المسألة الشرقية
المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر
المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر
المسألة الشرقية
المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر
المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر
المسألة الشرقية
المسألة الشرقية
تأليف
مصطفى كامل
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه خير الأنبياء والمرسلين. وبعد، فقد شهد هذا العام فوز الدولة العلية في حربها مع اليونان فوزا عظيما، وانتصارها نصرا مبينا، ورأى العالمون بين أصدقاء للدولة وأعداء براهين حياتها ودلائل شبيبتها، فانتعشت نفوس أبنائها وأصدقائها، وطمس الله على قلوب خصومها وأعدائها، حيث قضى لها بما قضى من الفوز والنصر والسمو والرفعة.
وقد طلب مني بعد انتهاء الحرب بعض أصدقاء يحسنون الظن بشخصي الضعيف أن أكتب تاريخ هذه الحرب الشهيرة؛ فأجبت الطلب لا عن شعور بمقدرتي على ذلك، بل عن سرور جزيل وحبور نادر المثيل بما نالت الدولة العلية حماها الله.
وقد أحببت أن أقدم للقراء الكرام قبل تاريخ الحرب ملخصا عن المسألة الشرقية التي هي موضوع اشتغال الشرقيين والغربيين، وإني أسأل القراء الكرام عذرا إذا كنت اضطررت للإيجاز في بيان المسألة الشرقية، فقد قضى علي الوقت بذلك، وأؤمل العودة لموضوعها في فرصة أخرى، مع بيان أوفى وأشفى.
وإني أضرع إلى الله فاطر السماوات والأرض من فؤاد مخلص وقلب صادق أن يهب الدولة العلية القوة الأبدية والنصر السرمدي؛ ليعيش العثمانيون والمسلمون مدى الدهر في سؤدد ورفعة، وأن يحفظ للدولة العثمانية حامي حماها وللإسلام، إمامه وناصره، جلالة السلطان الأعظم والخليفة الأكبر الغازي «عبد الحميد الثاني» وأن يحفظ لمصر في ظل جلالته عزيزها المحبوب، وأميرها المعظم سمو الخديوي «عباس حلمي باشا الثاني»، إن ربي سميع مجيب.
مصطفى كامل
مصر في شعبان سنة 1315/يناير سنة 1898
المسألة الشرقية
اتفق الكتاب والسياسيون على أن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع القائم بين بعض دول أوروبا وبين الدولة العلية، بشأن البلاد الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى: هي مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوروبا، وقد قال كتاب آخرون من الشرق ومن الغرب بأن المسألة الشرقية: هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية. إلا أن هذا التعريف وإن كان فيه شيء من الحقيقة، فليس بصحيح تماما؛ لأن الدول التي تنازع الدولة العلية وجودها لا تعاديها باسم الدين فقط، بل في الغالب تعاديها طمعا في نوال شيء من أملاكها، وقد أرانا التاريخ أحوالا كثيرة لم يستعمل الدين فيها إلا سلاحا أو وسيلة لنوال غرض جوهري، فهو ستار تختفي وراءه أغراض شتى وأطماع مختلفة. والذي يراجع تاريخ الدولة العلية، ويقلب صحائف أمورها من أول وجودها إلى اليوم؛ يرى أن المسألة الشرقية نشأت مع الدولة نفسها؛ أي إنه منذ وطأت أقدام الترك ثرى أوروبا، وأسسوا دولتهم الفخمة، قام بينهم وبين بعض الدول الأوروبية النزاع الشديد، ودارت الحروب العديدة.
وبالجملة فإنه منذ ظهرت صولة الترك في أوروبا، أخذت بعض الدول على عهدتها معاداة الدولة ومطاردتها، والعمل على إخراجها من هاته القارة، ولكنها أعمال حبطت وآمال خابت؛ إذ أصبح أمر بقاء دولة آل عثمان من أول الأمور الضرورية اللازمة لسلامة بني الإنسان.
Неизвестная страница
وقد وهب الله الدولة العثمانية سلطة عالية ورهبة عظيمة حينا طويلا من الزمان، فأخضعت لسلطانها الأمم والدول، وأرهبت بقوتها وعظمتها كل قوي وكل عظيم، ورفعت رايتها الهلالية الجليلة على أصقاع شاسعة وأقطار واسعة، فأبقت فتوحاتها وانتصاراتها في نفوس الأمم المقهورة بغضاء كامنة، وعداوة لدودة، فكان ذلك السبب الأول في الحروب العديدة التي وجهت ضدها، وأقيمت في وجهها.
ولما كانت البلاد الواقعة تحت سلطة الدولة العلية من أجمل بلاد العالم وأغناها؛ فقد تاقت نفوس أصحاب الدول الأوروبية لإخراج الترك من هذه البلاد وتقسيمها بينها، فكانت هذه الدول تحارب الدولة العلية بأمل تقسيمها شيئا فشيئا، والاستيلاء على أجزائها جزءا فجزءا، وهذا هو سبب آخر لعداوة بعض الدول الأوروبية للدولة العلية.
وإذا دققنا النظر في سبب العداوة المشهور، وهو مسألة الدين، وجدنا أن الدولة العلية هي الدولة الوحيدة في دول الأرض التي عاملت رعاياها الذين يدينون بغير دينها بالتسامح والتساهل والاعتدال. فقد اتبعت أوامر الشرع الشريف، وتركت للمسيحيين حرية دياناتهم وعوائدهم وتقاليدهم، واحترمت عقائدهم كل الاحترام، فعاشوا طويلا ممتعين بهاته الحرية على حين أن مسيحيي إسبانيا قتلوا المسلمين؛ لأنهم مسلمون، وهتكوا أعراض نسائهم، وحرمة بيوتهم، وما رحموا إنسانا.
ولم تكتف الدولة العلية حماها الله بحسن معاملة المسيحيين واحترام أديانهم وعقائدهم، بل عاملتهم كأعز أبنائها المسلمين، ولم تميز بين هؤلاء وبينهم، وسلكت مع الكل طريق المساواة، وعينت الكثيرين من المسيحيين في المناصب السامية والوظائف العلية، وائتمنتهم على أمورها، وجعلتهم محل ثقتها، وبقاء المسيحيين إلى اليوم في الدولة العلية أكبر شاهد على اعتدالها الديني في الماضي وفي الحاضر، بل بقاء الجنسيات المختلفة كالبلغار والصرب واليونان وغيرها دليل ساطع وبرهان قاطع على أن الدولة العلية احترمت من نفسها وبمحض إرادتها دين الذين وقعوا تحت سلطتها، ولم تقهر أحدا على اعتناق الدين الإسلامي، ويعترف الكتاب والمؤرخون جميعا، بل ويعترف كل إنسان في الوجود مجرد عن الغرض الأعمى أن الدولة العلية كان في قدرتها يوم كانت أقوى دول الأرض أن تجبر كل المسيحيين في بلادها على اعتناق دين الإسلام، أو أن تطردهم من أراضيها إذا خالفوا رغبتها، ولكنها احترمت الشرع الشريف فاحترمت الدين المسيحي وأصحابه.
وهي حقيقة يقررها التاريخ، وينطق بها كل منصف محب لها، ولكن من غرائب أحوال هذا الوجود أن هذه الفضيلة السامية، وهذه المكرمة الفريدة كانت أكبر سبب لكل ما لحق الدولة العلية من الضرر والإجحاف، وأصلا لكل ما حل بها من المصائب والبلايا؛ فاحترامها لعقائد المسيحيين على اختلاف أنواعهم أقام أمامها بعض دول أوروبا بحجة المسيحيين أنفسهم، وكان سببا لحروب جمة.
فمسألة اختلاف الدين في الدولة العلية التي هي نتيجة الاعتدال الديني والعدل والإنصاف، كانت ولا تزال الداء الدفين الذي يهدد حياة الدولة من وقت إلى آخر. فتداخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العلية باسم المسيحيين المحكومين بها، ومضايقة أوروبا للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، واضطرابات الدولة تقوم باسم هؤلاء المسيحيين، والإنذارات التي توجه للدولة توجه باسم هؤلاء المسيحيين؛ بل وأغلب الحروب التي جرت مع الدولة جرت باسم هؤلاء المسيحيين، ويعلم الله إنهم سعداء الحظ في الدولة العلية، وأن تداخل أوروبا بحجة نصرتهم لا لزوم له البتة.
ولو أنصفت الدول الأوربية قليلا لاعترفت بهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن المسيحيين في الدولة العلية لا ينقصون عن المسلمين في حسن المعاملة إن لم يكونوا من الراجحين، وها هم اليهود لا يثورون ولا يهيجون ولا يشتكون ولا يتألمون، بل يحمدون الدولة ليلا ونهارا في السراء والضراء، ويسبحون في كل آونة بنعمها عليهم وحسن رعايتها لهم، وما ذلك إلا لأنه لا يوجد في الدول الأوروبية دولة تدعي الدفاع عنهم والعمل لمصالحهم، فهم ليسوا بآلات في الدولة ضد الدولة، بل هم يعرفون من أنفسهم أنهم عثمانيون ممتعون بكل الحقوق العثمانية، وأما العناصر التي كالأرمن تستعملها بعض الدول كإنكلترا، فهي تثور بعوامل الدين وبدسائس دينية، وقد ثبت ذلك جليا في المسألة الأرمنية، وشوهد أن الأرمن الكاثوليك كانوا على سكينة تامة، بينما كان البروستانت يثورون ويدبرون المكائد ضد الحكومة العثمانية.
فمسألة الدين في الدولة العلية هي الآلة القوية التي يستعملها أصحاب الدسائس والغايات، وأولئك الذين يثورون بدسائس أعداء الدولة إنما يثورون ضد أنفسهم، ويقضون على حياتهم وسعادتهم بعبثهم وجنونهم واتباعهم لأوامر أعداء الدولة المحركين لهم؛ فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمنية إنما ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، والذين ماتوا في كريد ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، بل والذين ماتوا من جنود اليونان في تساليا ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية نفسها، ومن يعمل بنصيحة أعداء الدولة ويتبع أوامرهم فجزاؤه ما نال الأرمن واليونان.
وبديهي أن دولة مثل دولة إنكلترا التي تدعي محبة المسيحيين في الشرق، والعمل لراحتهم وسعاداتهم، لو كانت صادقة في دعواها، لرأت من الواجب عليها أن تصافي الدولة العلية حتى تنال منها متمناها بشأن المسيحيين، وإلا فمن الجنون في السياسة أن تدعي إنكلترا محبة المسيحيين، ثم تعادي الدولة العلية القابضة بيديها على زمام أمور المسيحيين، فهل يقبل العقل البشري أن دولة قوية كالدولة العلية تعمل في بلادها على خلاف رغبتها، وتنيل أصدقاء الإنكليز أي أصدقاء ألد أعدائها الراحة والسعادة والهناء؟! هل يقبل العقل البشري أن المسيحيين المدافعة عنهم إنكلترا يعادون المسلمين، ثم يسألونهم معاملتهم بالرقة واللطف وحسن العناية بهم؟!
إن الاتفاق والوفاق بين المسلمين والمسيحيين في الدولة العلية لا يكون نتيجة الضغط والقوة، بل نتيجة الميل المتبادل وحسن النية من الجانبين، والإخلاص والوفاء للدولة العلية، وإذا كانت دول أوروبا تريد حقيقة سعادة المسيحيين في الشرق، فأول واجب عليها هو أن تأمرهم بالامتثال لأوامر الدولة، والتعلق بها، والإخلاص في خدمتها، وإلا فالدولة أو فالدول العاملة على إلقاء بذور الشقاق والعداوة بين المسلمين والمسيحيين لا تجني ويستحيل أن تجني شيئا آخر غير العداوة المرة والخصومة الشديدة.
Неизвестная страница
وغني عن البيان أن المسلمين في الدولة العلية متى رأوا فريقا من أخدانهم المسيحيين يعمل بأوامر الأجنبي عدوه خائنا للوطن العثماني، ناكثا لعهد الدولة العثمانية، أي عدوه دخيلا في الوطن والملة والدولة، ووجب عليهم العمل ضده بكل ما في استطاعتهم قياما بواجباتهم الوطنية، وهذا هو الشأن في أمم العالم، فلو فرضنا أن فريقا من الإنكليز قام يوما ما في إنكلترا بإحداث الاضطرابات والثورات تنفيذا لأوامر دولة أجنبية كالروسيا أو ألمانيا أو فرنسا؛ فأي واجب تحتمه الوطنية عندئذ على بقية الإنكليز؟ أليس القضاء على هؤلاء الخونة المنفذين لأوامر دولة أجنبية بكل الوسائل؟
القائمون بالثورات والاضطرابات في الدولة العلية خونة منفذون لأوامر أعداء الدولة، يجب على العثمانيين الصادقين إعلان العداء لهم، والانتقام منهم بكل ما في الجهد والاستطاعة.
ويستحيل الوصول كما قدمنا إلى الاتفاق السليم الصحيح بين المسيحيين والمسلمين في الدولة العثمانية إلا بإخلاص الجميع لها إخلاصا تاما.
هذه هي الحقيقة وحدها دون غيرها.
وإذا كان اختلاف الدين في الدولة العلية هو داء من أدوائها، بل هو أكبر أدوائها، فالدخلاء في الدولة العلية داء عضال، وبلية لا تعادلها بلية؛ فإن الذين كانوا سببا في هزيمة الدولة في حروب مختلفة هم الدخلاء، والذين ساعدوا الدسائس الأجنبية هم الدخلاء. فقد دخل في جسم الدولة العلية كثير من الأجانب نساء ورجالا، وغيروا أسماءهم بأسماء إسلامية، وعملوا على الارتقاء في المناصب حتى وصل بعضهم إلى أسماها، وصاروا من أقرب المقربين، فعرضوا بالدولة للدمار، وأطلعوا أعداءها على أسرارها، وقد انتشر الدخلاء في الزمن السالف إلى كل فروع الدولة العلية حتى في الجيش نفسه، وصارت لهم سلطة عظيمة ونفوذ كبير، وكنت تجد من وزراء الدولة العلية من يعمل لصالح الروسيا مدعيا أنه روسي السياسة، ومن يعمل لصالح إنكلترا مدعيا أنه إنكليزي السياسة، ولكن ليس منهم من كان عثماني السياسة.
