عدا المادة من جهة أخرى.
وليس يهمنا أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي، أو تلك النظرية الداروينية في التطور - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهة أخرى. وإن الموقف بطرفيه ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.
والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني، برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني. وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر - نيشر» (= طبيعة) ... ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري» ... ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ... ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف، ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينقع الغلة ويشفي العلة والسلام.»
ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالته «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسمها قسمين. أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين، لأن الحرص على نقاء هذه الديانة هو - فوق كونه من واجبات المؤمنين - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.
نعم، إنه ليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام، لا أخذ الدارس المتخصص. وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي، إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب «العقول الصافية» ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد «بالعقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين، فالعقل منطق مكتسب والغريزة فطرة موروثة) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم «بالإدراك المشترك» الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص، بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام. وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده «بالعقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعنى بها عقولا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا. لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «إدراك مشترك عام» وبما عند قارئيه - على تفاوت درجاتهم - من ذلك الإدراك المشترك نفسه.
وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم». نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظة واحدة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية، فضلا عن العلوم الإنسانية جميعا، وشرح ذلك يطول؛ وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء وهو تسلسل غير متناه، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، وهو من المحالات الأولية.» هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، ومثال ذلك أن أي خط مستقيم محدد بطرفين معلومين متناهيين يمكن أن يتألف من أجزاء، كل جزء منها فيه مقدار لا متناه من النقط، وبذلك يشتمل طول الخط المتناهي على مقادير غير متناهية، وشرح ذلك أيضا يطول؛ وهل ترى رجلا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب. كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته.»
لا، لا ينبغي - بل لا يجوز أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض، لأنه رد خطابي صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف موقفا وجدانيا رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث، فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التمييز من الغرب الهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية علمية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.
لكن لماذا نقف في حيرة أمام هذين الطرفين، وهنالك مخرج ممكن يكسبنا مضمون الثقافة الغربية في هذا المجال، ويبقي لنا ما نحن حريصون على الإبقاء عليه من تراثنا؟ وذلك الموقف الوسط هو ما حاوله إسماعيل مظهر في كتابه «ملقى السبيل» إذ أوضح بقدر مستطاعه شيئين: أولهما أن ليس ثمة علاقة ضرورية بين المذهب المادي من جهة ونظرية التطور البيولوجي من جهة أخرى، والآخر هو أن قبول النظرية التطورية عند دارون لا يتنافى مع عقيدتنا في وجود الله وقدرته على الخلق، لأن سلسلة التطور إنما تبدأ من الخلية الحية، وإذن فما تزال ثغرة الانتقال قائمة بين المادة الموات وظواهر الحياة.
يقول مظهر: «إن نظرة واحدة في المذهب (الدارويني) كافية لأن تبعد عن العقول ما علق بها من أثر القول بدهرية الذين يعتنقون مذهب النشوء، ... فالمذهب بعيد عن البحث في أصل الحياة، ولا شأن له بالبحث في التولد الذاتي، ولا في القول بأن الحياة قوة مادية أو غير مادية ... ذلك لأن المذهب مقصور على البحث في نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث في الأصل الذي تستمد منه حياتها. من هنا تزاح أكبر عقبة تقف في سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة، كذلك لا يمكن لمنصف أن يحمل مذهب داروين في النشوء، تبعة ما سبق إليه بعض الباحثين فيه، وتوسعهم في مدلولاته إلى حد القول بالمادية وإنكار الألوهية» (ص54).
Неизвестная страница
وبهذه الوجهة من النظر، التي تجعل خلق الحياة - أصلا - أمرا خارجا عن نطاق النظرية الداروينية التي تقتصر على تطور الأحياء بعد أن كانت ثمة حياة، تسقط دواعي الاعتراك بين «الدهريين» من جهة وبين أصحاب «الرد على الدهريين» من جهة أخرى، لأنه إذا كان الأولون قد خلطوا مسألة الألوهية بنظرية التطور فقد أخطأوا، وإذا كان الآخرون كذلك قد ظنوا أن لنظرية التطور مساسا بمسألة الألوهية فقد أخطأوا، إذ يمكن الجمع بين الطرفين دون أن يكون قبولنا لأحدهما مستتبعا بالضرورة رفضنا للآخر.
3
كانت المعركة الأولى بين ثقافة غربية حديثة وفدت إلينا على أقلام عربية آمنت بها، قوامها الرئيسي جانب من علوم البيولوجيا - وأعني نظرية التطور - وجانب من الفكر الفلسفي الذي ساد - مع غيره من مذاهب الفلسفة - أوروبا القرن التاسع عشر، وكان الجانب المنقول هو المذهب المادي الذي شاع هناك نتيجة لانتصارات العلم في الحياة النظرية والعملية على السواء، وقد كان يجوز أن ينقل عن أوروبا عندئذ فلسفات هيجلية مثالية لم تكن أقل شيوعا من المذهب المادي، بل ربما كانت أوسع وأشمل. أقول إن المعركة الأولى كانت بين ذلك الجانب من الثقافة الغربية الوافدة وبين قادة الفكر الإسلامي عندنا، واتخذ الدفاع لنفسه وجهتين: إحداهما أن يبرهن بما يشبه الحجة العلمية على أن النظرية البيولوجية المنقولة لم تكن على صواب، والأخرى تبين قوة العقيدة الإسلامية بالقياس إلى غيرها من العقائد، فجاءت الوجهة الأولى من وجهتي الدفاع ضعيفة لعدم إلمام المدافعين بالعلم الذي تصدوا لتفنيده. ثم جاءت الوجهة الثانية من وجهتي الدفاع - على قوتها الذاتية - غير ذات نسب بموضوع النقاش؛ ولذلك كانت لغة الهجوم الثقافي أرجح من كفة الدفاع. وأما المعركة الثانية فقد انقلب بها الوضع، لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب، إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحجة قوية في جانب الدفاع، وقد تبلور الهجوم في هذه المعركة فيما كتبه هانوتو في فرنسا من جهة، وما كتبه فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة في مصر من جهة أخرى، وكان أقوى من تولى الرد على الرجلين هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده؛ والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.
