От учения к революции (5): Вера и действие - Имамат
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Жанры
وأصحاب ردود الأفعال هم في الغالب أصحاب المواقف الجذرية، أي المعارضة بأنواعها الثلاثة، وعلى رأسهم الشيعة والخوارج والمعتزلة. فالتأليه والتنزيه موقفان جذريان لا وسط بينهما، الجبر والاختيار، التعيين والبيعة، النقل والعقل، الإيمان والعمل، الطبيعة والخلق؛ كل ذلك مواقف جذرية لا تقبل الوسط أو التوسط. ويمتاز الفعل كموقف جذري، بأنه دعوة تقول شيئا، وتضع موضوعا وتقيم مذهبا، وتؤسس فكرا، وتبدأ تيارا. كما أن الفعل موقف جذري، العامل المحرك للفكر، وهو المثير الذهني، شوكة في البدن، مهمته ضرب المائدة بقبضة اليد، وإثارة المشاعر، وتفتيح الأذهان. ويعبر عن ظروف العصر وبنائه النفسي والاجتماعي. هو المحول للوحي إلى موقف، والمعبر عن الدوام في الزمان. وباختصار إن هذا المثير هو البادئ للحضارة؛ إذ تؤرخ الحضارات ببداية الدعاوى الفكرية الأولى التي أثارت الانتباه. والدعوات الأصيلة تظل باعثا على ردود الأفعال باستمرار مع توالي العصور وتعاقب الأجيال.
وقد يعاب على الفعل كموقف جذري التطرف والمغالاة، وإيقاف الوحي على ساق واحدة، ورؤية الحقيقة بعين واحدة، وإحالتها إلى جانب واحد. وهذا العيب هو طبيعة تكوين الحضارة، فما دام الوحي قد تحول إلى وضع، وتمثلته جماعة في ظروف نفسية واجتماعية معينة، يبدو الوحي في هذا السياق معبرا عن الطرف الآخر من الواقع. فإذا كان الواقع اضطهادا خرج الوحي تحررا، وإذا كان الواقع استئصالا خرج الوحي في صورة دعوة سرية، وإذا كانت الأغلبية منحازة خرج الوحي دعوة إلى أخذ الحق من النص غير المنحاز. وقد يعاب على الفعل كموقف جذري أنه عاطفي انفعالي خالص. والحقيقة أن الحضارة كلها موقف انفعالي، وأن الأفكار في نشأتها تجارب حية عند الجماعة، وأن الفكر ذاته انفعال وصل إلى حد التنظير في موقف نفسي واجتماعي متزن. وإذا كان الواقع منحازا فلا يمكن التعبير عنه فعلا أو كرد فعل إلا انفعالا. لا يظهر العقل إلا في المرحلة الثالثة، وهي الجمع بين النقيضين، ولكن الفعل ورد الفعل هما مرحلتان انفعاليتان. وقد يعاب على الفعل ثالثا أنه يعبر عن هوى أو مصلحة، ولا يعبر عن حقيقة مستقلة أو عن مصلحة الجماعة. ولكن هذا العيب أيضا يعبر عن طبيعة الجماعة ومسارها في التاريخ، وتفرقها إلى جماعات أصغر كل منها تحاول تمثيل الجماعة الكبرى، وتجعل تصورها تصور الوحي. وما دام الوحي قد أعلن عن الجماعة، وما دام التفسير قد بدأ، فإنه من الصعب التمييز بين الحقيقة والمصلحة، أو بين الوحي والهوى. كل جماعة تثبت ذاتها من خلال الوحي، ويحدث الصراع. وتبقى أبعد الجماعات عن الهوى وأقربها للوحي إذا ما ضمت الجماهير إليها وجذبتهم لها. وقد يعاب على الفعل رابعا أنه يتحول في نهاية الأمر إلى مذهب مغلق، وإلى عقيدة محكمة تكون مماثلة للوحي أو بديلا عنه، وأحيانا مناوئة له. وهذا أيضا طبيعي؛ فإذا ما تقدمت الجماعة في العمل خرج نظارها إلى عرض الاتجاه عرضا عقليا خالصا، فيتحول الموقف النفسي الاجتماعي تدريجيا إلى مذهب. وبتعاقب الأجيال يتكاثر العمل العقلي المذهبي، وتتحدد جوانب المذهب، ويتضح اتساقه العقلي إلى أن يقضى عليه بفعل الزمان، أو تظهر دعوات جديدة أكثر شبابا وحيوية تكون بداية مذهب جديد. وقد تحاول الأجيال الشابة للمذهب القديم تجديد حياته بالرجوع إلى الأصول الأولى ومحاولة إيجاد الاعتدال، خاصة بعد تغير الموقف النفسي الاجتماعي الأول.