ولولا أن الأمة العثمانية أمة حية قوية عظيمة الشهامة والوطنية، لكانت تلاشت اليوم بدسائس الدخلاء، ولو كان للدخلاء في دولة أخرى ما كان لهم في الدولة العلية من السلطة والحول، لكانت تقوض بنيانها وتداعت أركانها، وإن أعظم سلطان جلس على أريكة ملك آل عثمان، ووجه عنايته لإبطال مساعي الدخلاء، وتطهير الدولة من وجودهم، هو جلالة السلطان الحالي. فلقد تعلم من حرب سنة 1877 وما جرى فيها أن الدخلاء بلية البلايا في الدولة ومصيبة المصائب، فعمل بحكمته العالية على تبديد قوتهم، وتربية الرجال الذين يرفعون شأن الدولة، ويعملون لإعلاء قدرها، وقد برهنت الحرب العثمانية اليونانية على أن للدولة اليوم رجالا من أبنائها الصادقين، يخدمونها بالأمانة والوفاء، ويتفانون في محبتها، وأن ليس للدخلاء من سبيل لنوال مآربهم السيئة، فأمثال صاحب الدولة «أدهم باشا» الذي كان مجهول الاسم عند الكثيرين من العثمانيين قبل الحرب كثيرون في الدولة العلية، تظهرهم الحوادث وتعرفنا بهم وبقدرهم المشكلات.
وإن أغرب شيء في أحوال الدولة العلية وفي تاريخها يدهش أعداءها ويحير الكتاب الكارهين لها، هو بقاؤها حية بعد كل المصائب التي تساقطت عليها، والبلايا التي نزلت بها. فلقد رأت هذه الدولة العثمانية ما لم تره دولة من دول الأرض القديمة والحديثة، فقد كانت تتحالف معها بعض الدول كالنمسا مثلا، وتعمل وهي متحالفة معها على الاتفاق مع الروسيا على تقسيمها، وقد كانت تتظاهر إنكلترا لها بالصداقة والوفاء، وتسعى وهي متظاهرة كذلك على ضياع أملاكها من يدها وسقوطها في قبضتها، وقد كانت دول أوروبا كلها تجتمع وتتحد على ما تسميه بالمبدأ المقدس، مبدأ حماية استقلال الدولة العلية وسلامتها، ثم كانت هي بعينها تجزئ الدولة العلية باسم هذا المبدأ المقدس نفسه، وقد كان العاملون على تقويض أركان الدولة وحلها عديدين أقوياء، ومع ذلك كله لا تزال الدولة العلية حماها الله قوية ثابتة الأركان تخافها أقوى الدول، ويخطب ودها إمبراطور شهد العالم كله بقوته وعظمته وبأسه.
ولقد يندهش الإنسان غاية الاندهاش عندما يقرأ ما كان يكتب من نحو مائة وعشرين سنة عن الدولة العلية؛ فقد كان الكتاب والسياسيون يتناقشون في مشروعات تقسيمها، فالبعض كان يريد أن يؤسس مكان الدولة العلية «الاتحاد البلقاني»، والبعض الآخر كان يريد إعادة ملك بيزانتان، وكان سياسيو الروسيا والنمسا يتباحثون في مشروع تقسيم الدولة بين دولتيهما، فكل كان يضع مشروعا، والجميع كانوا متفقين على أن الدولة قصيرة الأجل، وأكثرهم أملا في حياتها كان يجود عليها في مشروعه بعشرة من السنين أو عشرين عاما، ولو بعث اليوم من القبور كتاب أواخر القرن الماضي وسواسه، ورأوا الدولة العلية قائمة عزيزة تحارب في أواخر القرن التاسع عشر، وتنتصر وتجتاز العقبات عقبة بعد عقبة، وتصرف المصائب مصيبة بعد أخرى؛ لكذبوا أعينهم وما صدقوا بالحقيقة.
ولكن الحقيقة هي أن بقاء الدولة العلية ضروري للنوع البشري، وأن في بقاء سلطانها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وأن الله جل شأنه أراد حفظ بني الإنسان من تدمير بعضهم البعض ومن حروب دينية طويلة بحفظ سياج الدولة العلية وبقاء السلطنة العثمانية. فقد لاقت هذه الدولة العثمانية في حياتها الطويلة أخطارا هائلة كانت تكفي لتداعي بنيان أقوى الممالك، ومرت عليها ملمات كانت تندك لها الدول القوية والممالك القاهرة بدون أن تمس حياتها الحقيقية بسوء بل بقيت حية تدهش العالم بشبيبتها.
وقد أحس الكثيرون في أوروبا من رجال السياسة ومن رجال الأقلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام، وأن زوالها - لا قدر الله - يكون مجلبة للأخطار أكبر الأخطار، ومشعلة لنيران يمتد لهبها بالأرض شرقها وغربها شمالها وجنوبها، وإن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة من المسلمين، وحرب دموية لا تعد بعدها الحروب الصليبية إلا معارك صبيانية.
Неизвестная страница
وإن الذين يدعون العمل لخير النصرانية في الشرق يعلمون قبل كل إنسان أن تقسيم الدولة العلية أو حلها يكون الضربة القاضية على مسيحي الشرق عموما قبل مسلميه؛ فقد أجمع العقلاء والبصيرون بعواقب الأمور على أن دولة آل عثمان لا تزول من الوجود إلا ودماء المسلمين والمسيحيين تجري كالأنهار والبحار في كل واد.
وهي الملمة التي يجب على محبي الإنسانية الصادقين في محبتهم العمل لمنع وقوعها ودفعها بتعضيد الدولة العلية وتقوية سلطانها.
ولقد اعتقدت الآن الروسيا كما اعتقدت النمسا - وقد كانتا العدوتين القديمتين للدولة العلية - بأن تقسيم الدولة العلية أمر مستحيل، فعملت كلتاهما على المحافظة على السلام العام بالمحافظة على سياج الدولة العثمانية.
فقد رأت النمسا أن حروبها مع الدولة العلية أضرتها ضررا بليغا، وظهرت النتائج المشئومة لهذه الحروب. فقد ضعفت النمسا، وانتهى بها الأمر أن فقدت أملاكها الإيطالية التي تكونت منها إيطاليا الحالية، وفقدت كذلك أمام بروسيا جزءا عظيما من مقاطعاتها الألمانية.
ولقد عملت النمسا في عهد عدائها للدولة العلية على تهييج أمم البلقان ضد السلطنة السنية، باسم مبدأ الجنسيات؛ لأنها بصفتها دولة كاثوليكية كان لا يمكنها أن تهيج هذه الأمم الأرثوذكسية باسم الدين؛ فكانت نتيجة تهييج النمسا لأمم البلقان باسم الجنسيات وبالا عليها، وذلك أن مبدأ الجنسيات نفسه وجد أنصارا كبارا في قلب المملكة النمساوية، فقامت المجر ونالت حريتها واستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية المجرية، وها هي أمة البوهيم قائمة اليوم بالمطالبة باستقلالها النوعي باسم مبدأ الجنسية البوهيمية، وقد أصبح من الظاهر للعيان أن دولة النمسا تنازع نزاع الموت في الأيام الحالية بفضل مبدأ الجنسية.
أما الروسيا فقد قامت دائما في المسألة الشرقية باسم الدين الأرثوذكسي، فعملت لإخراج الرومانيين واليونانيين والصربيين والبلغاريين وأهل الجبل الأسود من تحت سلطة الدولة العلية باسم الدين الأرثوذكسي؛ فنشأ عن ذلك مع استقلال هذه الأمم الصغيرة عداوة شديدة بينها وبين بعضها لما وجدت في نفسها من الطمع لتوسيع دائرة أراضيها، ذلك فضلا عن أن الكنيسة اليونانية التي هي أم الكنائس الأرثوذكسية أصبحت غير معتبرة عند البلغاريين والصربيين، والنزاع القائم بين هذه الجنسيات المختلفة في مقدونيا يبين جيدا درجة عدواتها لبعضها، ودرجة الخطر الذي صارت إليه بلاد البلقان بسبب مسألة الجنس والدين.
وإذا بحثنا فيما اكتسبته الروسيا من حروبها مع الدولة العلية نجد أنها عادت تركيا قرنا ونصف قرن، وحاربتها المرار العديدة، وفقدت الرجال والمال بكثرة عظيمة في كل حرب، ولم تنل في الحقيقة من كل حروبها إلا بلاد القرم والقوقاز، وقد رأت الروسيا ما لم تكن تظنه أبدا وهو أن بعض البلاد الصغيرة التي حررتها كصربيا وبلغاريا واليونان ورومانيا عادتها أشد العداء، ولا تزال صربيا ورومانيا واليونان سائرة في سياسة لا ترضي الروسيا، وعلى الأخص رومانيا التي تمكن بينها وبين ألمانيا والنمسا والدولة العلية الصفاء والوداد، ولم تعتدل بلغاريا نفسها في سياستها مع الروسيا إلا في هذه السنين الأخيرة من يوم اعتناق البرنس بوريس ولي عهد بلغاريا للدين الأرثوذكسي.
وقد رأت الروسيا من جهة أن حروبها مع الدولة العلية لا تفيد غير إنكلترا التي قوي مركزها في آسيا وفي الشرق الأقصى، والتي لها أعظم مصلحة في إضعاف قوة الروسيا، وإضاعتها الوقت والمال والرجال في حروبها مع الدولة العلية، ورأت كذلك من جهة أخرى أنه يستحيل عليها أن تأخذ الآستانة وتنفذ وصية بطرس الأكبر؛ لما تلاقيه في القيام بهذا الأمر من قبل الدولة العلية ومن دول أوروبا نفسها، وفي مقدمتها فرنسا حليفتها؛ ولذا فضلت الروسيا الاهتمام بمسائل الشرق الأقصى ومسالمة تركيا، وقد تحقق العثمانيون من هذه المسالمة في المسألة الأرمنية وفي مسألة الحرب الأخيرة.
وقد شهد السياسيون بأنه لا يوجد في تاريخ علاقات الدولة العلية مع الروسيا للمسالمة والصداقة مثل التلغراف الذي بعث به جلالة القيصر إلى جلالة السلطان يرجوه فيه أن يصدر أمره بإيقاف الحرب مع اليونان.
أما الدولة التي أصبحت في هذه السنين الأخيرة حاملة لراية العدوان ضد الدولة العلية، فهي إنكلترا عدوة الإسلام، وعدوة مصر.
Неизвестная страница
فلقد قضت هذه الدولة أزمانا طويلة ظهرت فيها للدولة العلية بمظهر الصديقة الوفية والحليفة الأمينة، وكانت تكسب من هذه الصداقة الكاذبة بقدر ما كانت تخسر تركيا؛ فإن لإنكلترا مصلحة عظمى دائمية في أن الروسيا تحارب تركيا لتضعف قواها، فلا تستطيع مطاردة الإنكليز في الهند والشرق الأقصى، ولتضعف تركيا فتستولي إنكلترا على شيء من أملاكها بحجة الدفاع عنها، وفوق ذلك فإن إنكلترا كسبت كثيرا من صداقة تركيا لها - بقطع النظر عن المكاسب المادية والتجارية والصناعية - بما كانت تنيلها هذه الصداقة من النفوذ عند المسلمين، ومن السلطة التامة على مسلمي الهند. فلقد كاد أهل الهند يطردون الإنكليز من بلادهم في ثورة سيباي الشهيرة لولا صداقة تركيا لهم، هذه الصداقة التي حملت المرحوم السلطان «عبد المجيد» على إصدار منشور لمسلمي الهند أمرهم فيه بالركون إلى السكينة والهدوء وعدم القيام بإحداث الاضطرابات ضد حكومة صديقته «ملكة بريطانيا».
فإذا كان الإنكليز في الهند عاشوا طويلا آمنين شر المسلمين، فما الفضل في ذلك إلا للدولة العلية، وها هم اليوم يدعون أن تركيا «عدوتهم الحالية» وصديقتهم القديمة أوعزت إلى الهنود المسلمين بالثورة، فثاروا ولا يزالون ثائرين، وسواء كانت ثورتهم بإيعاز من تركيا - وهو ما لا أظنه لأن الثورة قائمة بها قبائل معلومة، ولو كانت الدولة العلية أوعزت بالثورة لثار مسلمو الهند جميعا - أو بإيعاز من ضمائرهم ونفوسهم، فدعواهم هذه دليل ساطع على أنهم استفادوا كثيرا من تظاهرهم بالصداقة للدولة العلية، وإن إشهارهم العداوة لتركيا لا يضر إلا بهم.
ولقد أدركت الحكومة العثمانية من يوم أن تولى أمور الدولة العلية جلالة السلطان الأعظم «عبد الحميد الثاني» أن إنكلترا خداعة في ودها، وأنها تضر بمن تتظاهر لهم بالصداقة أكثر مما تضر بأعدائها الظاهرين؛ فقد أخذت من الدولة العلية قبرص بدعوى مساعدتها ضد الروسيا في مؤتمر برلين، ثم دخلت المؤتمر وخرجت منه بدون أن تستفيد تركيا من هذه المودة الإنكليزية الكاذبة أقل فائدة، بل إن الدولة العلية فقدت في هذا المؤتمر ما لم تفقده قط في مؤتمر آخر.
وقد شعرت الروسيا كذلك بعد حرب سنة 1877 أنها لا تستفيد من حروبها مع تركيا ما يعوض عليها خسائرها العظيمة في هذه الحروب، ففضلت سياسة مسالمة الدولة على سياسة العداء، فكان هذا التاريخ مبدأ للشقاق والعداوة بين الدولة العلية وبين إنكلترا، وقد ظهرت هذه العداوة بمظهرها التام الواضح بعد احتلال الإنكليز لمصر؛ حيث رأى جلالة السلطان في هذا الاحتلال وفي خطة الإنكليز فيه وفي خداعهم لجلالته ما علم منه أن الإنكليز لا صديق لهم، وأنهم أكبر أعداء تركيا، وأن صداقتهم القديمة المزعومة لم تكن إلا حجابا ستروا وراءه عداوتهم المرة وأطماعهم الشديدة ضد دولة آل عثمان.
ومن ذلك الحين عملت إنكلترا على دس الدسائس ضد السلطنة السنية في كل أنحاء الأملاك المحروسة، فهاجت الأرمن والكريديين والدروز، ولكن دسائسها لم تأت بغير نتيجة واحدة، وهي إضعاف هذه العناصر التي اتخذتها إنكلترا آلات لها وإظهار قوة الدولة العلية أمام الملأ كله.