كان هانوتو في مقاله (نشر في جريدة «الجرنال» الفرنسية، وترجمه محمد مسعود إلى العربية في جريدة المؤيد) قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين «الآريين» و«الساميين» ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بقوله إن الهند هي منشأ الجنس الآري، وفيها ما فيها من التمايز الطبقي الذي يصم بالنجاسة فريقا كبيرا من البشر، فهل جاءت هذه الخصلة إليهم من حضارة الساميين؟ ثم من أين وصلت المدنية إلى أوروبا؟ أمن الشرق الآري أم من الأمم السامية؟ لقد حمل الإسلام إلى أوروبا بما استفاد من صنائع الفرس، وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أبلج ناصعا «إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها في بلاد الأندلس على ما جاورها. إنه لو صح الحكم على الأديان بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، لجاز لنا أن نحكم بأن لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، إذ يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهد فيها، وليس ذلك هو الأساس الذي أقيمت عليه مدنية الغربيين، كلا. إن النظرة المنصفة لتدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها وساميها من آريها ولا فرق بين هؤلاء وأولئك «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية، لا فرق عندهم بين آري وسامي متى مست الحاجة إلى تناول عمل، أو مادة، أو ضرب من ضروب العرفان. وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذ الآن الشرق المضمحل، عن الغرب المستقل».»
وينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين، فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه قائلا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأنه لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أو من أصحاب التنزيه، «ولقد عظم الخلاف في المسألة بين المسيحيين أنفسهم، وهم مشبهة في رأي مسيو هانوتو، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام، واستمر إلى هذه الأيام.»
ومع ذلك فليست جبرية القدر من الإسلام في شيء، إذ «جاء القرآن الشريف - وهو الكتاب المنزل بالإسلام - يعيب على أهل الجبر رأيهم وينكر عليهم قولهم ... وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية، وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك، فإنما جاء في تقرير السنن الإلهية العامة، المعروفة بنواميس الكون.» نعم، لقد «وجد بين المسلمين طائفة تعرف بالجبرية، ولكنها كانت ضعيفة ضئيلة يقذفها الحق، ويطردها العقل، وينبذها الدين ... وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجد والعمل.» إن هانوتو قد بنى حكمه على المسلمين في أخذهم بالقدر، على ظنه أن الإسلام جاء ليقطع الصلة بين العبد وربه، «ولكنه وهم في ذلك، فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربه وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاءه.»
أما الاتهام الذي وجهه صاحب مجلة الجامعة فيتلخص في قوله إن المسيحية كانت أكثر تسامحا مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهادا للعلم والفلسفة من النصرانية، فأجاب الأستاذ الإمام عن ذلك بما نشر في كتيب صغير عنوانه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، وأخذ يستعرض التاريخ كله، بل ويستشهد بالعصر الحاضر نفسه، ليبين في جلاء أن الاتهام باطل من أساسه؛ أفلا يكفي أن الكاتب نفسه قد استطاع أن ينشر في الإسلام ما نشره في مجلته، في بلد مسلم دون أن يتعرض له واحد بأذى؟
ثم يأخذ الأستاذ الإمام في القول المفصل، المؤيد بالشواهد، فلم يشهد الإسلام قتالا نشب بين أصحاب المذاهب المختلفة لاختلافهم في الاعتقاد، فلم يقع قتال بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة، والمعتزلة - مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة - وكذلك لم يقع قتال بين الفلاسفة الإسلاميين لاختلافهم في الرأي. وإن تاريخ المسلمين لمليء بالشواهد التي تدل على أنهم في مجال العلم لم يميزوا بين دين ودين، واستفادوا من أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود وغيرهم.
على أن مذهب الأستاذ الإمام في مقارنة الأديان بعضها ببعض هو أن يؤخذ كل دين «ممحصا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو محدثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دين آخر.» وعلى هذا المذهب طفق باحثا عن أصول الديانتين اللتين أجرى هانوتو المقارنة بينهما - النصرانية والإسلام - فوجد أن الأصول التي تنبني عليها النصرانية هي، أولا: اعتمادها على الخوارق في إقناع الأتباع بصحة الاعتقاد «ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي يصدر مخالفا لشرائع الكون ونواميسه.» ولما كانت العلوم قائمة كلها على أساس التسليم باطراد العلية في ظواهر الكون، كانت العقيدة الآخذة بانتفاء هذا الاطراد مضادة للأساس العلمي، ثانيا: أعطت النصرانية سلطة دينية للرؤساء على المرءوسين في عقائدهم، مما ينفي أن يكون الفرد صادرا في عقيدته عن ضميره «وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنا طوالا .» وثالثا: تدعو النصرانية إلى التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة «فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه؟» ورابعا: الإيمان بغير المعقول، «وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول ... وهو أن الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وأن من الدين ما هو فوق العقل، بمعنى ما يناقض أحكام العقل، وهو مع ذلك مما يجب الإيمان به.» وهناك أصل خامس يقصر نظر النصراني على ما ورد في الإنجيل مهما يكن الموضوع الذي يبحث فيه، زعما منهم بأن الإنجيل حاو على كل معرفة يحتاج إليها البشر، حتى لقد «قال بعض فضلائهم إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله من الكتاب المقدس.» وأصل سادس يحمل صاحب العقيدة على التفرقة بين المسيحي وغيره.
