وبهذه الوجهة من النظر، التي تجعل خلق الحياة - أصلا - أمرا خارجا عن نطاق النظرية الداروينية التي تقتصر على تطور الأحياء بعد أن كانت ثمة حياة، تسقط دواعي الاعتراك بين «الدهريين» من جهة وبين أصحاب «الرد على الدهريين» من جهة أخرى، لأنه إذا كان الأولون قد خلطوا مسألة الألوهية بنظرية التطور فقد أخطأوا، وإذا كان الآخرون كذلك قد ظنوا أن لنظرية التطور مساسا بمسألة الألوهية فقد أخطأوا، إذ يمكن الجمع بين الطرفين دون أن يكون قبولنا لأحدهما مستتبعا بالضرورة رفضنا للآخر.
3
كانت المعركة الأولى بين ثقافة غربية حديثة وفدت إلينا على أقلام عربية آمنت بها، قوامها الرئيسي جانب من علوم البيولوجيا - وأعني نظرية التطور - وجانب من الفكر الفلسفي الذي ساد - مع غيره من مذاهب الفلسفة - أوروبا القرن التاسع عشر، وكان الجانب المنقول هو المذهب المادي الذي شاع هناك نتيجة لانتصارات العلم في الحياة النظرية والعملية على السواء، وقد كان يجوز أن ينقل عن أوروبا عندئذ فلسفات هيجلية مثالية لم تكن أقل شيوعا من المذهب المادي، بل ربما كانت أوسع وأشمل. أقول إن المعركة الأولى كانت بين ذلك الجانب من الثقافة الغربية الوافدة وبين قادة الفكر الإسلامي عندنا، واتخذ الدفاع لنفسه وجهتين: إحداهما أن يبرهن بما يشبه الحجة العلمية على أن النظرية البيولوجية المنقولة لم تكن على صواب، والأخرى تبين قوة العقيدة الإسلامية بالقياس إلى غيرها من العقائد، فجاءت الوجهة الأولى من وجهتي الدفاع ضعيفة لعدم إلمام المدافعين بالعلم الذي تصدوا لتفنيده. ثم جاءت الوجهة الثانية من وجهتي الدفاع - على قوتها الذاتية - غير ذات نسب بموضوع النقاش؛ ولذلك كانت لغة الهجوم الثقافي أرجح من كفة الدفاع. وأما المعركة الثانية فقد انقلب بها الوضع، لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب، إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحجة قوية في جانب الدفاع، وقد تبلور الهجوم في هذه المعركة فيما كتبه هانوتو في فرنسا من جهة، وما كتبه فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة في مصر من جهة أخرى، وكان أقوى من تولى الرد على الرجلين هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده؛ والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.
كان هانوتو في مقاله (نشر في جريدة «الجرنال» الفرنسية، وترجمه محمد مسعود إلى العربية في جريدة المؤيد) قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين «الآريين» و«الساميين» ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بقوله إن الهند هي منشأ الجنس الآري، وفيها ما فيها من التمايز الطبقي الذي يصم بالنجاسة فريقا كبيرا من البشر، فهل جاءت هذه الخصلة إليهم من حضارة الساميين؟ ثم من أين وصلت المدنية إلى أوروبا؟ أمن الشرق الآري أم من الأمم السامية؟ لقد حمل الإسلام إلى أوروبا بما استفاد من صنائع الفرس، وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أبلج ناصعا «إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها في بلاد الأندلس على ما جاورها. إنه لو صح الحكم على الأديان بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، لجاز لنا أن نحكم بأن لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، إذ يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهد فيها، وليس ذلك هو الأساس الذي أقيمت عليه مدنية الغربيين، كلا. إن النظرة المنصفة لتدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها وساميها من آريها ولا فرق بين هؤلاء وأولئك «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية، لا فرق عندهم بين آري وسامي متى مست الحاجة إلى تناول عمل، أو مادة، أو ضرب من ضروب العرفان. وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذ الآن الشرق المضمحل، عن الغرب المستقل».»
وينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين، فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه قائلا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأنه لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أو من أصحاب التنزيه، «ولقد عظم الخلاف في المسألة بين المسيحيين أنفسهم، وهم مشبهة في رأي مسيو هانوتو، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام، واستمر إلى هذه الأيام.»