وقد علمت اليوم كل العناصر على اختلافها، وجميع الأمم صغيرة كانت أو كبيرة، أن عدو اليونان الحقيقي ليس بتركيا التي صبرت على رذائلها طويلا، بل إنكلترا التي شجعتها على الحرب، وساعدتها في السر والجهر، وملأت مقدونيا من الأسلحة والدنانير الإنكليزية مؤملة قيامها في وجه تركيا أثناء الحرب، فخابت آمالها، وحبطت مساعيها، ورجعت مخذولة خذلانا سياسيا دونه خذلان اليونان الحربي.
وقد حسب الإنكليز أنهم يبلغون متمناهم من مصر ووادي النيل، ويضعون بذلك أيديهم على الحجر الأساسي للخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، ولكن ما لا ريب فيه هو أن نصيبهم في مصر الفشل عاجلا أو آجلا، ولا يغرن القراء سيرهم الحالي في بلاد وادي النيل، فإنما هو نتيجة ضعف رجال مصر الذين سلمت إليهم مقاليد الأمور، واستيلاء الإنكليز على الإدارات المصرية لا يؤثر مطلقا على جوهر المسألة نفسها، وحيث فشل نابليون الأول يفشل الإنكليز ولا محالة.
وقد علمت إنكلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال ويكون ما دام قائما سببا للعداوة بينها وبين الدولة العلية، وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقا الاتفاق مع إنكلترا على بقائها في مصر؛ إذ إن مسألة مصر بالنسبة لتركيا والخلافة تعد مسألة حيوية؛ ولذلك رأت إنكلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية في طريقها، ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة تضمن لها البقاء في مصر ووضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية، ونقل الخلافة الإسلامية إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنكليز، وبمثابة آلة في أيديهم؛ ولذلك أخرج ساسة بريطانيا مشروع الخلافة العربية مؤملين به استمالة العرب لهم، وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولكن العرب وغير العرب من المسلمين أرشد من أن يخدعهم الإنكليز بعدما مر من الأمور، وما جرى من الحوادث؛ ولذلك أيضا كنت ترى الإنكليز ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمنية مشروع تقسيم الدولة العلية حماها الله جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب، أي السلطة العامة على المسلمين.
والذي يبغض الإنكليز على الخصوص في جلالة السلطان الحالي هو ميله الشديد إلى جمع كلمة المسلمين حول راية الخلافة الإسلامية، وهو أمر يحول بينهم وبين أسمى أمانيهم، أي إيجاد الشقاق بين المسلمين وبعضهم وخروج بعض المسلمين على السلطنة العثمانية، ومن ذلك يفهم القارئ سبب اهتمام الإنكليز بالأفراد القليلين الذين قاموا من المسلمين ضد جلالة السلطان الأعظم، وسبب مساعدتهم لهم بكل ما في وسعهم.
وإنكلترا تعلم علم اليقين أنها لو استطاعت أن تجعل خليفة المسلمين تحت وصايتها، أي آلة لها، يكون لها سلطة هائلة ونفوذ لا حد له في سائر أنحاء المعمورة، فإنها تستطيع عندئذ - لا قدر الله - أن تنفذ رغائبها عند المسلمين التابعين لها وغير التابعين بواسطة هذا الخليفة؛ ولذلك فهي بعملها على هدم السلطنة العثمانية تعمل على تحقيق غرض بعيد هو أكبر أغراضها، وأمنية سياسية دونها كل الأماني.
Неизвестная страница
وكما أن مشروع الاستيلاء على السودان بواسطة مصر هو من المشروعات القديمة عند الإنكليز، ويثبت ذلك إرسال غوردون وسامويل باكر إلى آخر السودان بواسطة حكومة مصر التي أحسنت الظن بالإنكليز، فإن مشروع جعل الخلافة الإسلامية تحت وصاية الإنكليز وحمايتهم هو مشروع ابتكره الكثيرون من سواسهم منذ عهد بعيد، وقد كتب كتاب الإنكليز في هذا الموضوع ومنهم المستر بلانت المعروف في مصر. فقد كتب كتابا قبل احتلال الإنكليز لمصر في هذا المعنى سماه «مستقبل الإسلام»، وأبان فيه أغراض حكومة بلاده، وأماني الإنكليز في مستقبل الإسلام، وقد كتب في فاتحة كتابه ما نصه:
لا تقنطوا فالدر ينثر عقده
ليعود أحسن في النظام وأجملا
أي إن هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين، بل إن هذا العقد العثماني ينثر ليعود عقدا عربيا أحسن وأجمل.
ولكن ما لم يقله المستر بلانت هو أن قومه يريدون هذا العقد العربي في جيد بريطانيا لا في جيد الإسلام.
ويبين المستر بلانت في كتابه هذا قوة العالم الإسلامي، وكيف أن المدير لأموره يكون قويا واسع السلطة، ويبين كذلك مشروع نابليون الأول، وكيف أنه أراد أن يكون خليفة المسلمين، وأن يقود قواهم، وهو يريد بذلك إلفات أنظار قومه إلى مشروع هم القائمون به الآن، ويبين المستر بلانت أيضا «أن مركز الخلافة الإسلامية يجب أن يكون مكة، وأن الخليفة في المستقبل يجب أن يكون رئيسا دينيا، لا ملكا دنيويا.» أي إن الأمور الدنيوية تترك لإنكلترا تدبر أمورها كيف تشاء! ويعقب المستر بلانت ذلك بقوله: «إن خليفة كهذا يكون بالطبع محتاجا لحليف ينصره ويساعده، وما ذلك الحليف إلا إنكلترا!» وبالجملة فحضرة المؤلف لكتاب مستقبل الإسلام يرى - وما هو إلا مترجم عن آمال أبناء جنسه - أن الأليق بالإسلام أن ينصب إنكلترا دولة له، ولم يبق للمستر بلانت إلا أن يقول بأن الخليفة يجب أن يكون إنكليزيا!
يتضح جليا للقارئ مما قدمناه أن ليس للسلطنة العثمانية، وبالطبع للخلافة الإسلامية في هذه الأيام عدو يجاهر بالعدوان لها، ويعمل على دك أركانها، وتقويض بنيانها غير إنكلترا، ويمكن تعريف المسألة الشرقية اليوم بأنها مسألة النزاع القائم بين إنكلترا وبين بقية دول أوروبا بما فيها الدولة العلية؛ فإن معاداة إنكلترا للدولة العلية هي في الحقيقة معاداة لكل المسيحيين ولكل المسلمين، أي للعالمين الغربي والشرقي.
وإن واجب أوروبا أمام هذه الحرب السياسية حرب الدسائس والأكاذيب القائمة بها إنكلترا ضد الدولة العلية واضح جلي، فمحتم عليها إذا كانت تعمل للمحافظة على السلام العام وعلى أرواح البشر أن تحبط مساعي إنكلترا في الشرق، وأن تقف لها بالمرصاد، ومن العدل أن نقول: إن حكومتي فرنسا والروسيا قامتا في المسألة الأرمنية بإبطال الدسائس الإنكليزية، وإحباط مساعي سواس إنكلترا، وأظن أنه لم يغب عن ذهن إنسان أن إنكلترا عرضت رسميا على الدول الأوروبية خلع جلالة السلطان الأعظم فرفضت الروسيا وفرنسا طلب إنكلترا قبل كل الدول، وقد قامت ألمانيا في الحرب الأخيرة بواجب أوروبا كلها ضد إنكلترا؛ فتم للدولة العلية الظفر والنصر وتم لبريطانيا الفشل والخذلان.
أما واجب العثمانيين والمسلمين أمام عداوة إنكلترا للدولة العلية فبين لا ينكره إلا الخونة والخوارج والدخلاء؛ فواجب العثمانيين أن يجتمعوا جميعا حول راية السلطنة السنية، وأن يدافعوا عن ملك بلادهم بكل قواهم، ولو تفانى الكثيرون منهم في هذا الغرض الشريف حتى يعيشوا أبد الدهر سادة لا عبيدا، وواجب المسلمين أن يلتفوا أجمعين حول راية الخلافة الإسلامية المقدسة، وأن يعززوها بالأموال والأرواح؛ ففي حفظها حفظ كرامتهم وشرفهم، وفي بقاء مجدها رفعتهم ورفعة العقيدة الإسلامية المقدسة.
المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر
Неизвестная страница
لقد حدثت في القرن الثامن عشر أزمة شديدة مهمة للمسألة الشرقية هي الحرب بين الدولة العلية والروسيا التي طالت من أواخر عام 1768 إلى أوائل عام 1775، وهذه الأزمة كانت شديدة غزيرة النتائج، وأصلا لتداخل أوروبا في أمور الدولة العثمانية باسم الدين.
وقد كانت الروسيا حليفة للبروسيا في ذلك العهد محالفة أمضى عليها فريدريك الكبير ملك بروسيا وكاترينا إمبراطورة الروسيا يوم 11 أبريل سنة 1764، وكان أجلها ثماني سنوات، وسبب تداخل البروسيا في المسائل الشرقية هو تحالفها مع الروسيا نحو قرن، وداعية هذا التحالف هي العداوة الشديدة التي كانت بين النمسا والبروسيا في ألمانيا، وبين النمسا والروسيا في مسائل الشرق، وقد كان يعقد أحيانا اتفاق بين تلك الدول الثلاث، ولكن العداوة بقيت طويلا - بالرغم عن هذه - شديدة بينها وبين بعضها.
ومن أسباب تحالف الروسيا والبروسيا غير ما ذكرناه: اشتراكهما في المصلحة ضد بولونيا التي كانت جمهورية وقتئذ، وفي حالة من الفوضى عظيمة، وقد كان يروق للروسيا والبروسيا بقاء نفوذهما قويا في بولونيا، والعمل على زيادة الفوضى فيها؛ لتتمكنا من تقسيمها، والاستيلاء عليها.
وكان قد عقد بين فرنسا والنمسا عام 1756 تحالف يضمن للنمسا مساعدة فرنسا الحربية والسياسية في كل أوروبا، ويضمن لفرنسا عدم تداخل النمسا ضدها في حالة قيام الحرب بينها وبين إنكلترا، وقد حصل وقتئذ أن «أوجست الثالث» ملك جمهورية بولونيا توفي، وأرادت الروسيا بالاتفاق مع البروسيا أن تعين بدلا عنه «ستانيسلاس أوجست بونياتووسكي» الذي كان محبوبا عند كاترينا إمبراطورة الروسيا وعاشقا من أكبر عشاقها، وكانت ترمي الروسيا بهذا التعيين إلى إلقاء بذور الشقاق والشحناء بين البولونيين، وإحداث الاضطرابات في بلادهم بواسطة هذا الملك الجديد.
فعمل عندئذ الوطنيون البولونيون لدى الباب العالي مستغيثين به لإحباط مساعي الروسيا في تعيين «ستانيسلاس» ولكن سفيرا الروسيا والبروسيا بالآستانة بذلا ضد هؤلاء الوطنيين كل جهدهم.
وكان من صالح النمسا وفرنسا عدم نجاح الروسيا والبروسيا في مسعاهما لتعيين «ستانيسلاس» فحرضتا الدولة العلية ضد الروسيا والبروسيا، وأظهرتا لها فائدة تداخلها في صالح البولونيين، ولكن المرحوم السلطان «مصطفى الثالث» كان يعجب بفريدريك ملك البروسيا إعجابا زائدا، فلم يرض لذلك العمل ضده، سيما وأن تعيين «ستانيسلاس» كان لا يضر بمصالح الدولة مطلقا، فتم تعيين هذا الرجل ملكا لبولونيا يوم 7 سبتمبر سنة 1764.
وما استقر هذا الرجل على كرسي ملك بولونيا حتى خلق فيها المشاكل والاضطرابات طبقا لرغائب كاترينا، وسهل لها التداخل في شئونها الداخلية، فطلب عندئذ بتاريخ 25 نوفمبر من السنة نفسها سفيرا الروسيا والبروسيا من حكومة بولونيا جملة طلبات تخالف المصلحة البولونية، فرفضها مجلس نواب بولونيا، وكان رفضه هذا سببا لتداخل الروسيا، فدخلت بولونيا بجيوشها الجرارة، وأسالت الدماء، وأنحت على الكثيرين من الأبرياء، واستمرت الثورات في بولونيا تباعا، والعالم كله ناظر إليها بلا حراك، حتى بلغت الروسيا مرامها من هذه الديار التعسة، وصارت بولونيا مستقلة في الظاهر محكومة في الباطن بأهواء الروسيا وأغراضها.
وفي هذه الأثناء تعين المسيو «شوازيل» وزيرا لخارجية فرنسا، وكان ألد أعداء الروسيا، وعلى الخصوص كان عدوا شخصيا لكاترينا، فكتب إلى المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا من الآستانة يأمره بعمل كل ما في سعته لخلق المشكلات بين الدولة العلية والروسيا، وأرسل إليه ثلاثة ملايين من الفرنكات؛ ليشتري بها ذمم بعض رجال الدولة، وكان الوطنيون البولونيون حين ذاك يستغيثون بالدولة ليلا ونهارا.
وحصل أن بعض قسوس الروسيا جاءوا بلاد الدولة، وأخذوا يهيجون أهالي اليونان وكريد والجبل الأسود باسم الدين، حاملين بأيديهم وعلى صدورهم الصليب، وقام وقتئذ قسيس اسمه «ستيفانو بيكولو» في شهر أكتوبر عام 1767 يدعو أهالي الجبل الأسود للقيام ضد المسلمين، فهاجت الأهالي هياجا شديدا.
فلما رأت الدولة ذلك، ووقفت على الفظائع العديدة التي جرت في بولونيا أنذرت الدولة الروسية بالخروج من بولونيا، فرفضت وكان ذلك سبب الحرب.
Неизвестная страница
وقد كانت الأمة العثمانية ميالة إلى البولونيين حتى إن المسيو «زيجلين» سفير بروسيا بالآستانة كتب إلى حكومته بتاريخ 26 يوليو سنة 1768 يقول: «إنه وإن كانت الحكومة العثمانية مطلقة النفوذ والسلطة في بلادها، ولكن للرأي العام صوتا إذا ارتفع لا تقدر الحكومة على مخالفته.»
وعندما علمت الروسيا باستعداد الدولة العلية للحرب أرسلت عساكرها واحتلت «كاركوفيا»، وقد أعلنت الحرب يوم 6 أكتوبر سنة 1768، وكان ذلك بإلقاء الدولة العلية سفير الروسيا في القصر المعروف «بقصر السبعة أبراج»، وبهذه الصورة كانت تعلن الحرب في القرن الماضي.