ويستطرد الأستاذ الإمام في تعقب آثار هذه الأصول في موقف المسيحيين من العلم كما شهد التاريخ نفسه فلم يجد «في التاريخ ذكرا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية، التي كان يفصل فيها تارة بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع، وثالثة بسفك الدماء، فتخمد شعلة العلم وينتصر الدين المحض.»
Неизвестная страница
ولكي تتم المقابلة ذكر الإمام أصول الإسلام وبخاصة ما له علاقة منها بالحث على العلم - وهو موضوع النقاش - فالأصل الأول هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وقد «بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج. فهل يكون ركون إلى العقل أوسع من ذلك وأقوى؟ والأصل الثاني للإسلام هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، فإذا تعارض العقل والنقل أخذنا بما دل عليه العقل. وأما موقفنا إزاء المنقول فأحد اثنين: إما أن نسلم بصحته تسليما نعترف فيه بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله، وإما أن نحاول تأويله تأويلا يجعل معناه متفقا مع ما أثبته العقل؛ وإن هذين الأصلين من أصول الإسلام ليكفيان وحدهما للدلالة على موقفه من العلم، الذي هو أظهر ما تظهر فيه الحجة العقلية.» (ويذكر الإمام من أصول الإسلام ثمانية، ويتعقب آثارها بشيء من التفصيل من حيث مناصرة البحث العلمي والنظر العقلي).
4
لم تكن الدعوى ونقيضها في هذه المعركة على المستوى الفلسفي بالمعنى الخاص لكلمة «فلسفة» بل كانت على هذا المستوي بالمعنى العام للفلسفة، وهو المعنى الذي يتسع ليدخل في رحابه الجدل الديني على نحو ما كان شائعا عند فرق المتكلمين. وعلى أي حال فالذي يهمنا من الأمر هو ما حدث من صدام بين فكر وافد وتراث أصيل؛ كيف كان وإلى أية نتيجة أدى.
إن لقاء التعارض بين هانوتو - وغيره - من جهة، والشيخ محمد عبده من جهة أخرى لم يقتصر على فعل ورده بحيث ينتهي الأمر إلى صفر كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الشيخ نفسه - إلى وجوب أن نعيد النظر إلى تراثنا الفكري وإلى السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من تفكير العصر الحديث - وهو في صميمه تفكير علمي - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا وبين روح العصر بحيث يتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأصيلة ولا تغمض العين على ضرورات العصر الراهن.
وفي سبيل بناء هذه الشخصية العربية الجديدة نشبت صراعات فرعية بين رجال الفكر عندنا، فمنها صراع هو استمرار لما قام به الشيخ محمد عبده من دحض لمفتريات خصوم الإسلام، دفعا لكل شبهة عن صلاحية أصولنا الثقافية للبقاء، حتى وإن اقتضى أمر بقائه ملاءمة تجذ الفروع وتبقي على الجذور. وكان عباس محمود العقاد هو فارس هذه الجولة، يمتطي الجواد نفسه الذي امتطاه من قبله الشيخ محمد عبده، مع زيادة في محصول الثقافة الغربية الجديدة وزيادة في التقريب بين الضدين ليلتئما في كيان عضوي واحد، على أن الإضافة الحقيقية التي أضافها العقاد إلى الإمام محمد عبده والتي جعلته بمثابة «التأليف» الذي يؤلف بين الدعوى ونقيضها في نتاج يحافظ عليهما معا ويعلو درجة، هي أنه لم يسلك مسلك الأستاذ الإمام في اصطناعه لمنهج هو أقرب إلى منهج المتكلمين الذين يولدون عن الأصول الدينية نتائجها دون أن يعرضوا لهذه الأصول نفسها، وبذلك يقنعون بكلامهم من يتفق معهم على الإيمان بتلك الأصول. وأما المنكر لتلك الأصول فيوشك ألا يكون الحديث موجها إليه؛ وأما منهج العقاد فهو منهج الفلاسفة الذين لا يبدءون بفروض مسلم بصحتها، ليكون الحديث موجها إلى المؤمن والمنكر على حد سواء.
يقول العقاد في فاتحة كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» إنه «لا محل للكلام على فضل دين من الأديان ما لم يكن أمر الدين كله حقيقة مقررة أو ضرورة واضحة، ولا معنى كذلك لأن نقصر الخطاب على المؤمنين المصدقين ولا نشمل به المتشككين والمترددين بل المنكرين والمعطلين؛ لأن المتشكك والمعطل أولى بتوجيه هذا الخطاب من المؤمن المصدق.»
ويبدأ العقاد بتحليل فكرة «الدين» نفسها - بغض النظر عن هذا الدين أهو هذا الدين أم ذاك - ليرد عنها ما قد تفهم به من دواعي التشكك أو الرفض، حتى إذا ما انتهى إلى نتيجة ترضي أصحاب الأديان جميعا وهي أن الدين ضرورة إنسانية، يعود فيتناول أوجه المفاضلة بين الإسلام وغيره من الديانات ليجد في الإسلام كل ما يطلب من عقيدة دينية، لكنه في هذا الكتاب وفي غيره (مثل كتابه «الفلسفة القرآنية» وكتابه «التفكير فريضة إسلامية») يلح إلحاحا شديدا على وجوب احتكام الإنسان إلى عقله الحر ، وفي هذا الاحتكام تكمن نقطة الالتقاء بين تراثنا من جهة وقبولنا لحضارة العلم الحديث من جهة أخرى.
