وكما أن مشروع الاستيلاء على السودان بواسطة مصر هو من المشروعات القديمة عند الإنكليز، ويثبت ذلك إرسال غوردون وسامويل باكر إلى آخر السودان بواسطة حكومة مصر التي أحسنت الظن بالإنكليز، فإن مشروع جعل الخلافة الإسلامية تحت وصاية الإنكليز وحمايتهم هو مشروع ابتكره الكثيرون من سواسهم منذ عهد بعيد، وقد كتب كتاب الإنكليز في هذا الموضوع ومنهم المستر بلانت المعروف في مصر. فقد كتب كتابا قبل احتلال الإنكليز لمصر في هذا المعنى سماه «مستقبل الإسلام»، وأبان فيه أغراض حكومة بلاده، وأماني الإنكليز في مستقبل الإسلام، وقد كتب في فاتحة كتابه ما نصه:
لا تقنطوا فالدر ينثر عقده
ليعود أحسن في النظام وأجملا
أي إن هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين، بل إن هذا العقد العثماني ينثر ليعود عقدا عربيا أحسن وأجمل.
ولكن ما لم يقله المستر بلانت هو أن قومه يريدون هذا العقد العربي في جيد بريطانيا لا في جيد الإسلام.
ويبين المستر بلانت في كتابه هذا قوة العالم الإسلامي، وكيف أن المدير لأموره يكون قويا واسع السلطة، ويبين كذلك مشروع نابليون الأول، وكيف أنه أراد أن يكون خليفة المسلمين، وأن يقود قواهم، وهو يريد بذلك إلفات أنظار قومه إلى مشروع هم القائمون به الآن، ويبين المستر بلانت أيضا «أن مركز الخلافة الإسلامية يجب أن يكون مكة، وأن الخليفة في المستقبل يجب أن يكون رئيسا دينيا، لا ملكا دنيويا.» أي إن الأمور الدنيوية تترك لإنكلترا تدبر أمورها كيف تشاء! ويعقب المستر بلانت ذلك بقوله: «إن خليفة كهذا يكون بالطبع محتاجا لحليف ينصره ويساعده، وما ذلك الحليف إلا إنكلترا!» وبالجملة فحضرة المؤلف لكتاب مستقبل الإسلام يرى - وما هو إلا مترجم عن آمال أبناء جنسه - أن الأليق بالإسلام أن ينصب إنكلترا دولة له، ولم يبق للمستر بلانت إلا أن يقول بأن الخليفة يجب أن يكون إنكليزيا!
يتضح جليا للقارئ مما قدمناه أن ليس للسلطنة العثمانية، وبالطبع للخلافة الإسلامية في هذه الأيام عدو يجاهر بالعدوان لها، ويعمل على دك أركانها، وتقويض بنيانها غير إنكلترا، ويمكن تعريف المسألة الشرقية اليوم بأنها مسألة النزاع القائم بين إنكلترا وبين بقية دول أوروبا بما فيها الدولة العلية؛ فإن معاداة إنكلترا للدولة العلية هي في الحقيقة معاداة لكل المسيحيين ولكل المسلمين، أي للعالمين الغربي والشرقي.
وإن واجب أوروبا أمام هذه الحرب السياسية حرب الدسائس والأكاذيب القائمة بها إنكلترا ضد الدولة العلية واضح جلي، فمحتم عليها إذا كانت تعمل للمحافظة على السلام العام وعلى أرواح البشر أن تحبط مساعي إنكلترا في الشرق، وأن تقف لها بالمرصاد، ومن العدل أن نقول: إن حكومتي فرنسا والروسيا قامتا في المسألة الأرمنية بإبطال الدسائس الإنكليزية، وإحباط مساعي سواس إنكلترا، وأظن أنه لم يغب عن ذهن إنسان أن إنكلترا عرضت رسميا على الدول الأوروبية خلع جلالة السلطان الأعظم فرفضت الروسيا وفرنسا طلب إنكلترا قبل كل الدول، وقد قامت ألمانيا في الحرب الأخيرة بواجب أوروبا كلها ضد إنكلترا؛ فتم للدولة العلية الظفر والنصر وتم لبريطانيا الفشل والخذلان.
أما واجب العثمانيين والمسلمين أمام عداوة إنكلترا للدولة العلية فبين لا ينكره إلا الخونة والخوارج والدخلاء؛ فواجب العثمانيين أن يجتمعوا جميعا حول راية السلطنة السنية، وأن يدافعوا عن ملك بلادهم بكل قواهم، ولو تفانى الكثيرون منهم في هذا الغرض الشريف حتى يعيشوا أبد الدهر سادة لا عبيدا، وواجب المسلمين أن يلتفوا أجمعين حول راية الخلافة الإسلامية المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح؛ ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم، وفي بقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية المقدسة.
المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر
Неизвестная страница