От учения к революции (5): Вера и действие - Имамат
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Жанры
الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
ثانيا: النظر
ثالثا: التصديق
رابعا: الإقرار
خامسا: العمل
سادسا: مرتكب الكبيرة
سابعا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير
الفصل الثاني عشر: الحكم والثورة (الإمامة)
Неизвестная страница
أولا: مقدمة: وضع المسألة
ثانيا: وجوب الإمامة
ثالثا: كيفية ثبوتها
رابعا: صفات الإمام وشروط الإمامة
خامسا: الثورة على الحكم
سادسا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟
خاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية
أولا: مقدمة: هل يجوز تكفير الفرق؟
ثانيا: هل هناك تكفير عقائدي نظري؟
ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
Неизвестная страница
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
المصادر والمراجع
أولا: العقائد الأشعرية
ثانيا: العقائد الاعتزالية
ثالثا: تاريخ الفرق
رابعا: بعض المصادر الأخرى
الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
ثانيا: النظر
Неизвестная страница
ثالثا: التصديق
رابعا: الإقرار
خامسا: العمل
سادسا: مرتكب الكبيرة
سابعا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير
الفصل الثاني عشر: الحكم والثورة (الإمامة)
أولا: مقدمة: وضع المسألة
ثانيا: وجوب الإمامة
ثالثا: كيفية ثبوتها
رابعا: صفات الإمام وشروط الإمامة
Неизвестная страница
خامسا: الثورة على الحكم
سادسا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟
خاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية
أولا: مقدمة: هل يجوز تكفير الفرق؟
ثانيا: هل هناك تكفير عقائدي نظري؟
ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
المصادر والمراجع
أولا: العقائد الأشعرية
ثانيا: العقائد الاعتزالية
Неизвестная страница
ثالثا: تاريخ الفرق
رابعا: بعض المصادر الأخرى
من العقيدة إلى الثورة (5)
من العقيدة إلى الثورة (5)
الإيمان والعمل - الإمامة
تأليف
حسن حنفي
الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
Неизвестная страница
بعد التاريخ العام الذي يظهر في النبوة وفي المعاد؛ أي في ماضي الإنسانية وفي مستقبلها، يظهر التاريخ الخاص أو التاريخ المتعين في النظر والعمل أولا، وهو ما سماه القدماء «الأسماء والأحكام»، ثم في الحكم والدولة ثانيا، وهو ما سماه القدماء «الإمامة»؛ فإذا كان التاريخ العام من صنع الله، إذ إنه هو الذي يرسل الأنبياء، وهو الذي يبعث الناس إليه في اليوم الآخر، فإن التاريخ المتعين من صنع الإنسان؛ فالنظر والعمل مقولتان إنسانيتان فرديتان، كما أن الحكم والدولة نظامان إنسانيان اجتماعيان من اختيار الإنسان؛ فالتاريخ العام لا يتحقق إلا في التاريخ الخاص، وكأن المشروع الإلهي كما تم عرضه في الوحي كعلم إلهي لا يتحقق إلا بنظر الإنسان وعمله، وحكم الجماعة ونظامها. وفي التاريخ المتعين ينتهي علم أصول الدين، ويتحقق القصد الإلهي من الوحي، وتتأسس العقائد، ويكتمل النسق. (1) وضع المشكلة وأهميتها
تدخل مسألة النظر والعمل في باب «الأسماء والأحكام»، أي في تحديد معاني الألفاظ؛ فهي ليست مسألة نظرية بقدر ما هي مسألة لغوية. ليست قضية تفتيش في ضمائر البشر أيهم المؤمن وأيهم الكافر كما يحدث في هذه الأيام، بل هي مسألة البحث عن معاني الكلمات، وكأن النظر والعمل مجرد أسماء وألفاظ وتحديد معان، وليسا منطق سلوك وأفعال وممارسة النظر والتحقيق.
1
وهل يمكن معرفة النظر والعمل لغويا فحسب؟ وعلى فرض أنها مبحث لغوي، فهل هي أسماء شرعية فحسب ليس للعقل فيها دور في الفهم أو التحليل؟ لذلك نشأ رد الفعل على هذا الوضع الهامشي للمشكلة، وأصبحت أصلا من أصول الدين، الأصل الرابع منه «المنزلة بين المنزلتين» بعد الأصول الثلاثة؛ التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد.
2
وتعني مسألة الأسماء والأحكام أن مسألة النظر والعمل من حيث التطابق أو عدمه مجرد أسماء لغوية تشير إلى أحكام شرعية، وليس لها أي مدلول نظري أو واقعي؛ فمحل بحثها هو قواميس اللغة وكتب الفقه؛ وبالتالي إخراج موضوع النظر والعمل من نطاق تحليل العقل والواقع. وإذا كان الأمر سهلا في حالة التطابق، فإن الأمر يكون صعبا في حالة الاختلاف؛ فالإتيان بالكبيرة إنما يشكك في مدى فاعلية النظر، ويسبب أضرارا بالغة في الواقع الاجتماعي. وإذا استطاع الإنسان التوقف في تحديد بعض المسائل النظرية مثل الإيمان والكفر والشرك، أو تحديد بعض الأحكام الفقهية حول الفسق والنفاق والعصيان، فإنه لا يستطيع أن يتوقف أمام الإتيان بالكبائر؛ لأنها أفعال عامة يقوم بها الفرد في المجتمع، وتدخل تحت طائلة القانون.
وقد يشار إلى مسألة النظر والعمل كجزء من المقدمات العامة في علم أصول الدين، فيما يجب على المكلف الإيمان به، مثل نظرية العلم ونظرية التكليف، وكأنها مدخل وليست موضوعا نظريا مستقلا،
3
وكأنها مقدمات نظرية خالصة، مقدمات في مفاهيم العلم. وقد ظهر أيضا في الشروح المتأخرة عندما انهار بناء العلم وتحول إلى منظومة عقائدية نثرا أو شعرا، وبالتالي ضاع موضوع النظر والعمل من المستوى البرهاني إلى المقدمة الخطابية العامة، وكأنه مبحث فقهي أو صوفي. وقد تبدو مسألة النظر والعمل في نهاية العقائد المتأخرة كمقدمة للأخلاقيات التي ينتهي بها التوحيد كنوع من الخطابة العامة في الدين بعد انهيار البناء العقلي للعلم.
4
Неизвестная страница
وقبل أن توضع كخواتم خطابية للعلم تظهر أحيانا كملحق لموضوعاته الأخيرة كالمعاد والنبوة؛ فتدخل في مسألة الوعد والوعيد باعتبارها تتحدث عن الإيمان والكفر والفسوق والمعصية من خلال قانون الاستحقاق.
5
كما قد تظهر في باب النبوات في آخر مرحلة من مراحل النبوة؛
6
لذلك ارتبطت بموضوعات الوعد والوعيد، ولكن على مستوى الدنيا وليس تطبيقا للاستحقاق في الآخرة. وقد يضطرب مكانها ويتردد بين الموضوعات السمعية بعد المعاد والوعد والوعيد وقبل النبوة والإمامة؛ مما يدل على بداية اهتزازها في بناء العلم.
7
وقد تغيب مسألة النظر والعمل من بعض المؤلفات الكلامية ورسائل التوحيد نظرا لعدم ظهور الجانب الإلهي فيها. ولا تظهر إلا بمقدار ظهورها كجزء من التوحيد في الإرادة المطلقة؛ ومن ثم تلحق بمسألة الجبر في الأفعال على أساس أنها تتناول الإيمان والكفر والفسوق؛ أي موضوع الأفعال.
8
وقد تغيب مسألة النظر والعمل بتاتا من العقائد المتأخرة بعدما طغت الإلهيات على باقي الموضوعات، وبعدما أصبحت كل المسائل ما عدا التوحيد جزءا من التوحيد. ولا تظهر إلا كقضية في نهاية العقائد بعد الوعد والوعيد والمعاد والنبوة والإمامة في تحديد معنى الكفر ومن هم الكافرون لتحديد علاقاتهم الاجتماعية بسائر المؤمنين في الأمة. وهو الجانب التاريخي الذي فيه تحول موضوع الفرق إلى ملحق للإمامة أو ذيل لها فيما يجب تكفيره من الفرق.
