إن وجهة الدعوة النبوية تتبين من نشأة النبي التى أعده الله بها للقيام بتلك الدعوة، فإذا عرفنا نشأة النبي بين قومه عرفنا رسالته فيهم وعمله في هدايتهم، وعرفنا وجهة النبوة من وجهة النبي منذ هيأة الله حيث جعله أهلا لرسالته.
ولكن غرائب التاريخ في أمر الأنبياء كثيرة، ومنها هذه الغريبة التي تكاد أن تشمل الأنبياء أجمعين، وهي الجهل التام بتفاصيل نشأتهم بين ذويهم وأقوامهم، فلا يحصي التاريخ شيئا من هذه التفاصيل عن نشأة نبي من كبار الأنبياء غير محمد - عليه السلام - وكل من عداه من جلة الأنبياء فالعلم بأنباء طفولتهم مستفاد من سيرته بعد النبوة، أو مأخوذ مأخذ الاستقراء والاستنباط.
وعلى هذا يقل عدد الأنبياء الذين نحاول اختيارهم للمقابلة بين نشأتهم ومقاصد دعوتهم، ولا نستطيع أن نزيد على ثلاثة من كبارهم؛ وهم: إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - وعلى بعض الأنبياء المذكورين في العهد القديم في مناسبات ظهورهم، وبعض هذه المناسبات يدل على النشأة التي نشئوها، والوجهة التي اتجهوا إليها.
خليل الرحمن
مهما يكن من بداءة «الخليل» إبراهيم فالأقوال متواترة على زعامته لقومه حين هاجر بهم من جنوب العراق إلى شماله، ومن شماله إلى أرض كنعان.
كانت مهمته إذن مهمة الزعامة المفروضة على الزعيم، وكان عليه أن يتولى هدايتهم في شئون دنياهم وشئون دينهم، وبخاصة حين يخشى الخطر عليهم من غضب الله ونقمته العاجلة من جراء المخالفة والعصيان.
وينبغي أن نذكر هنا أن الوعيد بالغضب الإلهي كان خطرا محذورا قريبا ممن تعبدوا لجميع الأرباب في الديانات الأولى، وأن إيمان الناس بالإله في العهود الأولى إنما كان أقواه إيمانا بحماية الرب الذي يعبدونه دون سائر الأرباب، فلم يكن لزعيم مؤمن أن يغرر بقومه وهو يعلم سبيل نجاتهم، وقد كان إبراهيم الخليل زعيم أسرته الذين هاجروا معه، فكان عليه أن يهديهم الطريق، وأن يهديهم كل طريق في هجرة الجسد والروح.
وتتفق الأقوال على أن إبراهيم خالف أباه حين أنكر أرباب القوم، ودعا قومه إلى الكفران بالأصنام، وليس في هذا ما ينفي زعامته على الذين هاجروا معه من أسرته وذوي قرباه وتابعيه، فربما كان الخلاف على الإقامة والمصانعة وإرضاء ذوي السلطان بشيء من المداراة، فاستكان الشيخ للواقع، ونفر الكهل القوي من هذه الاستكانة. وقد رأينا أن ثورة النفوس كانت تبلغ غاية مداها في سلالة إبراهيم حين يؤمرون بعبادة إنسان، أو إقامة الصنم مقام الإله الذي في السماء، فلعل المفترق بين إبراهيم وأبيه إنما كان على عبادة جديدة أقحمت على القوم من هذا القبيل، فنجا المؤمنون بأنفسهم وتبعوا الخليل في طريقه، وأدى لهم أمانة الزعامة بهذه النبوة وبهذه الرسالة.
فهذه النبوة مهمة زعيم أمين.
نبوة موسى
Неизвестная страница