زيادة من خارج كما يكبر الماء مرة ويتصغر أخرى فمهما صار حارا صار أكبر ومهما برد جمد وصار أصغر وقدره وهو فاتر بينهما وقد سبق أن المقدار عرض فى الهيولى فلا يلزم أن يكون وقفا على مقدار واحد ولكن نستدل الآن بالمشاهدة على صحة ذلك فان الخمر فى الدن ينتفخ حتى يشقه والقمقمة التى تسمى الصياحة إذا كانت مشدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت ولا سبب لذلك إلا أن الماء صار أكبر مما كان* فان قيل لعله كبر بدخول أجزاء النار فيه* قيل فكيف يمكن دخول أجزاء النار فيه ولم يخرج شىء من الماء ولو خرج شىء من الماء فدخل بدله لكان كما كان ولم تنكسر الصياحة ولو قيل النار طلبت جهة الفوق بطبعها فلذلك كسرت* قيل فكان ينبغى أن ترفع الاناء وتطيره لا أن تكسره لأنه ربما يكون الرفع أسهل من الكسر إذا كان الاناء قويا وكان وزنه خفيفا ثم كان ينبغى أن تكسر الموضع الذى تلاقيه ولكن السبب فيه أن الماء ينبسط فى جميع الجوانب فيدفع سطح الاناء من كل جانب فينفتق الموضع الذى كان هو أضعف من الاناء من أى جانب كان فاذن المقدار عرض يزيد وينقص والطبيعة المقتضية للمقدار لا تزول ولكن تقبل عرضا مخصوصا ما لم يكن قاسر فان وجد قاسر فربما قسر فعلها عن غاية مقتضاه.
(الدعوى الخامسة): إن هذه العناصر الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض فينقلب الهواء ماء أو نارا والماء هواء أو أرضا وكذلك باقيها وقد أنكر هذا قوم* وبرهانه المشاهدة وهو أن منفخ الحدادين لو نفخ فيه زمانا متطاولا نفخا قويا حمى ما فيه من الهواء واحترق وصار نارا ولا معنى للنار إلا هواء محترق ولو ركب كوز من الزجاج مثلا في وسط الثلج تركيبا مهندما برد الهواء الذى فى داخله واستحال ماء واجتمع قطرات على سطحه فاذا كثرت اجتمعت فى اسفله وليس ذلك بدخول الماء فيه من المسام فان الماء الخارج لا ينقص ولو كان بدل البارد ماء حار كان أولى بالدخول من المسام وذلك لا يوجد مع الحار وإنما يوجد مع البارد المفرط أو الثلج وأيضا لو كان ذلك بدخول الماء لكانت القطرات لا توجد إلا فى الموضع الذى فيه الماء وهى قد توجد على طرف من الكوز هو أعلى من الثلج وقد شوهد فى البلاد التى بردها مفرط استيلاء البرد على الهواء الصافى القريب من الأرض فى وقت الضحو وانقلابه ثلجا وسقوطه إلى الأرض حتى اجتمع منه شىء كثير من غير غيم* وأما استحالة الماء هواء فهو ظاهر عند إيقاد النار تحته وتصاعد البخار هواء* فأما استحالة الماء أرضا فقد شوهد ذلك في قطرات الماء الصافى من المطر إذا وقعت على المواضع التى فيها قوة محجرة معقدة فتنعقد فى الحال أحجارا وأما استحالة الحجر بالذوبان ماء فيدرك بالتجربة من صناعة الكيمياء وتحليل الأحجار وهذا كله لأن الهيولى مشتركة ولا يتعين لها صورة من هذه الصور بذاتها بل تقبل الصور بحسب السبب الذى يلاقيها فاذا تغير السبب تغيرت الصورة وإنما يحصل استعدادها لصورة أخرى بحدوث أعراض