9
Неизвестная страница
وتغيب المسألة كلية وكأنها لا تدخل في علم التوحيد خاصة في كتب العقائد المتأخرة والمتوسطة في عصر بناء العلم،
10
كما تختفي من العقائد المتأخرة.
11
والعجيب أن تغيب عن بعض الحركات الإصلاحية الحديثة.
12
وبالرغم من هذا الغياب للموضوع إلا أن له أهمية قصوى، لأنه موضوع عملي يمس الحياة اليومية للجماعة، وعلى أساسه تتحدد العلاقات الاجتماعية،
13
بل إنه هو الموضوع الأول من حيث النشأة، موضوع مرتكب الكبيرة وحكمه بين المؤمن والكافر. دارت حوله أهم الفرق الكلامية بين طرفي نقيض كحل وسط بين الاثنين.
14
Неизвестная страница
ويتصل بموضوع التوحيد، بالذات والصفات؛ فكلاهما يصاغان بالطريقة نفسها لتصور العلاقة بين الطرفين، الذات والصفات، أو الإيمان والعمل، علاقة زيادة أو مساواة، والاختلاف في تصور هذه العلاقة بين أهل العدل وأهل الرحمة.
وقضية النظر والعمل قضية إنسانية خالصة، تتناول موضوع العمل والسلوك طبقا للتصورات والدوافع وحسب البواعث والغايات، وهي أبعد الموضوعات عن الجوانب الإلهية؛ لذلك تكون قسمة الإيمان إلى قديم ومحدث قسمة في البداية تجعل الموضوع يتناول الإيمان المحدث، أي إيمان الإنسان، وليس الإيمان القديم.
15
صحيح أن المؤمن أحد أسماء الذات، إلا أن الإيمان هو هذه الطاقة الإنسانية الخالصة وتصورات الإنسان لنفسه وللعالم، دوافع سلوكه وبواعثها؛ فإذا كان التوحيد محوره الله، والعدل محوره الإنسان، فإن الوعد والوعيد التقاء بين المحورين، والإيمان والعمل هما الجانب الدنيوي في موضوع الوعد والوعيد؛ فطالما يتعلق الإيمان بالنظر والعمل والتصديق والإقرار، وكلها أبعاد للشعور الإنساني، فإن المشكلة تكون إنسانية في جوهرها. (2) أبعاد الشعور
ويمكن تحليل مسألة الإيمان والعمل بتحليل جوانب الشعور الثلاثة؛ صورته ومضمونه وموضوعيته.
16
فصورة الشعور تظهر في الوحدة أو الاختلاف بين أبعاد الشعور الأربعة، الفكر والقول والوجدان والعمل، بينما يظهر مضمون الشعور في الفكر المتمثل الذي يتحول إلى قول وعمل في مضمون التصديق (الله، والكتب، والرسل، واليوم الآخر ...)
17
وأخيرا يتموضع الشعور عندما يتحول الإيمان من طاقة في الشعور إلى نظام مثالي للعالم.
فعندما يصبح الإيمان موضوعا للشعور تظهر له أبعاد أربعة؛ الفكر والقول والوجدان والعمل.
Неизвестная страница
18
يظهر الإيمان من خلال هذه الأبعاد، إما في واحد منها أو في اثنين أو في ثلاث أو في جميعها؛ فالفكر هو ما يسميه القدماء المعرفة أو النظر أو الاستدلال، والقول هو الإقرار أو الشهادة، والوجدان هو التصديق بالقلب أو التحول، والعمل لفظ قديم ومعاصر على السواء. كان الخلاف القديم بين النظر، أي الإيمان، والعمل في قضية مرتكب الكبيرة، وكأن النظر أو الإيمان يشمل الإقرار والتصديق؛ أي القول والوجدان. هناك إذن أربعة موضوعات وإحدى عشرة علاقة ممكنة، ستة منها ثنائية، وأربعة منها ثلاثية، وواحدة منها رباعية.
19
ولما كان يمكن اعتبار المعرفة والوجدان بعدا واحدا، فالمعرفة نظر، والوجدان تصديق، كلاهما نظر إما عقلي أو قلبي، استدلالي أو وجداني، تكون أبعاد الشعور ثلاثة؛ المعرفة أو النظر، والقول أو الإقرار، ثم العمل. وتكون المعرفة حينئذ هي معرفة الشعور، وعلى هذا النحو تكون الاحتمالات سبعة؛ ثلاثة فردية، المعرفة والقول والعمل؛ وثلاثة ثنائية، المعرفة والقول، والمعرفة والعمل، والقول والعمل؛ وواحدة ثلاثية، المعرفة والقول والعمل.
20
وإن كان الفكر هو النظر، والنظر أساس العمل، إلا أن الفكر عندما يتمثل يصبح وجدانا، وعندما يعبر عن نفسه يصبح قولا، وعندما يتحول إلى عمل يصبح فعلا؛ فهو طاقة واحدة تظهر في مخارج متعددة. ويظهر ذلك منذ البداية في محاولات تحديد حقيقة الإيمان والكفر وتفاوت كل التعريفات بين هذه الأبعاد؛ المعرفة التي تشمل النظر والتصديق، والإقرار، والعمل؛ فالإيمان معرفة تقوم بالله، وما جاءت به الرسل، والكفر جهل به؛ كما أن التصديق بالقلب؛ فالإيمان لغة هو التصديق، التصديق بالرسل فيما علم مجيئه ضرورة وتفصيلا،
21
وهو أيضا كلمتا الشهادة أو التصديق مع الكلمتين، وهو ثالثا أعمال الجوارح، إما الطاعات فرضا ونفلا أو الطاعات المفروضة دون النوافل.
22
الإيمان إما فعل القلب فقط، وهو المعرفة أو التصديق، وإما فعل الجوارح فقط، وهو إما باللسان وهو الكلمتان، أو غيره وهو العمل بالطاعات، وهو إما فعل القلب والجوارح معا، والجارحة إما باللسان أو الجوارح؛ فالإيمان نظر، معرفة وتصديق، أو عمل باللسان أو بالجوارح. الإيمان إذن هو مجموع هذه الأبعاد الثلاثة؛ تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان .
Неизвестная страница
23
وتعرف أبعاد الشعور بتحليل العقل، وقد تعرف أيضا بالنص؛ فالإسلام هو القول، والإيمان هو القول المضاف إلى المعرفة والوجدان، والإحسان هو العمل المضاف إلى القول والمعرفة والوجدان.
24
وقد تكون هناك قسمة أكمل للشعور بناء على الكيف والكم والجهة والإضافة؛ فالشعور الكيفي هو الذي له أبعاده الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، أو الثلاثة إذا ما ضم التصديق إلى المعرفة في النظر. والشعور الكمي هو الذي يزيد وينقص لاحتواء مسألة «هل يزيد الإيمان وينقص؟» أما الشعور كجهة فهو مضمون الإيمان الذي عرض من قبل في المضمون النظري للرسالة.
25
أما الشعور كإضافة فهو ما تناوله الحكماء من حيث قسمة الإيمان إلى إيمان العوام وإيمان الخواص.
ثانيا: النظر
لما كان النظر أساس العمل، فكلاهما جانبان لشيء واحد، كان تحديد الإيمان أولا بالنظر. النظر عمل لم يتحقق بعد، والعمل نظر قد تحقق وأصبح فكرا واقعا. ولكن يظل النظر هو الأساس والبداية وليس العمل، وإلا كان العمل أهوج عشوائيا اندفاعيا بلا أساس. العمل في حاجة إلى أساس أولي هو النظر. والتوحيد بلا نظر لا يكون معرفة. والإيمان ليس موقفا وجدانيا خالصا؛ لأن الوجدان يتأسس نظريا في الفكر، وإلا كان انفعالا أهوج أو هوى أعمى. المعرفة ضرورية. والدليل على صدق النبي واجب، ولو قام به واحد فقط؛ فلا نبوة بلا دليل، ولا وحي بلا برهان. المعرفة سابقة على التصديق كسبق النظر على العمل. الإيمان إذن هو الإيمان العاقل، أو هو باختصار النظر.
