وقد وجهت البروسيا عنايتها بعد عقد هذه الاتفاقية إلى إبطال مفعولها مع بقائها، وأخرت إرسال النمسا للإنذار المتفق عليه مؤملة استيلاء الجيوش الروسية في هذه الأثناء على مدينة «سيليستريا» التي كانت محاصرة لها، والتي لم تستطع الاستيلاء عليها، ولم ترسل النمسا إنذارها للروسيا إلا في 3 يونية عام 1854.
ولما لم يستطع «غورتشاكوف» الاستيلاء على «سيليستريا» رفع عنها الحصار، وسحب جيوشه عائدا إلى الوراء، وعندئذ اتفقت النمسا مع الباب العالي بتاريخ 14 يونيو سنة 1854 على احتلالها لمقاطعتي الأفلاق والبغدان، وصد هجمات الروسيا عنهما، ومساعدة عساكر فرنسا وإنكلترا في حركاتهما الحربية، إلا أن البروسيا كانت عاملة كما قدمنا على معاكسة النمسا في خطتها، فأوعزت إلى حكومات الاتحاد الجرماني باشتراط جملة شروط للتصديق على الاتفاقية التي عقدت بين الروسيا والنمسا في 20 أبريل، فعملت هذه الحكومات الصغيرة بإيعاز البروسيا واشترطت عدة شروط؛ منها اشتراكها في المخابرات التي ستجري بين الدول بشأن المسألة الشرقية، ومنها أنه إذا كانت النمسا ستجبر الروسيا على إخلاء مقاطعتي الأفلاق والبغدان يجب عليها كذلك أن توقف سير إنكلترا وفرنسا وتجبرهما على الإمضاء على هدنة؛ فاضطرت النمسا لقبول هذه الشروط، ورضيت فرنسا وإنكلترا بناء على رجائها بألا تسير جيوشهما من جهة المقاطعتين، واتفقتا عندئذ على تجريدة «القرم» والهجوم على مدينة «سباستول».
وقد أنقذت الروسيا من أخطار هائلة وخسائر جمة بتحول الجيوش الفرنساوية والإنكليزية بعد التركية عن مقاطعتي الأفلاق والبغدان اتباعا لرجاء النمسا، والفضل في ذلك للبروسيا التي أوعزت لحكومات الاتحاد الجرماني باشتراط هذا الشرط على حكومة النمسا.
فلما تحققت الروسيا من ميل البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني إليها أرسلت للنمسا بتاريخ 29 يونية عام 1854 جوابها على إنذارها مبينة أنها لا تستطيع الرضاء بإخلاء المقاطعتين من جنودها إلا إذا قدمت لها النمسا ضمانات كافية، وأعلنت عدم اتحادها مع فرنسا وإنكلترا، وتعهدت بمنعهما من محاربة الروسيا في الأفلاق والبغدان؛ فرأت النمسا عندئذ ضرورة الاتفاق مع فرنسا وإنكلترا على شروط جديدة لتسوية الخلاف بين الروسيا وتركيا تكون بمثابة إنذار جديد للروسيا، وجمعت بفيينا مندوبي فرنسا وإنكلترا مع مندوبيها لوضع هاته الشروط، فلما وصل هذا الخبر إلى ملك البروسيا أوعز إلى إمبراطور الروسيا بإعلان إخلاء المقاطعتين من الجنود الروسية مؤملا بذلك تعطيل أعمال مندوبي الدول الثلاث بفيينا، ولكنهم لبثوا مجتمعين بضعة أيام قرروا فيها - يوم 8 أغسطس عام 1854 - أن العلاقات السياسية بين تركيا والروسيا لا تعود لمجراها الأول؛ أولا: إذا بقيت حماية الروسيا على مقاطعات الأفلاق والبغدان وصربيا، وإذا لم توضع الامتيازات التي منحها الباب العالي لهذه المقاطعات تحت ضمانة الدول كلها. ثانيا: إذا بقيت الملاحة في الدانوب غير حرة. ثالثا: إذا لم تغير الدول معاهدة 13 يوليو عام 1841. رابعا: إذا استمرت الروسيا مدعية أن لها حق حماية المسيحيين كلهم أو بعضهم في الدولة العلية، وإذا لم تضمن أوروبا كلها استقلال الدولة العلية وسلامتها.
وقرر مندوبو الدول بألا تحيد دولهم بعد عن هذا القرار، وألا يعقد الصلح إلا بقبوله.
وقد أرادت النمسا أن تصدق البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني على هذا القرار، ولكنها لم تقبل منه إلا الشرطين الأولين ورفضت الآخرين، وأعلنت النمسا أنها لا تتحد معها إلا إذا تعهدت بمنع الجيوش التركية والفرنساوية والإنكليزية من الهجوم على المقاتلين أو محاربة الروسيا من هذه الجهة؛ فحارت النمسا في أمرها لأنه كان لا يمكنها قبول هذا الطلب بغير تكدير علائقها مع حكومات تركيا وفرنسا وإنكلترا.
