المقاصد الفلاسقة فى المنطق والحكمة الالهية والحكمة الطبيعية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى عصمنا من الضلال، وعرفنا مزلة أقدام الجهال والصلاة والسلام على المخصوص من ذى الجلال بالقبول والاقبال محمد المصطفى خير خلقه وعلى آله خير آل.

(أما بعد): فانك التمست كلاما شافيا فى الكشف عن تهافت الفلاسفة وتناقض آرائهم ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع فى إسعافك إلا بعد تعريفك مذهبهم، وإعلامك معتقدهم؛ فان الوقوف على فساد المذاهب قبل الاحاطة بمداركها محال بل هو وهى فى العماية والضلال، فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلاما وجيزا مشتملا على حكاية مقاصدهم من علومهم المنطقية والطبيعية والالهية من غير تمييز بين الحق منها والباطل بل لا أقصد إلا تفهيم غاية كلامهم من غير تطويل بذكر ما يجرى مجرى الحشو والزوائد الخارجة عن المقاصد وأورده على سبيل الاقتصاص والحكاية مقرونا بما اعتقدوه أدلة لهم ومقصود الكتاب حكاية:

(مقاصد الفلاسفة): وهو اسمه وأعرفك أولا أن علومهم أربعة أقسام؛ الرياضيات، والمنطقيات، والطبيعيات، والالهيات (أما الرياضيات): فهى نظر فى الحساب والهندسة، وليس فى مقتضيات الهندسة والحساب ما يخالف العقل، ولا هى مما يمكن أن يقابل بانكار وجحد، وإذا كان كذلك فلا غرض لنا فى الاشتغال بايراده* (وأما الالهيات): فأكثر عقائدهم فيها على خلاف الحق والصواب نادر فيها.

(وأما المنطقيات): فأكثرها على منهج الصواب والخطأ نادر فيها وإنما يخالفون أهل الحق فيها بالاصطلاحات والايرادات دون المعانى والمقاصد إذ غرضها تهذيب طرق الاستدلالات وذلك مما يشترك فيه النظار.

(وأما الطبيعيات): فالحق فيها مشوب بالباطل. والصواب فيها مشتبه بالخطأ فلا يمكن الحكم عليها بغالب ومغلوب، وسيتضح فى كتاب التهافت بطلان ما ينبغى أن يعتقد بطلانه ولنفهم الآن ما نحن نورده على سبيل الحكاية مهملا مرسلا من غير بحث عن الصحيح والفاسد حتى إذا فرغنا منه استأنفنا له جدا وتشميرا فى كتاب مفرد نسميه: (تهافت الفلاسفة) إن شاء الله.

ولتقع البداية بتفهيم المنطق وإيراده.

~~القول في المنطق

(مقدمة فى تمهيد المنطق وبيان فائدته واقسامه) (أما التمهيد): فهو أن العلوم وإن انشبعت أقسامها، فهى محصورة فى قسمين؛ التصور والتصديق.

(أما التصور): فهو إدراك الذوات التى يدل عليها بالعبارات المفردة على سبيل التفهيم والتحقيق كادراك المعنى المراد بلفظ الجسم والشجر والملك والجن والروح وأمثاله* (وأما التصديق): فكعلمك بأن العالم حادث والطاعة يثاب عليها والمعصية يعاقب عليها. وكل تصديق فمن ضرورتة ان يتقدمه تصوران فان لم يفهم العالم وحده، والحادث وحده، لم يتصور منه التصديق بأنه حادث بل لفظ الحادث إذا لم يتصور معناه صار كلفظ المادث مثلا. ولو قيل العالم مادث لم يمكنك لا تصديق ولا تكذيب لأن ما لا يفهم كيف ينكر أو كيف يصدق به وكذا لفظ العالم إذا أبدل بمهمل. ثم كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى ما يدرك أولا من غير طلب وتأمل، وإلى ما لا يحصل إلا بالطلب* أما الذى يتصور من غير طلب فكالموجود والشىء وأمثالهما* وأما الذى يتحصل بالطلب فكمعرفة حقيقة الروح والملك والجن وتصور الأمور الخفية وذواتها.

وأما التصديق المعلوم أولا: فكالحكم بأن الاثنين أكثر من واحد وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية ويضاف إليه الحسيات والمقبولات وجملة من العلوم التى تشتمل النفوس عليها من غير سبق طلب وتأمل فيها وينحصر في ثلاثة عشر نوعا وسيأتى فى موضعه* وأما الذى يدرك بالتأمل: فكالتصديق بحدوث العالم وحشر الأجساد والمجازات على الطاعات والمعاصى وأمثالها وكل ما لا بد فى تصوره من طلب فلا ينال إلا بذكر الحد وكل ما لابد فى تصديقه من طلب فلا ينال إلا بالحجة وكل واحد منهما من ضرورته أن يتقدم عليه علم لا محالة فانا إذا أنكرنا معنى الانسان وقلنا ماهو فقيل لنا هو حيوان ناطق فينبغى أن يكون الحيوان معلوما عندنا وكذلك الناطق حتى يحصل لنا بهما العلم بالانسان المجهول، ومهما لم نصدق بأن العالم حادث فقيل لنا العالم مصور وكل مصور حادث فاذا العالم حادث فهذا لا يفيدنا العلم بما جهلناه من حدوث العالم إلا إذا سبق لنا التصديق بأن العالم مصور وبان المصور حادث فعند ذلك نقتنص بهذين العلمين العلم بما هو مجهول عندنا فيثبت بهذا أن كل علم مطلوب فانما يحصل بعلم قد سبق ثم لا يتسلسل الى غير النهاية فلا بد وأن ينتهى الى اوائل هى حاصلة فى غريزة العقل بغير طلب وفكرة هذا تمهيد القول فى المنطق * (أما فائدة المنطق): فلما ثبت أن المجهول لا يحصل الا بمعلوم وليس بخفى أن كل معلوم لا يمكن التوصل به إلى كل مجهول بل لكل مجهول معلوم مخصوص يناسبه وطريق فى إيراده وإحضاره فى الذهن يفضى ذلك الطريق إلى كشف المجهول فما يؤدى منه إلى كشف التصورات يسمى حدا أو رسما، وما يفضى إلى العلوم التصديقية يسمى حجة فنه قياس ومنه استقراء وتمثيل وغيره.

وينقسم كل واحد من الحد والقياس إلى ما هو صواب ليفيد اليقين وإلى ماهو غلطولكنه شبيه بالصواب. فعلم المنطق هو القانون الذى به يميز صحيح الحد والقياس عن فاسدهما فيتميز العلم اليقينى عما. ليس يقينيا وكانه الميزان والمعيار للعلوم كلها وكل ما لم يوزن بالميزان لم يتميز فيه الرجحان عن النقصان، ولا الربح عن الخسران. فان قيل إن كانت فائدة المنطق تميز العلم عن الجهل فما فائدةالعلم ؟ قيل له الفوائد كلها مستحقرة بالاضافة إلى السعادة الأبدية وهى سعادة الآخرة وهى منوطة بتكميل النفس، وتكميلها بأمرين. الذكية والتحلية * (أما التذكية): فهى تطهيرها عن رذائل الأخلاق وتقديسها عن الصفات المذمومة * (وأما التحلية): فبأن ينتقش فيها حلية الحق حتى ينكشف لها الحقائق الالهية بل الوجود له على ترتيبه انكشافا حقيقيا موافقا للحقيقة لاجهل فيها ولا لبس. ومثالها المرآة التى كمالها فى أن يظهر فيها الصور الجميلة على ما هى عليها من غير اعوجاج وتغيير وذلك بتطهيرها عن الخبت والصدأ بأن يحاذى بها شطر الصور الجميلة.

فالنفس مرآة تنطبع فيهاصور الوجود كلها مهما ذكيت وصقلت بتخليتها عن رذائل الأخلاق ولا يمكن التميز بين الأخلاق المذمومة والمحمودة إلا بالعلم ولا معنى لتحصيل نقش الموجودات كلهافى النفس إلا بالعلم ولا طريق إلى تحصيله إلا بالمنطق فاذا فائدة المنطق اقتناص العلم. وفائدة العلم حيازة السعادة الأبدية فاذا صح رجوع السعادة إلى كمال النفس بالتذكية والتحلية صار المنطق لا محالة عظيم الفائدة أما أقسام المنطق وترتيبه فيتبين بذكر مقصوده ومقصوده الحد والقياس وتميز الصحيح منهما عن الفاسد وأهمهما القياس وهو مركب إذ لا ينتظم قياس إلا من مقدمتين كما سيأتى وكل مقدمة فيهاموضوع ومحمول وكل موضوع ففيه لفظ ويدل لا محالة على معنى ومن أراد تحصيل المركب إما فى الوجود أو فى العلم فلا سبيل له إلا بتقديم المفردات والأجزاء المفردة أولا كما أن بانى البيت يفتقر إلى اعداد الخشب واللبن والطين وإحضار المفردات والأجزاء أولا ثم الاشتغال بالبناء ثانيا فكذلك العلم يحذو حذو المعلوم فانه مثال مطابق للمعلوم فطالب العلم بالمركب ينبغى أن يحصل العلم أولا بالمفردات فلزم من ذلك أن نتكلم فى الألفاظ ووجه دلالتها على المعانى ثم فى المعانى وأقسامها ثم فى القضية المركبة من محمول وموضوع وأقسامها ثم فى القياس المركب من قضيتين . ونتكلم في القياس فى حين أحدهما فى مادته والآخر في صورته كما سيأتى فعلى هذا يشتمل ما نريد إيراده من المنطق على فنون * (الفن الاول فى دلالة الالفاظ) ويتضح المقصود منها بتقسمات خمسة: (الأول ايساغوجى): اعلم بأن دلالة اللفظ لى المعنى من ثلاثه أوجه: (أحدها) بطريق المطابقة كدلالة لفظ البيت على معناه.