1
ومن ثم تكون مشكلة الإيمان والعمل هي المشكلة التقليدية المعروفة في تاريخ الفكر باسم النظر والعمل؛
Неизвестная страница
2
فالإيمان يحتوي على تصور للعالم، ويعطي الأساس النظري الذي يقوم عليه العمل. الإيمان، إن شئنا بلغة العصر، هو الأيديولوجية التي تمارس وتتحقق في صورة عمل. الإيمان ليس مجرد تقبل عاطفي انفعالي، وليس قرارا فرديا أو فعل إرادة، بل هو موقف نظري متكامل، موقف واع يمكن البرهنة على صحته وعلى خطأ نقيضه.
والنظر إما أن يكون ضرورة أو اكتسابا، بداهة أو استدلالا، حدسا أم برهانا. يمكن إذن تحويل الإيمان إلى نظر بأحد هذين الطريقين. وبالنسبة للمعرفة التي تجعل النص في قلبها، فإن الحدس هو الاستخراج من النص. الوضوح في النص والبرهان مستخرج من قضايا العقول. ومع ذلك يظل السؤال الأول قائما في نظرية العلم، وهو: هل المعرفة الضرورية معرفة نقلية أم أنها المعرفة الواضحة بذاتها؟ وإذا كان النقل خاضعا للتأويل ومبادئ اللغة ولأسباب النزول، تظل المعرفة العقلية الواضحة بذاتها هي الأساس. والعجيب أن يأتي إثبات الإيمان كنظر من إثبات النقل أساسا للعقل؛ مما يدل على أن الهدف ليس دفاعا عن النظر أي العقل، بل إخراج للتصديق والإقرار والعمل من الإيمان! والعجيب أن تكون المعرفة إيمانية خالصة وليست معرفة عقلية! المعرفة الإيمانية لفظ آخر للإيمان، وكأن العقل لا يدخل كجزء من التصديق بالرسل كجزء من الإيمان!
3
ولما كان النظر هو أساس العمل كان من الضروري أن يتأسس النظر على أسس يقينية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالشك في النظر السابق حتى يتأسس النظر الجديد على يقين. الشك نظر في النظر، ونقد للموروث النظري، وتأسيس لليقين النظري، بل إن الشك قد يكون أول الواجبات قبل النظر؛ فالشك هو الطريق إلى النظر. ليس الشك شكا في اليقين، بل هو تأسيس له. ولا يوجد يقين نظري مسبق قبل الشبك كبداية للنظر، وإلا فإن هذا اليقين الأول لا يكون موقفا نظريا. كل يقين يحتاج إلى تأسيس نظري.
4
ولما كانت الحجة النظرية عقلية ونقلية، وكان النقل لا يستقل عن العقل، بل يعتمد عليه، ظهرت ضرورة التأويل؛ وبالتالي لا يمكن تكفير أحد من المتأولين ما دامت الغاية هي المعرفة الاستدلالية، وليست إخراج العمل من الحساب حرصا على الوحدة النظرية للأمة وإن تضارب سلوكها. وإن تحريم التأويل لهو أداة لتكفير الخصوم، تحريمه على الغير وتحليله للنفس.
5
إن التأويل عن حسن نية أو عن خطأ غير مقصود له أجران. أما التأويل عن سوء نية أو بخطأ مقصود ففسق. والمتأول معذور إذا كان من داخل الأمة وليس من خارجها، يعمل لصالحها وليس ضدها.
6
Неизвестная страница
الخطأ بالجهل إذن مقبول ما دام الأساس هو المعرفة، سواء أكانت نقلية أم عقلية، نصية أم برهانية، تعتمد على بداهة النص أم على حجة العقل.
7
ولا يكفر من لم تبلغه الرسالة، أو من نقل إليه قول آخر مع خطأ في النقل؛ لأن شرط المعرفة لم يتحقق، وهو الإعلان عنها وتبليغها ثم نقلها نقلا صحيحا متواترا. ولا يمنع ذلك من إمكانية وصول العقل البشري إلى حقائق التوحيد والعدل دونما حاجة إلى نقل، واتفاق العقلاء على تصوراتها العقلية الخالصة بلا تجسيم أو تشبيه.
8 (1) هل هناك كفر نظري؟
إذا كان الإيمان هو المعرفة النظرية، فهل هناك كفر نظري؟ هل المعرفة النظرية المجردة مقياس للإيمان والكفر؟ إن جعل حقائق الإيمان نظرية صرفة مستقلة بذاتها عن العمل والسلوك هو تحويل للوسيلة إلى غاية، والطريق إلى هدف، وقلب البداية إلى النهاية، بل إن المعاند في الحقيقة النظرية الصرفة المنكر لها دون أن يؤثر ذلك في سلوكه، فإنه يصبح شاكا أو لا أدريا أو نافيا على مستوى النظر فحسب، دون أن يؤثر ذلك على سلوكه العملي ووضعه الاجتماعي. الكفر حقيقة، ولكنه ليس بحق عملي، وهناك فرق بين الحقيقة والحق.
9
والحقيقة أن الذهن البشري قادر على الوصول إلى حقائق التوحيد والعدل، وهما الأصلان العقليان اللذان يتفق عليهما جمهور العقلاء. أما السمعيات، مثل النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، فهي أمور عملية لا يكفر فيها أحد؛ فالنبوة تجد كمالها في العقل، والمعاد يتحقق في الدنيا، والأسماء والأحكام خصومات سياسية، والإمامة موقف عملي ونضال سياسي.
10
وقد تحول هذا التكفير النظري إلى عرض لتاريخ الأديان بالنسبة للعقائد النظرية التي يجب تكفيرها بصرف النظر عن أثرها في الحياة الاجتماعية وكيفية ممارستها العملية، وكأن هناك خطأ نظريا مجردا له مقياس نظري خالص، وذلك مثل القول بإلهين أو ثلاثة، أو عبادة الكواكب والأصنام والنار، أو القول بالاتحاد والحلول، سواء أكانت هذه الأقوال من داخل الحضارة أم من خارجها. قد يحدث إنكار نظري لأمور عملية، ويظل الإنكار أيضا على مستوى الكفر النظري، ودون أية علاقة ممكنة بين هذا الكفر النظري والممارسة العملية التي قد تكون أقرب إلى العمل الصالح الذي يعبر عن الإيمان النظري، ويكون مطابقا له.
11
Неизвестная страница
والحقيقة أن المهم ليس هو الإيمان النظري والكفر النظري، ولكن مضمون كل منهما، إيمان بماذا وكفر بماذا؟ أليست كل معرفة معرفة بشيء؟ وإذا كان مضمون المعرفة إما العقليات أو السمعيات، وشملت العقليات أصلي التوحيد والعدل، وضمت السمعيات النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، فإن الإيمان بالرسل أدخل في السمعيات. ويمكن الوصول إلى أصلي التوحيد والعدل بالعقل دونما حاجة إلى النبوة أي إلى الرسل، بل إن الإيمان بالسمعيات مثل النبوة إنما ناتج عن الإيمان بالعقليات بأصلي التوحيد والعدل؛ نظرا لأن العلم والكلام من صفات الذات؛ وبالتالي إمكانية الوحي الذي هو إيصال للعلم من خلال الكلام. كما أن الإيمان النظري لا يقوم على الترغيب والترهيب، أي على الوعد والوعيد، بل على النظرة العلمية للواقع، وعن رغبة الإنسان في تجاوز الحاضر والتعرف على المستقبل للإعداد له. أما موضوع الأسماء والأحكام وموضوع الإمامة فهما مسألتان عمليتان يمكن معرفتهما بتحديد السلوك الأخلاقي للأفراد والنظم السياسية للمجتمعات، وليسا موضوعا للإيمان النظري.