لكن الذي يلفت النظر في هذا الصدد هو أن العقاد الذي ألح هذا الإلحاح كله على الجانب العقلي في تفهم العقيدة والدفاع عنها، وفي وجوب اضطلاع الفرد بالتفكير العقلي لأنه فريضة إسلامية، قد دخل في معركة جانبية مع الزهاوي في أهمية العقل بالنسبة إلى أهمية الخيال والعاطفة، وذلك أن الزهاوي ذو فلسفة مادية علمية يؤمن بالعقل وقدرته دون سائر القوى الإنسانية، فتصدى له العقاد مقيما له الحجة على أن الخيال والعاطفة لازمان للإنسان لزوم العقل أو هما ألزم، فيقول مشيرا إلى الزهاوي «يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس لا تغشيها سحب النهار ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تناجى فيها الأحلام. وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا وشمسا ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء ... وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل ثم جاء العقل ليتممها ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه.» لقد ظن الزهاوي - هكذا قال عنه العقاد في هجمته الناقدة - أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا عن طريق عقله، مع أن العقل وحده لا يكفي، فانظر إلى الزهاوي نفسه وهو يعرض إحدى نظرياته الفلسفية التي أسماها بنظرية الدور، تر أن دفعة الحياة قد حركته إلى الكلام قبل أن يستطيع إخضاع هذا الكلام لقواعد المنطق العقلي «علي أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم، لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة إنما يعزيها أن تشعر بالخلود.»
5
وننتقل إلى معركة ثالثة هي في صميمها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع، أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئا من داخل الإنسان متجها إلى خارجه، والآخر يجعله بادئا من خارج الإنسان متجها إلى داخله. والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني؛ الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل على أساسها، يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تستنبط الرياضة من مسلماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية؛ والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم نبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة من يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة ليقول إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعول في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمن جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل، كان من المثاليين أو العقلانيين، ومن جعل الأولوية للحواس، كان من التجريبيين.
Неизвестная страница
وفي هذا اختلفنا اختلافا يمكن النظر إليه النظرة الجدلية التي تقسمه إلى دعوى ونقيضها ثم تأليف بينهما أو محاولة ذلك لولا أن الترتيب الزمني لهذه الأضلاع الثلاثة لم يأت على هذا التتابع، بل جاءت مرحلة التأليف في ترتيب الظهور أسبق من المرحلتين الأخريين.
أما ما سأجعله بمثابة الدعوى في هذه المعركة فهو المذهب التجريبي العلمي (الوضعية المنطقية) التي ذهب إليها كاتب هذه السطور، ونشرها ودعمها بكل وسائل النشر والتدعيم. فماذا يقول هذا المذهب - أو بتعبير أدق - هذا المنهج لأنه ليس مذهبا ذا فلسفة إيجابية بقدر ما هو طريقة للنظر بالنسبة إلى كل ما تستخدم فيه اللغة والرموز الأخرى، من مذاهب الفلسفة ونظريات العلم وغير هذه وتلك من ضروب القول والكتابة.
يقوم هذا المنهج التجريبي على أساس تحليله للغة؛ كيف نشأت وعلى أي صورة تجري في الاستعمال اليومي وفي الاستعمال العلمي وفي غير هذين من مجالات الخلق الأدبي. وينتهي به التحليل إلى أن للغة ميدانين كبيرين تستعمل فيهما بطريقتين مختلفتين، إحداهما هي حين تستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، والأخرى هي حين تستخدم في غير هذه العملية الإشارية كأن يراد بها إثارة عواطف السامع أو إقامة بناء ذهني صرف تتسق أجزاؤه من داخل ، ولكنه لا يعنى شيئا في خارج، فإذا رأيت علم الضوء - مثلا - يقدم لي قولا في مسار الضوء؛ ما سرعته، وكيف ينعكس أو ينكسر أو غير ذلك، كان مدار قوله هذا هو التطبيق الخارجي ولذلك يتحتم أن يكون قابلا لهذا التطبيق الذي على أساسه نحكم بقبوله أو برفضه. وكذلك قل في شئون الحياة اليومية، فإذا زعمت لك أن القطار السريع من القاهرة إلى الإسكندرية يغادر القاهرة في تمام الساعة السابعة صباحا ليصل إلى محطة الإسكندرية بعد ساعتين وربع ساعة، كان قبولك لزعمي هذا مرهونا بقياسه على الواقع الفعلي ، وعندئذ فقط يتبين لك مدى ما فيه من صدق على ذلك الواقع، وبمقدار ما يكون في الصياغة اللفظية من رسم لطريق التطبيق الفعلي يكون لها «معنى». على أن ما له «معنى» قد يصيب وقد يخطئ فيكفي للعبارة أن تبين كيف يكون طريق تطبيقها على الواقع - سواء وجدناها تنطبق أو وجدناها لا تنطبق - لنقول إنها ذات معنى. فمن حيث «المعنى» لا فرق بين أن أقول إن الشمس تدور حول الأرض في أربع وعشرين ساعة، وأن أقول إنها تفعل ذلك في مائتين وأربعين ساعة؛ لكل من هاتين العبارتين صورة معينة تهدينا إلى طريقة المطابقة بينها وبين الواقع، لكن إحداهما سيتبين صدقها عند المطابقة كما سيتبين كذب الأخرى.