وقد أرسلت الدولة عندئذ منشورا للدول الأوروبية بتاريخ 30 أكتوبر سنة 1768 أبانت فيه أسباب إعلانها الحرب للدولة الروسية قائلة: «لقد تجاسرت الروسيا، وقضت على حرية بولونيا، وأجبرتها على قبول ملك ليس من عائلة ملوكية، ولم تنتخبه الأمة ملكا عليها طبقا لقوانينها وشرائعها، وأسالت الروسيا الدماء، وذبحت كل من خالف سياستها وأغراضها، وخربت الأراضي والأملاك.»
وقد أدهش إعلان الحرب بهذه الصورة كل رجال السياسة الأوروبية، وجعل كل همه الانتفاع منها. أما المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا، فقد أعاد إلى حكومته الثلاثة ملايين، وكتب إليها: «إن رجال تركيا لا تشترى ذممهم؛ لأنهم يعملون بمقتضى مصلحة بلادهم، وشرف دولتهم.»
ومضت أشهر طويلة اشتغل فيها كل خصم بالتجهيز والتحضير، ولم تقم الحرب الحقيقية إلا في شهر يوليو عام 1769 على شواطئ نهر «الدينستر»، وقد اقتتل الجيشان طويلا حول «خوتين»، واختلف المؤرخون في إثبات وجود فرق بروسية بين الجيش الروسي، فقال بعضهم بوجودها بمقتضى المعاهدة التي بين الروسيا والبروسيا، وأنكر البعض الآخر وجودها، ولكن الرأي الأول أقرب إلى العقل والحقيقة.
وفي يوم 16 سبتمبر هجم الجيش العثماني على الجيش الروسي، ووقعت بينهما معركة هائلة انتهت بانتصار الروسيين واستيلائهم على مقاطعة «البغدان»، وأخذوا بعد هذه الواقعة قلاع خوتين وأزوف وتاجا نروج، ثم احتلت العساكر الروسية يوم 16 نوفمبر سنة 1796 مدينة «بوخارست» التي هي عاصمة رومانيا الحالية. أما مقاطعة البغدان، فهي تكون مع مقاطعة الأفلاق مملكة رومانيا نفسها.
وقد اغترت الروسيا بهذا الانتصار، وأرادت فصل اليونان من أملاك تركيا - وكانت أرسلت من قبل بطلا اسمه «أورلوف» ليهيج اليونانيين ضد الدولة العلية - فأرسلت في البحر الأبيض المتوسط في آخر سنة 1770 أسطولين؛ الأول: تحت قيادة «سبيروتوف» الروسي، والثاني: تحت قيادة «ألفنستون» الإنكليزي، وقد تجمعت عندئذ جماعات اليونان، وتظاهرت بالقيام في وجه الدولة، ولكنها تفرقت شذر مذر عند تقدم الأتراك والألبانيين، فرجعت الروسيا بخفي حنين، ويئست من تخليص اليونان من ذلك الحين.
ثم أرادت الروسيا أن تنتقم من الدولة العلية؛ لفشل مساعيها في اليونان، فعاكست مراكبها وأسطولها، ولم تأخذ بعد حرب وقتال عنيفين إلا بعض السفن العثمانية في «تشمسه». •••
ولقد كانت سياسة كل دولة من الدول الأوروبية في هذه الحرب مختلفة عن الأخرى، فكانت فرنسا مصادقة للدولة العلية ومعادية للروسيا، وكانت الدولة الوحيدة المنتصرة لبولونيا، ولكن صداقتها للدولة العلية وانتصارها لبولونيا لم ينتجا أقل نتيجة؛ لأن الدول الثلاث الروسيا والبروسيا والنمسا اتفقت في آخر الأمر - كما سيراه القارئ - على تجزئة بولونيا، فكان من المستحيل على فرنسا مساعدة تركيا مساعدة فعلية؛ خوفا من اشتعال نار الحرب بينها وبين الدول الأوروبية، ولكن ما كانت تخافه لنفسها تشجع الدولة العلية على الإتيان به فهي كانت تخشى الحرب، ولكنها كانت أول محرضة للدولة العلية عليها، وهكذا الدول كلها والأمم جميعها متى رأت في عمل من الأعمال احتمال الخير والشر تفضل أن يقوم به غيرها، فإن أنتج خيرا استفادت منه، وإن أنتج شرا اجتنبت أضراره. وكان «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر ذا سياسة خرقاء، حيث كانت النمسا ساخرة من تحالفها مع فرنسا لا تقبل منها نصيحة ولا تتبع لها رأيا، وكانت سياسة «شوازيل» ترمي إلى إضعاف الروسيا وتركيا في آن واحد، كما يتضح ذلك جليا من مذكرة رسمية أرسلها في شهر ديسمبر عام 1769 إلى البرنس «كونيتز» وزير النمسا، وجاء فيها: «وترى فرنسا أن أحسن شيء يعود على تحالفنا - أي تحالف فرنسا والنمسا - بالفائدة هو أن تستمر الحرب بين الروسيا وتركيا مع انتصارات متبادلة من الجانبين حتى يضعف الخصمان بدرجة واحدة، وإذا ساعدتنا الأيام تكون لنا الفرص كلها والفوائد أجمعها.»
أما النمسا فكانت قد عقدت مع الروسيا في عام 1753 معاهدة ضد الدولة العلية، ولكنها بطلت عام 1762 بسبب تحالف الروسيا مع البروسيا، ولما أعلنت الحرب بين الدولة العلية والروسيا عام 1768 اتبعت النمسا في بادئ الأمر سياسة الحياد مع مسالمة الدولة العلية.
Неизвестная страница
وفي ختام عام 1769 كلفت النمسا سفيرها في الدولة العلية المسيو «توجوت» أن يعرض على وزراء جلالة السلطان رغبة النمسا للتداخل في عقد الصلح بين المتحاربين، ولم تكن رغبة النمسا الحقيقية من هذا التداخل عقد الصلح، بل كان غرضها الوصول إلى امتلاك مقاطعة من أملاك تركيا وتوسيع نطاق المملكة النمساوية.
وسيجد القارئ في خلال هذا الفصل الخطة التي جرت عليها النمسا مع الدولة العلية، وكيف أنها حالفتها ضد الروسيا، وعملت في الوقت نفسه على الاتفاق مع الروسيا ضد تركيا!
وأما البروسيا، فقد كان ملكها وقتئذ «فريدريك الكبير» المشهور بدهائه السياسي وقدرته الفائقة على الاستفادة من كل حادث أوروبي، وقد جعل سياسته في المسألة الشرقية الاستفادة من الحرب بين الدولة العلية والروسيا مع المحافظة على استقلال الدولة العلية، وكتب في مذكراته السياسية الشهيرة «إنه يوجد لنا طريقتان أمام تقدم الروسيا واتساع أملاكها: الأولى: إيقافها في تقدمها وفتوحاتها، والثانية - وهي أحكم طريقة: الاستفادة من تقدمها، واتساع أملاكها وفتوحاتها بمهارة.» وقد اتبع فريدريك الكبير الطريقة الثانية كما كتب في مذكراته فكان متحالفا مع الروسيا، وعلى تمام الصفاء مع تركيا، وبذلك كان يستفيد أكثر من غيره.
ولما قامت الحرب بين الدولة العلية والروسيا كان اشتغال فريدريك الكبير منحصرا في الوقوف على الخطة التي ستجري عليها النمسا، هل تبقى وفية لفرنسا حليفتها، أي مصافية لتركيا وبولونيا، أو تنخدع للروسيا فيفقد التحالف الروسي البروسي أهميته الأولى؟ وقد وجد عندئذ فريدريك بدهائه الغريب وذكائه العالي طريقة مثلى لفصل النمسا من فرنسا، ولمنعها من معاداة الروسيا في الشرق وفي بولونيا، ولبقاء التحالف الروسي البروسي بأهميته الأولى، فوضع لذلك مشروع تحالف ثلاثي بين الروسيا وبروسيا والنمسا يكون غرضه حل المسألة الشرقية، لا في تركيا نفسها، بل في بولونيا بأن تقسم هذه المملكة بين هاته الدول الثلاث.
وهذه الأمنية كانت أكبر أماني فريدريك الكبير أيام حكمه؛ لأنه كان يرى في تقسيم بولونيا ربحا كبيرا للبروسيا، واتساعا لنطاقها بضم بولونيا البروسية لها.
وأول مرة فاتح المسيو «سولمس» سفير بروسيا في سان بطرسبورغ المسيو «بابين» وزير الروسيا الأكبر في مسألة تقسيم بولونيا، كان جواب الوزير الروسي: إن تحالف الدول الثلاث يجب أن يرمي أيضا إلى تقسيم الدولة العلية. فلما سمع فريدريك هذا الجواب تخوف منه، وأهمل أمر التحالف الثلاثي في الظاهر.
وقد قلنا إن فريدريك الكبير كان يرى في بقاء الدولة العلية فائدة عظمة لبروسيا، وكان يستطلع بحدة ذهنه وقوة بصيرته من خلال الأيام الآتية أن مودة الروسيا للبروسيا لا تدوم أبد الدهر، وأن بقاء الدولة العلية قوية يكون كحاجز حصين أمام الروسيا، وكصخرة عالية واقفة أمامها، وبالجملة تكون للبروسيا قوة عظيمة يمكن الاعتماد عليها حسب مقتضى الحوادث.
وقد برهنت الأيام على أن فريدريك الكبير - وهو أول عامل على توسيع نطاق بروسيا، وأول واضع لمشروع الوحدة الألمانية الذي تم على يدي غليوم الأول وبسمارك - نظر نظرة بصير، فجاء من سلالته جلالة الإمبراطور غليوم الثاني مدركا أهمية التودد للدولة العلية وتوثيق الروابط بينه وبينها، فاستفاد العالم من هذه المودة المزدوجة، واستفادت ألمانيا منها كثيرا.
ولما علم فريدريك الكبير بجواب وزير الروسيا تخوف منه كما قدمنا، ولكنه لم يرجع عن عزمه الأول وهو العمل على تقسيم بولونيا، فرأى لنوال هذه البغية أن يتحبب إلى النمسا، ويتحد معها اتحادا سريا يوقع الروسيا في الارتباك والبلبال، فتضطر إلى قبول آرائه، وتدرك فائدة التحالف معه والعمل بنصائحه، وبالفعل تقابل في مدينة «نيس» مع «جوزيف الثاني» إمبراطور النمسا وابن «ماري تيريزيا» الشهيرة، وتوصل إلى عقد اتفاقية ودية معه في شهر أغسطس عام 1769.
فكانت نتيجة هذه الاتفاقية أن الروسيا صارت في بلبال زائد كما أراد فريدريك؛ فإنها كانت تجهل مضمونها، وكانت تظن أنها اتفاقية عقدت للعمل ضدها في المسألة الشرقية، فاضطرت إلى تجديد محالفتها مع البروسيا يوم 12 أكتوبر سنة 1769، واشترط جعل أجلها ممتدا إلى غاية عام 1780، فنالت بذلك البروسيا ما كانت تتمناه، وهو أن الروسيا عرفت مقدار تحالفها معها، وصار لآرائها عندها تقدير القبول والرضى، وباتفاقها مع النمسا اتفاقية ودية صارت حليفة الروسيا وصديقة النمسا، ووضعت بذلك الأساس لمشروعها العظيم؛ أي مشروع تقسيم بولونيا بين الدول الثلاث.
Неизвестная страница
وقد بعث فريدريك الكبير بأخيه البرنس هنري إلى سان بطرسبورغ لزيارة القيصر، فوصل عاصمة الروسيا يوم 12 أكتوبر سنة 1770، وقد تحادث كثيرا مدة وجوده في بطرسبورغ مع القيصرة ورجال السياسة الروسية في مشروع عقد تحالف ثلاثي بين الروسيا والبروسيا والنمسا، بقصد تقسيم بولونيا، فوجد لهذا المشروع قبولا عند الروسيين لم يكن عندهم من قبل.
وقد بذلت البروسيا في ذلك الحين جهدها في إقناع الدولة العلية بضرورة إيقاف الحرب والتوسط في الصلح حتى رضيت الدولة العلية، وطالبت بمذكرة تاريخها 12 أغسطس سنة 1770 من بروسيا والنمسا التوسط بينها وبين الروسيا في أمر عقد الصلح.
يرى القارئ مما تقدم سياسة كل من دول فرنسا والنمسا والبروسيا في المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر. أما إنكلترا فقد جرت في هذا القرن الماضي على سياسة مزدوجة، فكانت تساعد الروسيا في الحرب كل المساعدة، وتظهر للدولة العلية بمظهر الصديقة؛ لتقف على أسرارها حيث تطلع الروسيا عليها، ولما قامت الحرب بين الدولتين العلية والروسية كانت إنكلترا مشتغلة بأمور الهند التي كانت استولت عليها منذ بضع سنين من قبل.
ولما كانت الروسيا مصافية لإنكلترا وغير ميالة وقتئذ للاستيلاء على الهند، وسلبها من أيدي الإنكليز، وكانت فرنسا هي العدوة اللدودة لإنكلترا والدولة الوحيدة التي كانت تخاف منها إنكلترا على الهند - وقد كانت الهند من قبل ملكا لفرنسا ومستعمرة من مستعمراتها - اتبع الإنكليز سياسة التقرب من الروسيا والتودد إليها ومعاداة فرنسا والدولة العلية.
وفضلا عن الأسباب السياسية الداعية لذلك، فهنالك أسباب تجارية دفعت الإنكليز لمحاباة الروسيا، فقد كانت إنكلترا تتاجر وحدها في الشمال، وكانت واردات الروسيا كلها من إنكلترا، وكان الكثيرون من البحارة الإنكليز موظفين في المراكب الروسية، وقد أراد «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر أن يضرب المراكب الروسية بالعمارة الفرنساوية، وقدم بذلك مذكرة لمجلس نظار فرنسا ولكنها رفضت، وقبل رفضها أعلنت وزارة لندره أن كل عمل يعمل ضد الروسيا يعد إهانة لإنكلترا واعتداء عليها، وهو قول يبين مقدار ميل الإنكليز للدولة الروسية في ذلك الحين، أو بعبارة أصرح يبين مقدار المكاسب العظيمة التي كانت تكسبها إنكلترا من الروسيا.