أما ردود الأفعال فإنها تتميز أيضا بأنها هي الممارسة للفكر والملتزمة به، والقائمة على المحافظة على الطرف الآخر الذي غاب في الفعل. رد الفعل هو الجانب الآخر، الطرف المقابل. ومن التوتر بين الفعل ورد الفعل تنشأ الحياة الفكرية، وتظهر الأفكار الثانوية حتى بداية محاولات الجمع بينهما. ردود الفعل هي التي تبين حدود الفعل، وتعطي البديل، وتعبر عن التكامل الفكري أكثر مما تعبر عن الظروف النفسية والاجتماعية. يوضع العقل في مقابل الانفعال، والحق في مقابل الهوى. رد الفعل هو التحدي المستمر للفعل، المحدد لسلطته، والواقف له بالمرصاد، والمعبر عن حق المعارضة الفكرية وعن حرية الفكر. ومع ذلك قد ينتاب رد الفعل بعض العيوب، وفي مقدمتها تمثل السلطة والاعتماد عليها، وتحويلها إلى فكر رسمي للدولة، فتصبح بعد ذلك مقياسا للحق، وما عداها كفر وضلال. تنقلب حرية الفكر إلى قهر، ويضيع حق المعارضة الذي نشأ رد الفعل تعبيرا عنه.
وسواء عرضت المادة الكلامية كموضوعات أو كفرق، كشعور بنائي أو كشعور جدلي، فكلا الطريقين يؤديان إلى الفكر وإلى الموضوعات الفكرية؛ فالفرق الكلامية اتجاهات فكرية، والتاريخ ليس تاريخ حوادث خالصة أو وقائع مادية، بل هو ميدان لتحقق الأفكار وظهور الأينية الفكرية للوحي. فقد تطور موضوع التوحيد مثلا في مراحل ثلاث؛ التأليه والتجسيم عند الشيعة، غلاتها ومعتدليها، والتنزيه وإنكار الصفات عند المعتزلة، ثم التشبيه وإثبات الصفات عند الأشاعرة. هذا التطور التاريخي نفسه هو بناء الموضوع الفكري؛ فالتأليه والتجسيم هما الموضوع، والتنزيه بإنكار الصفات هو نقيض الموضوع، والتشبيه بإثبات الصفات هو مركب الموضوع. المراحل التاريخية هي نفسها الجوانب المختلفة للموضوع، لا فرق بين تطور الشيء وظهوره في التاريخ وبين بنائه وتحليله في الشعور. وما يقال عن التوحيد يقال أيضا في خلق الأفعال، وفي العقل والنقل، وفي الإيمان والعمل، وفي الإمامة، ويقال أيضا في الطبيعيات، وفي الوحي، وفي الإنسان.
