لكن رسل قد ذهب في ذلك مذهبا جديدا، أقامه على أساس تحليله للأشياء إلى حوادث؛ وهو مذهب كان قد سبقه إليه وليم جيمس، ومؤداه أن قوام الكون هيولى محايدة، فلا هي عقل فقط ولا هي مادة فقط، ولا هي عقل ومادة معا، بل هي مصدر محايد سابق على العقل والمادة. وإنما تكون الحالة المعينة عقلية أو مادية بحسب الطريقة التي ترتب بها الحوادث، فإذا رتبت على نحو ما، كانت مادة، وإذا رتبت على نحو آخر، كانت عقلا. والأمر هنا شبيه بأن تكون لديك عشر خرزات مثلا، ترصها على نحو، فتكون مربعا وترصها على نحو آخر، فتكون دائرة، لكن الخرزات نفسها محايدة بالنسبة للتربيع والتدوير، والأمر أمر ترتيب وتنظيم. فافرض مثلا أنك تتلقى شعاعا ضوئيا آتيا إليك من بقعة ملونة أمامك، فما الذي يحدث؟ يحدث خط من حوادث يبدأ من مصدر الضوء ويسير في الطبيعة الخارجية حتى يصل إلى سطح العين، ثم يستمر خط الحوادث عن طريق الأعصاب إلى المخ فتتم الرؤية. فإذا كنا قد اصطلحنا على أن نسمي الشوط الذي تقطعه الحوادث خارج العين مادة، وأن نسمي شوط الحوادث داخل الجسم الحي عقلا، فليس الاختلاف في الكيان الأصلي الذي هو حوادث في كلتا الحالتين، لكن الاختلاف في سياق الحوادث وترتيبها، ولو انتزعت حادثة واحدة على حدة ونظرت إليها مفصولة عن كل ما عداها، لما عرفت أعقل هي أم مادة، تماما كما تنظر إلى اسم واحد مثل إسماعيل، فلا تدري أهو موضوع في موضعه على أساس الترتيب الأبجدي أم على أساس الرتبة؛ لأنك لكي تحكم عليه بهذا أو بذاك، لا بد لك أن ترى الاسم في قائمة مع أسماء غيره، لتحكم عليه في سياقه؛ وهكذا الحكم على الحوادث في نسبتها إلى المادة أو إلى العقل، يحتاج إلى سياق وترتيب يقررانه.
فهنالك وسيلتان لتصنيف الحوادث الجزئية، إحداهما أن تضم مجموعة الظاهرات التي تعد أجزاء من تاريخ شيء معين، كالشمس مثلا، فتكون منها ما تسميه بالشيء المادي؛ والأخرى أن تضم ظواهر الأشياء المختلفة عند التقائها في بؤرة واحدة كالجهاز العصبي لفرد من الناس، فتكون منها ما تسميه بالحياة العقلية لهذا الفرد؛ والظاهرات هي الظاهرات في كلتا الحالتين، ففي الحالة الأولى تفرقت حوادث المصدر الواحد في عدة نقط مكانية، كالشمس تراها في كل نقطة مكانية بينها وبين الشمس خط لا يحوله حائل، بدليل أنك إذا وضعت مرآة في أية نقطة تواجه الشمس، التقطت صورتها، مما يدل على أنها كانت موجودة في الموضع الذي وضعت فيه المرآة، فإذا أنت جمعت هذه الظاهرات الشمسية المتفرقة في مصدر واحد كان لك بذلك الشيء المادي الذي تسميه شمسا. وأما في الحالة الثانية فتتجمع في نقطة واحدة ظاهرات كثيرة جاءت من مصادر مختلفة، كأن تتجمع - مثلا - الأشعة الآتية من الشمس الأشعة الآتية من نجوم أخرى، تتجمع هذه وتلك في بؤرة واحدة تتقاطع عندها خيوط الأحداث المتعددة المصدر، فإذا تصادف أن كانت تلك النقطة الواحدة التي يحدث التقاطع عندها مخا بشريا، كان لنا ما نسميه عقلا.
6
ولبرتراند رسل - غير جوانب فلسفته في التحليلات المنطقية الرياضية، وفي نظرية المعرفة وتحليل العقل والمادة - جهود معروفة في التربية والأخلاق والسياسة، لا بل إن جمهرة القراء لا تعرف من رسل إلا ما كتبه في هذه الموضوعات، مع أنها لم تشغله بصفة جادة إلا سنوات قلائل بعد الحرب العالمية الأولى، أملا منه في إصلاح الإنسانية إصلاحا تتغلب به على الحروب القادمة، أما قبل ذلك وأما بعد ذلك فهو فيلسوف بإنتاجه الفلسفي بمعني هذه الكلمة عند المحترفين. ومهما يكن من أمر، فلو جاز لنا أن نلخص كتبه التي كتبها في التربية والأخلاق والسياسة في كلمة، لقلنا إنها كتب تدعو إلى الحرية بأوسع معانيها وأعمقها.
إلا إنه لمن أشق الأمور وأعسرها أن نوجز القول هذا الإيجاز الشديد في فيلسوف وكاتب لبث يخرج مؤلفاته متتابعة تتابعا سريعا أكثر من ستين عاما، تطور خلالها فكره الفلسفي في كثير من المسائل، وكان آخر كتاب أخرجه هو كتاب يشرح فيه تطور فلسفته. وقد كان لصاحب هذا المقال بعض الجهد في نقل فلسفة برتراند رسل إلى العربية ترجمة وتأليفا، فألف عنه كتابا يوجز القول في مذهبه الفلسفي، وترجم له تاريخ الفلسفة الغربية، وكتابا آخر أسماه رسل بالموجز في الفلسفة، وأطلق عليه صاحب الترجمة العربية عنوانا آخر ليدل على حقيقة مضمونه وهو «الفلسفة بنظرة علمية». هذا عدا فصول مطولة خصصها في كتبه الأخرى لشرح هذه الناحية أو تلك من نواحي هذا الفيلسوف الخصب. والحق أنه ما كان لأمة ناهضة أن تغفل عن فيلسوف يملأ الدنيا بصوته ويشغل الأذهان بفكره. (5) تشارلس بيرس
من الفلاسفة من تقرأ لهم فتراك تنساب على بسيط هين لا تعترضه حزون، فيشوقك السير، ولكنك إذا ما أكملت الشوط وجدت جعبتك تكاد تخلو من الجديد الذي يهزك هزا. ومنهم من تقرأ لهم فتحس كأنما أنت تصعد الجبل الصعب، أمامك في كل خطوة عقبة لا بد من محاولة اجتيازها قبل أن تمضي في الصعود، لكنك إذا ما بلغت نهاية الطريق، ألفيت نفسك على قمة نقية الهواء، لا يشوب سماءها هذا الغبار الذي يكتنف حياة الناس فوق الأرض.
ومن هذا القبيل الثاني من الفلاسفة «تشارلز ساندرز بيرس»
Charles Sanders peirce (1839-1914م) الذي كان بمثابة أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البرجماتية خلقا، ثم هو الذي بلغ بها غاية كمالها، فإذا ما جاء بعده التابعان الكبيران اللذان سارا على نهجه - وأعني بهما وليم جيمس
Wiliam James
وجون ديوي
Неизвестная страница