تناسب تلك الصورة كالحرارة إذا غلبت على الماء فانه يستعد بها للصورة الهوائية فلا تزال الحرارة تقوى والصورة المائية باقية إلى أن تتم قوتها فتصير القوة الهوائية أولى منها فتخلع المائية وتلبس الهوائية من واهب الصور. (الدعوى السادسة): إن هذه السفليات قابلة للتاثر من السماويات فأظهر الكواكب تأثير الشمس والقمر إذ بهما يحصل نضج الفواكه ومد البحار إذ بزيادة القمر تكون زيادة المد وزيادات الفواكه وأمور أخرى يعرف تفصيلها فى الكتب الجزئية وأظهر آثارها فى السفليات الضوء ثم الحرارة بواسطة الضوء وليس يلزم من ذلك كون الشمس حارة ولو جعلت الحرارة منها بواسطة الضوء كما أن الشمس إذا سخنت الماء حركته إلى فوق بالتبخر ولا يدل ذلك على أن الشمس متحركة إلى فوق وكذلك حرارته لا تدل على حرارتها بل للسماويات طبيعة خامسة خارجة عن هذه الطبايع كما سبق ولكن هذه الأعراض متعاشقة ومتعاهدة ومتصاحبة فالحرارة يلازمها الحركة والضوء تلازمه الحرارة بمعنى أن أحدهما يعطى الموضوع استعداده لقبول الآخر حتى يفيض الآخر من واهب الصور فاذن لا يلزم بالضرورة أن يكون فعل الشىء من جنسه لكن الأغلب أن الحاصل فى الجسم من جسم آخر يناسب الفاعل فالسخونة من النار والبرودة من الماء والضوء من الشمس وفعل الجسم فى الجسم تارة يكون بالمجاورة كما أن النار تسخن بالمماسة جسما آخر والريح تحرك بالمماسة جسما آخر وتارة بالمقابلة كما أن الأخضر إذا قابل حائطا فى موضع شروق الشمس أوجب حصول خضرة فى الحائط مثل العكس وكما أن الصورة عند المقابلة للمرآة توجب انطباع مثلها فيها ولو كان مماسا لم توجبه فكذلك مقابلة المتلون للعين توجب حصول مثل صورته فى العين عند البعد فأما مع المماسة فلا وليس حقيقة هذا امتداد جزء من المضىء أو ~~خروج صورة من الصور إلى العين أو المرآة فان ذلك محال لكن وجود المضىء فى مقابلة الجسم الكثيف سبب لحصول مثل صورته فيه بطريق التجدد مهما توسط بينهما جسم شفاف وإذا حدث الضوء فيه بسبب استعد للحرارة فصار حارا ثم ربما يستعد بالحرارة للحركة فيتصاعد بخارا إذا كان ذلك فى ماء والمرآة المحرقة إنما تحرق من حيث أنها مقعرة مخروطة فتقبل النقطة التى هى مركزها الضوء من جميع أجزاء المرآة بالرد والانعكاس اليها فيشتد ضوءها واستعدادها للحرارة فتشتد حرارتها فتحرق ولذلك تغلب الحرارة فى الصيف لأن ضوء الجسم المضىء إنما يقوى بتمام المقابلة لأنه إنما يفعل بالمقابلة فاذا كانت المقابلة أشد كان الضوء أكثر والمقابلة التامة إنما تكون على العمود والشمس فى الصيف تكون فى جانب الشمال قريبا من وسط رؤوسنا ولذلك يكون نهار الصيف أضوء من نهار الشتاء ويكون أحر لا محالة وفى الشتاء ينحرف العمود لميل الشمس عن سمة رؤوسنا إلى الجنوب فيضعف الضوء فتضعف الحرارة وأعنى بالعمود الخط الذى يخرج من مركز الشمس إلى مركز الأرض على زاويتين من الجانبين قائمتين فما يميل عنه لتفاوت الزوايا فلا يكون عمودا.