114
وهنا تبرز أسئلة ثلاثة؛ الأول: إذا كانت الفرق الكلامية اتجاهات فكرية، وكانت الاتجاهات الفكرية أنماطا مثالية للفكر البشري، وكانت هذه الأنماط تكون جوانب مختلفة للموضوع، فالسؤال هو: هل أعطى التاريخ كل هذه الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ فمثلا في التوحيد ظهر التأليه والتجسيم والتشبيه كفرق واتجاهات وأنماط وجوانب للموضوع، ولم يظهر بعد التوحيد كوظيفة. وفي خلق الأفعال ظهر الجبر والكسب وحرية الاختيار، ولكن لم يظهر بعد التحرر. وفي العقل والنقل ظهرت أولوية العقل كما ظهرت أولوية النقل، ولكن لم تظهر بعد أولوية الواقع ... إلخ. والسؤال الثاني: إذا كانت الاتجاهات الفكرية أنماطا مثالية للفكر البشري، فهل هذه الأنماط حلول متزامنة أو متتالية في الزمان، أم أنها جوانب مختلفة لموضوع واحد؟ فالتوحيد كموضوع تأليه في أحد جوانبه، وتجسيم أو تشبيه من جانب آخر، وتنزيه من جانب ثالث. وخلق الأفعال هو جبر من جانب، وكسب من جانب، وحرية اختيار من جانب ثالث. مهمة الباحث الآن عرض الاتجاهات الفكرية التي تمثلها الفرق كجوانب مختلفة لموضوع واحد. وكأن الباحث ينظر إلى الموضوع من عل كمشاهد محايد. والسؤال الثالث: إذا كانت الفرق الكلامية تمثل اتجاهات فكرية، فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماط دائمة للفكر الديني تتكرر في كل زمان ومكان؟ ففي التوحيد مثلا لا تمثل الشيعة التأليه والتجسيم فقط، ولا تمثل السنة التشبيه فقط، ولا تمثل المعتزلة التنزيه فقط، بل إن التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه أنماط مثالية للفكر الديني أو الفكر البشري العام فيما يتعلق بالألوهية. وكذلك الأمر في خلق الأفعال؛ فلا تمثل الجبرية الجبر، ولا تمثل الأشعرية الكسب، ولا تمثل المعتزلة حرية الاختيار؛ بل إن هذه الحلول الثلاثة، الجبر والكسب والاختيار، تمثل أنماطا مثالية لمشكلة الحرية تتعدى حدود الزمان والمكان. ويمكن أن يقال الشيء نفسه في العقل والنقل، وفي التعيين والبيعة، والكمون والخلق، والإيمان والعمل، فيصبح علم أصول الدين علما بنيويا لكل حضارة وللفكر البشري العام.
والتعدد في جوانب الموضوع وتطوره إنما هو مقدمة للاختيار البشري طبقا لظرف كل عصر. وقد لا يكون اختيار العصور الماضية هو اختيار كل عصر؛ فما يكون فعلا عند القدماء قد يكون رد فعل عند المعاصرين، وما قد يكون وسطا عند القدماء قد يكون فعلا أو رد فعل عند المعاصرين، وما قد يكون فعلا أو رد فعل عند القدماء، فلا يكون وسطا عند المعاصرين. فالمعاصرون جيل الفعل ورد الفعل إيقافا للانهيار وبعثا للنهضة. قد تحتم الظروف النفسية والاجتماعية المعاصرة مرة اختيار الموضوع، ومرة أخرى اختيار نقيض الموضوع، ومرة ثالثة مركب الموضوع، ومرة رابعة إلغاء المشكلة كلية والعودة إلى الواقع الملموس أو النص الخام مصوبا نحوه. فمن الطبيعيات مثلا يحتم واقعنا المعاصر اختيار استقلال قوانين الطبيعة واطرادها ردا على تكويننا النفسي الذي يرجع الأفعال إلى خوارق العادات. وفي التوحيد يكون التعطيل موقفنا النفسي المعاصر أكثر مساهمة في حل عقدنا العقلية، وذلك بالقضاء على التشخيص في الفكر المعياري، وإفساح المجال للإنسان لأن يفعل دون أن يوضع في بوتقة عامة تحيط بها الأغلاف. وفي خلق الأفعال تحتم ظروفنا النفسية المعاصرة نقيض الموضوع، وهو إثبات حرية الأفعال تقليلا من وطأة الجبرية وحتمية الأفعال التي نرزح تحتها، إما جبرية الدين أو جبرية الدنيا وخضوع الجماهير للإرادة المطلقة المشخصة، إرادة الله أو إرادة السلطان، أو خضوعها لحتمية الرغيف والقهر المادي. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار العقل أساسا للنقل ردا على حشوية العصر، واعتماده على النقل كحجة دون اتساق عقلي أو استشهاد واقعي. كما أن الظروف النفسية لواقعنا المعاصر، إن كنا صادقي النية في التغيير، تتطلب اختيار وجوب الثواب والعقاب، تصور العالم يحكمه قانون، ولا يخضع لإرادة مشخصة وأهوائها. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار الموضوع، وهو وحدة النظر والعمل، ردا على الفصل بينهما في حياتنا، أو تأخير العمل على النظر أو الحكم على العمل كما تفعل مرجئة العصر. وقد يعاني واقعنا المعاصر من التوسط قدر ما يعاني من التطرف، ولكن توسط السلطة أخطر على الأمة من تطرف المعارضة، والأجدى تطرف السلطة وتوسط المعارضة. والتطرف العاقل من أجل تغيير الوضع القائم خير من التوسط المبرر للأوضاع القائمة. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار رد الفعل القديم، وهو البيعة، ردا على ظروفنا الحالية التي يغلب عليها التعيين، وأن «الإمامة في العسكر» حتى ولو كانت في صيغة بيعة صورية معروفة نتائجها مسبقا. وقد تحتم ظروفنا خلق فرقة رابعة أو وضع حل رابع، فيلغي المشكلة تماما ويعتبرها متاهة عقلية، ويفضل حلها بإلغائها والرجوع إلى الأصول الأولى العامة التي حددت الموضوعات بلا تفريعات أو انحرافات، أو طرح مسائل نظرية لا ينتج عنها قيمة عملية، بل ينتج منها التشتت والتفرق والضياع. وقد تمثل الفقهاء القدماء والمصلحون المحدثون هذا الاتجاه، الله وظيفة، والحرية تحرر، والنص واقع، والحياة هدف، والوعي مستقل، والمعاد مستقبل، والحكم ثورة.