(والآخر): بطريق التضمن كدلالة لفظ البيت على الحائط.

المخصوص فان لفظ الحائط موضوع للمسمى به بالمطابقة فيدل عليه بذلك ولفظ البيت أيضا يدل عليه ولكن يفارقه في وجه الدلالة.

(والثالث): بطريق الالتزام كدلالة السقف على الحائط فانه يباين طريق المطابقة والتضمن فلم يكن بد من اختراع اسم ثالث والمستعمل فى العلوم والمعول عليه فى التفهيمات طريق المطابقة والتضمن أما الالتزام فلا فان اللوازم أيضا لها لوازم ويتداعى إلى أمور غير محدودة ولا يحصل التفاهم بها * (قسمة ثانية): اللفظ ينقسم إلى مفرد ومركب.

(أمالمفرد): فهو الذى لا يراد بأجزائه أجزاء من المعنى كالانسان فانه لا يرادبان ولا بسان معنى من أجزاء معنى الانسان بخلاف قولك غلام زيد. وزيد يمشى إذيراد بالغلام الذى هو جزء من الكلام معنى وبزيد معنى وإذا قلت عبد الله وكان اسم لقب كان مفردا لأنك لاتقصد به إلا ما تقصد بقولك زيد. وان أردت النعت فهو مركب وإذ كان كل مسمى بعبد الله عبد الله لا محالة صار هذا الاسم فى حقه كالمشترك تارة بطلق لقصد التعريف فيكون اسما مفردا وتارة يراد به الوصف فيكون مركبا * (قسمة ثالثة): اللفظ ينقسم إلى جزئى وكلى، فالجزئى ما يمنع نفس مفهومه من الشركة فيه كقولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة والكلي مالا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه كالفرس والشجروالانسان وان لم يكن فى العالم إلا فرس واحد فقولك الفرس كلى لأن الاشتراك فيه نمكن بالقوة وان لم يوجد بالفعل وإنما يصير جزئيا بأن تقول هذا الفرس. ولهذا لوقلت الشمس فهو كلى لأنه لو قدرت شموس لدخلت تحت الاسم بخلاف قولك هذه الشمس (قسمة رابعة): اللفظ ينقسم إلى فعل واسموحرف، والمنطقيون يسمون الفعل كلمة وكل واحد من الاسم والفعل يفارق الحرف فى ان معناه تام بنفسه فى الفهم بخلاف الحرف فانه إذا قيل لك من الداخل فقلت زيد فهم وتم الجواب. واذا قيل ماذا فعلت فقلت ضربت تم الجواب ولوقيل أين زيد فقلت فى أوقلت على لم يتم الجواب مالم تقل فى الدار أوعلى السطح فيظهر معنى الحرف فى غيره لا في نفسه ،ثم يفارق الكلمة الاسم فى انه يدل على معنى وعلى زمان وقوع ذلك المعنى كقولك ضرب فانه يدل على الضرب الواقع فى الماضى والاسم كقولك الفرس فانه لا يدل على الزمان . فان قيل فقولك أمس وعام أول يدل على الزمان فليكن فعلا. قيل الفعل ما دل على معنى وعلى زمان ذلك المعنى، وقولك أمس يدل على زمان هو نفس المعنى لاهو زمان المعنى فلو كان يدل أمس على معنى الأمس وعلى زمان هو غير معنى الأمس لقيل انه فعل ولكان لازما ومنطبقا على حد الفعل.

(قسمة خامسة ): الألفاظ من المعاني على خمسة منارل؛ (المتواطئة والمترادفة والمتباينة والمشتركة والمتفقة) أما المتواطئة فكقولك حيوان فانه ينطبق على الفرس والثور والانسان بمعنى واحد من غير تفاوت في القوة والضعف ولا تقدم ولا تأخر بل الحيوانية للكل واحد وكذلك الانسان على زيد وعمرو وخالد وأما المترادفة فهى الاسامى المختلفة المتواردة على مسمى واحد كالليث والأسد والخمر والعقار، والمتباينة هى الاسامى المختلفة للمسميات المختلفة كالفرس والثور والسماء لمسمياته . والمشتركة هى اللفظ الواحد المطلق على مسميات مختلفة كلفظ العين للذهب والشمس والميزان وعين الماء، والمتفقة هى المترددة بين المشتركة والمتواطئة كالوجود للجوهر والعرض فانه ليس كلفظ العين إذ مسمياتها لا تشترك فى أمر والوجود حاصل للعرض كما أنه حاصل للجوهر وليس كالمتواطئة لأن الحيوانية للفرس والانسان ثابت على وجه واحد من غير اختلاف والوجود يثبت للجوهر أولا. ثم يثبت للعرض بواسطته فهو ثابت بتقدم وتأخر. وقد يسمى هذا مشككا لتردده، ولنقتصر من فن الألفاظ على هذا الفن * (الفن الثانى فى المعانى الكلية واختلاف نسبها واقسامها) إذا قلنا هذا الانسان حيوان وأبيض أدركنا تفرقة بين نسبة الحيوانية اليه وبين نسبة الأبيضية اليه فما نسبته إلى الموضوعات نسبة الحيوانية يسمى ذاتيا. وما نسبته يشبه نسبة الأبيضية يسمى عرضيا فيقال كل معنى كلى نسب إلى جزئى تحته فاما أن يكون ذاتيا واما أن يكون عرضيا ولا يكون المعنى ذاتيا مالم يجتمع فيه ثلاثة أمور: (الأول): أنك مهما فهمت الذاتى وفهمت ما هو ذاتى له لم يمكنك أن يخطر بالك الموضوع أوتفهمه إلا أن تفهم أولا حصول الذاتى له ولا يمكنك فهمه دون ذلك الذاتى فانك اذا فهمت الانسان والحيوان لم يمكنك فهم الانسان دون فهم الحيوان أولا. واذا فهمت العدد وفهمت الأربعة لم يمكنك أن تقدر الأربعة داخلة فى فهمك دون أن تفهم العدد اولا ولو أبدلت الحيوان والعدد بالموجود والأبيض امكنك أن تفهم الأربعة من غير ان يدخل فى فهمك انها موجودة ام لا وانها ابيض اولا بل ربما يشك فى ان فى العالم أربعة أم لا وذلك لا يقدح في فهم ذات الأربعة وكذلك تفهم ماهية الانسان بعقلك من غير أن تحتاج الى فهم كونه أبيض أو فهم كونه موجودا ولا يمكن دون كونه حيوانا، وان لم يساعدك الذهن فى فهم هذا المثال لأنك انسان موجود ولكثرة وجود الانسان فابدله بالتمساح أو بما شئت من الحيوانات وغيرها فبذلك يظهر أن الوجود عرضى للماهيات كلها، وأما الحيوان للانسان فذاتى وكذلك اللون للسواد والعدد للخمسة.