.(الدعوى السابعة): إن هذه العناصر ينبغى أن تكون فى وسط السماوات ولا يتصور أن تكون خارجة منها ولا يتصور أن يكون لها فى داخل السماوات موضعان طبيعيان بل ينبعى أن يكون مكان كل واحد من العناصر واحدا أما إنه لا يجوز أن يكون خارجا من هذه السماوات فمن حيث أن هذه الأجسام تستدعى جهتين مختلفتين كما سبق لقبولها الحركة المستقيمة فلا يتصور أن تكون إلا حيث يحيط بها جسم يحدد جهتها فان فرضت خارجة عن السطح الأعلى من العالم وليس يحيط بها جسم فهو محال وإن فرضت سماء أخرى حتى يفرض عالمان متجاوران أو متباعدان هكذا كان محالا لأنه يكون بينهما بعد وهو خلاء والخلاء محال ولأنه يكون ذلك البعد ذا جهتين يتصور بينهما حركة مستقيمة فيحتاج إلى ما يوجب اختلاف الجهة وقد بينا أن الجسم لا يوجب الجهة من خارج فيحتاج إلى جسم ثالث محيط بهما ويحويهما وذلك أيضا محال وهو أن يكونا فى موضعين يحويهما محيط واحد على ما فى هذه الصورة مثل جسم القمر وجسم العناصر فانهما جميعا فى فلك القمر ومثل ذلك محال ولهذا نقول يجب أن يكون مكان العنصر البسيط واحدا لأنه لو فرض له مكان طبيعى بين المكانين وليكن العنصر الذى فرض له مكانان الماء لكان لا يخلو إما أن يميل بالطبع إلى أحد المكانين فيكون هو المكان الطبيعى له دون الآخر أو يقصد بعضه أحدهما وبعضه الآخر وهو محال لأن الماء بسيط متشابه الأجزاء فينبغى أن تكون حركته متشابهة إذ لا مخصص لبعضها حتى يجب أن يفارق البعض الآخر فالمكان الطبيعى للجسم هو المكان الذى إذا قدر أجزاء ذلك الجسم فى مواضع متفرقة وخليت وطبعها تحركت كلها إلى ذلك المكان واجتمع الجسم كله فيه بجميع أجزائه فمكان الكل ما يجتمع فيه أجزاء الكل فلا يؤدى إلى المحال الذى ذكرناه فقد بان من هذا أن العالم واحد لا يمكن أن يكون إلا كذلك وأن أجسامه منقسمة إلى ما يستدعى الجهة وإلى ما يفيد الجهة فالذى يستدعى الجهة لا بد أن يكون فى وسط المفيد حتى يتميز جهتاه بالقرب والبعد وأن المستدعى الجهة لا بد أن يكون بعضه داخل البعض ولا يجوز أن يكون خارجا عنه وكل هذا يبنى على أصول هى أن هذه الأجسام بسيطة وكل جسم بسيط فله شكل طبيعى وهو الكرة ومكان واحد طبيعى وقد بان أن الخلاء باطل فينبنى على مجموع هذه الأصول تلك النتيجة التى ذكرناها وإنما قلنا أن كل جسم فله مكان طبيعى لأنه إذا خلا من القواسر فاما أن يسكن فى مكان فنقول هو المكان الطبيعى له أو يتحرك فيتوجه إلى الجهة التى فيها مكانه الطبيعى له لا محالة وإنما قلنا ينبغى أن يكون واحدا لما ذكرناه حتى لا يلزم المحال وهو افتراق أجراء البسيط إذا خلا من الحدين حتى يتوجه إلى المكانين بعضه إلى ذا وبعضه إلى ذلك فانه لو توجه إلى أحدهما وترك الآخر فالطبيعى ما توجه اليه.
(المقالة الثالثة): فى المزاج والمركبات ولا بد فيها من النظر فى خمسة أمور.