12
وقد لا يتطلب الإيمان بالرسل ضرورة التعيين؛ أي تعيين الرسول كشخص محدد في التاريخ؛ فالرسول مجرد حامل الرسالة، والرسالة يتم تبليغها ونقلها نقلا صحيحا متواترا. لا يوجد تكفير في خطأ تعيين موضوعات العقائد في التاريخ؛ فالتصديق لا يعني تطابق العقيدة مع الواقع، بل تطابق العقيدة مع النفس، وقدرتها على التأثير فيها، والفاعلية في السلوك.
13
وهل العقائد وقائع تاريخية خالصة تكون الأعذار بالجهالة فيها أعذارا في واقعة وليست في عقيدة؟ إن العقائد تصورات وبواعث على السلوك، وليست وقائع تاريخية يمكن التحقق من صدقها بعلم الآثار. والروايات تثبت صحة الأقوال، وليست صحة الحوادث؛ أي تطابق الرسول مع الراوي، وليس تطابق أقوال الرسول أو الراوي مع الواقع.
ليس المهم هو الإيمان أو الكفر النظريان، ولكن مدى تأثير كل منهما في الحياة العملية، وتوجيههما سلوك الناس نحو الخير والعدل؛ فالتوحيد لا يعني إثبات ذات مشخصة فاعلة خارج العالم والإنسان، بل يعني وجود الوعي الخالص داخل الإنسان باعتباره ذاتا. ومعرفة أسماء الله ليست مجرد معرفة نظرية صورية خالصة، بل هي معرفة بالأسس النظرية للعمل. وليست المعرفة بأن للعالم صانعا معرفة نظرية خالصة، بل هي معرفة موجهة للسلوك العملي في نطاق عالم مخلوق يمكن تغييره وبناء نظمه. إن العقائد هي الأسس النظرية للسلوك، والسلوك هو الممارسات العملية للعقائد؛ وبالتالي لا يوجد فصل بين النظر والعمل. العقائد دوافع للسلوك، والسلوك توجيهات للعقائد. وما الفائدة من عقائد ميتة؟ ما فائدتها لو آمن بها الإنسان دون أن تحدث سلوكا أو تغير واقعا؟ ألم يربط الوحي بالإيمان والعمل الصالح في كل آياته؟ بل إن العمل الصالح يغفر الكفر النظري، والأصعب يجب الأسهل ويحتويه. وماذا عن الإيمان النظري الذي لم يشفع لصاحبه لأنه بلا عمل صالح؟ ألا يشجع هذا الإيمان النظري على الفسق والعصيان، وعلى أن يعيش الإنسان مزدوجا، مؤمنا نظرا، وفاسقا عملا، بشرعية تامة وتبرير للنفس؟ ألا يعطي ذلك شرعية للعصيان؟ أليس هذا هو حال الأمة اليوم، إيمان نظرا، وفسق عملا، باسم الدين وباسم الشرعية التاريخية التي تساندها بعض الأمثال العامية في المساجد ومن خلال أجهزة الإعلام؟ إن المعاصي لا تقع عن جهل بالله، ولكن لعدم تحول المعرفة إلى سلوك، ووجود دوافع في الإنسان أقوى من الدوافع النظرية، وهي الدوافع الوجدانية والفعلية. المعرفة النظرية أحد أبعاد الشعور، وليست كل أبعاده. وقد تكون المعاصي مصدرا للمعرفة بالتجربة للتحقق من صدق المعرفة النظرية؛ وبالتالي تكون الأفعال جزءا من المعارف النظرية من حيث المصدر ومن حيث التحقق.
14
إن المعرفة ما هي إلا أحد أبعاد الشعور مع التصديق والإقرار والعمل، وهي لا تعني بالضرورة الخضوع والاستسلام والقبول والرضا؛ لأن الفكر يتحول إلى بناء شعوري يرمي إلى تغيير الواقع؛ لذلك لم يكن إبليس مخطئا في الرفض، ولم يكن مستكبرا، بل كان واعيا نظريا ومحققا لفعل الرفض، ولكنه أخطأ في تحليل الموقف؛ فقد خلط بين الكم والكيف؛ فالتفاضل في الكم بين النار والطين لا يؤدي بالضرورة إلى تفاضل في الكيف، كما أنه رفض الاعتراف بأن الإنسان سيد الكون، وأن كل شيء مسخر له. ومع ذلك فإن موقف إبليس يدل على شيئين؛ الأول الموقف الواعي وعدم الخضوع، الرفض نتيجة لإعمال الفكر، والثاني تحدي الآخر والثقة بالنفس.
15
إن تعدد المعارف النظرية ممكن، ولكن وحدة العمل واجبة؛ إذ لا يمكن توحيد الأطر النظرية لكل الناس، في حين أنه يمكن الاتفاق على برنامج عملي موحد. وطالما صالت وجالت الحناجر والأفواه وتصارعت العقول في مسائل نظرية خالصة دون أن يؤدي ذلك إلى اختلاف في وحدة العمل؛ أي أكبر قدر ممكن من الخلاف النظري، وأكبر قدر ممكن من الاتفاق العملي. لا يكفر أحد في الإطار النظري، وهو التوحيد والعدل، أي العقليات، والأولى لا يحدث ذلك في السمعيات التي ليس فيها يقين أصلا. إن التناقض في القول والخلاف في النظر ليس كفرا؛ فليس لأحد قول إلا وله قول مخالف، فكلنا راد وكلنا مردود عليه. ليس ذلك وقوعا في تكافؤ الأدلة أو في النسبية، بل هو مراعاة لتعدد الأطر النظرية مع وحدة العمل والسلوك.
Неизвестная страница
16
إن التكفير النظري هو سلاح مشهور باستمرار في مواجهة الخصوم، واعتبار أفكار الذات وتصوراتها هي مقياس أفكار وتصورات الآخرين. ويستحيل توحيد التصورات والآراء والمذاهب، في حين أنه يمكن توحيد الأهداف. وإن أية محاولة للتوحيد النظري إنما تهدف في الحقيقة إلى تواري الأفعال ونسيانها وإخراجها من دائرة الحساب، أو إن شئنا من تحت طائلة العقاب. ولقد اعتبرت الفرقة الناجية نفسها صاحبة المعارف الحقة، وقننتها، ثم حكمت على معارف الآخرين بالكفر. وتم قياس الإيمان طبقا لهذا التقنين في منظومة عقائدية، كما كان الحال في الديانات السابقة؛ وبالتالي ضاعت خصوصية اكتمال الوحي وختم النبوة وكمال العقل وممارسة الحرية.
17
لقد كان التكفير دائما سلاحا ضد الخصوم والمخالفين في الرأي، سواء أكان رأيا نظريا في الاعتقادات أو رأيا عمليا في العمليات، وليس ضد المخالفين في العمل. وخطورة ذلك هو إسقاط العمل من الحساب، وهو العنصر الموحد للأمة، وتوحيد الأمة بعد ذلك بالنظر وتكفير فرقها، وهو ما يستحيل عملا. كما أنه يصعب التعبير عن المعرفة النظرية الخالصة إلا في تصديق أو إقرار أو عمل حتى يقتنع بها الناس. إن خطورة التكفير في الاعتقاديات هي ضياع الوحدة الوطنية، وعدم السماح بالخلاف النظري الخلاق، ثم الاستبداد بالرأي. إن التمايز في العمليات وارد، وهو مقياس التفاضل بين الأفراد والجماعات من حيث السبق والتنافس نحو الخير والعدل.