ومع ذلك فليست جبرية القدر من الإسلام في شيء، إذ «جاء القرآن الشريف - وهو الكتاب المنزل بالإسلام - يعيب على أهل الجبر رأيهم وينكر عليهم قولهم ... وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية، وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك، فإنما جاء في تقرير السنن الإلهية العامة، المعروفة بنواميس الكون.» نعم، لقد «وجد بين المسلمين طائفة تعرف بالجبرية، ولكنها كانت ضعيفة ضئيلة يقذفها الحق، ويطردها العقل، وينبذها الدين ... وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجد والعمل.» إن هانوتو قد بنى حكمه على المسلمين في أخذهم بالقدر، على ظنه أن الإسلام جاء ليقطع الصلة بين العبد وربه، «ولكنه وهم في ذلك، فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربه وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاءه.»
أما الاتهام الذي وجهه صاحب مجلة الجامعة فيتلخص في قوله إن المسيحية كانت أكثر تسامحا مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهادا للعلم والفلسفة من النصرانية، فأجاب الأستاذ الإمام عن ذلك بما نشر في كتيب صغير عنوانه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، وأخذ يستعرض التاريخ كله، بل ويستشهد بالعصر الحاضر نفسه، ليبين في جلاء أن الاتهام باطل من أساسه؛ أفلا يكفي أن الكاتب نفسه قد استطاع أن ينشر في الإسلام ما نشره في مجلته، في بلد مسلم دون أن يتعرض له واحد بأذى؟
ثم يأخذ الأستاذ الإمام في القول المفصل، المؤيد بالشواهد، فلم يشهد الإسلام قتالا نشب بين أصحاب المذاهب المختلفة لاختلافهم في الاعتقاد، فلم يقع قتال بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة، والمعتزلة - مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة - وكذلك لم يقع قتال بين الفلاسفة الإسلاميين لاختلافهم في الرأي. وإن تاريخ المسلمين لمليء بالشواهد التي تدل على أنهم في مجال العلم لم يميزوا بين دين ودين، واستفادوا من أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود وغيرهم.
على أن مذهب الأستاذ الإمام في مقارنة الأديان بعضها ببعض هو أن يؤخذ كل دين «ممحصا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو محدثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دين آخر.» وعلى هذا المذهب طفق باحثا عن أصول الديانتين اللتين أجرى هانوتو المقارنة بينهما - النصرانية والإسلام - فوجد أن الأصول التي تنبني عليها النصرانية هي، أولا: اعتمادها على الخوارق في إقناع الأتباع بصحة الاعتقاد «ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي يصدر مخالفا لشرائع الكون ونواميسه.» ولما كانت العلوم قائمة كلها على أساس التسليم باطراد العلية في ظواهر الكون، كانت العقيدة الآخذة بانتفاء هذا الاطراد مضادة للأساس العلمي، ثانيا: أعطت النصرانية سلطة دينية للرؤساء على المرءوسين في عقائدهم، مما ينفي أن يكون الفرد صادرا في عقيدته عن ضميره «وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنا طوالا .» وثالثا: تدعو النصرانية إلى التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة «فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه؟» ورابعا: الإيمان بغير المعقول، «وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول ... وهو أن الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وأن من الدين ما هو فوق العقل، بمعنى ما يناقض أحكام العقل، وهو مع ذلك مما يجب الإيمان به.» وهناك أصل خامس يقصر نظر النصراني على ما ورد في الإنجيل مهما يكن الموضوع الذي يبحث فيه، زعما منهم بأن الإنجيل حاو على كل معرفة يحتاج إليها البشر، حتى لقد «قال بعض فضلائهم إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله من الكتاب المقدس.» وأصل سادس يحمل صاحب العقيدة على التفرقة بين المسيحي وغيره.
ويستطرد الأستاذ الإمام في تعقب آثار هذه الأصول في موقف المسيحيين من العلم كما شهد التاريخ نفسه فلم يجد «في التاريخ ذكرا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية، التي كان يفصل فيها تارة بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع، وثالثة بسفك الدماء، فتخمد شعلة العلم وينتصر الدين المحض.»
Неизвестная страница