(والثانى): أنك تفهم أن الكلى لا بد أن يكون أولا حتى يكون الجزئى الموضوع تحته حاصلا إما في الوجود أو فى الذهن اذ تفهم أنه لا بد من حيوان أولا حتى يكون انسانا أو فرسا ولا بد من عدد أولا حتى يكون أربعة أو خمسة ولا يمكنك أن تقول لا بد من ضحاك أولا حتى يكون انسانا بل لا بد من انسان أولا حتى يكون ضحاكا. وكون الانسان ضحاكا بالطبع وصف له عرضى تابع لوجوده وهو مساو لكونه حيوانا فى أنه لازم لا يفارق ولكن الفرق بينهما مدرك اذ لا بد من اتصال الروح بجسد الانسان أولا ليكون انسانا ولا يمكن ان يقال لا بد من ضحاك أولا ليكون انسانا بل لا بد من انسان أولا ليكون ضحاكا. ولا نعنى بهذه الأولية ترتيبا زمانيا بل ترتيبا عقليا وان كان مساويا فى الزمان * (والثالث): ان الذاتى لا يمكن أن يعلل فلا يمكن أن يقال أى شىء جعل الانسان حيوانا والسواد لونا والأربعة عددا بل الانسان حيوان بعينه وذاته لا بجعل جاعل اذ لو ان بحعل جاعل لتصور أن يجعله انسانا ولا يجعله حيوانا ولا يمكن ذلك فى الوهم كما يمكن فى الوهم أن يجعل انسانا ولا يجعل ضحاكا * وأما العرضى فمعلل اذ يقال ما الذى جعل الانسان موجودا فيصح السؤال ولا يصح أن يقال ما الذى جعله حيوانا بل كان قولك ما الذى جعل الانسان حيوانا كقولك مالذى جعل الانسان انسانا فيقال هو انسان لذاته وكذلك هو حيوان لذاته لأن معنى الانسان حيوان ناطق فلافرق بين قوله ما الذى جعل الحيوان الناطق حيوانا ناطقا وبين قوله ما الذى جعل الانسان حيوانا الا أنه اقتصر فى أحد السؤالين على ذ كر احدى الذاتيين دون الأخرى وبالجملة مهما لم يكن المحمول غير الموضوع وخارجا عن ذاته بالكلية لم يمكن ان يطلب له علة فلا يقال لم كان الممكن ممكناوالواجب واجبا ويقال لم كان الممكن موجودا * (قسمة أخرى للعرض خاصة): العرض ينقسم إلى لازم لا يفارق أصلا كالضحاك للانسان، وكالزوجية للاثنين، وككون الزوايا من المثلث مساوية لقائمتين فانه لا يفارق المثلث وهو لازم وليس بذاتي والذى يفارق ينقسم إلى ما هو بطئ، المفارقة ككونه صبيا وشابا وإلى ما هو سريع المفارقة كصفرة الوجل وحمرة الخجل. والذى يفارق ينقسم إلى ما يفارق فى الوهم دون الوجود كالسواد للزنجى والى مالا يتصور ان يفارق أيضا في الوهم كالمحاذاة للنقطة والزوجية للاربعة وقد يفارق فى الوهم دون الوجود ككون الزوايا من المثلث مساوية لقائمتين إذ قد يفهم المثلث من لا يفهم ذلك ولا يمكن فهم الأربعة إلا وان يقترن به فهم الزوجية وإن كانت من اللوازم. ولما كان مثل هذا اللازم قريبا من الذاتي وملتبسا به جمعنا تلك المعانى الثلاثة لتعتبر جميعها فتعرف باجتماعها كون الشىء ذاتيا ولا يعول على آحادها ، وينقسم العرضى إلى ما يخص موضوعه كالضحاك للانسان ويسمى خاصا وإلى ما يعم غيره كالأكل للانسان ويسمى عرضيا مطلقا وعرضا عاما * (قسمة أخرى للذاتى): الذاتي ينقسم باعتبار العموم والخصوص الى ما لا أعم فوقه ويسمى جنسا والى ما لا أخص تحته ويسمى نوعا والى ما هو متوسط ويسمى نوعا بالاضافة الى ما فوقه وجنسا بالاضافة الى ماتحته و يسمى الذى لا نوع تحته نوع الأنواع والذى لا جنس فوقه جنس الأجناس، والأجناس العالية التى لا جنس فوقها عشرة كما سيأتى ، واحد جوهر وتسعة أعراض. فالجوهر جنس الأجناس إذ ليس شىء أعم منه إلا الوجود وهو عرضى وليس بذاتى ، والجنس عبارة عن الذاتي الأعم ، ثم ينقسم إلى الجسم وغير الجسم، والجسم ينقسم إلى النامى وغير النامى . والنامى ينقسم إلى الحيوان وإلى النبات والحيوان ينقسم الى الانسان وغيره فالجوهر جنس الأجناس والانسان نوع الأنواع وما بينهما من النبات والحيوان يسمى نوعا وجنسا بالاضافة، وإنما قيل للانسان نوع الأنواع لأنه لا ينقسم إلا الى معان عرضية كالصبى والكهل والطويل والقصير والعالم والجاهل وهذه عرضيات ليست بذاتيات اذ الانسان يفارق الفرس بذاته. والسواد يفارق البياض بذاته وهذا السواد لا يفارق ذلك السواد بذاته وطباعه ولكن يكون هذا فى المداد وذلك فى الغراب واضافته الى الغراب عرضى له وزيد لا يفارق عمرا فى الانسانية ولافى أمر ذاتى بل فى كونه ابن شخص آخر ومن بلد آخر أوعلى لون آخر وقديوجد فيه حرفة وخلق آخر. وكل هذا عرضيات للانسان كما سبق ذكره بتعريف العرضى* (قسمة أخرى): الذاتى باعتبار آخر ينقسم الى ما يقال فى جواب ماهو مهما كان مطلب السائل بقوله ما هو حقيقة الذات والى ما يقال فى جواب أى شىء هو فالأول يسمى جنسا أونوعا. والآخر يسمى فصلا، فمثال الأول الحيوان المقول فى جواب قول القائل بعد اشارته الى فرس أو ثور أو انسان ماهو وكذا الانسان المقول فى جواب من أشار الى زيد وعمرو وخالد وقال ماهم، ومثال الثانى الناطق فانه اذا أشار الى انسان وقال ماهو فقلت حيوان لم ينقطع السؤال فان الحيوان يشمل غير الانسان بل يحتاج الى مايفصل ذاته عن غيره فيقول أى حيوان هو فجوابه انه الناطق فيكون الناطق فصلا ذاتيا مقولا فى جواب أى شىء هو، ومجموع الحيوان والناطق حد حقيقي اذ الحد عبارة عما يصوركنه ماهية الشىء فى نفس السائل فان أبدلت الناطق بعرضى يفصله عن سائر الحيوانات كقولك حيوان مديد القامة عريض الأظفار ضحاك بالطبع فان هذا يميزه ويفصله عن سائر الحيوانات ولكن يسمى رسما، وفائدته التمييز فقط. وأما الحد فيطلب به حقيقة ذات الشىء فلا يحصل الا بذكر الفصول الذاتية. وأما التمييز فيحصل تبعا لها وقد يحصل التمييز بفصل واحد وقد لا تتصور الحقيقة الا بذكر فصول فرب شىء له فصول تزيد على تواحد، فيجب على المطلوب منه تصوير ماهية الشىء فى النفس ان يذكر تلك الفصول فمن قال فى حد الحيوان انه جسم ذو نفس حساس فقد أتى بأمور ذاتية مميزة مطردة منعكسة ولكنه ينبغي أن يضيف اليه المتحرك بالارادة حتى يتم به ذكر الفصول الذاتية ويتم بسببه تصور الحقيقة. واذا عرض الكلام فى الحد فلننبه على مثارات الغلط وهى بعد الجمع بين الجنس الأقرب وجميع الفصول الذاتية على الترتيب رجع الى تعريف الشىء بما ليس أوضح منه بأن تعرف الشىء بنفسه أو بما هو مثله فى الغموض أو بما هو أغمض منه أو بما لا يعرف الا به. مثال الأول قولهم فى حد الزمان انه مدة الحركة لأن الزمان هو مدة الحركة ومن أشكل عليه الزمان فلم يشكل عليه الا مدة الحركة وان معنى المدة ما هو. ومثال الثانى ان تقول فى حد البياض البياض ما يضاد السواد فيعرف الشيء بضده، ومهما أشكل الشىء أشكل ضده فضده فى الخفاء مثله فليس تعريف البياض بالسواد بأولى من عكسه، ومثال الثالث قول بعضهم في حد النار انه العنصر الشبيه بالنفس، ومغلوم أن النفس أغمض من النار فكيف تعرف به.

ومثال الرابع: أن يعرف الشىء بما لا يعرف إلا به كقولك فى حد الشمس أنه الكوكب المضىء الذى يطلع نهارا فيذكر النهار فى حد الشمس ولا يعرف النهار إلا بعد معرفة الشمس إذ حده الصحيح هو أن تقول هو زمان كون الشمس فوق الأرض فهذه أمور مهمة فى الحد يجب الاحتراز منها * وقد تحصل مما سبق أن الذاتى ثلاثة أقسام: (جنس، ونوع، وفصل) والعرضى قسمان: (خاصة وعرض عام) فثبت أن أقسام الكليات خمسة يسمى المفردات الخس وهى: (الجنس والنوع والفصل والعرض العام والخاصة) (الفن الثالث فى تركيب المفردات واقسام القضايا) المعاني المفردة إذا ركبت حصلت منها أقسام ولسنا نقصد من جملتها إلا قسما واحدا وهو الخبر، ويسمى قضية وقولا جازما وهو الذى يتطرق إليه التصديق أو التكذيب, فانك إذا قلت العالم حادث أمكن أن يقال إنك صادق، وإذا قلت الانسان حجر أمكن أن تكذب، وإذا قلت إن كانت الشمس طالعة فالكوا كب خفية صدقت، فان قلت فالكواكب ظاهرة كذبت، وإن قلت العالم إما حادث وإما قديم صدقت، وإن قلت زيد إما بالعراق وإما بالحجاز كذبت إذ قد يكون بالشام وهذه هى أقسام القضايا * واما إذا قلت علمنى مسألة. أو قلت هل توافقنى فى الخروج إلى مكة لم يمكن أن تصدق أو تكذب فهذا معنى القضية ولنشرحها بذكر تقسيمات.