18
وليس التكفير في النظريات مجرد حكم نظري، بل تنتج عنه مواقف عملية شرعية؛
19
فالتكفير حكم شرعي ينتج عنه مواقف عملية في المجتمع؛ وبالتالي يدخل في الفقه أكثر منه في التوحيد. كما تحيل مسائل الإيمان والكفر والفسوق والعصيان إلى مسائل السياسة؛ إذ إنها أحكام تطلقها الجماعة على الأفراد، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة لتحديد سلوكهم؛ وبالتالي لتحديد أوضاعهم الاجتماعية والسياسية. ويستعمل الرصيد السابق من الأحكام للمقارنة والمشابهة؛ فالقدرية مجوس، والمشبهة يهود، والرافضة نصارى. سلاح الألقاب إذن هو سلاح التكفير؛ فالخصوم معتزلة يعتزلون الجماعة، وبالتالي هامشيون، والثوار خوارج أو رافضة، والمدافعون عن الحق شيعة يتشيعون، أي غير محايدين، أصحاب هوى وأنصار طائفة. أما الفرقة الناجية فهم أهل الحق والاستقامة، أهل السنة والحديث، جمهور الأمة، أصحاب الفتيا والحديث. لا تجوز مناكحة الخصوم أو وراثتهم، وحلال أموالهم، وغنيمة ثرواتهم وكراعهم. دارهم دار حرب ... إلخ؛ وبالتالي تعلن الدولة الحرب على خصومها السياسيين؛ تكفرهم أولا ثم تستأصلهم ثانيا.
20 (2) هل يوجد إيمان نظري بلا تصديق أو إقرار أو عمل؟
إن الإيمان باعتباره معرفة خالصة يبتسر أبعاد الشعور كلها في أحدها، وهو النظر، ويسقط التصديق والإقرار والعمل من الحساب. لا يكفي تحديد الإيمان بالمعرفة وحدها لأن الفكر خاضع للتفسير والتأويل، وقابل للتجديد والتطوير. الفكر وحده صورة بلا مضمون، ومضمون الفكر جزء لا يتجزأ منه، وعلى أساس هذا المضمون يتوجه السلوك. كما أن الفكر منفتح على القول، وقائم على الوجدان، ويتحقق في العمل. يتخارج في الإقرار حيث يتم الإعلان عنه، ويصدقه الوجدان، ثم يتحقق في العالم بالفعل. صحيح أن النظر هو التصور للعالم، وهو أساس الممارسة العملية في العالم من أجل فهمه وتغييره؛ فالنظر بهذا المعنى تصور ونظام، أو كما يقول القدماء عقيدة وشريعة، معنى واتجاه، رأي والتزام؛ وبالتالي فهو لا ينفصل عن الإقرار، وإلا بقي الشعور في حالة من العزلة الفكرية والوجدانية؛ فالكلمة أيضا فعل وكشف وفضح للمستور؛ لذلك أتى الوحي كلاما، وكان الله متكلما، وعالم الكلام متكلم بهذا المعنى مثل الأصولي الفقيه، ولكن النظر أيضا وجدان وتصديق ويقين داخلي. النظر وجدان عاقل، نظر شعوري، تأمل واع؛ فهو في نفس الوقت نظر وباعث. فإذا كان الكفر إنكارا للحقيقة وجحودا بالنعم وسترا وتغطية، يكون الإيمان كشفا واعترافا وبيانا. ولما كان كل موضوع عملية تموضع، فالإيمان ليس موضوعا معطى سلفا يوجد أو لا يوجد، بل هو عملية تموضع تشير إلى كشف الغطاء أو إزاحة الستار طبقا للمعنى الاشتقاقي للكفر من أجل التصديق.
Неизвестная страница
21
وإذا كان الكفر هو إنكار الوحي في ذاته أو في مصدره، فإنه قد لا يكون إنكارا للفكر على الإطلاق أو للوجدان على الإطلاق، وقد لا يكون صمتا عن القول أو نكوصا عن الفعل. الكفر رفض لتصوير معين من تصورات الوحي، سواء من حيث التسمية أو من حيث الاتجاه، ورفض التعالي والمفارقة من أجل التحول نحو الواقع ذاته باعتباره مصدرا لكل فكر. وإن رفض التعالي يحدث في الحقيقة نتيجة لتحليل التعالي تحليلا نفسيا واجتماعيا وليس قبله. الكفر ليس تعصبا أو إيمانا بعقيدة مضادة، أو حتى أزمة نفسية، أو تقليدا، بل هو كفر واع بناء على تحليل لتصورات الإنسان عن الألوهية في لحظات ظهورها في التاريخ. (2-1) هل الإيمان معرفة بلا تصديق؟
كيف يكون الإيمان معرفة فقط وهو لغة يعني التصديق؟ كيف يتحول الإيمان إلى علم خالص بلا وجدان، إلى نظر عقل دون شهادة قلب، إلى فكرة مجردة دون يقين بالمعنى، إلى معرفة نظرية دون أساس شعوري؟ الإيمان معرفة قلبية، أو بلغة العصر نظر شعوري. المعرفة دون تصديق مجرد معادلات صورية فارغة لا تصدق إلا من حيث اتساقها مع نفسها دون أن تكشف عن شيء في الشعور، أو تطابق دلالة في التجربة الإنسانية. المعرفة الشعورية من خلال التصديق أولى درجات المعرفة. قد يعرف الكفار دون تصديق، وتظل معرفتهم عاجزة عن أن تؤثر في سلوكهم أو في تغيير نظرتهم للعالم. قد يعرف المنافقون، ولكن تظل معرفتهم مجردة لا فاعلية لها؛ لأنها لم تتحول بعد إلى تصديق. فالمعرفة كتصديق أولى درجات التفسير ابتداء من الشعور الفردي حتى البنية الاجتماعية.
22 (2-2) هل الإيمان معرفة دون إقرار؟
إذا ما تحولت المعرفة إلى تصديق فإنه سرعان ما يتخارج في القول والإعلان؛ فلا توجد معرفة بلا تصديق، ولا يوجد تصديق بلا قول؛ فالمعرفة كتصديق سرعان ما تتحول إلى طاقة تعبر عن نفسها من خلال منفذين، اللسان والجوارح، الكلام والحركة، أي الإقرار والعمل، الكلمة والفعل، اللغة والسلوك. الإقرار هو النطق بالشهادتين كتعبير عن معرفة التوحيد، وإلا ظلت المعرفة صورية صرفة إذا انفصلت عن التصديق، مجرد تصور دون لغة، أو حد دون قضية. وإذا ما كانت المعرفة تصديقا بلا إقرار فإنها تظل شهادة باطنية للنفس،
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه . أضعف الإيمان الذي لا يتخارج في أضعف المظاهر وهو القول، الكلمة الصادقة، الدين النصيحة. والقول ليس مجرد إقرار، بل هو فعل. وشهادة «أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» فعل. الإقرار فعل باللسان، الكلمة فعل، والنطق فعل، واللغة فعل، وكلمة الله لا تعود فارغة، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ونظرا لزيف الكلمة أو الخرس والصمت ظهرت ضرورة النطق في جيلنا، وظهر سحر الكلمات وضرورة القول، وأصبحت الكلمة دار نشر وديوان شعر، كلمة الإنسان، وكأنها الله قد تجسد من جديد. وفي البدء كانت الكلمة، كلمة الحق والشهادة، وهي الكلمة الفاعلة التي تقيس الفارق بين المثال والواقع، وليست الكلمة الفارغة بلا مضمون. قد تحدث المعرفة، ولكن يكون العارف أخرس أو مكرها. وهنا تظل المعرفة عقلية صرفة أو وجدانية خالصة، داخلية بلا تخارج. في حالة الخرس لا يبقى إلا الفعل كمنفذ وحيد لتصريف الطاقة، أما حالة الإكراه فهي مؤقتة صرفة. ويمكن التحايل عليها بالرمز كما هو الحال في الأدب المعاصر تحت ظروف القهر والطغيان.