(النظر الأول): فى حقيقة المزاج والمعنى به أن تمتزج هذه العناصر بحيث يفعل بعضها فى بعض فتتغير كيفيتها حتى يستقر للكل كيفية متشابهة ويسمى ذلك الاستقرار امتزاجا وذلك أن يكسر الحار من برودة البارد والبارد من حرارة الحار وكذلك الرطب واليابس حتى تصيرالكيفيات المحسوسة التى بينا أنها أعراض للصورة متشابهة لتعادلها بالتفاعل فأما الصور وهى القوى الموجبة لهذه الكيفيات فانها تكون باقية ببقاء التفاعل لأن الصور كلها لو بطلت لكان ذلك فسادا لا مزاجا ولو بطلت الصور النارية مثلا وبقيت الصور الهوائية لكان ذلك انقلاب النار هواء لا مزاجا ولو لم تتغير الكيفيات بتصادم التأثيرات لكان تجاورا لا مزاجا وحيث قال أرسطو أن قوى العناصر باقية فى المزاجات فانه لا يريد بها إلا القوى الفاعلة فان نفى قوى التفاعل يدل على الفساد وهو إنما استدل بهذا على أن المزاج لبس بفساد ثم كيف يقع فساد ولو كانت متكافية فلا يفسد البعض البعض وإن غلب بعضها بقى الغالب وبطل المغلوب وانقلب إلى الغالب وعلى الجملة فلا واسطة بين الجواهر والصور جواهر فلا تقبل الزيادة والنقصان فيلزم من ذلك أن يعتقد حقيقة المزاج كما ذكرناه والمزاج ينقسم فى الوهم إلى معتدل وإلى مائل فالمعتدل غير ممكن الوجود إذ لو وجد لكان الجسم غير ساكن ولا متحرك فانه إن سكن على الأرض فالأرض غالبة عليه وكذلك إن سكن فى الهواء فان الهواء يكون غالبا عليه وإن تحرك من الهواء إلى النار فالنار غالبة عليه وإن تحرك إلى الأرض فالأرض غالبة عليه وحقه أن لا يسكن فى موضع وأن لا يتحرك إلى موضع وذلك محال.
(النظر الثانى): فى الاختلاط الأول بين العناصر التى تقدم القول فى صفاتها وبساطتها فاعلم أن الأرض ينبغى أن تكون ثلاث طبقات الطبقة السافلة وهى ما تكون حول المركزمائلة إلى البساطة فتكون ترابا صرفا وفوقها طبقة تختلط بها رطوبة المياه المنجذبة اليه فتكون طبقة الطين وفوقها طبقة هى وجه الأرض وينقسم إلى ما يستوى عليه البخار وإلى ما تنكشف عنه فما تحت البحر يغلب عليه المائية وما ينكشف عنه يغلب عليه اليبوسة بسبب حرارة الشمس والسبب فى أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فيحصل فى ذلك الموضع وهدة والماء ينقلب أرضا فيحصل بسببه ربوة والأرض صلبة ليست بمشاكلة للماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائها إلى بعض فيزيل عن نفسه التفاوت ويتشكل بالاستدارة كما يكون ذلك فى الماء والهواء فيميل المرتفع منه إلى المنخفض فينكشف بعض المواضع للهواء وهذا هو الذى اقتضته العناية الالهية فان الحيوانات البرية لا بد لها من الاغتذاء بالهواء لدوام روحها ولا بد أن تكون الأرضية غالبة عليها لتكون محكمة ثابتة فلم يكن بد من أن تنكشف الأرض للهواء فى بعض المواضع ليتم وجود الحيوانات البرية وأما الهواء فهو أربع طبقات الطبقة التى تلى الأرض فيها مائية من البخارات التى ترتفع اليها من مجاورة المياه وفيها حرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمى فتتعدى الحرارة إلى ما يجاورها وفوقها طبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن تكون أقل حرارة لأن حرارة الأرض لا ترتفع اليها لبعدها وفوقها طبقة هى هواء صاف لأن البخار والحرارة المنعكسة عن الأرض لا يرتفعان اليها وفوقها طبقة فيها دخانية لأن الأدخنة من الأرض ترتفع في الهواء وتقصد عالم الأثير أعنى النار فتكون كالمنتشرة فى السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصاعد فتنحرق* وأما النار فانها طبقة واحدة محرقة لا ضوء لها بل هى كالهواء وألطف منه ولو كان لها لون منع رؤية الكواكب بالليل ولكان لها ضوء كما للنيران المشتعلة ولون السراج وضوءه إنما يحصل من شوب النار الصافية بالدخان المظلم فيحصل من مجموع ذلك اللون والضوء وإلا فالنار الصافية لا لون لها وحيث تقوى النار فى السراج لا يكون لها لون حتى يظن أنها كالثقبة الخالية ليس فيها إلا خلاء أو هواء فانما النار بالحقيقة تلك وإذا حصل لها لون فلكونها مشوبة بالدخان وبالحقيقة فانما ذلك لون الدهن المحترق لا لون النار أو لون الحطب المحترق وإنما النار مثل الهواء لا لون لها ولا ضوء لها لأنها شفافة حيث أنها هواء محترق.