(القسمة الأولى): أن القضية تنقسم إلى حمليةكقولك العالم حادث، وإلى شرطية متصلة كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وإلى شرطية منفصلة كقولك العالم إما قديم وإما حادث أما الأولى الجملى فيشتمل على جزئين يسمى أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه كالعالم من قولك العالم حادث. ويسمى الثانى محمولا وهوالخبر كالحادث من قولك العالم حادث، وكل واحد من المحمول والموضوع قد يكون لفظا مفردا كما ذكرناه وقد يكون لفظا مركبا ولكن يمكن أن يدل عليه بلفظ مفرد كقولك الحيوان الناطق منتقل بنقل قدميه. فالحيوان الناطق موضوع ويقوم مقامه لفط الانسان وهو مفرد ، وقولك منتقل بنقل قدميه محمول ويقوم مقامه قولك ماش * (وأما الشرطية المتصلة): فلها أيضا جزآن ولكن كل جزء منهما يشتمل على قضية * "أما الجزء الأول"وهو قولك إن كانت الشمس طالعة فيسمى مقدما ولو حذف منه حرف الشرط وهو قولك (إن) بقى قولك الشمس طالعة وهو قضية فكأن حرف الشرط أخرجها عن كونها قضية قابلة للتصديق والتكذيب* "وأما الجزء الثانى": وهو قولك الكواكب خفية يسمى تالية ولو حذف منه حرف الجزاء وهو الفاء لبقى قولك الكواكب خفية وهى قضية والفرق بين هذا وبين الحملى ظاهر من وجهين* "أحدهما": أن الشرطية المتصلة انتظمت من جزئين لا يمكن أن يدل على كل واحد من جزئه بلفظ مفرد بخلاف الحملية * "والثاني": أنه يمكن أن يسأل عن الموضوع أنه هو المحمول فانك تقول الانسان حيوان، ويمكن أن يسأل فيقال هل الانسان هو الحيوان، وأما المقدم فلا يكون هو التالى بل التالى ربما يكون غيره ولكن يكون متصلا به لازما وتاليا فى وجوده لوجوده وتفارق الشرطية المتصلة المنفصلة بوجهين* "أحدهما": أن المنفصلة أيضا تشتمل على جزئين كل واحد أيضا قضية إذا حذفت عنها كلمة الشرط، ولكن لا ترتيب بين جزئيه إلا من حيث الذكر فانك تقول العالم إما حادث وإما قديم، ولو عكست وقلت إما قديم وإما حادث لم يتبدل المعنى. أما التالى إذا جعل مقدما تغير المعنى فى الشرطية المتصلة، وربما كذب احدهما وصدق الآخر* "والثاني": ان التالى موافق للمقدم بمعنى انه يتصل به ويلازمه ولا يعانده، وأحد جزئى المنفصلة معاند للآخر ومنفصل عنه إذ يوجب وجود أحدهما عدم الآخر (قسمة أخرى): القضية باعتبار محمولها ينقسم الى موجبة كقولك العالم حادث، وإلى سالبة كقولك العالم ليس بحادث. وليس هو حرف السلب، والسلب فى الشرطية المتصلة أن تسلب الاتصال بأن تقول ليس ان كانت الشمس طالعة فالليل موجود والسلب فى المنفصلة أن تسلب الانفصال بأن تقول ليس الحمار إما ذكر وإما أسود بل إما ذكر وإما أنثى، وليس العالم إما قديم واما جسم بل اما قديم واما حادث وربما كان المقدم سالبا والتالى سالبا والشرطية المركبة منهما موجبة كقولك ان لم تكن الشمس طالعة فالنهار ليس بموجود فهذه موجبة لأنك أوجبت لزوم نفى النهار لنفى الطلوع وهو معنى الانجاب فى هذه القضية وهنا مزلة القدم وكذلك قد يغلط فى الحملية ويظن أن قولك: (زيدنا بينا است) بالعجمية سالبة وهى موجبة إذ معناه أنه أعمى وربما يقال بالعربية: زيد غير بصير وهى موجبة والعير البصير عبارة عن الأعمى، وهو بجملته محمول يمكن أن يثبت، ويمكن أن ينفى بأن يقال زيد ليس غير بصير اذ سلب الغير بصير عن زيد، وتسمى هذه قضية معدولة أى هو ايجاب فى التحقيق عدل به الى صيغة السلب. وآية ذلك أن السلب يصح على المعدوم فيمكن أن يقال: شريك الله ليس بصيرا اذ المحال ليس عينا ولا يمكن أن يقال شريك الله غير بصير كما لا يقال أعمى وهو في لغة العجم أظهز* (قسمة اخرى): القضية باعتبار موضوعها تنقسم إلى شخصية كقولك زيد عالم وإلى غير شخصية وهى تنقسم إلى مهملة ومحصورة فالمهمل مالم يسور بسور يبين فيه أن الحكم محمول على كل الموضوع أو بعضه كقولك الانسان فى خسر إذ يحتمل أنك تريد البعض والمحصورة هى التى ذكر ذلك فيها وهى أربعة. إما موجبة كليةكقولك كل إنسان حيوان. أو موجبة جزئية كقولك بعض الناس كاتب أوسالبة كلية كقولك لا إنسان واحدحجر. أوسالبة جزئية كقولك لا كل إنسان كاتب أوبعض الناس ليس بكاتب فتكون القضايابهذا الاعتبار ثمانية: (شخصية سالبه. شخصية موجبة. مهملة سالبة. مهملة موجبة) وهذه الأربع لا تستعمل فى العلوم. أما الشخصى المعين فلا يطلب حكمه فى العلوم إذ لا يطلب حكم زيد بل يطلب حكم الانسان. وأما المهملة فهى فى قوة الجزئية لأنها حاكمة على الجزء لا محالة. وأما العموم فمشكوك ولأجل تردده يجب أن يهجر فى التعليمات فيبقى المحصورات الأربعة: (موجبة كلية، وموجبة جزئية، وسالبة كلية، وسالبة جزئية) والشرطية المتصلة أيضا تنقسم إلى كلية كقولك كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإلى جزئية كقولك ربما إن كانت الشمس طالعة كان الغيم موجودا، وأما المنفصلة فالكلية منها أن تقول كلجسم فاما متحرك وإما ساكن، والجزئية أن تقول الانسان إما أن يكون فى السفينة وإما أن يغرق. فهذا الانقسام والتغاير ثابت للانسان ولكن فى بعض الأحوال وهو أن يكون فى البحر لا فى البر، وعليك أن تورد مثال السالبة الجزئية والكلية من الشرطية المتصلة والمنفصلة. (قسمة أخرى وهى الرابعة): القضية باعتبار نسبة محمولها إلى موضوعها تنقسم إلى ممكنة كقولك الانسان كاتب، الانسان ليس بكاتب، وإلى ممتنعة كقولك الانسان حجر، الانسان ليس بحجر اوالى واجبة كقولك الانسان حيوان، الانسان ليس بحيوان. فنسبة الكتابة الى الانسان نسبة الامكان، ولايلتفت الى اختلاف السلب والايجاب في اللفظ. فان المسلوب محمول بالسلب كما أن الموجب محمول بالايجاب، ونسبة الحجر الى الانسان نسبة الامتناع، ونسبة الحيوان اليه نسبة الوجوب، والممكن لفظ مشترك لمعنيين؛ اذ قد يراد به كل ما ليس بممتنع فيدخل فيه الواجب وتكون الأمور بهذا الاعتبار قسمين: ممكن وممتنع وقد يراد به ما يمكن وجوده ويمكن عدمه أيضا وهو الاستعمال الخاص وتكون الأمور بهذا الاعتبار ثلاثة: (واجب، وممكن، وممتنع): ولا يدخل الواجب فى الممكن بهذا المعنى، ويدخل فى الممكن بالمعنى الأول والممكن بالمعنى الأول لا يجب أن يكون ممكن العدم بل ربما كان ممتنع العدم كالواجب فانه غير ممتنع، والممكن بذلك المعنى عبارة عن غير الممتنع فقط* (قسمة أخرى وهى الخامسة): لكل قضية نقيض فى الظاهر يخالفها بالايجاب والسلب ولكن إن قاسمها الصدق والكذب سميتا متناقضتين وقيل إن إحداهما نقيضة الأخرى ونعنى به أن يكذب إذا صدقت القضية، ويصدق إذا كذبت القضية، ولا يتحقق هذا التناقض إلا بشروط: (الأول): أن يكون الموضوع واحدا بالحقيقة كما أنه واحد بالاسم، وإلا لم تناقضا فانك تقول الحل يذبح ويشوى والحمل لا يذبح ولا يشوى، وتريد باحدهما برج الحمل، وبالآخر الحيوان المعروف فلا يتناقضان* (الثانى): أن يكون المحمول واحدا وإلا لم يتناقضا كقولك المكره مختار أى له قدرة على الامتناع والمكره ليس بمختار أى ما خلى وشهوته فكون اسم المختار مشتركا منع التناقض كاسم الحمل فى الموضوع* (الثالث): أن لا يختلفا فى الجزئية والكلية فانك لوقلت عين فلان أسود، وأردت به الحدقة لم يناقضه قولك عينه ليس باسود إذا أردت به نفى السواد عن جميع العين* (الرابع): أن لا يختلفا فى القوة والفعل فانك لو تقول الخمر فى الدن مسكر وتريد به أنه يسكر بالقوة لا يناقضه قولك الخمر فى الدن ليس بمسكر إذا أردت به نفى الاسكار بالفعل* (الخامس): أن يتساويا فى الاضافة فيما يقع فى جملة المضافات فانك تقول العشرة نصف فلا يناقضه قولك العشرة ليس بنصف إلا بالاضافة الى العشرين وغيره، وتقول زيد والد وزيد ليس بوالد وهما صادقان بالاضافة الى شخصين* (السادس): أن يتساويا في الزمان والمكان . وبالجملة فينبغى أن لا يخالف احدى القضيتين الأخرى البتة فى شىء، الا في السلب والايجاب فتسلب إحدى القضيتين ما توجبه الأخرى بعينه من ذلك الموضوع على ذلك الوجه من غير تفاوت. فان كان الموضوع كليا ولم يكن شخصيا زيد شرط سابع وهو: أن يختلفا ف الكمية بأن يكون إحداهما كلية والأخرى جزئية فانهما إذا كانتا جزئيتين أمكن أن يصدقا في مادة الامكان كقولك بعض الناس كاتب وبعض الناس ليس بكاتب وإن كانتا كليتين أمكن أن يكذبا في مادة الامكان كقولك كل إنسان كاتب وكل إنسان ليس بكاتب * (قسمة أخرى وهى السادسة): كل قضية فلها عكس من حيث الظاهر ولكنه ينقسم إلى ما يلزم صدقه من صدق القضية، وإلى ما لا يلزم، ونعنى بالعكس أن يجعل المحمول موضوعا والموضوع محمولا فان بقى الصدق بعينه قيل هى قضية معكوسة. فان لم يلزم قيل أنها لا تنعكس، وقد ذكرنا أن القضايا المحصورة اربع: سالبة كلية: وهى تنعكس مثل نفسها سالبة كلية. فاذا صدق قولنا لا إنسان واحد حجر صدق قولنا لا حجر واحد إنسان لأنه لولم يصدق لصدق نقيضه وهو قوله بعض الحجر إنسان ولكان ذلك البعض إنسانا وحجرا، وعند ذلك يكذب قولنالا إنسان واحد حجر وهى القضية التى وضعناها أولا على أنها صادقة فيدل هذا على أن السالبة الكلية تعكس سالبة كلية * وأما السالبة الجزئية: فلا تنعكس فانه إذا صدق قولنا ليس.