23 (2-3) هل الإيمان معرفة دون عمل؟
إذا كان الإيمان معرفة، وتحولت المعرفة إلى تصديق، أي إلى شهادة باطنية، فإنها لا بد وأن تتخارج في العمل؛ فالطاقة الوجدانية والمعرفة الشعورية لا يكفيها الكلام، ولا تعبر عنها الكلمة وحدها، بل تتحول الكلمة إلى فعل، والقول إلى سلوك. إن المعرفة النظرية الخالصة بلا عمل تكون مجرد معرفة أشبه بمعارف الصوفية أو الحكماء وكأن المعرفة غاية في ذاتها. إن جعل الإيمان معرفة، والكفر جهلا، وإخراج العمل كتحقيق للمعرفة، قد يتصور العمل على أنه عمل الشعائر والطقوس، أعمال الجوارح، في حين أن عمل الحق والخير والعدل، عمل الفضيلة، تعبير أصدق عن المعرفة. وإخراج العمل من المعرفة مثل إخراج الإقرار؛ أي كل مظاهر التخارج للمعرفة الباطنية، سواء كان هذا التخارج في الإقرار أو في العمل. واقتران الإيمان بالعمل واضح في الوحي، ولو أنه لم يظهر عند بعض القدماء كبداهة نظرا لسيادة بعض الاتجاهات الإشراقية، سواء كانت في علوم الحكمة أو في علوم التصوف؛ إبعادا للوعي الجماعي عن العمل والممارسة، في حين ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة دعوة لقرن العمل بالإيمان نظرا لتخلف العمل عن النظر في سلوك الجماهير في عصرنا الحاضر. صحيح أن الإيمان ذكر في أصل الوحي أكثر من العمل، ولكن كان تثبيتا لإيمان العوام، وليس لعمل الخواص. ومع ذلك يظل الاقتران قائما.
24 (2-4) هل الإيمان معرفة وتصديق دون إقرار وعمل؟
بعد العلاقات الثنائية التي تقوم على إثبات طرف واستبعاد طرف آخر، المعرفة والتصديق، المعرفة والإقرار، والمعرفة والعمل، تأتي علاقات ثنائية أخرى تقوم على إثبات طرفين من الأبعاد الأربعة واستبعاد طرفين آخرين؛ وبالتالي يثبت الإيمان كمعرفة وتصديق لما كانت المعرفة شهادة باطنية وتجربة شعورية، ثم يتم استبعاد الإقرار والعمل؛
Неизвестная страница
25
فهل تكفي الشهادة الباطنية دون الشهادة الخارجية؟ وما الفائدة من طاقة باطنية دون تحقق خارجي؟ ويظل هذا الاختيار هو الأمثل لدى الصوفية أصحاب التجارب الباطنية دون الإعلان عنها لا بقول ولا بفعل. وإذا كانت الغاية من الطاقة هي تحويلها إلى حركة فإن بقاءها في المعرفة والتصديق دون القول والفعل لهو كتمان لها، ثم تفريغها تدريجيا حتى تفرغ الذات ويبقى الواقع كما هو بلا تغيير. (2-5) هل الإيمان معرفة وإقرار دون تصديق وعمل؟
وقد يستبقى بعدان، وهما الإيمان والمعرفة، ويستبعد بعدان هما التصديق والعمل.
26
وفي هذه الحالة يكون الإيمان مجرد معرفة نظرية تتخارج في القول، من الذهن إلى اللسان، من العقل إلى الشفتين، معرفة رياضية منطقية لغوية دون أن تتحول إلى تصديق؛ أي إلى تجربة معيشة وبرهان وجداني، ودون أن تتحقق في فعل بالجهد والمعاناة والمقاومة؛ فالمعرفة لا تتضمن التصديق؛ أي استحالة تعيين مضمون في النفس أو في الواقع. قد يعلم الإنسان تحريم الخمر، ولا يعلم هذا اللحم بالذات هل هو لحم خنزير أم لا؛ ويعلم الصلاة إلى الكعبة كفرض، ولكنه لا يعلم هل هذا الاتجاه هو الكعبة أم لا؛ وقد يعلم أن الرسول محمد، ولكنه لا يعلم هل هو هذا العربي أم الزنجي! فما الفائدة إذن من المعرفة بلا برهان وبلا تعيين؟ وما فائدة الإقرار حينئذ. صحيح أن التطابق مع الواقع ليس مقياسا للحقيقة، ولكن التطابق مع النفس ومع التجربة يجعل للمعنى واقعا، وللفكر مضمونا، وإلا أدى عدم التعيين إلى فصل الفكر عن الواقع، وعزلة الشعور عنه، وإخراجه من الزمان والمكان، والاكتفاء بالعمومية والصورية الفارغة. إن تعيين التوحيد والعدل لا يكون في أشخاص أو وقائع، ومع ذلك فإن التصديق بهما هو شرط تحويل هذين الأصلين العقليين إلى بنية اجتماعية وإلى مجتمع يقوم على المساواة والعدل. وحتى لو كان في العقل واجب مبدئي، فإن ذلك لا يغني عن التصديق؛ أي وجود هذا الواجب في التجربة البشرية، فلا يكون فقط واجبا عقليا، بل رسالة إنسانية. والخضوع ليس بعدا من أبعاد الشعور، ولكنه نتيجة للمعرفة والقول، وأقل من التصديق والعمل، مجرد تمثل للمعرفة واستسلام لها. ولكن قد تؤدي المعرفة أيضا إلى الثورة والغضب والتمرد، وليس بالضرورة إلى الخضوع؛ فالخضوع للفكر قد يعني التمرد على الواقع. والمحبة بالقلب مثل الخضوع نتيجة طبيعية للمعرفة وقبل التصديق. والمعرفة بالقلب أقل من التصديق؛ فالقلب هنا لا يعني إلا الذهن أو العقل، ولكنه لا يعني التحقق من صدق المعرفة بتطابقها مع الدلالة في الشعور. وإن اللجوء إلى الخضوع مرة وإلى المحبة مرة أخرى يجعل المعرفة أقرب إلى الطريق الصوفي؛ مما سهل بعد ذلك ازدواج الأشعرية بالتصوف منذ القرن الخامس حتى قبيل الحركات الإصلاحية الأخيرة. ومع ذلك فإنه على هذا النحو يقترب الشعور من التعين والخصوصية وإتيان الأفعال، وعدم الاقتصار على شمول المعرفة وعمومية الإقرار. وقد يخرج الشعور أيضا من المعرفة والإقرار الباردين إلى محبة الأولياء وكراهية الأعداء، أو تحليل ما أحله الله وتحريم ما حرم الله، وهو وسط بين التصديق والفعل، أكثر من التصديق، وأقل من الفعل. وقد تكون المعرفة دون الإقرار إيمانا، والإقرار دون معرفة إسلاما، واجتماع المعرفة والإقرار هو اجتماع الإيمان والإسلام. ومع ذلك يظل التصديق والعمل أقرب إلى الإحسان. وإذا كان الإيمان قد أصبح المعرفة والإقرار، أي الداخل والخارج، فأسهل أن يكتمل ويصبح التصديق والعمل؛ فالمعرفة والتصديق جانبان لشيء واحد، وهو التحقق بالكلمة وبالفعل. وإذا كان القول أحد أنماط السلوك، فإن العمل المباشر أيضا تعبير عن التصديق بالفعل. وعلى هذا النحو يتحقق الداخل ببعديه في الخارج بأفقيه، وتكتمل وحدة النظر سواء كان معرفة أو تصديقا، وفي العمل سواء كان إقرارا أو عملا. (2-6) هل الإيمان معرفة وعمل دون تصديق وإقرار؟
وإذا تم إثبات البعدين؛ الأول وهو المعرفة، والأخير وهو العمل؛ واستبعاد البعدين الأوسطين، الثاني وهو التصديق، والثالث وهو الإقرار؛ فهل يمكن أن تتحقق المعرفة والعمل دون تصديق وإقرار؟ ليس الإيمان فكرا فقط يتحول إلى عمل فقط؛ لأن الفكر بناء شعوري، والقول أحد مظاهر السلوك؛ فإذا كان الشعور في حالة من الفكر والعمل فإنه يكون شعورا آليا يعطي أساسا نظريا، ويتجه تلقائيا إلى العمل المباشر دون أساس وجداني ودون إعلان بالقول. وإذا تخارجت المعرفة في العمل، فلماذا لا يتخارج التصديق في القول؟ وأيهما أفضل؛ أن تتحقق المعرفة مباشرة في العمل، فيكون الإنسان أشبه بالحاسب الآلي الذي يعرف ويقرر، أم أن تكون المعرفة شعورية، وأن يتم الإعلان عن العمل بالكلمة كمن يبارز منشدا ، ويحارب شاعرا؟ إذا كانت بالمعرفة والعمل برودة الآلة، فإن بالتصديق والإقرار حرارة الشعر.