(النظر الثالث): فيما يتكون في الجو من مادة البخار ليس يخفى أن الشمس إذا سخنت الأرض بواسطة الضوء صعدت من الرطب بخارا ومن اليابس دخانا ويتكون عما يحتبس منهما في باطن الأرض المعادن وعما ينفلت منهما ويتصاعد فى الهواء أمور كثيرة لا بد من ذكرها أما ما يتكون من مادة البخار فهو الغيم والمطر والثلج والبرد وقوس قزح والهالة وغير ذلك فمهما ارتفع من الطبقة الحارة من الهواء إلى الباردة شىء تكاثف بالبرد وانعقد به وصار غيما لأن البرد أسرع تأثيرا في قلب البخار الحار ماء في الهواء وذلك للطف البخار بسبب الحرارة أما ترى أنه إذا دخل الشتاء اشتد حمو الحمام فأظلم هواء الحمام وتكاثف البخار لتكاثف الغيم ولذلك يترك الماء وقت العصر فى الشمس لتلطف الشمس بخاره مهما أريد تبريده بالشمال ليلا وكذلك إذا صب الماء البارد والحار على الأرض فى الشتاء كان الحار أسرع جمودا من البارد ويظهر ذلك فيمن يتوضأ بالماء الحار فى البلاد الباردة فينجمد فى الحال على شعر لحيته ولا يكون البارد كذلك وهذه الأبخرة إنما تتصاعد من باطن الأرض لما سرى فيها من حرارة الشمس ولكنها تنفد وتقوى على الخروج من مسام الأرض إلا ما يقع تحت الجبال الصلبة فانها تمنعه من النفوذ إذ تجرى الجبال منها مجرى الانبيق الذى يمسك البخار ثم إذا احتبس فيها صار مادة للمعادن وإذا قوى ثم وجد منفذا فى شعوب الجبال ارتفع منه قدرصالح ثم يختلف فان كان ضعيفا بددته حرارة الشمس فى الجبال وأحالته هواء ولذلك قل ما يجتمع فى نهار الصيف منه غيم ويجتمع فى الليل والشتاء إذا كانت الشمس ضعيفة الحرارة منه أكثر وإن كان ذلك البخار قويا أو كانت حرارة الشمس ضعيفة أو اجتمع الأم إن لم تؤثر فيه الشمس فاجتمع وربما تعين الريح أيضا على جمعه بأن تسوق البعض إلى البعض حتى يتلاحق فمهما انتهى إلى الطبقة الباردة تكاثف وعاد ماء وتقاطر ويسمى مطرا كالبخار يتصاعد عن القدر فينتهى إلى غطائها وعندما يلاقى أدنى برودة ينزل فينعقد قطرات عليه فان أدركه برد شديد قبل أن يجتمع ويصير قطرات جمدت وتفرقت أجزائه ونزل كالقطن المندوف ويسمى ذلك ثلجا وإن لم تدركه برودة حتى كان منه قطرات ثم أدركتها حرارة من الجوانب فانهزمت برودتها إلى بواطنها وتوفر عليها برد الجو الذى كانت منتشرة فيه وانعقدت سميت حينئذ بردا ولذلك لا يكون البرد إلا فى الخريف والربيع فتجتمع البرودة فى بواطنها باحاطة حرارة ما بظواهرها ومهما صار الهواء رطبا بالمطر رطوبة مع أدنى صقالة صار كالمرآة فالمحازى له إذا كانت الشمس وراءه يرى الشمس فى الهواء كما يراها فى المرآة إذا قابلها بها ويشتبك ذلك الضوء بالبخار الرطب فيتولد منه قوس قزح وله ثلاثة ألوان وربما لا يكون اللون المتوسط ويكون مستديرا حتى يكون بعد أجزاء المرآة من الشمس واحدا فان المرآة إنما ترى الصورة إذا كانت على نسبة مخصوصة من الرائى والمرئى ويستقصى ذلك فى علم المناظر ولا تتم الدائرة إذ لو تمت لوقع شطرها تحت الأرض إذ الشمس تكون في قفا الناظر كالقطب لتلك الدائرة ويكون مرتفعا عن الأرض ارتفاعا قريبا فان كان قبل الزوال رئى قوس قزح فى المغرب وإن كان بعده رئى فى المشرق وإن كانت الشمس فى وسط السماء لم يمكن أن يرى إلا قوس صغيرة في الشتاء إن اتفق