115 (3-3) الشعور الاجتماعي (السياسي)
إن الشعور (المذهبي) البنائي الذي يكشف عن بنية العقائد والمذاهب والشعور الجدلي (التاريخي) الذي يكشف عن تطور الفرق وتاريخها، إنما هما في الحقيقة داخلان في الشعور الاجتماعي (السياسي) الذي يفسر نشأة العلم وتكوينه، تطوره وبناءه. قد يكون علم الكلام هو أول العلوم العقلية النقلية من حيث الزمان، تظهر فيه المحاولات الأولى لفهم النصوص فهما عقليا وتحويلها إلى معان، ثم تحويل المعاني إلى نظريات ومذاهب حول الإيمان والكفر والفسق والعصيان والنفاق. وقد نشأ نشأة داخلية محضة لإيجاد أساس نظري للسلوك ، ولتنظير الأحداث التي وقعت وتكاثرت في الفتنة وما بعدها. وقد أدى البحث عن النظرية إلى تفسير النصوص؛ فالنص الديني هو المرجع الأول للنظرية، ثم أدى اختلاف المصالح وتضارب الأهواء إلى اختلاف في تفسير النصوص التي تؤديها كل فرقة لصالحها، ولإثبات آرائها والدفاع عن مواقفها ومواقعها. نشأ علم الكلام نشأة داخلية محضة دون أن يتأثر بمؤثرات أجنبية في نشأته؛ مما حدا بالبعض إلى اعتباره الفلسفة الإسلامية الحقة، وأنه الممثل الوحيد للفكر الإسلامي، وهو الذي ظهرت فيه أصالة المسلمين فكان تصويرا لأحداث الواقع وتطوره. أما التقاء الحضارة الناشئة بحضارات أخرى وافدة بعد ترجمة أعمالها، فهو عامل متأخر ساعد على تطوير العلم، وقوى من تحليلاته العقلية، وخفف من وطأته كعلم للعقائد، كما وضح ذلك في المؤلفات الكلامية المتأخرة، بل إن هذا العامل لم يأت مباشرة من الحضارات الوافدة، بل أتى من الفلسفة التي تشبعت بها ثم حذا علم الكلام حذوها. ومع ذلك استطاع العلم ضمها ووضعها في إطاره وضع الفرع في الأصل، وأصبح علم الكلام ممثلا لعلم تاريخ الأديان ووارثا له.
علم الكلام إذن ليس تاريخا مقدسا. ويخطئ البعض عندما يوحد بينه وبين العقيدة الدينية، خاصة بعد أن وحد البعض بين علم الكلام والعقائد، وجعل علم الكلام أصول الدين. وهناك فرق شاسع بين علم الكلام والعقائد الدينية؛ فعلم الكلام محاولات اجتهادية لفهم العقيدة أو للعثور على أساس نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها، وللأحداث السياسية التي سببتها، وللغة العصر التي عبرت بها، وللمستوى الثقافي الذي ظهرت من خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقة مطلقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدث في زمان معين، ومكان معين، وبلغة معينة، وعلى مستوى ثقافي معين.
Неизвестная страница