بعض الناس كاتبا لم يلزم أن يصدق قولنا إن بعض الكاتب ليس إنسانا * وأما الموجبة الكلية: فتنعكس موجبة جزئية لا كلية فاذا صدق قولنا كل إنسان حيوان صدق قولنا بعض الحيوان إنسان لا محالة ولم يصدق قولنا كل حيوان إنسان* وأما الموجبة الجزئية: فتنعكس أيضا مثل نفسها فاذا صدق قولنا بعض الحيوان إنسان صدق قولنا لا محالة بعض الانسان حيوان فهذا هو النظر فى قسمة القضايا* (الفن الرابع فى تركيب القضايا) لتصير قياسا وهو المقصود، ولكن أول الفكر آخر العمل والنظر فيه ينحصر فى الركنين أحدهما فى الصورة والآخر فى المادة (الركن الأول فى صورة القياس): قد ذكرنا أن العلم إما تصور وإما تصديق، وإنما ينال التصور بالحد والتصديق بالحجة * والحجة إما قياس وإما استقراء وإما تمثيل، واعتبار الغائب بالشاهد يسمى مثالا ويدخل فيه والتعويل من هذه الجملة على القياس ومن جملة القياس على القياس البرهانى، ولكن لا بد من ذكر حد القياس فى الملة حتى ينقسم بعد ذلك إلى البرهانى وغيره * والقياس عبارة عن أقاويل ألفت تأليفا يلزم من تسليمها بالذات قولا آخر اضطرارا، ومثال ذلك العالم مصور وكل مصور حادث فانهما قولان مؤلفان يلزم من تسليمهما بالضرورة قول ثالث، وهو أن العالم حادث، وكذلك لو قلت ان كان العالم مصورا فهومحدث ولكنه مصور. فلزم من تسليم هذه الأقاويل أن العالم حادث وكذلك لو قلت العالم إما حادث وإما قديم لكنه ليس بقديم فيلزم منه أنه حادث، والقياس ينقسم إلى ما سمى اقترانيا وإلى ما سمى استثنائيا.

أما الاقترانى: فهو أن يجمع بين قضيتين بينهما اشتراك فى حد واحد إذ كل قضية فلا محالة تشتمل على محمول وموضوع، وتشتمل القضيتان على أربعة أمور لكنهما لو لم يشتركا في أحد المعانى لم يحصل الازدواج والانتاج إذ لا ينتظم قياس من قولك العالم مصور ومن قولك النفس جوهر بل لا بد وأن تكون القضيةالثانية مشاركة للا ولى فى أحد حديها مثل أن تقول العالم مصور والمصور محدث فيرجع مجموع أجزاء القضيتين إلى ثلاثة أجزاء تسمى حدودا ومدار القياس عليها وهو مثل العالم والمصور والمحدث في مثالنا والذي يقع مكررا في القضيتين ومشتركا يسمى الحد الأوسط والذى يصير موضوعا فى النتيجة اللازمة وهوالقصود بان يخبر عنه يسمى حدا أصغر كالعالم، والذى يصير محمولا فى النتيجة وهوالحكم يسمى حدا أكبر كالمحدث فى قولنا العالم محدث وهو النتيجة اللازمة من القياس، والقضية إذاجعلت جزء قياس سميت مقدمة والقضية التى فيها الحد الأصغر يسمى المقدمة الصغرى، والتى فيها الحد الأكبر يسمى المقدمة الكبرى، ولم يشتق الاسم للمقدمتين من الأوسط فانه موجود فيهما جميعا. وأما الأصغر فلا يكون إلا فى أحدهما، وكذا الأكبر واللازم من القياس يسمى بعد لزومه نتيجة وقبل لزومه مطلوبا وتاليف المقدمتين يسمى اقترانا، وهيئة تأليف المقدمتين يسمى شكلا فيحصل منه ثلاثة أشكال: لأن الحد الأوسط إما أن يكون محمولا فى إحدى المقدمتين موضوعا فى الأخرى (ويسمى الشكل الأول) وإما أن يكون محمولا فيهما جميعا(ويسمى الشكل الثانى) وإما أن يكون موضوعا فيهما (ويسمى الشكل الثالث) وحكم القدم والتالى فى الشرطى المتصل حكم الموضوع والمحمول فى انقسام تأليفه الى هذه الأشكال، وتشترك الأشكال الثلاثة فى أنها لا يحصل قياس منتج عن سالبتين ولا عن جزئيتين ولا عن صغرى سالبة وكبرى جزئية ويختص كل شكل بخصائص نذكرها: (الشكل الأول): هذا الشكل يفارق الآخرين بفصلين أحدهما أنه لا يحتاج فى لزوم نتيجه الى الرد إلى شكل آخر وسائر الأشكال ترد الى هذا الشكل حتى يظهر لزوم النتيجة ولذا سمى هذا أولا والآخر أنه ينتج المحصورات الأربع أعنى الموجبة الكلية والجزئية والسالبة الكلية والجرئية* (وأما الشكل الثاني): فلا ينتج موجبة أصلا (والشكل الثالث): لا تنتج كليا أصلا، وشرط انتاج هذا الشكل أعني به الشكل الأول أمران. احدهما أن تكون الصغرى موجبة والآخر أن تكون الكبرى كلية فان فقد الشرطان ربما صدقت المقد متان ولم يلزم النتيجة موضع صدقهما بحال: وحاصلى هذا الشكل أنك إذا وضعت قضية موجبة صادقة فالحكم على كل محمولها حكم لا محالة على موضوعها لا يمكن أن يكون إلا كذلك وسواء كان الحكم على المحمول سلبا أو إيحابا وسواء كان الموضوع كليا أو جزئيا فيحصل من ذلك أربعة أضرب منتجة ولزوم هذه النتيجة ظاهر فانه مهما صدق قولنا الانسان حيوان فكل ما صدق على الحيوان الذى هو محمول من كونه حساسا أو كونه غير حجر لابد وأن يصدق على الاسان لأن الانسان داخل لامحالة فى الحيون وقد صدق الحكم على كل الحيوان فيكون صادقاعلى بعض جزئياته لا محالة فهذا حاصل الشكل الأول، وتفصيل أضرب الأربعة ما نذكره * (الضرب الأول): من كليتين موجبتين مثاله هو أن كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث لا محالة * (الضرب الثانى): كليتان كبراهما سالبة وهو الأول بعينه ولكن يبدل قولك محدث بأنه ليس بقديم حتى يصير سالبا فتقول كل جسم مؤلف ولا مؤلف واحد قديم فيلزم منه أنه لا جسم واحد قديم * (الضرب الثالث): هو الأول بعينه ولكن يجعل موضوع المقدمة الأولى جزئيا وذلك لا يوجب اختلاف الحكم لأن كل جزئى هوكلى بالاضافة إلى نفسه فالحكم على كل محمول الجزئى حكم على ذلك الجزئى مثاله أنك تقول بعض الموجودات مؤلف وكل مؤلف محدث فيلزم لا محالة أن بعض الموجودات محدث وهذا قد انتظم من موجبتين صغراهما جزئية وكبراهما كلية * (الضرب الرابع): هو الثالث بعينه ولكن تجعل الكبرى سالبة، وتبدل صيغة الايجاب بالسلب وتقول بعض الموجودات مؤلف ولا مؤلف واحد أزلى فيلزم منه أنه لا كل موجود أزلى وقد انتظم هذا من موجبة صغرى جزئية وكبرى سالبة كلية ويبق وراء هذا من الاقترانات اثنى عشر اقترانا لا تنتج. لأنه تنتظم فى كل شكل ستة عشر اقترانا. لأن الصغرى تحتمل أن تكون موجبة كلية أو جزئية، وسالبة كلية أو جزئية فتكون أربعة ثم تضاف إلى كل واحدة أربع كبريات أيضا فيحصل من ضرب أربعة فى أربعة ستة عشر، وإذا شرطنا أن تكون الصغرى موجبة خرجت سالبتان وما يبتنى عليهما من الانتاج فيتعطل به ثمانية وتبقى موجبتان، ولكن الموجبة الكلية الصغرى ينضاف إليها أربع كبريات اثناتن منها جزئيتان لا محالة. فيتعطل به اثنتان أيضا إذ شرطنا في كبرى هذا الشكل أن تكون كلية فقد رجع إلى ستة * وأما الموجبة الجزئية الصغرى. فلا ينضاف إليها جزئية كبرى لا سالبة ولا موجبة. إذ لا قياس عن جزئيتين فسقط اقترانان آخران من الستة الباقية وتبقى أربعة وإن أردت تصويره وتشكيله (فهذه صورته) (ضروب الشكل الأول منتجها وعقيمها) فالصغرى الموجبة الكلية مع الكبرى الموجبة الكلية منتجة وكذلك مع الكبرى السالبة الكلية، وأما مع الكبرين الجزئيتين فلا، والصغرى الموجبة الجزئية مع الكبرى الموجبةالكلية والكبرى السالبة الكلية منتجة أيضا، وأما مع الكبريين الجزئيتين فلا تنتج أيضا فقدركبناعلى كل واحدة من صغرى موجبة كلية وصغرى موجبة جزئية أربع كبريات وكان المجموع ثمانية بطل منها أربعة لأنهاجزئية أعنى كبريانها إذ قد شرطنا أن يكون الكبرى كلية حتى يتعدى الحكم الى الموضوع فيبقى ضغريان سالبتان جزئية وكلية وينضاف إلى كل واحد أربع كبريات من المحصورات الأربع وكلها غير منتجة للخلل فى الصغرى فانا شرطنا أن يكون الصغرى موجبة إذالحكم على المحمول الثابت هو الذى يتعدى إلى الموضوع فأما المحمول المسلوب فمباين للموضوع فالحكم عليه لا يتعدى إلى الموضوع المباين فاذا قلت الانسان: ليس بحجر ثم حكمت على الحجر بحكم نفيا كان أواثباتا لم يتعد ذلك إلى الانسان فانك أوقعت المباينة بين الحجر والانسان بالسلب فهذا تعليل هذه الشروط وتعليل اختصاص النتيجة بأربعة أضرب من جملة ستة عشرضربا.