27 (2-7) هل الإيمان معرفة وتصديق وإقرار دون عمل؟
في العلاقات الثلاثية إذا تم إبقاء الأبعاد الثلاثة الأولى واستبعاد الرابع، يصبح الإيمان معرفة وتصديقا وإقرارا دون عمل، فهل هذا ممكن؟ إذا ثبتت المعرفة كنظر وتجربة باطنية، كاستدلال ويقين داخلي، ثم تخارجت في القول والإعلان، فما المانع أن تتخارج بالفعل وتتحقق في الممارسة؟ إن مثل هذا الموقف قد يشابه موقف المثقف المتأزم العاجز عن الإتيان بأي فعل بالرغم من معرفته ووجدانه وقوله وكلمته. وهل يكفي الشاعر شعره، والأديب روايته وقصته، دون ممارسة كل منهما لصدقه الفني في قيادته لأمته ونضاله في سبيلها؟ وإذا كانت المعرفة بالقلب، أي معرفة وتصديق، وتخارج الطاقة في الكلمة، فالكلمة ما هي إلا مقدمة للفعل و«خرطوشة» طلقة، وصوت قذيفة.
28
صحيح أن اجتماع المعرفة والتصديق والإقرار يمنع الكذب من النفس، ولكنه لا يمنع الفسق والعصيان إذا ما عارض الفعل المعرفة أو التصديق أو الإقرار. وكيف يقول المسلم شيئا ويفعل نقيضه؟ وإذا فعل الشيخ ذلك فإنه ينطبق عليه كثير من الأمثال العامية التي تشير إلى هذه الثنائية في هزء وسخرية. وإذا كانت المعرفة صادقة مرة بتحولها إلى تجربة ثانية، وقد بلغت قوة صدقها إلى أن تحولت كلمة، فإن وقوعها قبل الفعل عجز لا مبرر له، إلا نقص في التصديق العملي، وحصار لامتداد الكلمة في الواقع. إن اجتماع أبعاد الشعور الثلاثة الأولى، المعرفة والتصديق والإقرار، يمنع النفاق، وهو القول بلا تصديق، كما يمنع الجبن وهو المعرفة بلا إقرار، ويمنع عدم الالتزام وهو المعرفة بلا تصديق. ومع ذلك فإنه يمنع من الفعل المباشر، ويحاصر الشعور، ويجعل الإنسان شاعرا غير مناضل. فإذا كان الكفر ضد الإيمان، أي معرفة بمعرفة، فإنه ضد الفسق أيضا، أي دون إسقاط العمل. وإذا كان جحد الله بالقلب فقط كفرا وليس باللسان، فإن لبس الإيمان بظلم هو إسقاط العمل منه. وإذا كان الكفر يزيد وينقص، وكذلك الجزاء، فإن ذلك ليس فقط بسبب المعرفة، ولكن أيضا لتفاضل الأعمال. وإذا كان الكافر يكون كذلك لتركه المعرفة أو التصديق والإقرار، فالأولى أن يكون ذلك بتركه الأعمال. وإذا كان بعض الإيمان إيمانا، فالأولى أن يكون العمل بعض الإيمان، وليس المعرفة أو الإقرار أو التصديق. وإذا كان السكوت عن الحق كفرا، والجهل كفرا، والنفاق كفرا، فالأولى أن يكون الفسوق، أي إخراج العمل عن الإيمان، كفرا. وإذا كان الكفر جحدا بالقلب، أو معرفة لا يحصل عليها الجميع، أو إقرارا لا يقدر عليه الكل، فالأولى أن يكون ترك العمل الذي يقدر عليه عامة الناس كفرا. ولم يكفر إبليس لأنه لم يعرف، لأنه كان عارفا بربه؛ ولأنه لم يقر، لأنه أقر؛ ولأنه لم يصدق فقط، بل كفر لأنه لم يعمل، ولم ينفذ إرادة الله. إن الجزاء في الآخرة ليس فقط على المعرفة والتصديق والقول، بل على العمل، وعلى العمل وحده، حتى ولو كانت المعرفة والتصديق بها والإعلان عنها معرفة مخالفة للإيمان. يبطل الإيمان إذا سقطت الأعمال، وتتفاضل التصديقات بتفاضل الأعمال. وإن الشعر بالرغم من جمعه بين المعرفة والتصديق والقول إلا أن الشعر المقرون بالعمل هو كمال له، وإلا كان الشعر مجرد غواية وخيال.
Неизвестная страница
29 (2-8) هل الإيمان معرفة وتصديق وعمل دون إقرار؟
وفي العلاقات الثلاثية أيضا إذا ما تم استبقاء الأبعاد الثلاثة، الأول والثاني والرابع، واستبعاد الثالث، يصبح الإيمان معرفة وتصديقا وعملا دون إقرار، فهل هذا ممكن؟ إن اجتماع المعرفة والتصديق والعمل يؤدي لا محالة إلى العمل الصامت؛ إذ يتحقق الفعل دون إعلان عنه بالقول، فعل صامت، وكأنه يتم في مرحلة تنظيم سري. وإذا ما خير الإنسان بين استبعاد العمل أو القول، فإن استبعاد القول في مجتمع متكلم بطبيعة الحال أفضل. والعمل في صمت أفضل من القول بلا عمل.
30 (2-9) هل الإيمان معرفة وإقرار وعمل دون تصديق؟
وفي نطاق العلاقات الثلاثية أيضا يمكن استبقاء الأبعاد الأولى والثالثة والرابعة، واسبتعاد الثاني، وفي هذه الحالة يكون الإيمان معرفة وإقرارا وعملا دون تصديق. وإن غياب الوجدان من السلوك يجعله سلوكا آليا خالصا، وكأن الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق أمر لا يعيشه ولا يحياه، ولا يعبر عن صالحه وطبيعته. وإن المعرفة لتكون أكثر تحققا إذا ما كانت تصديقا، أي اقتناعا باطنيا قبل أن تتخارج إلى قوى وفعل. قد يكون الفعل إيجابيا، فعل الطاعات، وقد يكون سلبيا، اجتناب المعاصي. ولكن في هذه الحالة لا يتحقق فعل واع، بل مجرد فعل آلي بلا اقتناع. قد يظهر التصديق متضمنا في المعرفة عندما تكون المعرفة بالقلب، أي عقدا بالقلب؛ فالمعرفة بهذا المعنى فعل للشعور. وقد يكون الخضوع بالقلب والتسليم والانقياد جامعا للتصديق وللعمل تحت أثر التصوف؛ فالخضوع هو تصديق، أي فعل داخلي، عندما تحولت الأفعال الخارجية إلى أفعال داخلية، وأصبحت أفعال الجوارح أفعال القلوب. ومع ذلك يظل أقل من التصديق؛ لأنه ليس فعلا تأمليا يحيل المعرفة إلى دلالة في الشعور. وهو أقل من الفعل؛ لأنه لا يتجه نحو الخارج مغيرا للعالم. وما أسهل أن تتحول المعرفة إلى تصديق قبل أن تتخارج في قول أو فعل حتى تتحول إلى طاقة وجدانية وتجربة بشرية تعبر عن الوجود البشري، ولا تكون مجرد وسيلة لإصدار قرار أو إحداث أثر.