والهالة وهى الدائرة المحيطة بالقمر من مثل هذا السبب أيضا فان الهواء المتوسط بين القمر وبين البصر صقيل رطب فيرى القمر فى جزء منه وهو الجزء الذى لو كان فيه مرآة لرأى القمر فيها ثم الشىء الذى يرى فى مرآة من موضع لو كانت مرايا كثيرة محيطة بالمبصر وكانت موضوعة على تلك النسبة لرأى الشىء فى كل واحدة من المرايا فاذا تواصلت المرايا يرى فى الكل فيرى دائرة لا محالة* وأما وسطها فانما يرى مظلما لأن البخار المتوسط لطيف فاذا قرب من المضىء انمحق وصار لا يرى وإذا بعد منه صار مرئيا وليس هو كالذرة ترى فى الشمس لا فى الظل بل هو كالكواكب تختفى بالنهار وتظهر بالليل فلهذا يرى وسط الدائرة كأنه خال عن الغيم وهذه الدائرة ربما تحصل من مجرد برودة الهواء وإن لم يكن مطر إذ يحصل في الهواء بها أدنى رطوبة ولم يكن غبار ودخان يمنع صقالة تلك الرطوبة.
(النظر الرابع): فيما يتكون من مادة الدخان وهو الريح والصواعق والشهب والكواكب ذوات الأذناب والرعد والبرق فاذا تصاعد الدخان ارتفع من وسط البخار لأنه أميل إلى جهة الفوق وأقوى حركة من البخار فان ضربه البرد فى ارتفاعه ثقل وانتكس وتحامل على الهواء دفعة وحرك الهواء بشدة كتحريك المروحة العظيمة للهواء فحصلت الريح من ذلك فانها عبارة عن هواء متحرك وإن لم يضر به البرد تصاعد إلى الأثير واشتعلت النار فيه فيكون منه نار تشاهد وربما يستطيل بحسب طول الدخان فيسمى كوكبا منقضا ثم إن كان لطيفا فاما أن ينقلب نارا صرفة أو ينطفى فلا يرى فينمحى لأن الدخان يخرج عن كونه مبصرا بأن يصير نارا صرفة وهى النار المحضة أو ينطفى بالبرد فى ارتفاعه فينقلب هواء فيصير شفافا فان كان الملاقى له البرد المؤثر فى الأطفاء فانه يستحيل هواء وإن قويت النار أثرت فى التخليص من شوب الدخان فيستحيل كله نارا إذ لا يبرد ثم وأن كان الدخان كثيفا واشتعل ولكن لم يكن يستحيل على القرب بقى ذلك زمانا فيرى أنه كوكب ذو ذنب وربما يدور مع الفلك إذ النار متشبثة الأجزاء بأجزاء مقعر الفلك فيدور فى مشايعتها فيدور هذا الدخان الحاصل فى حيزها وإن لم يشتعل ولكن كان كالفحم الذى انطفت النار المشتعلة فيه فانه يرى أحمر فيظهر منه علامات حمر فى الجو وبعضه تزايله الحمرة فيكون كالفحم الذى انمحت ناره فيرى كأنه ثقبة مظلمة فى الهواء ثم إن بقى شىء من الدخان فى تضاعيف الغيم وبرد صار ريحا وسط الغيم فيتحرك فيه بشدة ويحصل من حركته صوت يسمى الرعد وإن قويت حركته وتحريكه اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدخان معا فصار نارا مضيئة فيسمى البرق وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ولكنها نارا لطيفة تنفذ فى الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالحديد والذهب فتذيبها حتى تذيب الذهب فى الكيس ولا يحترق الكيس وتذيب ذهب المذهب ولا يحترق الشىء ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعا عن الحركة ولكن البصر أحد إدراكا فقد يرى البرق ولا ينتهى صوت الرعد إلى السمع لأن البصر يدرك بغير زمان والسمع لا يدرك ما لم يتحرك الهواء الذى بين السمع والمسموع حتى ينتهى أثره إلى السمع وكذلك إذا نظر الناظر إلى القصار من بعد رأى حركته قبل سماع صوته بزمان ما.