وأما الميدان الثاني في استعمال اللغة فهو حيث لا يقصد بها الإشارة إلى العالم الخارجي، بل يراد بها أثرها الوجداني أو يراد بها إقامة بناءات ذهنية تقتصر على مجرد التصور ولا نزعم لها أنها تسمى جانبا أو آخر من جوانب العالم، فالشاعر الذي يروي عن الليل أنه كموج البحر، لا يلفت نظرك إلى شيء في محيطك الخارجي، تنظر إليه لتطابق بينه وبين ما زعمه لك، بل يلفت نظرك إلى خبرة داخلية تحسها في شعورك. وكذلك الرياضي حين يبني نسقا رياضيا - كما فعل إقليدس - لا يدعي أن نسقه هذا يشير بالضرورة إلى كائنات خارجية، إذ قد يخلو العالم الخارجي من المثلثات أو من المربعات، ومع ذلك يظل نسقه الرياضي صحيحا؛ لأن صحته قائمة على طريقة تكوينه لا على إشارته إلى مسميات في دنيا الأشياء. وقل هذا نفسه بالنسبة إلى فريق من الفلاسفة يلجأ أفراده إلى ما يفعله الرياضي من حيث طريقة البناء، وهو أن يبدءوا بحقائق معينة لا يدعون أنها مكسوبة بالمشاهدة الحسية، بل يقولون إنها من إدراك الحدس، ثم يستنبطون من ذلك الإدراك الحدسي ما يمكن استنباطه من نتائج. ومن مجموع هذه النتائج مرتبة «منسقة» يتكون البناء الفلسفي المعين، فافرض أنك وقفت عند مرحلة بذاتها من هذا البناء تسأل كيف أستيقن من صوابها؟ فعندئذ يحيلونك على المقدمات التي استنبطت منها لترى أن استدلالها كان استدلالا صحيحا، وهكذا دواليك تحال في كل مرحلة إلى سابقتها، حتى تصل إلى نقطة الابتداء الأولى، فتسأل الرياضي أو الفيلسوف الاستنباطي من أين جاءت؟ فيكون الجواب: هي مسلمة الصدق لأنها مفروضة (بلغة الرياضيين) أو لأنها مدركة بحدس البصيرة (بلغة الفلاسفة).
هذان هما الميدانان الرئيسيان للغة، وعليك حين تستخدم اللغة أن تكون على بينة في أي ميدان من ميدانيها تستخدمها. أتشير بها إلى كائنات خارجية وعندئذ يتحتم عليك الركون إلى تجربة الحواس، أم تقصر نفسك على البناءات الذهنية التصورية، وعندئذ لا تطالب بالرجوع إلى تجربة الحواس وتكون ملزما بمراعاة مقاييس أخرى ملائمة لنوع البناء التصوري الذي تقيم أركانه في ذهنك.
هذا هو ما يقوله المنهج الوضعي المنطقي أو التجريبي العلمي، وإنما سمي «وضعيا منطقيا» لأنه أولا: يشترط لكل عبارة تدعي الإشارة إلى دنيا الأشياء أن يقوم صوابها على تصويرها لتجربة الحواس، وهذا هو الجانب الوضعي من الموقف. ولأنه، ثانيا: يكتفي بتحليل لغة العبارة نفسها، وهذا التحليل وحده كفيل بإرشادنا إن كانت العبارة مقبولة من ناحيتها المنطقية أو غير مقبولة، وهذا هو الجانب المنطقي من الموقف، فافرض مثلا، أنني زعمت لك عن «الروح» أنها «مادية» في جوهرها، فليس بك حاجة إلى البحث عن روح تتناولها لترى إن كانت مادية أو لم تكنز. وحسبك في رفضك لهذا القول أن تحلل هاتين الكلمتين، فإذا انتهى بك التحليل إلى أن كلمة «الروح» تطلق على كائنات غير مادية، علمت على الفور أنه من التناقض - إذن - أن توصف بأنها مادية؛ لأنني أكون عندئذ كمن يقول «اللامادي مادي» فرفضنا لهذه العبارة قائم على «المنطق» وحده؛ منطق اللغة ومنطق الفكر.
تلك هي الدعوى، فكيف جاء نقيضها - أو نقائضها إذا جاز أن يكون للفكرة الواحدة أكثر من نقيض واحد؟ جاءت تلك النقائض على مستويات مختلفة باختلاف أشخاصها في جدية المأخذ وعمق التفكير، فمنها ما عارض به العقاد على أساس جدلي فيه متانة الحجة، لكنها حجة مردود عليها، فمن أقوى ما اعترض به - وهو اعتراض شائع بين أعداء الوضعية المنطقية - أنه إذا كان هذا المنهج يرفض في باب العلم كل ما عدا نوعين فقط من القول، أحدهما قول تجريبي قياسه الواقع المحسوس والثاني قول فيه تحصيل حاصل (كالمعادلات الرياضية) باعتبار أن ما عدا هذين النوعين من الكلام هو أقوال فارغة من المعنى، إذن فالعبارة نفسها التي سيق بها هذا المذهب هي من قبيل الأقوال الفارغة؛ لأنها لا هي من قوانين العلم الطبيعي (النوع الأول) ولا هي من قبيل العلم الرياضي (النوع الثاني). لكن هذه الحجة مردود عليها بما يسمى «نظرية الأنماط المنطقية» التي مؤداها أن العبارات اللغوية ليست من مستوى واحد، ومقياس الصدق في أحد هذه المستويات ليس هو مقياسه في المستوى الآخر. مثال ذلك: افرض أنني حللت الجمل اللغوية التي وردت في هذه الصفحة فوجدتها جميعا قد كتبت باللغة العربية، فسجلت هذه الحقيقة عندي بعبارة إنجليزية أقول بها ما معناه «إن جميع العبارات على هذه الصفحة عبارات عربية» أفيجوز أن يعترضني معترض بقوله: لكن حكمك هذا لو صح لوجب أن يكون هو كذلك عبارة عربية؟ كلا؛ لأن حكمي هذا من «نمط» منطقي أعلى، يحكم على ما دونه، ولا يخضع هو نفسه لحكم نفسه، وأمثال ذلك في الحياة كثيرة كثرة لا يجوز معها أن يقع ناقد في مثل هذا الخطأ المنطقي، ومع ذلك فالذي وقع فيه كثيرون؛ فقد أكتب بطاقة على صندوق كل ما فيه برتقال، لتدل البطاقة على محتوى الصندوق، دون أن يطوف ببال ناقد أن يقول «لكن لو كان الوصف الموجود على البطاقة لما بداخل الصندوق وصفا صحيحا لوجب أن يكون هو نفسه برتقالة من البرتقال.» نعم إن هذا هو الموقف نفسه حين نحلل العبارات العلمية لنقول عنها آخر الأمر: العبارات العلمية كلها إما عبارات وصفية تشير إلى الواقع المحسوس وإما عبارات تحليلية تنطوي على تحصيل حاصل كمعادلات الرياضة، فلا يكون هذا الحكم العام نفسه خاضعا لقاعدة نفسه، بحيث أقول عنه إن هذا الحكم لا هو من قوانين العلوم الطبيعية ولا هو من تحصيلات الحاصل إذن فهو خلو من المعنى.