وفي هذه الأثناء انتصرت الجيوش التركية والفرنساوية والإنكليزية على الجيوش الروسية انتصارات باهرة، فقهرتها على شواطئ نهر «ألما» واستولت على مواقع مختلفة، وفي 25 أكتوبر عام 1854 هزمت الجيوش المتحدة جيوش القيصر في «بكلاوا»، وفي 5 نوفمبر هزمتها في «أنكرمان» وكان حصار «سباستوبول» لا يزال مستمرا.
وقد رأت فرنسا وإنكلترا أن النمسا تماطلها كثيرا في أمر الاتفاق معهما اتفاقا نهائيا صريحا، فافتكرتا في طريقة تحملها على الاتفاق معهما وهي دعوة حكومة «البيمونتي» إلى الاشتراك معهما في الحرب ضد الروسيا، ويعلم كل مطلع على التاريخ أن النمسا كانت تبغض حكومة «البيمونتي» الإيطالية أشد البغض؛ لعملها على تحرير إيطاليا كلها من تحت نير النمسا، فلما علمت حكومة فيينا بأن «البيمونتي» على وشك الاتحاد مع فرنسا وإنكلترا؛ خافت من مساعدة هاتين الدولتين فيما بعد لهذه الحكومة الصغيرة، وأبلغتهما أنها مستعدة للاتفاق معهما، وعقدت معهما بالفعل في 2 ديسمبر عام 1854 اتفاقا تضمن أن النمسا تتبع قرار 8 أغسطس الذي أقرت عليه الدول الثلاث، وأنها لا تتخابر بمفردها مع الروسيا، وأنها تدافع عن مقاطعات الأفلاق والبغدان وصربيا ضد كل اعتداء، وأن فرنسا وإنكلترا تتعهدان للنمسا بمساعدتها ماديا إذا قامت الحرب بينها وبين الروسيا، وأنه إذا لم يتم الصلح قبل أول يناير عام 1855 بالشروط التي قررتها الدول الثلاث في 8 أغسطس عام 1854 اجتمع مندوبوها، وتداولوا في الوسائل الفعالة التي توصلها إلى مرامها.
ويعلم القارئ مما سبق أن البروسيا كانت ميالة للروسيا، وعاملة على إنقاذها، فلما علمت باتفاق النمسا مع فرنسا وإنكلترا ضد الروسيا سعت في تأخير تنفيذ هذا الاتفاق؛ لتكتسب الروسيا زمنا تستطيع فيه تحسين أحوال جيشها وتقويته، وليسهل للبروسيا حل الاتفاق بين النمسا وفرنسا وإنكلترا أو على الأقل إضعافه، فأشارت على الحكومة الروسية أن تعلن النمسا بقبولها لقرار 8 أغسطس عام 1854 وتسألها عقد مؤتمر بفيينا للمناقشة فيه. فسرت النمسا بذلك، وحسبت الروسيا صادقة في بلاغها، وطلبت من فرنسا وإنكلترا إرسال مندوبين من قبلهما لحضور المؤتمر، فرضيت الدولتان بذلك، ولكنهما طلبتا من النمسا إرسال مذكرة مشتركة للبرنس «غورتشاكوف» الذي كان عين سفيرا للروسيا بفيينا توضح فيها الدول الثلاث معنى قرار 8 أغسطس السالف الذكر، فلم تجد النمسا مناصا من القبول، وحررت المذكرة وأرسلتها في 28 ديسمبر عام 1854 مفسرة لمعنى قرار 8 أغسطس، وبعد عشرة أيام من تاريخ إرسالها أجاب البرنس «غورتشاكوف» بمذكرة فسر فيها قرار 8 أغسطس تفسيرا يناقض تفسير الدول الثلاث؛ أي تفسير الدول الواضعة للقرار، واستمرت المناقشات طويلا قبل عقد المؤتمر نفسه.
وقد أحس مندوبو فرنسا وإنكلترا أن النمسا تخدع دولتيهما، وتعمل على عدم الوفاء بتعهداتها؛ فأبلغوا حكومتيهم بذلك، وأشاروا عليهما بعقد اتفاق بينهما وبين حكومة «البيمونتي» انتقاما من النمسا، وقد كانت الأمراض والحميات أضرت بالجيوش الفرنساوية والإنكليزية ضررا بليغا، وشدة البرد عطلت الأعمال الحربية، فاتفقت فرنسا وإنكلترا مع «فيكتور رامانويل» ملك البيمونتي على مساعدة حكومته لهما ضد الروسيا وإرسال ثمانية عشر ألف مقاتل، وأمضى «كافور» الشهير وزير البيمونتي على هذه الاتفاقية في 26 يناير سنة 1855، وقد سر «كافور» بها سرورا عظيما؛ لعلمه بأن اشتراك البيمونتي مع فرنسا وإنكلترا في الحرب ضد الروسيا يجعل لبلاده شأنا يسمح له بعرض المسألة الإيطالية على الدول وقت المناقشة في شروط الصلح بعد إتمام الحرب؛ ولذلك يعتبر المؤرخون اتفاقية 26 يناير عام 1855 مصدرا لتكوين الوحدة الإيطالية وأصلا لها، وما عقدت هذه الاتفاقية حتى سافرت إلى تركيا الجنود البيمونتية تحت قيادة الجنرال «لامارمورا».
Неизвестная страница