ومن أكبر الأسباب التي جعلت إنكلترا ضعيفة الصوت في مسائل الشرق في ذلك الحين هو اضطراباتها الداخلية، وقيام الأمريكيين بالثورة ضدها مطالبين بالاستقلال الذي نالوه بدماء أبطالهم، أي بأعز الأثمان.
ومن غريب أمر السياسة الإنكليزية أنها مع محاباتها للروسيا كل المحاباة أرادت أن تظهر لتركيا بمظهر الصداقة كما قدمنا؛ فعرضت عليها في صيف عام 1770 أن تتداخل بينها وبين الروسيا لعقد الصلح، فأجابت الدولة العلية سفير إنكلترا بالآستانة «السير موري» بمذكرة حكيمة جاء فيها: «إنه لمن الأمور المدهشة الخارقة للعادة أن إنكلترا تعرض على الباب العالي توسطها في الحرب مع أن لها سفنا في الأسطول الروسي حاربت ضدنا؛ ولذلك نحن نعتقد أن طلبها التوسط في الحرب ليس إلا ستارا لأغراض أخرى ينويها العدو «أي الروسيا»، فلتعلن إنكلترا خطتها وسلوكها بدون مراوغة حتى يعلم الباب العالي مع أي المتحاربين هي أمعه أو ضده؟!» وقد أحدثت هذه المذكرة الحازمة تأثيرا شديدا لدى الإنكليز، وأفهمتهم أن الأتراك خبيرون بسياستهم وبما فيها من الغش والنفاق، فاضطروا لسحب ضباطهم وعساكرهم من الأساطيل والجيوش الروسية، ولكن ذلك جاء بعد أن قضت الحرب معظمها.
ولما طلبت الدولة العلية من بروسيا والنمسا التوسط في أمر الصلح، أبلغت إنكلترا الروسيا هذا الطلب لتأخذ حذرها، فكانت وظيفة إنكلترا في هذه المسألة أشبه بوظيفة جاسوس على الدولة العلية للروسيا. •••
ولما علمت الروسيا بواسطة الإنكليز بأمر طلب الصلح، أرادت أن تعرقل مساعي البروسيا والنمسا، فأمرت الجنرال رومانتسوف بتاريخ 26 سبتمبر سنة 1770 أن يكتب إلى الصدر الأعظم بأن الروسيا مستعدة للمناقشة مع الباب العالي مباشرة في أمر الصلح متى أطلق سراح «أوبرسكوف» سفير الروسيا في الآستانة، وبذلك منعت الروسيا البروسيا والنمسا من التداخل في أمر الصلح مدعية بأن تداخل هاتين الدولتين يدعو لتداخل فرنسا، وهو الأمر الذي ترفضه القيصرة رفضا باتا.
وفي هذه الأثناء استولى الجيش الروسي على مدينة بندر وأكرامان وبرايلا، ولما طال أمر المراسلات بشأن الصلح بين فريدريك وكاترينا كتبت قيصرة الروس إلى ملك بروسيا بتاريخ 20 سبتمبر من السنة نفسها توضح له الشروط التي تشترطها لعقد الصلح، وهي الاستيلاء على أزوف وكاباردا مع استقلال البغدان والأفلاق، أو بقاء هاتين المقاطعتين تحت حكم الروسيا مدة ربع قرن كغرامة حربية، واستقلال ترتار البسرابي والقرم وحرية الملاحة في البحر الأسود والتنازل عن جزيرة للروسيا في الأرخبيل، وعفو عام عن كل اليونانيين الذين ثاروا ضد الدولة العلية أثناء الحرب.
Неизвестная страница
فلما اطلع فريدريك على هذه الشروط اندهش غاية الاندهاش من مطالب الروسيا وأطماعها، وقد حصل وقتئذ أن رئيس أفندي - وهي وظيفة كانت في الدولة العلية بمثابة وظيفة ناظر الخارجية - أخبر سفيري النمسا وبروسيا أن الدولة العلية لا تقبل المخابرة مع الروسيا مباشرة بشأن الصلح، ولكنها تقبل توسط النمسا والبروسيا، وأبلغهما أنه أعلن ذلك للجنرال رومانتسوف.
وقد كتب فريدريك لما اطلع على شروط الصلح المبعوثة إليه من القيصرة إلى أخيه البرنس هنري - الذي كان لا يزال بسان بطرسبورغ - بتاريخ 3 يناير سنة 1771: «لقد اندهشت اندهاشا عظيما لما اطلعت على الشروط التي تقدمها الروسيا للصلح، وأنه يستحيل علي أن أقدمها للأتراك أو للنمساويين؛ لأنها شروط لا يمكن قبولها.» وأبان فريدريك في كتابه لأخيه أن هذه الشروط لا يمكن لدول أوروبا قبولها، وأنها تعتبر إعلان حرب للنمسا، وقد كتب بنفسه للقيصرة بتاريخ 5 يناير سنة 1771 أنها إذا كانت تريد اجتناب الحرب مع النمسا، يجب عليها أن تكتفي بأخذ أزوف والكاباردا وبحرية الملاحة في البحر الأسود.
وفي أثناء ذلك كانت القيصرة كاترينا تتحدث مع البرنس هنري بسان بطرسبورغ في أمر تقسيم بولونيا، فلما كتب البرنس هنري إلى أخيه بذلك سر ملك بروسيا حيث جاء هذا الأمر موافقا لرغائبه، واجتهد في جعل حل المسألة الشرقية في بولونيا فقط لعلمه بما لبقاء الدولة العلية من اللزوم والأهمية، فأراد تقسيم بولونيا على شرط أن الروسيا لا تأخذ البغدان والأفلاق.
وقد جرى عندئذ أن النمسا طمحت لمحالفة تركيا ضد الروسيا، والعمل للاستفادة من هذه المحالفة ولو ضد تركيا نفسها، فبعث «كونيتز» رئيس الوزارة النمساوية إلى المسيو «توجوت» سفير النمسا في الآستانة يأمره بمخابرة رجال الدولة العلية في أمر عقد محالفة بين النمسا وتركيا يشترط فيها أن تركيا تدفع سنويا للنمسا 34 مليونا من الفلورينو، أي فوق الثلاثة ملايين من الجنيهات، وأن تتنازل لها عن «الأفلاق» ومدينة بلغراد، وأن تجعل للنمساويين في ممالك الدولة العلية أهم الامتيازات التجارية، وفضلا عن كل هذه الشروط تقدم للنمسا في حالة الحرب من خمسين إلى ستين ألف مقاتل، وتشترط النمسا على نفسها مقابل ذلك أن تحارب الروسيا مع تركيا إذا لم ترض القيصرة بطريق المخابرات إعادة البلاد التي استولت عليها إلى الدولة العلية.
وقد سعى «كونيتز» عندئذ لدى فريدريك ملك بروسيا أن يبقى على الحياد إذا قامت الحرب بين النمسا والروسيا، ولكن فريدريك اتبع طريق المراوغة فلم يجب بجواب صريح.
أما فرنسا حليفة النمسا، فكانت تعمل في هذا الحين على مساعدة تركيا بأسطولها مقابل عوض مالي، ولكن «توجوت» سفير النمسا - الذي كان كاتب سرا الحكومة الفرنساوية كجاسوس لها مقابل أجرة شهرية، وكان في الحقيقة يغشها، ولا يخدم إلا مصلحة النمسا وطنه - بذل أقصى جهده من حين علم بهذا المشروع على إحباط مسعى فرنسا، فأبان لرجال الدولة العلية أن مساعدة الأسطول لا تفيد شيئا ما؛ لأن الحرب برية محضة لا بحرية، وأن قصد فرنسا ليس مساعدة الدولة العلية، بل معاداة الروسيا ومد أمد الحرب إلى ما شاء الله. فأفلح «توجوت» واقتنع رجال الدولة بصدق أقواله وصحة أفكاره، ورفضوا مشروع فرنسا.
وقد كان رجال الدولة العلية يؤملون أن اتفاق فرنسا مع الدولة يحمل النمسا - حليفة فرنسا - على مساعدة تركيا، ولكن النمسا كانت تخشى هذا الأمر لما فيه من التقيد لها، ولعلمها بأنها لا تستطيع أن تخدع تركيا إذا كانت فرنسا متحدة معها، بخلاف ما إذا كانت هي المتحدة مع الدولة العلية دون غيرها؛ ولذلك كان فشل مشروع فرنسا مضرا بالدولة العلية مفيدا للنمسا حليفة فرنسا!
ولما فشل مسعى فرنسا عمل «توجوت» على عقد التحالف بين النمسا وتركيا، ومن حسن حظ النمسا وقتئذ أن خضعت تاتار بلاد القرم للروسيا، وصارت كتاتار البسرابي، فاضطرت الدولة بهذا السبب لتعجيل الاتفاق مع النمسا وقبول معاهدة التحالف؛ فأمضت المعاهدة مساء يوم 6 يوليو سنة 1771، وشروط هذه المعاهدة: أن النمسا تتعهد بمساعدة تركيا ضد الروسيا، وعدم سلخ أي جزء من الأملاك العثمانية، والمحافظة على استقلال بولونيا مراعاة لشرف الدولة العلية، وأن تتعهد تركيا بدفع مبلغ 11350000 فلورينو للنمسا - لا 34 مليونا كما طلبت النمسا أولا - أي نحو المليون جنيها، وبالتنازل للنمسا عن أراضي «الأفلاق»، وبمساعدة الرعايا النمساويين في بلاد الدولة العلية على ترويج تجارتهم وصنائعهم، واشترط بين الدولتين المتعاهدتين أن هذه المعاهدة يكتم أمرها خصوصا على فرنسا حليفة النمسا إذ ذاك.
وقد رفع «توجوت» صورة هذه المعاهدة إلى حكومة دولته، وطلب التوقيع عليها.
فلما وصلت صورة المعاهدة إلى «كونيتز» اطمأن من جهة الدولة العلية، وأخذ يهدد الروسيا مؤملا بهذا التهديد حملها على مخابرته في شأن تقسيم الدولة العلية، وقد كان ذلك، وأرسلت الروسيا الكونت «ماسين» حاملا لجملة مشروعات تختص بالدولة العثمانية، ومكلفا من قبل القيصرة بعرضها على «كونيتز»، ومن ضمن المشروعات مشروعان يشتملان على عقد اتحاد بين النمسا والروسيا يكون غرضه الوحيد إخراج الأتراك من أوروبا، وتقسيم الدولة العلية. فالمشروع الأول: يبين صورة تقسيمها بين الدولتين بأن تأخذ النمسا صربيا والبوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا، ويترك للروسية بقية أملاك الدولة العلية بما فيها الآستانة. وفي المشروع الثاني: تأخذ النمسا الأفلاق وصربيا وبلغاريا والهرسك، وتأخذ الروسيا مقدونيا وألبانيا ورومانيا وقسما عظيما من الأرخبيل وآسيا الصغرى والآستانة، وتأخذ كذلك الروسيا الأراضي الواقعة على شمال الدانوب، وشواطئ البحر الأسود. أما بلاد القرم والمورة فتبقى مستقلة.
Неизвестная страница
والمشروع الثالث: يتضمن بقاء الترك على الشاطئ الشمالي للدانوب، وإعطاء صربيا والبوسنة والهرسك للنمسا، وما على شواطئ البحر الأسود للروسيا، مع استقلال التاتار ... وقدم الكونت «ماسين» غير ذلك مشروعات أخرى تتعلق بتقسيم بولونيا بين الروسيا والنمسا والبروسيا.
وقد اطلعت النمسا على هذه المشروعات كلها، وتباحثت فيها واحدا بعد آخر في وقت كانت تعد فيه متحالفة مع تركيا تحالفا يقتضي رد الروسيا عن أملاك الدولة العلية وبقاء تركيا سليمة كما كانت قبل الحرب والمحافظة على احتلال بولونيا ...
وبينما كانت النمسا تتباحث في هذه المشروعات الغريبة، كان فريدريك الكبير ملك بروسيا يسعى لتقسيم بولونيا مع بقاء مقاطعات الدانوب تحت سلطة الدولة العلية، أي لحل المسألة الشرقية في بولونيا كما قدمنا.
أما الدولة العلية: فقد قامت بما تعهدت به نحو النمسا، وأرسلت إلى حكومة فيينا بتاريخ 25 يوليو سنة 1771 جانبا من مبلغ المليون جنيه الذي فرضته على نفسها، وقد طلبت الدولة العلية جملة مرات التوقيع على معاهدة التحالف، غير أن النمسا كانت تهمل طلب الدولة رغبة منها في الوصول إلى نوال مآربها وأغراضها بدون حرب وقتال، وقد كانت سياسة «كونيتز» ترمي إلى عقد اتفاق يفيد النمسا فائدة عظمى، إما مع الروسيا ضد تركيا، أو مع تركيا ضد الروسيا؛ فلذلك كان يؤجل كل مرة أمر التوقيع على معاهدة التحالف مع تركيا أملا منه في الوصول إلى عقد اتفاق مع الروسيا يكون أكبر فائدة وأعظم نفعا، وكان يخشى «كونيتز» أنه إذا أمضى على معاهدة الاتحاد مع تركيا تقسم الروسيا والبروسيا بلاد بولونيا بين دولتيهما بدون أن تأخذ النمسا شيئا منها.
ولما رأى كونيتز أن الدولة العلية تلح كثيرا في أمر التوقيع على عهدة التحالف، كتب إلى الحكومة العثمانية بتاريخ 14 أكتوبر سنة 1771 كتاب صدق وإخلاص قال لها فيه: «إن دولته محافظة على عهودها وفية في تحالفها.» ولكنه لم يرسل مع ذلك بالعهدة موقعا عليها.
وفي هذه الأثناء علم سفير إنكلترا بالآستانة اللورد «موري» بأمر المبلغ الذي أرسلته الدولة العلية للنمسا فأخبر سفير دولته في باريس، وهذا أخبر سفير البروسيا بها. فلما علم فريدريك الكبير بهذا الخبر بعث به في الحال إلى القيصر، وكتب إلى سفيره بالآستانة يأمره بأن يرشد وزراء الدولة العلية إلى حقيقة أغراض النمساويين، ويبين لهم أنها تعمل للإضرار بمصالح حكومة جلالة السلطان، وكتب كذلك فريدريك إلى سفيره بباريس يأمره أن يعرض على الوزارة الفرنساوية أن تطلب عقد مؤتمر بالآستانة لعقد الصلح بين الروسيا وتركيا. كل ذلك قصد به فريدريك الكبير أن يظهر النمسا لدول أوروبا بمظهر الدولة الخداعة في ودها الخائنة لعهودها مع تركيا وفرنسا في آن واحد.