(النظرالخامس): فى المعادن وهى إنما تتكون مما يختفى فى الأرض من البخار والدخان فتمتزج فتستعد بسبب أمزجتها المختلفة لقبول صور مختلفة يفيض عليها من واهب الصور فان غلب الدخان كان الحاصل منه مثل النوشادر والكبريت وربما يغلب البخار فى بعضه فيصير كالماء الصافى والمنعقد المتحجر يكون منه الياقوت والبلور وغيرهما وتعسر إذابة هذا النوع بالنار ولا ينطرق تحت المطارق فان الانطراق والذوبان برطوبة لزجة تسهى دهنية وما فيها من الرطوبة نفدت فجمدت وانعقدت فأما الذى يذوب وينطرق كالذهب والفضة والنحاس والرصاص فهو الذى استحكم امتزاج الدخان منه بالبخار وقلة الحرارة المخفية فى جوهرها وبقيت فيها رطوبة ودهنية وذلك لكثرة تأثير حرارته فى رطوبته حتى انكسرت به برودته وامتزجت به الهوائية وبقى فيه شىء من الأرضية مع الهوائية فهذا يذوب فى النار لأن ما فيه من الكبريت يعين النار على الاذابة فتسيل الرطوبة ويقصد التصاعد فتجذبها الأرضية المتشبثة به فيحصل من تصعد ذلك وجذب هذا حركة دورية لا يتفرق أجزاؤها لاستحكام امتزاجها فان كان الامتزاج ضعيفا تصعد البخار وانفصل من الثقيل الجاذب إلى أسفل فاذا كثرت عليه النار ينقص لانفصال البخار فصار كلسا كالرصاص وكلما كانت الدهنية فيه ابعد عن الانعقاد كان أقبل للانطراق تحت المطارق وما انعقد ولم يقبل الاذابة إذا طرح عليه الكبريت والزرنيخ وخلطا به وسريا فيه تسارعت اليه الاذابة مثل سحالة الحديد والطلق والخارصينا وكل ما عقده البرودة ألانه الحرارة مثل الشمع وكلما عقده الحر أذابه البرد مثل الملح فانه ينعقد بالحر مع مشاركة من يبوسة الأرض فان الحرارة تعين الرطوبة واليبوسة جميعا ويزيد فيهما وكل ما كانت المائية فيه غالبة ينعقد بالبرودة وكل ما غلبت فيه الأرضية انعقد بالحرارة فاذا كان فى الشىء أرضية ورطوبة والأرضية أشد مناسبة للحرارة ينعقد بالبرد وتعسر إذابته كالحديد وتفصيل هذا يستدعى تطويلا ومنه تتفرع صناعة الكيميا وصناعات كثيرة سواها.
(المقالة الرابعة فى النفس النباتى والحيوانى والانسانى) (القول في النفس النباتى): كما أن اختلاط الدخان والبخار يوجب استعدادا لقبول صورة المعادن فكذلك العناصر قد يقع لها امتزاج أتم من ذلك واحسن وأقرب إلى الاعتدال وأبعد من بقاء التضاد فى الكيفيات الممتزجة فيستعد لقبول صورة أخرى أشرف من صورة الجمادات حتى يحصل فيه النمو الذى لا يكون فى الجمادات وتسمى تلك الصورة نفسا نباتية وهى التى تكون فى النجم وفى الشجر وهذه النفس لها ثلاثة أفعال.
Неизвестная страница