31 (2-10) الإيمان معرفة وتصديق، إقرار وعمل
وهي العلاقة الرباعية الوحيدة التي تكتمل فيها أبعاد الشعور الأربعة، فيصبح الإيمان معرفة وتصديقا وقولا وعملا. بعدان للداخل، معرفة وتصديق؛ وبعدان للخارج، قول وعمل. وعلى هذا النحو تكتمل وحدة الداخل بين النظر والوجدان، العقل والشعور، الفكر والتجربة، كما تكتمل وحدة الخارج في القول والعمل، في اللغة والسلوك، في الكلمة والفعل. ويتحقق الإيمان في صورته المثلى بوحدة الشعور في أبعاده الأربعة، الفكر والقول والوجدان والعمل؛ فالفكر هو الذي يعطي الأساس النظري. والوجدان هو الذي يحول الفكر إلى موقف شعوري، وإلى وعي نظري وتجربة معيشة. والقول هو الذي يعلن عن هذا الموقف الفكري الشعوري، ويدعو الآخرين إليه. والفعل أخيرا هو الذي يحقق ذلك كله، ويحوله إلى واقع مغيرا العالم، ومحولا إياه إلى نظام مثالي يكتمل هذا العالم فيه. وفي هذه الحالة يمكن للحالات المتوسطة أن تجد مكانا لها؛ فالمحبة هي علاقة تصديق وفعل؛ لأنها فعل داخلي؛ وبالتالي فهي تصديق، وتتعلق في الوقت نفسه مع موضوعها فتكون فعلا خارجيا. والخضوع أيضا بين التصديق والفعل؛ فهو تصديق عملي وإن لم يكن تصديقا برهانيا معرفيا. وفي الوقت نفسه يظهر في سلوك الطاعة، وهي فعل خارجي.
32
ثالثا: التصديق
إن جعل الإيمان هو التصديق وحده هو رد فعل على جعله مجرد معرفة أو إقرار أو عمل دون تصديق قلبي داخلي؛
1
Неизвестная страница
فالإيمان لغة هو التصديق، ومحله القلب. قد يصاحب التصديق عمل القلب وليس نشاط الذهن، أو عمل اللسان، أو فعل الجوارح. وإذا كان العمل مقرونا بالإيمان فإن العطف لا يعني انه جزء منه؛ لأن الجزء لا يعطف على الكل. ويمكن تأييد هذا الموقف بعدة حجج نقلية وعقلية؛ فكثير من النصوص تشهد بأن الإيمان يدخل في القلب أو لا يدخل. وإذا كان المأمور مقدورا اختياريا، فإن ذلك لا يعني أنه من مقولة الفعل، بل من مقولة الإيمان، فلا فاعل إلا الله. والتصديق اللغوي أو المنطقي أعم من الاختياري؛ وبالتالي لا يرد التصديق إلى ما هو أقل منه. وإن صدق المتكلم بالقلب قبل أن يكون باللسان. والتصديق من جنس العلوم، والعلم أشمل من العمل وأعم منه. كما أن الملائكة تصدق من غير كسب أو فعل. هذه الحجج في الحقيقة تهدف إلى جعل الإيمان نظريا خالصا لا صلة له بالفعل، وأن يكون مجرد قبول أو إذعان أو رضوخ باسم الشهادة الباطنية حتى دون عقلها.
2
ويمكن تفنيد هذه الحجج بأخرى مضادة لها من أجل إثبات أن الإيمان لا يرد إلى التصديق وحده، بل يشمل المعرفة والإقرار والعمل؛ فلو كان الإيمان هو التصديق لما كان الإنسان مؤمنا في حالة نومه؛ لأنه كان غافلا غير مصدق؛ فالتصديق يتطلب الشعور اليقظ وليس الشعور الغافل، كما يتطلب القدرة على الاستبطان، وهو ما لا يتوافر لكل الناس، كما يتطلب أن من صدق وسجد للشمس يكون مؤمنا؛ ومن ثم فالتصديق لا يكون مجرد إيمان باطني، عمل للقلب، ولكنه يحيل إلى موضوع التصديق حتى يحدث التطابق بين فعل الشعور وموضوعه. كما أن التصديق لا يكون فقط للإيمان، بل قد يكون للشرك؛ فكما أن المؤمن مصدق بالتوحيد فكذلك المشرك مصدق بالشرك؛ وبالتالي لا يكفي التصديق كي يكون مماثلا للإيمان، بل لا بد من مضمون الإيمان بالإضافة إلى صورته، وهي التصديق.
3
ولكن هل التصديق داخلي أم خارجي؟ هل في الشعور أم في الواقع؟ هل التصديق بالله تصديق بما أتى به، والتصديق بالنبي تصديق بخبره؟ إن التصديق لا يكون بالله، بل بكلامه الذي من خلاله يمكن التعرف على أصلي التوحيد والعدل. والتصديق بالخبر لا يكون خارجيا فقط عن طريق صحة الرواية، بل يكون أيضا عن طريق تطابق مضمونها مع التجربة الحية الفردية والاجتماعية. لا يكون التصديق بالحلف، بل بالبرهان؛ فأغلظ الأيمان لا يكون برهانا، وشهادة الباطن غير التسليم الباطني، والانقياد القلبي ليس هو الإذعان والقبول، كما هو الحال في علوم التصوف، بل إيجاد البرهان التجريبي في شهادة الوجدان على صدق المضمون. وهو تصديق اختياري بناء على صفاء النية أو البحث المروي عن الدلالة. لا يتم بكشف أو إلهام، وليس من أفعال الهداية أو الضلال، التوفيق أو الخذلان، العصمة أو الصون أو الحفظ؛ وذلك لأن أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة.
4 (1) هل يوجد تصديق بلا استدلال؟
وإذا كان الإيمان تصديقا، فهل هو بالضرورة تصديق بلا استدلال؟ العجيب إخراج كل استدلال من التصديق، وجعل التصديق أقرب إلى الاعتقاد الجازم بلا دليل أو برهان، وتفنيد كل الأدلة لإثبات الدليل هو في حد ذاته إثبات لشرعية الاستدلال. ومع ذلك فهناك عدة حجج توجه ضد الاستدلال من أجل إخراجه من التصديق، وكلها يسهل تفنيدها؛ فإذا كان الاستدلال بعد البلوغ وليس قبله فشرطه العقل، والعقل ليس فقط شرط الاستدلال، بل إنه شرط التكليف. والاستدلال لا يحتاج إلى حد حتى يجب في التصديق؛ لأن التصديق لا يتم إلا بالاستدلال؛ أي بتحول الحدس إلى برهان، والتجربة إلى نظر. وإن احتاج الاستدلال إلى حد فمكانه علم المنطق. وقد تم تعريف الاستدلال من قبل في نظرية العلم.
5
والاستدلال لا يفيد الشك، بل هو السبيل للوصول إلى اليقين. وعلى افتراض أنه يورث الشك؛ فالشك أول الواجبات حتى قبل النظر. ولم يكتف إبراهيم بحدوث الإيمان القلبي، ولكنه أراد الاستدلال حتى يطمئن قلبه. وقد تم التصديق في النهاية بالاستدلال. والشك المنهجي ليس مضيعة للوقت، ولا يستغرق العمر، ولا يؤدي إلى اللاأدرية. وماذا عن بديل الاستدلال بالرغم من مخاطره ومحاذيره إلا الاختلاف والتردد والهوى أو التقليد والاتباع؟ ليس التواتر بديلا عن الاستدلال؛ فالتواتر حجة تاريخية تعطي اليقين التاريخي لصدق الرواية، أي صحة الخبر، ولا يعطي يقينا نظريا أو تصديقا للمعارف، بل إن من شروط التواتر عدم مناقضته لشهادة العقل، وهو أصل الاستدلال. وليس الإجماع بديلا عن الاستدلال؛ فالإجماع حجة سلطة، وليس حجة عقل. كما أن الإجماع يقوم أيضا على الاستدلال عند المجتمعين حتى ولو كان استدلالا على نص وتأويلا له. وليست المعجزة بديلا عن الاستدلال لأن المعجزة قد تكون فقط دليلا على صدق النبوة، وليس على التصديق بها. والمعجزة دليل؛ وبالتالي فهي استدلال من نوع خاص، استدلال عن طريق الإعجاز، وقد يقع استدلال على نحو آخر، ثم يصبح الخلاف بعد ذلك: هل الدليل هو دليل المعجزة أم دليل العقل؟ وإذا لم تكن المعجزة دليلا على صدق النبوة فإن الدليل يكون هو دليل العقل.
6
Неизвестная страница