وقد كانت الحرب مع تركيا أضعفت الجيوش الروسية كثيرا، وقتالها في بولونيا جعلها في أشد حاجة للراحة والسكينة، فضلا عن أن المال كان ينقص وقتئذ الدولة الروسية، فكتبت «كاترينا» إمبراطورة الروسيا بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1771 إلى فريدريك الكبير ملك بروسيا تخبره أنها تنازلت عن مطالبها بشأن «البغدان والأفلاق»، ولكنها تطلب من تركيا التنازل لها عن بعض مدائن منها «بندر» و«أوتشاكوف»، وتعلمه بأنها قبلت تقسيم بولونيا، وإعطاء البروسيا ما طلبته منها؛ أي بولونيا البروسية و«فارميا»، وتطلب القيصرة مقابل ذلك من ملك بروسيا أن يسير عشرين ألف جندي على مقاطعتي «الأفلاق والبغدان» إذا قامت النمسا بمحاربة الروسيا.
وعند وصول هذا الكتاب إلى فريدريك الكبير ملك البروسيا كان همه موجها إلى تقسيم بولونيا وتوسيع دائرة أملاك بلاده، ففرح غاية الفرح بكتاب القيصرة، وانتهى الأمر باتفاق الروسيا والبروسيا على تقسيم بلاد بولونيا التعسة، وصارت النمسا بهذا الاتفاق بين أمرين: إما الوفاء بالعهد لتركيا وفرنسا ومعارضة مشروع تقسيم بولونيا، وإما الاتفاق مع الروسيا والبروسيا وعدم احترام عهودها نحو تركيا وفرنسا. فاختار كونيتز الأمر الثاني عاملا بالمبدأ السياسي القائل: «بأن لا عهد ولا شرف في السياسة»، ووافق الإمبراطور جوزيف والإمبراطورة ماري تيريزيا والدته على خطة كونيتز، وكان ذلك في أوائل عام 1772.
وفي يوم 28 يناير سنة 1772 كتب «كونيتز» إلى حكومة الروسيا يبلغها قبول النمسا لمشروع تقسيم بولونيا، ولمطالب القيصرة نحو الدولة العلية، مظهرا أمله وأمل حكومته في أن النمسا تأخذ من أملاك الدولة العلية شيئا كما أخذت من بلاد بولونيا، أي أن تقسم الدولة العثمانية كما قسمت بولونيا!
وبذلك يرى القارئ أن النمسا بعد أن تحالفت مع تركيا على أن ترد الروسيا عن أملاكها بواسطة المخابرات السياسية أو بواسطة الحرب وأن تدافع عن استقلال بولونيا، وبعد أن قامت إليها الدولة العلية ما طلبت من المال، عرضت بنفسها على الروسيا والبروسيا في يناير عام 1772 تقسيم بولونيا وتجزئة الدولة العلية!
Неизвестная страница
وهي نتيجة اعترفت «ماري تيريزيا» نفسها بأنها لا تشرف المملكة النمساوية، وقالت عنها في رسائلها السياسية: «إنها سياسة جرت عليها النمسا ضد الشرف، وضد مجد المملكة، وضد الذمة والعقيدة.»
وقد تم اتفاق الروسيا والبروسيا والنمسا على تقسيم بولونيا، وانتهى الأمر بتقسيم هذه المملكة بفضل دسائس الدخلاء، وانقسام أهلها على بعضهم، وذهبت هذه الأمة البولونية الشريفة المشهورة بالوطنية الفائقة والشهامة العظيمة ضحية مطامع الدول الثلاث، وفريسة الدسائس الأجنبية والشقاق الأهلي.
وقد امتنعت الدولة العلية عن إرسال المدد المالي للنمسا لما رأت تلاعبها معها وتلونها في سياستها، فجعل «كونيتز» عدم إرسال المدد المالي سببا لحل التحالف بين دولته وتركيا!
ولما علمت الدولة العلية بأن الروسيا قابلة لعقد الصلح بدون استيلائها على مقاطعتي «البغدان والأفلاق» رضيت بالصلح، وعقدت مع حكومة الروسيا هدنة بتاريخ 10 يونيو سنة 1772، واتفق رجال الدولتين على اجتماع مندوبين من قبليهما بمدينة «فوكتشاني» للمناقشة في شروط الصلح، فاجتمع المندوبون، ولبثوا مجتمعين عشرين يوما اتفقوا فيها على سائر الشروط إلا على شرط استقلال الترتار. فقد طلب مندوبو تركيا بقاء الترتار تحت سلطة الدولة العلية؛ لأن جلالة السلطان بصفته خليفة المسلمين لا يمكنه التنازل عن السلطة عليهم. فرفض الروسيون هذا الطلب وبذلك انحل المؤتمر، وبعد انحلاله بزمن عرضت الروسيا على الدولة العلية عقد مؤتمر آخر فقبلت الدولة وعقد المؤتمر بمدينة «بوخارست» بعد أن عقدت هدنة ثانية جعل آخر أجلها 21 مارس سنة 1773، وقد اتفق مندوبو الروسيا وتركيا في هذا المؤتمر على مسألة الترتار، فرضيت الروسيا ببقائهم تحت سلطة جلالة السلطان، ولكنها طلبت من تركيا التنازل لها عن «كرتش» و«يني قلعة»، فلم تقبل تركيا ذلك، وانحل هذا المؤتمر أيضا - كما انحل المؤتمر الأول بغير نتيجة - في أوائل يناير 1773.
وقد عادت المخابرات مرة أخرى بين الدولتين بتاريخ 15 فبراير سنة 1773 ولكن الاتفاق كان مستحيلا؛ لأن الروسيا كانت تطالب بعزم ثابت بكرتش ويني قلعه، وساسة الدولة العلية كانوا يرفضون طلب الروسيا أشد الرفض؛ لأنهم كانوا يرون - والحق معهم - أن أخذ هذين الموقعين يجعل الآستانة في خطر مستمر من جهة الروسيا؛ ولذلك أقفل باب المخابرات، وعادت الحرب بين الدولتين، فأمرت القيصرة «رومانتسوف» جنرال الجيش الروسي بأن يسير وراء الدانوب، ويحمل على العثمانيين، فسار بأمرها الجيش الروسي يوم 13 يونيو سنة 1773، وحمل على «سيليستريا» - وهي مدينة ببلاد البلغار - ولكن الجيش العثماني انتصر عليه انتصارا عظيما، وقطع عليه خط الرجعة حتى فقد الجيش الروسي معظم رجاله، فقام عندئذ الجنرال فيسمان الروسي بعمل جملة مناورات اضطرت الأتراك للرجوع إلى الوراء، وقد مات في هذه المناورات الجنرال فيسمان نفسه، ولكنه أعاد للجيش الروسي بعض قوته.
وقد رأت الروسيا عندئذ أن مصلحتها تقضي عليها بعقد الصلح مع الدولة العلية، خصوصا وأن جيوشها انهزمت هزيمة شديدة بالقرب من «وارنا»، وأن أهل القرم أظهروا ميلهم للانضمام مع جلالة السلطان ضد الروسيا، فضلا عن أن ثورة أهلية قامت في الروسيا تحت قيادة رجل اسمه «بوجاتشيف» كانت تهدد القيصرة وملكها؛ فلذلك طلبت الروسيا من النمسا التوسط بينها وبين الدولة العلية في أمر الصلح مقابل جزء تعطاه من أملاك تركيا نفسها.
وفي ذلك الحين توفي المرحوم السلطان «مصطفى الثالث»، وتولى بعده السلطان «عبد الحميد الأول» فأمر باستمرار الحرب، ولكنها عادت بخسائر جمة على الدولة؛ لأن الجيش كان غير مستعد للقتال بعد الحروب الطويلة التي قام بها، فاضطر الصدر الأعظم إلى عرض الصلح على الجنرال «رومانتسوف»، وتم الاتفاق بينهما في 10 يوليو سنة 1774، وأمضيا بعد ذلك في 21 يوليو سنة 1774 على عهدة الصلح بمدينة «كوتشك قاينارجه»، وهي أشهر عهدة أمضت عليها الدولة العلية والحجر الأول للمسألة الشرقية، وعنوان النزاع بين المسيحية والإسلام، وأصل الحروب الطويلة التي وجهت ضد الدولة في القرن التاسع عشر والأزمات الشداد التي وقعت فيها.
وشروط هذه المعاهدة: أن الدولة العلية تتنازل للروسيا عن الكاباردا، وتضع مقاطعات الدانوب تحت حمايتها، وتعلن استقلال بلاد القرم تحت ضمانتها، وتتنازل لها عن «أزوف» «وكرتش» و«يني قلعة» وتعطيها حق الملاحة في البحر الأسود، وشبه حماية معنوية على رعايا الدولة العلية المسيحيين عموما والأرثوذكسيين منهم خصوصا.
وهذا الشرط الأخير كان ولا يزال آفة الدولة العلية في علاقاتها مع دول أوروبا، فكلها تتداخل في شئون الدولة باسم المسيحية، وإذا قامت الحرب بينها وبين إحدى الدول كانت العلة المسيحية وحقوقها، وأن سياسة الروسيا مع الدولة العلية في القرن الثامن عشر كانت كسياستها مع مملكة بولونيا التعسة، تخلق لنفسها حزبا في قلب المملكة يخلق لها الاضطرابات والمشاكل عند الحاجة؛ لتتداخل في شئون المملكة الداخلية باسم هذا الحزب وبحجة نصرته، ولكن هذه السياسة التي أفلحت في بولونيا تماما بفضل النمسا والبروسيا لم تفلح في تركيا تماما كما كانت تؤمله الروسيا؛ لما عند العثمانيين من الشهامة الحقيقية، ولما لجيشهم من القوة الهائلة، ولما بين الدول الأوربية من الشقاق والاختلاف بشأن أمور تركيا ومسائل الشرق.
أما النمسا: فقد انتهزت فرصة اشتغال الروسيا وتركيا بأمر الصلح، ووضعت يدها على جزء مهم من البغدان، وعرضت على الروسيا مقابل ذلك مشروعا يتضمن تحالفها معها ضد الدولة العلية!
Неизвестная страница
ولم توقع الحكومة العثمانية نهائيا على معاهدة «قاينارجه» إلا يوم 24 يناير سنة 1775.
ولم يمض على هذه المعاهدة زمن يسير حتى أحدثت الروسيا في بلاد القرم الاضطرابات بفضل الدخلاء العاملين بأمرها، وأرسلت جيشا جرارا إلى داخل البلاد بدعوى تسكين الاضطرابات، ولكن غرضها الحقيقي كان الاستيلاء على بلاد القرم، وبالفعل استولت عليها، وظهر للعيان أن الروسيا إنما كانت تعمل لإخراج هذه البلاد من حوزة الدولة العلية، وأن بذل جهدها في سبيل إعلان استقلالها لم يكن إلا ليسهل لها الاستيلاء عليها، وقد احتجت الدولة العلية ضد هذا العمل المخالف لشروط معاهدة «قاينارجه» وأرادت إعلان الحرب ضد الروسيا، ولكنها رجعت عن عزمها بنصائح فرنسا التي كانت تعلم أن الروسيا والنمسا متفقتان على تقويض أركان السلطنة العثمانية.
ولكن الروسيا كانت تبذل أقصى جهد للوصول إلى إعلان الحرب بينها وبين تركيا، فأرسلت مبعوثين من عندها؛ لتهييج بلاد اليونان والأفلاق والبغدان ضد السلطنة السنية، ونشرت الجواسيس في أنحاء الدولة العلية؛ ليحدثوا فيها القلاقل، ويخلقوا الاضطرابات. فلما رأت الدولة العلية ذلك، وأن لا مناص لها من الحرب طلبت من سفير الروسيا بالآستانة أن يخابر دولته في تسليم حاكم الأفلاق الذي عصى أمر الدولة والتجأ إلى الروسيا، وفي عزل قناصل الروسيا المهيجين للأهالي في بلاد الدولة، وفي منح الدولة العلية حق تفتيش مراكب الروسيا التجارية التي تمر من بوغاز الآستانة.
فرفضت الروسيا هذه الطلبات، وكان ذلك الرفض إعلانا للحرب بينها وبين الدولة العلية.
ولما كانت النمسا متفقة مع الروسيا على مساعدتها ضد تركيا، أرسل جوزيف الثاني إمبراطور النمسا جيشا عظيما لمحاربة الأتراك والاستيلاء على مدينة «بلغراد» فانهزم جيشه أمام العثمانيين، واضطر للعودة إلى مدينة «تمسوار» ببلاد المجر حيث اقتفى أثره الجيش التركي وهزمه هزيمة عظيمة.
أما الجيش الروسي، فقد استولى في هذه الأثناء على مدينة «أوزي» وبينما الجيش العثماني يقاوم جيش الروسيا والنمسا إذ مات المرحوم السلطان «عبد الحميد الأول» في 7 أبريل سنة 1789، وتولى بعده السلطان الغازي «سليم خان الثالث» حيث أمور الدولة مرتبكة والحرب قائمة على قدم وساق، وقد انتهز الروسيون فرصة انتقال الملك في الدولة العلية، واتحدوا مع النمساويين في الحركات العسكرية، وتولى القيادة العامة قائد واحد، فانتصر الجيشان على جيش الدولة، واستولى الروسيون على مدينة «بندر» واحتلوا جزءا عظيما من بلاد الأفلاق والبغدان وبسرابيا، ودخل النمساويون بلاد الصرب ومدينة بلغراد.
وقد مات حين ذاك جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، وعقبه على سرير المملكة النمساوية ليوبولد الثاني، فسعى في عقد الصلح مع الدولة العلية تخوفا من قيام النمساويين بالثورة ضده تقليدا للأمة الفرنسوية التي كانت ثائرة وقتئذ ثورتها الأولى الكبيرة ضد لويس السادس عشر. فعقدت عهدة بين النمسا والدولة العلية في أغسطس سنة 1791 بمدينة «زشتوي» وقد ردت النمسا إلى الدولة العلية بمقتضى هذه المعاهدة بلاد الصرب وبلغراد التي كانت في قبضتها، ولم تخسر الدولة العلية من هذه الحرب مع النمسا خسارة تذكر.