(الشكل الثاني) يرجع حاصله إلى أن كل قضية أمكن ان تحمل على محمولها مالم يوجد لموضوعها فهى قضية سالبة لا موجبة إذ لو كانت موجبة لكان الحكم على محمولها على موضوعها كما سبق فى الشكل الأول فانا إذا قلنا الحكم على كل محمول القضية الموجبة حكم على الموضوع ثم وجدنا مايحكم به على محمول ولا يحكم به على الموضوع فنعلم به أن القضية سالبة إذ لوكانت موجبة لوجد حكم المحمول على الموضوع وشرط هذا الشكل أن تختلف المقدمتان فى الكيفية لتكون إحداهما سالبة والأخرى موجبة وأن يكون الكبرى كلية بكل حال وهذان الشرطان يردان أيضا ضروبه المنتجة إلى أربعة أضرب من جملة ستة عشر ضربا كما سبق ذكره فى الشكل الأول.

(الضرب الأول): من صغرى موجبة كلية وكبرى سالبة كلية كقولك كل جسم منقسم ولانفس واحدمنقسم ينتج فلا جسم واحد نفس ويبين لزوم هذه النتيجة بالرد إلى الشكل الأول بعكس الكبرى فانها سالبة كلية تنعكس مثل نفسها وهو أن تقول ولا شىء مما هو منقسم واحد نفس فيصير المنقسم موضوعا للأكبر وقد كان محمولا للاصغر فيرجع إلى الشكل الأول.

(الضرب الثانى ): كليتان لكن الصغرى سالبة كقولك لا أزلى واحد مؤلف وكل جسم مؤلف فلزم منه أنه لا أزلى واحد جسم لانا نعكس الصغرى ونجعلها كبرى فنقول لا مؤلف واحد أزلى وكل جسم مؤلف فيحضل منه أنه لا جسم واحد أزلى كما فى الشكل الأول ثم نعكس هذه النتيجة لأنها سالبة كلية فيحصل ما ذكرناه وهو أنه لا أزلى واحد جسم.

(الضرب الثالث): من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى وهوالضرب الأول من هذا الشكل إلا أن الصغرى تجعل جزئية فنقول بعض الموجودات منقسم ولا نفس واحد منقسم فبعض الموجودت ليس بنفس لأنك إذا عكست الكبرى رجع الى الشكل الاول.

(الضرب الرابع): جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى كقولك لا كل موجود مؤلف وكل جسم مؤلف فلا كل موجود جسم وهذا لا يمكن أن يرد إلى الشكل الأول بالعكس لأن السالبة فيها جزئية ولا عكس لها ولو عكست الكبرى الموجبة لانعكست جزئية ولاقياس عن جزئيتين وإنما يصحح بطريقين يسمى أحدهما الافتراض والآخر الخلف أما الافتراض فهو أنك إذا قلت بعض الموجودات ليس بمؤلف فذلك البعض كل فى نفسه فافترضه كلا ولقبه باى اسم تريده فينزل منزلة الضرب الثانى من هذا الشكل وأما الخلف فهو أن تقول إن لم يكن قولنا لا كل موجود جسم صادقا فنقيضه وهو قولنا كل موجود جسم صادق ومعلوم أن كل جسم مؤلف فيلزم أن كل موجود مؤلف وقدكنا وضعنا فى المقدمة الصغرى أنه لا كل موجود مؤلف على أنها صادقة فكيف يصدق نقيضها هذا خلف محال فالمفضى اليه محال وإنما أفضى اليه فرض الدعوى التى فى نقيض النتيجة صادقة فليست بصادقة.

(الشكل الثالث):هو أن يكون الأوسط موضوعا فى المقدمتين ويرجع حاصله الى ان كل قضية موجبة فالحكم على موضوعها حكم على بعض محمولها سواء كان الحكم سلبا أو إيجابا وسواء كانت القضية موجبة جزئية أو كلية وذلك واضح وله شرطان (احدهما) أن تكون الصغرى موجبة (والآخر) أن يكون إحداهما كلية إما الصغرى وإما الكبرى فأيتهما كانت كلية كفى والمنتج من هذا الشكل ستة أضرب.

(الضرب الأول): من كليتين موجبتين كقولك كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق فيلزم أن بعض الحيوان ناطق لأن الصغرى تنعكس جزئية فيصير كأنك قلت بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق وهو الضرب الثالث من الشكل الأول (الضرب الثانى): من كليتين والكبرى سالبة كقولك كل إنسان حيوان ولا إنسان واحد فرس فلا كل حيوان فرس وذلك لأنك إذا عكست الصغرى صارت جزئية موجبة ويرجع إلى الرابع من الشكل الأول (الضرب الثالث): من موجبتين والصغرى جزئية كقولك بعض الناس بيض وكل إنسان حيوان فبعض البيض حيوان فانك تعكس الصغرى جزئية موجبة ويرجع إلى الثالث من الشكل الأول (الضرب الرابع): من موجبتين والكبرى جزئية كقولك كل إنسان حيوان وبعض الناس كاتب فبعض الحيوان كاتب لأنك إذا عكست الكبرى جزئية وجعلتها صغرى صار كأنك قلت كاتب ما إنسان وكل إنسان حيوان فيلزم كاتب ما حيوان وتعكس النتيجة فتصير حيوان ما كاتب (الضرب الخامس): من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولك كل إنسان ناطق ولا كل إنسان كاتب فيلزم لا كل كاتب ناطق ويتبين هذا بطريق الافتراض كان تقول مثلا كل إنسان ناطق وبعض ما هو انسان أمى فبعض ما هو ناطق أمى ثم تقول بعض ما هو ناطق أمى ولا شىء مما هو أمى بكاتب فلا كل ناطق بكاتب.

(الضرب السادس): من صغرى موجبة جزئية وكبرى سالبة كلية كقولك بعض الحيوان أبيض ولا حيوان واحد ثلج فبعض الأبيض ليس بثلج ويظهر بعكس الصغرى لأنه يرجع إلى الرابع من الشكل الأول هذا تفصيل الأقيسة الحملية * (القول فى القياسات الاستثنائية) القياس الاستثنائى نوعان شرطى متصل وشرطى منفصل (أما الشرطى المتصل): فمثاله قولك إن كان العالم حادثا فله محدث فهذه مقدمة إذا استثئيت هين المقدم منها لزم عين التالى وهو أن تقول ومعلوم أن العالم حادث وهوعين المقدم فيلزم منه عين التالى وهو أن له محدثا وإن استثنيت نقيض التالى لزم منه نقيض المقدم وهو أن تقول ومعلوم أنه ليس له محدث فلزم أنه ليس بحادث فأما إذا استثنيث نقيض المقدم لم يلزم منه لاعين التالى ولا نقيضه فانك لو قلت لكنه ليس بحادث فهذا لا ينتج كما أنك تقول إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه ليس بانسان فلا يلزم منه أنه حيوان ولا أنه ليس بحيوان وكذلك إن استثنيت عين التالى لم ينتج فانك إن قلت ومعلوم أن العالم له محدث لم يلزم منه نتيجة لأنك إذا قلت إن كانت هذه الصلوة صحيحة فالمصلى مطهر ولكنه مطهر فلا يلزم منه أن الصلاة صحيحة ولا أنها باطلة فهذه أربع إستثاآت لا ينتج منها إلا إثنان وهى عين المقدم وينتج عين التالى ونقيض التالى وينتج نقيض المقدم فأما نقيض المقدم وعين التالى فلا ينتج إلا إذا أثبت أن التالى مساو للمقدم وليس باعم منه فعند ذلك ينتج الاستثاآت الأربع فانك تقول إن كان هذا جسما فهو مؤلف لكنه جسم فهومؤلف لكنه مؤلف فهوجسم لكنه ليس بجسم فليس بمؤلف ولكنه ليس بمؤلف فليس بجسم فاما إذا كان التالى أعم من المقدم كالحيوان بالنسبة إلى الانسان ففى نفى الأعم نفى الأخص إذ فى نفى الحيوان نفى الانسان وليس فى نفى الأخص نفى الأعم إذليس فى نفى الانسان نفى الحيوان نعم فى إثبات الأخص إثبات الأعم إذ فى إثبات الانسان إثبات الحيوان وليس فى إثبات الحيوان إثبات الانسان.