ويزيد العقاد على هذا الاعتراض اعتراضا آخر فيقول: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل.» ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» وردا على ذلك نقول إن مثل هذه الجملة هي - كمعادلات الرياضة - تحصيل حاصل، وليست مما يصف الواقع، وصدقها كامن في أنها تكرر معنى واحدا مرتين؛ وذلك لأنك لو سألت: ماذا تعني بكلمة «العدم»؟ لأجبت نفسك بأنه هو «ما لا يكون» وإذا عدت فسألت وماذا تعني كلمة «المستحيل»؟ لأجبت نفسك هنا أيضا بقولك إنه هو «ما لا يكون»، وإذن فترجمة الجملة بعبارة أخرى تصبح «ما لا يكون لا يكون» وهو قول صحيح، لأنه تحليلي تكراري وشبيه بقولك 2 = 2 أو بقولك 1 + 3 = 4، وليس في هذا ما ينفي ما ذهبت إليه الوضعية المنطقية في تحليلاتها لتقبل ما تقبله وترفض ما ترفضه. وهكذا يمضي العقاد (راجع كتابه «بين الكتب والناس») في معارضات جدلية، تدل على أخذه للقضية أخذا جادا لكنها لا تدل بالضرورة على أنه قد أصاب. •••
ومن النقائض كذلك فصل خصصه الدكتور محمد البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» - لا أقول «للرد» على الوضعية المنطقية؛ لأن الرد يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، بل أقول إنه خصص فصلا ألقي فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها، وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك، أراد بها أن يثير نفوس قرائه - لا أقول عقولهم، لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق - نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه على طائفة من مواطنيهم. كان كاتب هذه السطور أحدهم بسبب كتاب أخرجه وجعل عنوانه «خرافة الميتافيزيقا» ليقول به إنه إذا أراد المتكلم أن يتصدى لقول علمي يتصل بالعالم الخارجي فليكن سنده تجربة الحواس ، لأن ما هو مجاوز لمجال الإدراك الحسي سبيله آخر، وطريقة تصديقه طريقة أخرى، فإذا جاء فيلسوف ميتافيزيقي يزعم لنا أن للبرتقالة «جوهرا» وراء لونها وشكلها وطعمها، كان من حقنا أن نسأله أن يقيم لنا البرهان على أساس من تجاربنا نحن ما دمنا نحن الذين نستمع إليه.
ويبدأ الدكتور محمد البهي حملة إثارة النفوس منذ عنوان كتابه، إذ يجعل جزءا من هذا العنوان عبارة تقول إن هؤلاء المواطنين الذين هاجمهم في دعاواهم الفكرية ذوو صلة بالاستعمار الغربي. ولست أظن أن مما يشرفه ولا مما يشرف قراءه أن يجعل رجالا من أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق (وهما أيضا ممن خصص لاتهامهم فصولا من كتابه) أعوانا للمستعمر على تحقيق أغراضه، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور بأن يجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمته «الدين خرافة» وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الوطني الذي عاون الاستعمار بكتابه قد خرج كذلك على دينه. ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة. وحتى إذا سلمنا معه أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟
Неизвестная страница
وإن هذه البداية لتكفي لصدنا عن مناقشته فيما أورده من حديث؛ لأنها بداية من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه. ومع ذلك فماذا قال؟ أخذ ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا بالأحرف العربية تارة وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، لا لأنها تصلح أن تكون ردا لما أراد أن يرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته على غلاف الكتاب من أنه دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، دكتور من هناك في «الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية» - كما أثبت على غلاف كتابه - ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني لولا أنه يدلني على أنه لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبع تحليلات الفلاسفة حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية التي تستخدم في إثارة النفوس، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول. وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي يقول به أوجست كونت، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب ويكيل له الضربات وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه.
إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، لكننا على سبيل التفكه نذكر أن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيورات، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردد فكر الغربيين باسم التجديد وأنه يردده «مشوها أو محرفا»، ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في «خرافة الميتافيزيقا» تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية ... وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن «مئات من الألفاظ المتداولة» والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة. وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.» يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه - واعجباه - أن الكلمة [وهل كل حديثنا عن كلمة واحدة معينة يا دكتور بهي؟ أم هكذا أردت لها أنت لتستدل من ذلك ما يتفق مع هواك لا مع النص؟] أن الكلمة التي يتداولها الناس في كثرة لا بد أن تكون اسم الجلالة «الله» وإن لم يصرح مؤلف خرافة الميتافيزيقا بذلك، ولنضرب عرض الحائط بعبارة «مئات من الألفاظ المتداولة» التي وردت في النص - هكذا يقول لسان الحال عند الدكتور البهي - لأننا نحن - أولاد البلد - يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور - وهي طائرة - ومحال أن يضحك على ذقوننا كاتب مادي لعين كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا» ... إنه يقول شيئا لكننا نفهمه على وجه آخر لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به. وأستحلفك بالله - أيها القارئ - لا تضحك إذا ما أنبأتك بأن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث الذي يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه هذا «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية بل يدل أيضا على أن «البتر» في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» (والمقصود بالمرددين عنده هم الدكتور طه حسين والأستاذ علي عبد الرازق وكاتب هذه السطور الذي هو مؤلف «خرافة الميتافيزيقا»). ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة، فقد تولى الحديث عنكم الدكتور محمد البهي وهو أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون. •••
ونترك هذه الوقفة الانفعالية التي لم يحسن صاحبها فهم ما يتصدى لنقده وبالتالي لم يحسن النقد العلمي النزيه، واكتفى بإلقاء خطبة وجدانية يلهج فيها بخوفه على الإسلام من طائفة مفكرة أسلمت كما أسلم ثم استخدمت واجبها الإسلامي في التفكير، وأحبت وطنها كما أحب، ثم رأت أن ترتفع بمداركها العقلية إلى منزلة أراد المستعمرون احتكارها لأنفسهم. نترك هذه الوقفة الانفعالية - إذن - لننتقل إلى فيلسوف عربي دحض المذهب التجريبي الحسي كما يدحض الفلاسفة بعضهم بعضا؛ بالحجة المنطقية الرصينة، لكن دحضه للمذهب التجريبي الحسي لم يجعله يتطرف إلى نقيضه، وأعني المذهب المثالي الذي يحول الدنيا بأسرها إلى أفكار مجردة في عقل مدركيها، وإنما هو يختار موقفا أشبه بموقف وسط بين الطرفين وهو أن يكون العقل أداة الإدراك، لكن معقولاته لا تقتصر على نفسه بل إن وجودها في الذهن ليدل على وجود الموجودات الخارجية. وذلك الفيلسوف العربي هو يوسف كرم، في كتابيه «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة». لقد أرسل يوسف كرم خطابا قصيرا إلى كاتب هذه السطور بتاريخ 6 مايو (أيار) 1959م؛ أي قبيل وفاته بأيام (مات فجر الخميس 28 مايو 1959م)، يقول فيه: «تحية واحتراما وإعجابا بكثرة تآليفكم، وإن كان ما قرأته لكم يحفر بيننا هوة سحيقة؛ فإن أول ما يقتضى من رجل العلم خلوص النية والجد في البحث وهما متوافران، لكن وأنا مواصل قراءة «نحو فلسفة علمية» ومكرر الوعد بالكتابة عنه، وأستطيع أن أقول - منذ الآن - إن الفلسفة التي تفرضونها هي الفلسفة المادية، وإننا لن نتفق في الرأي، وسيبدو لكم هذا الاختلاف حين تطالعون كتابا لي توشك دار المعارف أن تصدره واسمه «الطبيعة وما بعد الطبيعة»، وسيادتكم تثقون طبعا أني كتبته بإخلاص.»
وصدر الكتاب بعد وفاته، وهذا هو نص التصدير الذي صدره به، لأنه يوجز القول فيما جاء فيه وفي الكتاب الذي سبقه وهو «العقل والوجود» يقول التصدير:
أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخرى مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر الكائنات.
وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق حتى الحسية منها والهادم للعلم من أساسه، وأدحضنا المذهب التصوري الذي، وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود . وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بينا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها ...
والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات وأن نبدي الرأي فيها ... آملين ... أن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.
ونقصد أخيرا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة أي لخالقها ومشرع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها ...
على أن الناقدين الناقضين للتجريبية العلمية التي اضطلع بعرضها والدفاع عنها كاتب هذه السطور، لم يقتصروا على الأستاذ العقاد والدكتور البهي والأستاذ يوسف كرم (في توسطه بين طرفي التجريبية والمثالية)، بل كان من بينهم كذلك الدكتور عثمان أمين في كتابه «الجوانية»، ولكنني لا أنوي التعرض لما يقدمه في هذا الكتاب، لأنني غير مؤهل لذلك؛ إذ يقول في التقديم «منذ البداية أرى لزاما أن أنبه إلى أن هذا الكتاب الصغير لم يكتب إلا للقراء الجوانيين حقا، ومعنى هذا أن القارئ الذي يقف عند حرفية الألفاظ وظاهر العبارات دون أن يحاول أن ينفذ إلى فهم «ما بين السطور» لن يستطيع أن يصحبني في هذه الرحلة الفلسفية الطويلة؛ لأن اللغة المقروءة أو المسموعة ليس في طاقتها أن تنقل كل ما يعتلج في نفس الكاتب أو المتكلم، ما لم يصحبها من جهة القارئ أو السامع ضرب من «التهيؤ النفسي» أو التأهب الوجداني ...»
ولما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن يلزمون الكاتب بحرفية ألفاظه - وإلا كان عابثا حين استخدمها - وكذلك لما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن لا يجدون «بين السطور» إلا بياضا لا يعني شيئا، ولما كنت أومن - لحسن الحظ أو لسوئه - أن ما لا يستطيع الكاتب أن يجريه في «لغة مقروءة أو مسموعة» فليصمت عنه، لأنه لا جدوى عندئذ من شغل أعين القراء أو آذان المستمعين برموز عاجزة عن نقل ما أراد الكاتب أو المتكلم أن ينقله. أقول إني لما كنت هذا وهذا وذاك، فسآخذ بنصح مؤلف «الجوانية» بألا أتبعه في رحلته الفلسفية الطويلة.