أما الروسيا: فقد استمرت بمفردها على محاربة الدولة العلية حتى توسطت بينهما البروسيا وإنكلترا وهولاندا، فأمضيت بينهما معاهدة بمدينة «ياش» أخذت الروسيا بمقتضاها بلاد القرم نهائيا وبساربيا والبلاد الواقعة بين نهري بوج دينستر ومدينة «أوتشاكوف».
وبذلك انتهت هذه الأزمة الشديدة التي جاءت في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت عنوانا لأزمات شداد توالت بعد بعضها في القرن التاسع عشر. نأتي عليها الواحدة بعد الأخرى.
المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر
Неизвестная страница
ليس غرضنا أن نأتي في هذا الفصل على تاريخ الدولة العلية في القرن الحاضر، بل على أشهر وأهم أزمات المسألة الشرقية؛ فلذلك نهمل الحوادث الصغار، ونفصل الأزمات الشداد أزمة بعد أخرى. (1) الأزمة الأولى: استقلال اليونان
كل من قرأ تاريخ الدولة العلية يعلم أن المرحوم السلطان الغازي «محمد الثاني» لما فتح الآستانة أمن الناس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم على أموالهم وأرواحهم ودياناتهم وتقاليدهم، حيث اتبع أوامر الشرع الشريف ونشر راية الاعتدال الديني، فنال اليونانيون من هذه المعاملة الحسنة ما لم يكن يخطر لهم على بال من السعادة والرفاهية، ورأوا من سلطان آل عثمان إكراما لهم واحتراما لدينهم ولرجال دينهم، حتى إنه لما انتخب بطريرقهم بعد فتح الآستانة قال له المرحوم السلطان محمد الثاني: «كن بطريرقا لليونان والله يحميك، وفي كل الأحوال والظروف اعتمد على مساعدتي، وتمتع بكل الامتيازات التي كانت لأسلافك من قبل.»
وقد كانت هذه المعاملة الإسلامية فريدة في نوعها، غريبة في بابها، فإن الكاثوليكيين أنفسهم كانوا يعاملون اليونانيين بالاحتقار والازدراء، ويستحيل على المؤرخين أن ينكروا على محمد الفاتح وعلى المسلمين هذه الصفات العالية والمكارم الجليلة التي ظهرت في الآستانة بعد الفتح كشمس تبدد الظلمات، وآية من أكبر آيات الدين الإسلامي الباهر.
وقد أدى هذا الاعتدال الديني إلى نمو التجارة في أيدي اليونانيين، فصاروا بفضل الدولة العلية وبفضل تساهلها الديني أغنياء أثرياء عائشين في أتم الراحة والهناء، ولكنهم لم يحفظوا للدولة العلية عهدا ولم يرعوا لها نعمة، بل أنكروا المعروف والجميل، وصاروا في الصف الأول من أرباب الدسائس العاملين ضد السلطنة العثمانية، وأضر الآلات لأعداء الدولة في قلبها.
وقد بلغت ثقة الدولة العلية برعاياها على اختلاف دياناتهم وأجناسهم وحسن نواياها نحو المسيحيين المحكومين بها أنها عينت لمقاطعات صربيا والأفلاق والبغدان حكاما من اليونانيين مؤملة أنهم يخدمونها بصدق وأمانة كما أكرمتهم وأكرمت أمتهم، فكانوا الأعداء الألداء في ثياب الأصدقاء الأمناء، وعوضا عن أن يقوموا بالواجب عليهم نحو دولة رفعتهم إلى أسمى المناصب استعملوا سلطتهم ونفوذهم في تهييج أهالي هذه البلاد ضد الدولة العلية، وإلقاء بذور الثورات والاضطرابات فيها. •••
وقد أسس المهيجون من اليونانيين جمعية في بلاد الروسيا اسمها «هيتري» - أي الجمعية اليونانية الوطنية - غرضها: استقلال اليونان والانتقام من الدين الإسلامي، وقد ساعد القيصر هذه الجمعية كل المساعدة؛ فأخذت تنمو وتنتشر، وأخذ الكثير من أعضائها يقتلون ويسلبون باسمها وبدعوى المطالبة باستقلال اليونان، وكان «إسكندر إيبسيلانتي» و«ديمتريوس إيبسيلانتي» أهم أعضاء الهيتري في خدمة القيصر الشخصية، وكان «كابوديستريا» زعيم الثورة اليونانية أحد وزراء القيصر إسكندر الأول.
وكان ابتداء الثورة اليونانية دخول «إيبسيلانتي» في المقاطعات اليونانية في عام 1821 محرضا على الثورة بلاد اليونان كلها، وقد اعتبر هذا العمل بإيعاز من الروسيا، وكان من البديهيات أن «إيبسيلانتي» الذي كان ضابطا بمعية القيصر عمل ما عمل بأمر القيصر أو برضاه، وقد أتى «إيبسيلانتي» نفسه بما يدل على ذلك حيث كتب في دعوته للثورة: «وإذا اعتدى أحد من الأتراك على أراضي بلادكم فلا تخشوا له بأسا؛ فإن دولة عظيمة مستعدة لمعاقبة المعتدين عليكم.»
ولم يكن بين دول أوروبا دولة تعارض هذه الحركة اليونانية مثل دولة النمسا، فإنها كانت تحيط الباب العالي علما بكل دسائس ثورويي اليونان، وبكل تشجيعات الروسيا لهم وأعمالها السرية.
أما إنكلترا فكانت خطتها في بادئ الأمر التظاهر بمساعدة تركيا ضد الروسيا، ومقاومة الحركة اليونانية أشد المقاومة، ولكن الدولة العلية أظهرت شكها في نوايا بريطانيا؛ لعلمها بطمعها وجشعها وكراهتها الحقيقية للإسلام. خصوصا وأن سوء قصدها كان قد ظهر باستيلائها على الجزائر اليونانية، وقد جاءت الأيام مبرهنة بأسطع برهان على أن الدولة العلية كانت مصيبة في سوء ظنها بالإنكليز، فقد انقلبت إنكلترا في مسألة الثورة اليونانية ضد الدولة العلية كل الانقلاب، وغيرت كراهتها الأولى لليونانيين بالمحبة العلنية والمساعدة الظاهرة.
ولما علمت النمسا بأعمال الروسيا ومساعداتها لليونانيين بذل وزيرها الأول «مترنيخ» الشهير أقصى جهده لدى القيصر إسكندر الأول؛ ليعيد السكون إلى بلاد اليونان، ويأمر الثورويين بعدم القيام في وجه حكومة المرحوم السلطان محمود، والامتثال والخضوع لأوامر الدولة، وقد أظهر مترنيخ للقيصر إسكندر الأول مقدار الخطر الذي ينتج عن اشتعال نار الفتنة والثورة في بلاد اليونان مبينا له أن تعضيده لثورة اليونان يكون داعيا لانتشار الثورة في كل أنحاء أوروبا ضد الملوك، فأثرت هذه الأقوال على القيصر إسكندر الأول، وأعلن رسميا غضبه وسخطه على إيبسيلانتي، ووجه ملامه لليونانيين ناصحا لهم بالسكينة والانصياع لحكم الدولة العلية.
Неизвестная страница
ولكن هذه التصريحات العلنية لم تكن إلا ترضية وقتية للنمسا التي كانت مضطربة الأحوال؛ لاشتغالها بقمع الثورة الإيطالية التي قامت وقتئذ في وجهها، ولم يرجع القيصر إسكندر الأول عن عزمه؛ بل صار يتظاهر علنا بمحبة السلم والميل إلى الإنصاف مع الدولة العلية، وهو يكمن لها في الباطن السوء والضرر منتظرا الفرص المناسبة .
أما إيبسيلانتي فقد هزمته الدولة هو ورجاله شر هزيمة، واضطر إلى الهروب في ترانسلفانيا حيث قبضت عليه النمسا وسجنته لغاية عام 1827، وقد أسس ثوار اليونان بالرغم عن سقوط إيبسيلانتي في قبضة النمسا مجالس أهلية ومجلسا عموميا لهم كبرلمان يوناني. •••
وما انتشر في أوروبا خبر قيام اليونانيين بالثورة ضد الدولة العلية حتى تظاهر الكثيرون من الكتاب والشعراء بتعضيدهم والانتصار لثورتهم ضد المسلمين، وأول من جاهر بالانتصار لليونانيين وبالنداء باستقلالهم هو اللورد «بيرون» الشاعر الإنكليزي. فقد هاجر من بلاده، وعاش غريبا ينشد مجد اليونان السالف، وينادي أوروبا بمساعدة أبناء اليونان ونصرتهم، وقد أثرت كتاباته وأشعاره في أغلب بلاد أوروبا، وجرى على سنته الكثير من شعراء فرنسا وكتابها، وفي مقدمتهم «فيكتور هوجو» الشاعر الشهير، وأسست اللجان المختلفة في فرنسا وإنكلترا لمساعدة اليونانيين بالمال والرجال، وسافر المتطوعون من كل بلد في أوروبا ومن كل جانب.
وقد قامت الحركة كلها في بلاد أوروبا باسم معارف اليونان وأنوارها القديمة وباسم الدين المسيحي، فكنت تجد الكتاب الذين لا دين لهم ولا عقيدة في أفئدتهم يدافعون عن اليونانيين باسم الدين المسيحي، ويوجهون إلى الإسلام أقبح السباب وأدنى الشتائم.
وكان أنصار اليونانيين يحسبونهم كآبائهم الأولين متى نالوا حريتهم واستقلالهم؛ بزغت شموس المعارف والآداب والفلسفة من بلادهم، وعادت أتينا مشرقا لأنوار الحكمة والعرفان، والذين كانوا ينتصرون لليونانيين مؤملين هذا الأمل كانوا إما متعصبين في الدين ضد المسلمين يحملهم بغضهم على اعتقاد فاسد كهذا، أو كانوا سليمي النية، فلقد برهن اليونانيون بعد استقلالهم على أن بينهم وبين اليونانيين القدماء بونا بعيدا وفرقا عظيما.
ولا ريب أن أولئك الذين كانوا ينتظرون شروق أنوار الحكمة والفلسفة العالية من أبناء أتينا الحاليين تحسروا طويلا، واندهشوا منتهى الاندهاش من خطئهم في آمالهم هذا الخطأ الكبير، واعتدائهم بغير حق على السلطنة السنية التي كانوا يقولون عنها إنها المانعة لترقي اليونان، والواقفة في سبيل شروق شموس الحكمة والعرفان من «أتينا».
ومن الغريب أن أغلب أنصار اليونانيين إن لم نقل كلهم كانوا يجهلون تمام الجهل بلاد اليونان وأهلها ، على أنهم لو كانوا أرسلوا بعض الوفود لزيارة هذه البلاد والوقوف على حقيقتها وحقيقة أهلها، لكانوا أدركوا أنهم مخطئون خطأ كبيرا، وأن آمالهم البعيدة حلم لا حقيقة له، ويستحيل أن يكون له وجود.
وقد أنصف بعض الكتاب الأوروبيين الدولة العلية، وأظهروا للعالم المتمدن الحقيقة التي لا مراء فيها، وفضحوا أعمال اليونانيين حتى خجل أنصارهم، وفي مقدمة هؤلاء الكتاب الفضلاء «ألفريد لميتر» الفرنساوي، فقد وضع كتابا على استقلال اليونان، كشف فيه الغطاء عن أمور عديدة تشرف الدولة العلية وترفع من مقامها أمام التاريخ، وتشهر أكاذيب أنصار اليونان الجمة.
ومن المستندات الرسمية العديدة التي أوردها حضرة المؤلف السالف الذكر؛ عريضة رفعها جماعة من الفرنسويين كانوا سافروا إلى بلاد اليونان لنصرة الثائرين فيها إلى أميرال البحرية الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط يسألونه فيها أن يردهم إلى فرنسا، وهذه العريضة تترجم للقارئ عن الحقيقة، وعن أكاذيب أنصار اليونان، وقد جاء فيها: «وقد وصفوا لنا اليونانيين قبل سفرنا من فرنسا بشجعان وأبطال يفوقون آباءهم الأولين شهامة ومجدا، فما وجدنا هنا إلا رجالا يحملهم حب المال على حب الجرائم، وأناسا لا يزالون في ظلمات الجهالة والوحشية.»
وقد كتب القومندان «بوجول» في مذكراته عن ثورة اليونان بتاريخ 22 ديسمبر سنة 1827 ما تعريبه:
Неизвестная страница
وقد جئت الشرق وأنا من أكبر أنصار هذه الأمة «اليونانية» ولم يتغير اعتقادي فيها وإحساسي نحوها إلا بالتجربة؛ فهي مجردة عن الوطنية والشجاعة والاتحاد، وهم كل رئيس من رؤسائها أن يكون غنيا، وقد بلغت الفوضى حدها في بلاد اليونان، وأغلب أعضاء حكومتها - وكلهم محتقرون أشد الاحتقار - معروفون من الجميع بأنهم المسلحون للصوص البحار، ولولا تداخل الدول لخضع اليونانيين جميعا هذا العام، واعترافا بالجميل نحو أمم أوروبا لا يزال اللصوص اليونانيون يعتدون على تجارة هذه الأمم نفسها!
وكتب الأمير «ريني» أميرال الأساطيل الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط من أزمير بتاريخ 23 مارس سنة 1826 ما تعريبه:
لقد تغش أوروبا بشأن كل ما يختص بثورة اليونانيين ضد تركيا؛ فقد تنقص المستندات الرسمية، وليس من عادة الأتراك أن ينشروها، والتقارير اليونانية ليست إلا مراسلات خصوصية تجسم فيها الأمور وتمر على «زانت» و«كورفو» والنمسا قبل أن تلونها الجرائد في لوندرة وباريس بالألوان الساطعة البهية، ولكنها في أغلب الأحيان ألوان كذابة، ولا شك أن هذا هو اللازم للتأثير على أفكار العالم، ولكن هذا لا يكفي لإنارة أفكار الذين يقودون زمام الأمور.
وقد انتهز اليونانيون فرصة قيام «علي باشا» والي يانيه ضد الدولة العلية؛ لإحداث الاضطرابات والهيجان في كل أنحاء بلاد اليونان، فقد طغى هذا الباشا، وعصى الدولة العلية، وأراد الاستقلال والخروج من تحت السلطة الشرعية؛ فصار يعمل لاستمالة اليونانيين إليه ضد الدولة العثمانية، ولكن أطماعه الشديدة وأخلاقه الشرسة أكثرت من أعدائه بالرغم من تملقه لليونانيين ونفاقه.