(النوع الثانى الشرطى المنفصل): وهو أن تقول العالم إما حادث وإما قديم فهذا ينتج منه أربع استثنا آت فانك تقول لكنه حادث فليس بقديم لكنه ليس بحادث فهو قديم لكنه قديم فليس بحادث لكنه ليس بقديم فهو حادث فاستثناء عين كل واحد ينتج نقيض الآخر واستثناء نقيض كل واحد ينتج عين الآخر وهذا شرطه الحصر فى قسمين فان كان فى ثلاثة فاستثناء عين كل واحد ينتج نقيض الآخرين كقولك هذا العدد إما أكثر أو أقل أومساو ولكنه أكثرفبطل أن يكون أقل أو مساويا* فاما استثناء نقيض الواحد يوجب أحد الباقين لا بعينه كقولك لكنه ليس بمساو فيجب أن يكون إما أقل أو أكثر وإن لم تكن الأقسام حاصرة كقولك زيد إما بالحجاز وإما بالعراق أو هذا العدد إما خمسة أو إما عشرة وإما كيت وإما كيت فاستثناء عين واحد ينتج بطلان عين الآخرين* وأما استثناء نقيض الواحد فلا ينتج إلا الانحصار فى الباقى الذى لا ينحصر فهذه أصول الأقيسة ونكمل الكلام بذكر أمور أربعة (قياس الخلف والاستقراء والمثال والقياسات المركبة) أما قياس الخلف فصورته أن تثبت مذهبك بابطال نقيضه بأن تلزم عليه محالات بأن تضيف إليه مقدمة ظاهرة الصدق وينتج منه نتيجة ظاهرة الكذب ثم تقول النتجة الكاذبة لا تحصل إلا من مقدمات كاذبة وإحدى المقدمتين ظاهرة الصدق فيتعين الكذب فى المقدمة الثانية التى هى مذهب الخصم مثاله أن يقول القائل كل نفس فهو جسم فنقول كل نفس فهو جسم وكل جسم فهو منقسم فاذا كان كل نفس فهو منقسم وهذا ظاهر الكذب فى نفس الانسان فلا بد أن يكون فى مقدماته المنتجة له قول كذب لكن قولنا كل جسم منقسم ظاهر الصدق فبقى الكذب فى قولنا كل نفس جسم فاذا بطل ذلك ثبت أن النفس ليس بجسم (أما الاستقراء): فهو أن يحكم من جزئيات كثيرة على الكلى الذى يشمل تلك الجزئيات كقولك: كل حيوان إما إنسان أو فرس أو غيرهما، وكل إنسان يحرك فكه الأسفل عند المضغ وكل فرس يحرك فكه الأسفل عند المضغ، وكل كذا وكذا مما غايرهما يحرك فكه الأسفل عند المضغ. فينتج أن كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ فعند المضغ يحرك فكه الأسفل لأنا رأينا الفرس والانسان والهرة وسائر الحيوانات كذلك فهذا صحيح إن أمكن استقراء جميع الجزئيات حتى لا يشذ واحد فعند ذلك ينتظم قياس من الشكل الأول ولكن إذا احتمل أن يشذ واحد لم يفد اليقين كالتمساح الذى يحرك فكه الأعلى ولا يبعد أن يطرد حكم فى ألف إلا فى واحد والاعتماد على الاستقراء يصلح فى الفقهيات لا فى اليقينيات وفى الفقهيات كل ما كان الاستقراء أشد استقصاء وأقرب إلى الاستيفاء كان آكد فى تغليب الظن (وأما المثال): فهوالذى يسميه الفقهاء والمتكلمون قياسا وهو نقل الحكم من جزئى على جزئى آخر لأنه يماثله فى أمر من الأمور وهوكمن ينظر إلى البيت فيراه حادثا ومصورا ثم إنه ينظر إلى السماء فيراها مصورة فينقل الحكم اليها فيقول السماء جسم مصور فهو حادث قياسا على البيت. وهذا لا يفيد اليقين ولكنه يصلح لتطييب القلب وإقناع النفس فى المحاورات وكثيرا ما يستعمل فى الخطابة ونعنى بالخطابة المحاورات الجارية فى الخصومات والشكايات والاعتذارات فى الذم والمدح وفى تفخيم الشىء وتحقيره وما يجرى هذا المجرى فاذا قيل لمريض هذا الشراب ينفعك فيقول لم فيقال لأن المريض الفلانى شربه فنفعه فاذا قيل له ذلك مالت نفسه إلى القبول ولم يطالب بأن يصحح عنده أنه ينفع لكل مريض أو يصحح أن مرضه كمرضه وحاله في السن والقوة والضعف وسائر الأموز كحاله* ولما أحس الجدليون بضعف هذا الفن أحدثوا طرقا وهو أن قالوانبين أن الحكم في الاصل معلل بهذا المعنى وسلكوا فى إثبات المعنى والعلة طريقين (أحدهما) الطرد والعكس وهو أنهم قالوا نظرنا فرأينا أن كل ما هو مصور فهو محدث وكل ماليس بمصور فليس بمحدث وهذا يرجع إلى الاستقراء وهو غير مفيد لليقين من وجهين (أحدهما) أن استيفاء جميع الآحاد غير ممكن فلعله شذ عنه واحد (والآخر) أنه فى استقرائه هل تصفح السماء فان كان ما تصفح فاذا لم يتصفح الكل بل تصفح ألفا مثلا إلا واحدا ولا يبعد أن يخالف في الحكم الواحد والألف كما ذكرناه فى التمساح وإن تصفح السماء وعرف أنه محدث لكونه مصورا فهو محل النزاع وقد بان له قبل صحة مقدمة القياس يعنى قبل إطراده فأى حاجة به الى القياس إن ثبت له ذلك.

(الطريقة الأخرى): السبر والتقسيم وهو أنهم قالوا نسبر او أوصاف البيت مثلا ونقول انه موجود وجسم وقائم بنفسه ومصور وباطل أن يكون محدثا لكونه موجودا أو قائما بنفسه أو كذا أو كذا إذ يلزم أن يكون كل موجود قائم بنفسه محدثا فثبت أن ذلك لأنه مصور وهذا فاسد من أربعة أوجه.

(الأول): أنه يحتمل أن يقال ليس الحكم معللا في الأصل بعلة.

من هذه العلل التى هى أعم بل بعلة قاصرة على ذاته لا تتعداه ككونه بيتا مثلا وان ثبت ان غير البيت حادث فيكون معللا بما يجمع البيت وذلك الشىء خاصة ولا يتعدى إلى السماء.

(والثانى): أن هذا إنما يصح إذا استقصى جميع أوصاف الأصل حتى لا يشذ شىء والحصر والاستقصاء ليس يبين فلعله شذ وصف عن السير ويكون هو العلة، وأكثر الجدليين لا يهتمون بالحصر بل يقولون إن كانت فيه علة أخرى فابرزها أو يقولون لو كان لادركته أنا وأنت كما انه لو كان بين يدينا فيل لادركناه وإذ لم ندركه حكمنا بنفيه وهذا ضعيف إذ عجز الخصمين عن الادراك فى الحال ولا فى طول العجز لا يدل على العدم أيضا وليس هذا كالفيل فانك قط لم تعهد فيلا قائما بين أيدينا ولم نشاهده فى الوقت وكم من المعانى الموجودة قد طلبناها ولم نعثر عليها فى الحال ثم عثرنا عليها.

(والثالث): أنه وإن سلم الاستقصاء فيها وكانت الأوصاف أربعة فابطال ثلاثة لا يوجب ثبوت الرابع إذ الأقسام فى التركيب تزيد على أربعة إذ يحتمل ان يكون حادثا لكونه موجود او جسما أو لكونه موجودا وقائما بنفسه أو لكونه موجودا ومصورا، ويحتمل أن يكون حاد لكونه جسما وقائما بنفسه أو لكونه جسما ومصورا، ويحتمل أن يكون حادثا لكونه جسما ومصورا، ويحتمل أن يكون حادثا لكون موجودا وجسما وقائما بنفسه، ويحتمل أن يكون حادثا لكون موجودا وقائما بنفسه ومصورا أو غير ذلك من التركيبات من اثنين اثنين أو من ثلاثة ثلاثة فكم من حكم لا يثبت ما لم تجتمع أمور كالسواد للحبر يشترك فيه العفص والزاج والعجن بالماء وأكثر الأحكام معللة بأمور مركبة فكيف يكفى ابطال المفردات.