Неизвестная страница
6
ودارت المعركة الرابعة حول موضوع لا تبلى جدته ولا يذهب عنه خطره، لأنه وثيق الصلة بقضية فكرية هي من أهم ما يشغل الإنسان في حياته من قضايا، ألا وهي قضية الحرية الإنسانية؛ ما مداها؟ أنجعل الفرد الإنساني كيانا مستقلا بذاته عن سائر الذوات وسائر الأشياء، حتى لنجعل من كل فرد عالما قائما بذاته، فنضمن له أوسع ما يمكن ضمانه من حرية، أم نجعله تجسيدا لحقيقة نوعية تشمله وتشمل سواه من أفراد نوعه، وبذلك لا يجاوز أن يكون ممثلا لطبيعة معينة مفروضة عليه لا يملك الفكاك من حدودها وقيودها؟
وقد أخذت الفلسفة الوجودية الحديثة - على اختلاف صورها - بفردية الوجود الإنساني، لتجيء ردا على طغيان الجماعة على الفرد وتحكمها في ضميره، وهو طغيان كثرت أشكاله في عصرنا الحديث بما ظهر فيه من ضروب «الشمولية» التي تلغي وجود الأفراد بالقياس إلى وجود «الكل» كما هي الحال في الأنظمة الشيوعية والفاشية والنازية.
وكان في مقدمة من اضطلع بالدفاع عن الوجود الفردي الحر الفعال، الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي»؛ فالوجود عنده نوعان «فزيائي وذاتي» الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء، وليس ثمة فارق ضخم بين وجود الغير كذوات واعية أو كأشياء جمادية، فكلاهما بالنسبة إلى الذات المفردة من ناحية المعنى سيان، فالوجود الذاتي وجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ، ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده. أما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، ولذا لا تنظر إليه الذات إلا من هذه الناحية وتبعا لها يتحدد موقفها بإزائه» (ص135).
إن الذات الإنسانية المفردة الفريدة التي لا تنظر إلى سائر الذوات الأخرى وسائر الأشياء إلا من حيث هي وسائل تحقق لها إرادة الفعل، أقول إن هذه الذات الإنسانية كائنة حتما في زمان متعين الحدود له أول وله آخر وله امتداد محدود بهذين الطرفين، وهي خلال هذه الفترة الزمانية المحدودة لا تنفك محققة بأفعالها ما هو في وسعها تحقيقه من إمكانات، لكن الإمكانات لا تحدها حدود، وأما الفعل المتحقق فمحدود، ومن ثم كان سعادة الذات وشقاؤها؛ سعادتها بما تحققه، وشقاؤها بما لم تحققه. إن مجرد قولنا إن الإنسان حر يتضمن بالضرورة أنه يختار من بين الممكنات اللامتناهية أفعالا محدودة العدد؛ أي أن حرية الإنسان قاضية حتما على الإنسان الحر بقصور في سعادته، لأن السعادة لا تتم إلا بالتحقق الكامل لكل الإمكانات. وإذن «فالوجود شقي بطبعه، وسيظل شقيا؛ لأن الإمكانيات لا متناهية واللامتناهي لا يمكن اجتيازه، فإذا كانت السعادة الكلية لن تتحقق إلا بإحراز الكل، وإحراز الكل معناه اجتياز اللامتناهي، واجتياز اللامتناهي مستحيل، فالسعادة الكلية - إذن - مستحيلة» (ص222).
ولا يزول عن الإنسان شقاؤه إلا بأحد طريقين. فإما أن يجتاز اللامتناهي وهذا مستحيل عليه، وإما أن يبعد الإمكانات وهذا معناه إبعاد الفعل، وفي هذا محو لطبيعته الأصيلة التي هي فعل قبل أن تكون أي شيء آخر. لقد حاول فلاسفة أن يحققوا للإنسان سعادة كاملة فوضعوه في سرمدية لا تحدها حدود الزمان، لكنهم بهذا إنما يضعونه في حياة خاوية لا معنى لها «وقد آن للإنسان أن يتخلص من كل هذه الأوهام التي تقرر وجودا غير الوجود المتزامن بالزمان، فهذا واجب لا بد من أدائه إذا كان لنا أن نعيد للإنسان معناه وقيمته؛ ولهذا فإننا نقرر هنا في صراحة تامة، وبلا أدنى مواربة، أن كل وجود غير الوجود المتزامن بالزمان وجود باطل كل البطلان، وأن السرمدية المضادة للزمانية وهم من أشنع الأوهام» (ص223). •••
وهذه النتيجة الأخيرة هي التي تقتضي أن يرد عليها بما يخفف من حدتها تخفيفا يلائم بينها وبين جونا الفكري العام، ولست أعرف من تصدى للرد الجاد من مفكرينا سوى العقاد، لأنه، بعد أن حمد للوجودية تقريرها لحرية الضمير عند الفرد الإنساني، أخذ عليها خلطها بين وجود الفرد والوجود كله، وظنها أنه لا مكان لحرية الفرد إلا إذا ألغينا حقيقة النوع، على حين أن «وجود النوع الإنساني وجود حقيقي صادق في الحس كصدق وجود الفرد أو أصدق. ووجود النوع الإنساني حقيقة بيولوجية من حقائق اللحم والدم، وليس كما يقولون فرضا من فروض التصور في الأذهان، ولا يتم كيان الفرد نفسه إلا إذا نضجت فيه الوظائف النوعية التي يتحقق بها وجود النوع ...
واختلاف الأفراد في ملامح الشخصية لا ينفي التشابه بينهم في الخصائص النوعية ولا يجعل كلا منهم عالما مستقلا بأخلاقه وآدابه ومواطن اختياره واضطراره» (بين الكتب والناس، ص15-16).
وليس فيما كتبه العقاد رد مباشر على الدكتور بدوي، فضلا عن أنه لا يقع منه موقع النقيض بل هو أقرب إلى من أراد أن يؤلف بين النقيضين لو كان هناك قول ينقض ما ذهب إليه الدكتور بدوي في مذهبه الوجودي، أضف إلى ذلك كله أن العقاد يكتب عن الوجودية على إطلاقها، وللدكتور بدوي وجوديته المتميزة من سواها.
لم تكن هذه المعارك الأربع هي كل ما شهده الميدان الفلسفي عندنا من معارك لكني أراها أحق بالإثبات من سواها.
Неизвестная страница