وسبب عصيانه على الدولة: أن إسماعيل باشا أكبر أصدقائه وأول المقربين إليه وقع بينه وبينه خلاف شديد أدى إلى هروب إسماعيل باشا إلى الآستانة حيث تعين فيها بالحرس السلطاني، وأبلغ رجال الدولة أعمال هذا الرجل وسوء نواياه، فقررت الدولة عزل ابنه الذي كان حاكما لتساليا؛ فاغتاظ علي باشا من ذلك وأرسل أحد أتباعه من الألبانيين إلى الآستانة لقتل إسماعيل باشا، وبالفعل قتله هذا الألباني عند ذهابه للصلاة.
وقد علمت الدولة وقتئذ بأن الإنكليز يشجعون علي باشا على رفع لواء العصيان ضد الدولة العلية، ووقفت على كل مراسلاته مع اليونانيين، فامتلأت غيظا منه، واعتبر خائنا للدولة والملة، وأصدر شيخ الإسلام منشورا للمسلمين باعتباره خارجا على الدولة كافرا بنعمتها.
وقد أمرته الدولة بالحضور إلى الآستانة في ظرف أربعين يوما، فخالف أمرها، وصمم على معاداتها، والقيام في وجهها، وصار يجتهد في استمالة المسلمين إليه، فلما لم يفلح لأنهم جميعا اعتبروه خائنا وخارجا من دين الإسلام مال إلى اليونانيين، وصار يتقرب منهم ويستنصر بهم ضد الدولة، ويوزع الأموال عليهم، ولما أراد الانتفاع بهذا الود سألهم بتاريخ 24 مايو سنة 1820 تكوين جيش ينصره ضد الدولة، ولكن اليونانيين الذين كانوا يعرفون أخذ الأموال وسماع المدائح وبدائع الأقوال من هذا الطاغية كانوا يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن تقديم الأسلحة والرجال، فلم يجيبوا للعاصي طلبا، ولم يلبوا له نداء؛ بل بقي يناديهم وهم صامتون حتى اقترب منه الجيش العثماني، فلم يجد له مخرجا من ورطته إلا حرق مدينة «يانينا» والالتجاء إلى جزيرة كان بنى فيها قلعة حصينة جمع فيها كل ذخائره وأمواله.
وقد كان يقود الجيش العثماني ضده خورشيد باشا حاكم المورة، فوصل بمهارته وحكمته إلى دخول القلعة التي كان ملتجئا إليها هذا المتمرد، ولما لم يجد علي باشا لنفسه سبيلا غير التسليم، سلم نفسه لخورشيد باشا الذين أنفذ أمر الدولة بقتله عقابا على تمرده وعصيانه، وفي أوائل فبراير سنة 1822 أرسل برأسه إلى الآستانة؛ لتعلق في مكان عام إنذارا لكل عدو للدولة ولكل خائن. •••
وقد انتهز اليونانيون فرصة عصيان علي باشا والي يانينا، وأخذوا يسلبون وينهبون في كل أنحاء اليونان، وجعلوا المورة منبع الثورات والاضطرابات؛ لخلوها من العدد الكافي من الجنود العثمانية، وفي 5 مارس 1821 دخل من يدعى «كارافيا»، وهو يوناني تعلم الجندية في الروسيا في ميناء «جالاتز» - وهو ميناء من رومانيا على الدانوب - وهجم على قلعتها برجاله العديدين حيث نهبوا وسلبوا وقتلوا من في المدينة كلها، وأسالوا الدماء وخربوا المنازل، وقد أشاع اليونانيون عندئذ في كل أصقاع العالم أن ما أتوه في هذا الميناء الصغير الذي لا يكاد يوجد به جنود يعد انتصارا كبيرا على الدولة العثمانية وعملا عظيما، وهاج كذلك أعضاء الهيتري بمدينة «ياسي» واحتالوا على حرسها، وكان مكونا من خمسين رجلا، فأفهموهم أن الأهالي عازمون على الثورة وقطع دابر الأتراك، ولكنهم إن تجردوا من أسلحتهم وبنادقهم توطد الأمن في المدينة، وعادت الأمور إلى السكينة والسلام، فاغتر رئيس الحرس، وظن أن أعضاء الهيتري صادقون في أقوالهم، فأجاب طلبهم وأمر الجنود بالتجرد من السلاح والذخائر الحربية، فقابل اليونانيون هذا العمل بأن نشروا لواء النهب والسلب في المدينة، ورفعوا راية الفتك بالمسلمين، فقتلوا الكثير منهم بلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، ولما جاء «إيبسيلانتي» زعيم جمعية الهيتري استحسن هذه الفظائع والمنكرات، ووافق عليها باسم الانتقام من الإسلام والمطالبة بالحرية.
وقد كانت جمعية الهيتري تهدد الأغنياء من اليونانيين بالقتل إن لما يساعدوها بالمال - وقد اتبعت هذه الخطة نفسها جمعية ثوار الأرمن مع أغنياء الطائفة الأرمنية - وحصل أن «إيبسيلانتي» المذكور لما جاء مدينة «ياسي» علم بوجود يوناني عظيم الثروة اسمه «بول أندرياس» فألقى القبض عليه بدعوى أنه اختلس أموالا كثيرة من أموال الهيتري، فأدرك الرجل أن هذه التهمة ألقيت عليه ليقدم لإيبسيلانتي شيئا من المال، ففعل ذلك وكان في فعله نجاته.
Неизвестная страница
وقد أحدثت هذه الفظائع التي جرت في «ياسي» في كل بلاد اليونان فرحا شديدا، واشتاقت نفوس أهاليها للسلب والنهب، وذبح المسلمين باسم الحرية والدين!
وقد يجد الإنسان في بعض الكتب المنتصر أصحابها لليونان فصولا طويلة على هذه المذابح المختلفة والجرائم العديدة، ومن هذه المؤلفات أشهرها مؤلف المسيو «بوكفيل» المسمى «محطة الشرق» فقد جاء بالرغم عن شدة تعصب المؤلف ضد المسلمين بحقائق يخجل منها كل إنسان يحترم الإنسانية ويحبها.
ولما كانت المورة كما قدمنا منبعا للثورات والاضطرابات، حاصر اليونانيون مدينة «مونبازيا» فقاوم أهلها الحصار طويلا حتى فقدوا كل الذخائر والمأكولات، وكان يقود اليونانيين وقتئذ «ديمتريوس إيبسيلانتي» فاستعمل الخداع للاستيلاء على هذه المدينة، وأعلن أهلها بأنه يحترم أملاكهم وأموالهم ويحترم قبل كل شيء أرواحهم إذا سلموا المدينة، وأنه يساعدهم على الرحيل منها إذا أرادوا ذلك. فصدق أهل هذه المدينة الشقية كلام «إيبسيلانتي» وسلموا القلعة والأسلحة، فدخل اليونانيون المدينة وأول شيء قاموا به هو أنهم لم يحترموا لرئيسهم قولا ولا عهدا؛ بل هتكوا الأعراض، ونهبوا الأموال، وقتلوا النساء والأطفال قبل الرجال.
وإنه ليسهل على القارئ أن يتمثل قوما لا سلاح بأيديهم ولا قوة تحميهم، يهجم عليهم جماعة من أشرار اليونانيين وهم متسلحون بأنواع السلاح، ويتمثل مناظر المعارك الدموية التي تجري بينهم، ودفاع الموت الذي يدافع به المسلمون عن نسائهم وأطفالهم.
وقد كتب الكونتر أميرال الفرنساوي «هالجان» في عام 1821 تقريرا عن دخول اليونانيين إلى «مونبازيا» جاء فيه:
وقد وجد في قلعة مونمبازيا ثلاثمائة يوناني لم يكتف الأتراك أيام الحصار بمعاملتهم بالحسنى، بل عاملوهم كإخوتهم الحقيقيين أثناء المجاعة، واحترموا كنائسهم كل الاحترام، ولكن يونانيو المورة لم يعاملوا الأتراك بنفس هذه المعاملة عندما أخذوا المدينة، بل أتوا بأشنع القبائح وأفظعها في مساجد الأتراك.
أما المسجونون فقد أرسلوا بغير زاد إلى «كاسوميس»، ووجدت على الأرض العائلات الإسلامية التعسة تنازع نزاع الموت من الجوع والعطش، وهي نائمة على الأحجار، وحوالي الجزيرة وجدت جثث القتلى، وبالرغم من ذلك كله فقد أراد اليونانيون ضرب هاته العائلات بالرصاص، ولم تنج من أيديهم إلا بفضل المسيو «دي بونفور» الذي هدد اليونانيين، وأخذ كل الأتراك الموجودين بهذه الجهة في سفينة مخاطبا ضباط اليونانيين بأن ما عملوه هم ورجالهم لا يأتي به إلا لصوص البحار!
وهذا التقرير وحده يشهد بأبدع بيان على أن أنصار اليونان في أوروبا كذبوا على العالم كله الأكاذيب الشنيعة، وأن الجرائم والفظائع الدموية التي جرت في بلاد اليونان لم يأتها إلا اليونانيون ضد المسلمين.
وإن الفيلسوف ليقف مندهشا أمام هذه الدنايا والجرائم، ويعجب كيف أن شعراء أوروبا وكتابها كانوا ينتصرون لقوم لا تتغذى أرواحهم إلا بذبح الأبرياء، ولا تستريح نفوسهم إلا إلى الجرائم. فهل كان ينتظر شعراء أوروبا وكتابها من هؤلاء القوم الذين كتب عنهم ضباط أوروبا نفسها، وبعض من أفاضل كتابها ما قرأه القارئ أن يعيدوا لربوع اليونان مجدها السالف، وأن يردوا للوجود أتينا مشرقا لأنوار الحكمة والعرفان؟!
وقد استولى ثوار اليونان في 19 أغسطس سنة 1821 على مدينة «ناورين» الشهيرة، وأتوا فيها من الفظائع ما لم تره عين ولم تسمع به أذن.
Неизвестная страница
وكتب عن هذه الفظائع القس الأرثوذكسي «فرانتزيس» ما ترجمته:
وكانت البنات التي تريد الهروب من أيدي القتلة تجري نحو شاطئ البحر وعلى أجسادها أثر الرصاص، ومع ذلك كانت ترمى وتقتل، وكانت النساء يحمل أكثرهن الأطفال على الذراع فيمزق المعتدون ملابسهن، والتي كانت تلقي بنفسها إلى البحر لتستر عورتها كانت ترمى كذلك بالرصاص وتقتل، وقد هشمت رءوس بعض الأطفال الذين اختطفوا من أمهاتهم، وألقى اليونانيون في عميق البحار بناتا وأطفالا لم يتجاوز أغلبهم الرابعة أو الخامسة من العمر كأنهم قطع من لحوم الكلاب.
وفي 5 أكتوبر نفسها استولى ثوار اليونان بعد حصار طويل على مدينة «تريبوليتزا»، وإنه يستحيل على كاتب شرقي أو غربي مهما كانت بلاغته وقوة إنشائه وعظيم تأثيره أن يصف المذابح الهائلة البهيمية - أو التي لا اسم لها - التي أتاها اليونانيون، بل يكفي القارئ أن يعلم أن اليونانيين ذبحوا في «تريبوليتزا» ثمانية آلاف من الرجال، وفوق ذلك من النساء، وأن المذابح استمرت ثلاثة أيام كاملات، حتى فسد الجو وتغير الهواء، وانتشر من بعدها الوباء حيث عم كل بلاد اليونان، وجاء من المنتقم الجبار منتقما للأبرياء الشهداء من الظالمين المجرمين السافكين للدماء.
وقد كتب أغلب كتاب أوروبا إلا من أعماهم الغرض والتعصب على هذه الفظائع، ووصفوها كما تستحق، فقال عنها الكاتب الإنكليزي «فنلي» المشهور - وكان قد شهد الحادثة بعينه - في كتابه «تاريخ اليونان»:
إن منظر هذه المذابح لا يعادله منظر في تاريخ البشر، لا في فظاعته ولا في طول مدته.
وقد أحدثت هذه الفظائع في الآستانة تأثيرا شديدا جدا، وهاج الأهالي طالبين عقاب اليونانيين الذين لهم يد في جمعية الهيتري؛ فقام عندئذ شيخ الإسلام ونصح المسلمين بالسكينة والاعتدال، وعدم الاعتداء على الأبرياء انتقاما من الآفكين، وسيرى القارئ أن اليونانيين كافأوا شيخ الإسلام هذا بأن قتلوه هو وعائلته بعد ندائه في صالح الأبرياء منهم.
فلما علم المرحوم «السلطان محمود» بما عمله اليونانيون بدسائس جمعية الهيتري؛ أمر بتفتيش منازل بعض اليونانيين المشتبه فيهم، وعمل تحقيق تام على كل الذين اشتبه في أمرهم؛ فأبان التحقيق إدانة الكثيرين من اليونانيين، ومنهم «موروزي» الذي كان للسلطان به ثقة عظمى، فاستعملها في تبليغ أعضاء الهيتري أسرار السياسة العثمانية، والبطريرق «جريجوريوس» فأمر السلطان بإعدام الجميع عبرة لغيرهم من المفسدين والثوار.
أما في أتينا، فقد اتبع اليونانيون خطتهم الدموية بنفسها، فأسالوا الدماء بكثرة عظيمة، ولم يرحموا أحدا من المسلمين.
وقد انتشر بعض أعضاء الهيتري في أزمير، وجعلوا غايتهم جمع الأموال بأدنى الوسائل وأسفل الطرق، وإلقاء الخوف والرعب في نفوس اليونانيين المقيمين بأزمير. فأشاعوا الإشاعات المختلفة عن نوايا الدولة العلية نحو اليونانيين حتى اضطرت العائلات اليونانية كلها إلى المهاجرة من أزمير، فاستفاد أعضاء الهيتري من هذه المهاجرة أنهم جمعوا أموالا كثيرة، وأوهموا أوروبا بأن سبب هذه المهاجرة ظلم الدولة العلية، وسوء معاملتها لليونانيين!
ومما يؤكد ذلك أن أحد رجال فرنسا بعث من أزمير بكتاب إلى وزير البحرية الفرنساوية في ذلك الحين جاء فيه:
Неизвестная страница