وقد استعلمت أنا هذا في جملة كتاب فقلت: ولا يعد البرُّ برًّا حتى يلحق الغيث بالحصور١، ويصل من لم يصله بجزاء ولا شكور، فزنة الغائب بالشاهد من كرم الإحسان، ولهذا نابت شمال رسول الله ﷺ عن يمين عثمان. ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومَنْ يليه مِن العمال، وكان منهم الربيع بن زياد الحارثيّ، فمضى إلى يرفأ مولى عمر، وسأله عمَّا يروج عنده، وينفق عليه، فأشار إلى خشونة العيش، فمضى ولبس جبة صوف، وعمامة دسماء٢، وخفًّا مطابقًا، وحضر بين يديه في جملة العمَّال، فصوَّب عمر نظره وصعَّده، فلم يقع إلّا عليه، فأدناه وسأله عن حاله، ثم أوصى أبا موسى الأشعري به.
وقد استعملت أنا هذا في جملة تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة، فقلت: "وإذا استعنت بأحد على عملك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله، فإن الأحوال تنتقل تنقُّل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد".
فانظر كيف فعلت في هاتين القصَّتين؟ وكيف أوردتهما في الغرض الذي قصدته؟ وامض أنت على هذا النهج، فإنه من محاسن هذه الصنعة.
وعُرِضَ عليّ كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني ﵀، عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ﵀، إلى ديوان الخلافة ببغداد، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وضمنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية، ومحو الدولة العلوية٣، وإقامة الدعوى العباسية، وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال.
ولمَّا تأمَّلته وجدته كتابًا حسنًا قد وفَّى فيه الخطابة حقها، إلّا أنه أخلَّ بشيء واحد، وهو أن مصر لم تفتح إلّا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات، وكان الفتح في المرة الثالثة، وهذا له نظير في فتح النبي ﷺ مكة، فإنه قصدها عام