(والرابع): أنه إن سلم الاستقصاء وسلم انه إذا بطل ثلاث ولم يبق إلا رابع فهذا يدل على أن الحكم ليس فى الثلاث وانه لا يعدو الرابع لكنه لا يدل على انه منوط بالرابع لا محالة بل يحتمل أن ينقسم المعنى الرابع إلى قسمين ويكون الحكم فى أحد القسمين دون الآخر فابطال ثلاث يدل على أن المعنى لا يعدو الرابع ولا يدل على أنه العلة وهذا مزلة قدم فانه لو قسم أولا وقال وصفه أنه موجود وقائم بنفسه وجسم ومصور بصفة كذا ومصور بصفة أخرى لكان إبطال ثلاثة لا يوجب أن يتعلق الحكم بالمصور المطلق بل بأحد قسمى المصور فهذا كشف هذه الأدلة الجدلية ولا يصير ذلك برهانا ما لم تقل كل مصور محدث والسماء مصور فهو محدث فان نوزع فى قوله كل مصور محدث فلا بد من اثباته ولا يثبت ذلك بأن يرى مصورا آخر محدثا ولا ألف مصور محدثا بل صارت هذه المقدمة مطلوبة فيجب اثباتها بمقدمتين مسلمتين أو بطريق من الطرق المذكورة لا محالة فهذا حكم المثال.

(أما القياسات المركبة): فاعلم أن العادة فى الكتب والتعليمات غير جارية بترتيب الأقيسة على النحو الذى رتبناه ولكن تورد فى الكتب مشوشة إما مع زيادة مستعنى عنها، وإما مع حذف احدى المقدمتين استغناء بظهورها أو قصدا إلى التلبيس وما يورد مشوش الترتيب مما ليس على ذلك النظم وأمكن رده اليه فهو قياس منتج وما هو على ذلك النظم فى ظاهره ولكنه ليس معه شروطه فهو غير منتج، ومثال الترتيب هو الشكل الأول من أقليدس وهو انه إذا كان معك خط.

(اب) وأردت أن تبنى عليه مثلثا متساوى الاضلاع وتقيم البرهان على أنه متساوى الاضلاع فتقول مهما جعلنا نقطة (ا) مركزا ووضعنا عليه طرف الفركار وفتحناه إلى نقطة (ب) وتممنا دائرة حول مركز (ا) ثم جعلنا نقطة (ب) مركزا ووضعنا عليه طرف الفركار وفتحناه إلى نقطة (ا) وتممنا دائرة على مركز (ب) فالدائرتان متماثلتان لأنهما على بعد واحد ويتقاطعان لا محالة فى ج فنخرج من موضع التقاطع خطا مستقيما إلى نقطة (ا) وهو خط (ج ا) ونخرج خطا آخرمستقيما من نقطة (ج) إلى نقطة (ب) وهو (ج ب) فنقول هذا المثلث الحاصل من نقط (ا ب ج) مثلث متساوى الاضلاع، وبرهانها أن خطى (ا ج) و (ا ب) متساويان لانهما خرجا من مركز دائرة واحدة إلى محيطها وكذا خطا (ب ج) و(ا ب) متساويان بمثل هذه العلة وخطا (اج) و (ب ج) متساويان لانهما ساويا خطا واحدا بعينه وهو خط (ا ب) فاذن النتيجة أن المثلث متساوى الاضلاع فهكذا جرت العادة باستعمال المقدمات ههنا، وإذا أردت الرجوع إلى الحقيقة والترتيب لم يحصل النتيجة إلا من أربعة أقيسة كل قياس من مقدمتين (الأول) ان خطى (ا ب) و (ا ج) متساويان لأنهما خرجا من مركز دائرة إلى محيطها وكل خطين مستقيمين خرجا من المركز إلى المحيط فهما متساويان فاذا هما متساويان (الثانى) أن خطى (اب) و (ب ج) أيضا متساويان بمثل هذا القياس (الثالث) ان خطى (اج) و (ب ج) متساويان لأنهما خطان ساويا خط (ا ب) وكل خطين ساويا شيئا واحدا بعينه فهما متساويان فاذا هما متساويان (الرابع ) شكل (ا ب ج) محاط بثلاثة خطوط متساوية وكل شكل محاط بثلاثة خطوط متساوية فهو مثلث متساوى الأضلاع فشكل (ا ب ج) الذى على خط (ا ب) مثلث متساوى الأضلاع هذا ترتيبه الحقيقى ولكن يتساهل بحذف بعض المقدمات لوضوحها بالنسبة لهذا هذا هو القول في صورة القياس (القول فى مادة القياس): مادة القياس هى المقدمات فان كانت صادقة يقينية كانت النتائج صادقة يقينية وإن كان كاذبة لم ينتج الصادقة وإن كانت ظنية لم ينتج اليقينية وكما أن الذهب مادة الذينار والتدوير صورته وقد يحتمل تزيف الدينار تارة باعوجاج صورته وبطلان استدارته بأن يكون مستطيلا فلا يسمى دينارا وتارة بفساد مادته بأن يكون نحاسا أو حديدا كذلك القياس تارة يفسد بفساد صورته وهو أن لا يكون على شكل من الأشكال السابقة وتارة بفساد مادته وإن صحت صورته وهو أن تكون المقدمة ظنية أو كاذبة وكما أن الذهب له خمس مراتب (الاول ) أن يكون إبريزا خالصا محققا (والثانى) أن لا يكون فى تلك الدرجة ولكن يكون فيه غش ما لا يظهر البتة إلا للناقد البصير (والثالث) أن يكون فيه عش يظهر لكل ناقد ويمكن أن يشعر به غير الناقد أيضا وينبه عليه (والرابع) أن يكون زيفا من نحاس ولكن موه تمويها يكاد يغلط فيه الناقد مع أنه لا ذهب فيه أصلا (والخامس) أن يكون مموها تمويها يظهر لكل أحد أنه مموه* فكذلك المقدمات لها خمسة أحوال (الأول) أن يكون يقينية صادقة بلا شك ولا شبهة فالقياس الذى ينتظم منها يسمى برهانا (والثانى) أن تكون مقاربة لليقين على وجه يعسر الشعور بامكان الخطأ فيها ولكن يتطرق اليها إمكان إذا تأنق الناظر فيها والقياس المرتب منها يسمى جدليا (والثالث) أن تكون المقدمات ظنية ظنا غالبا ولكن تشعر النفس بنقيضها وتتسع لتقدير الخطأ فيها* والقياس المركب منها يسمى خطابيا (والرابع) ما صور بصور اليقينيات بالتلبيس وليس ظنيا ولا يقينيا والحاصل منه يسمى مغالطيا وسوفسطائيا (والخامس) هو الذى نعلم أنه كاذب ولكن تميل النفس إليه بنوع تخيل والقياس الحاصل منه يسمى شعريا ولا بد من شرح هذه المقدمات وكل مقدمة ينتظم منها قياس ولم تثبت تلك المقدمة بحجة ولكنها أخذت على أنها مقبولة مسلمة فانها لا تتعدى ثلاثة عشر قسما (الأوليات) (والمحسوسات) (والتجربيات). (والمتواترات). و(القضايا التى لا يخلو الذهن عن حدودها الوسطى وقياساتها). (والوهميات) (والمشهورات) (والمقبولات) (والمسلمات). (والمشبهات) و(المشهورات فى الظاهر) (والمظنونات) (والمخيلات) (أما الأوليات) فهى التى تضطر غريزة العقل بمجردها إلى التصديق بها كقولك الاثنان أكثر من الواحد والكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية فان من قدر نفسه عاقلا ولم يتعلم إلا بمجرد العقل ولم يلقن تعليما ولا عود تخلقا بخلق بل قدر أنه خلق دفعة واحدة عاقلا وعرضت هذه القضايا عليه وثبت فى نفسه تصورها أعنى إذا تصور معنى الكل ومعنى الجزء ومعنى الأكبر فلا يمكنه أن لا يصدق بأن الكل أكبر من الجزء هذا فى كل كل كيفما كان وليس ذلك من الحس إذ الحس لا يدرك إلا واحدا أو اثنين أو أشياء محصورة وهذا حكم ثابت في العقل كليا ولا يمكن أن يقدر العقل منفكا عنه قط (والمحسوسات) مثل قولنا الشمس مستنيرة وضوء القمر يزيد وينقص (والتجربيات) ما يحصل من مجموع العقل والحس كعلمنا بأن النار تحرق والسقمونيا تسهل الصفراء والخمر يسكر فان الحس يدرك السكر عقيب شرب الخمر مرة بعد أخرى على التكرار فينتبه العقل لكونه موجبا له إذ لو كان اتفاقيا لما اطرد فى الأكثر فينتقش فى الذهن علم بذلك موثوقا به (والمتواترات) ما علم بأخبار جماعة كعلمنا بوجود (مصر ومكة) وإن لم نبصرهما ومهما استحال الشك فيه سمى متواترا ولا يجوز أن يقاس البعض على البعض فيقال من شك فى وجود معجزة من نبى ينبغى أن يصدق بها لأن النقل فيه متواتر كما فى وجود النبى لأنه يقول ليس يمكننى أن أشكك نفسى فى وجود النبى لمشاهدتى له ويمكننى أن أشكك نفسى فى هذا فلو كان هذا مثل ذلك لما قدرت على التشكك فلا بد وان يمهل إلى أن يتواتر عنده تواترا يستحيل معه الشك إن كان متواترا (وأما القضايا التى قياساتها فى الطبع معها) فهى القضايا التى لا تثبت فى النفس إلا بحدودها الوسطى ولكن لا يعزب عن الذهن الحد الأوسط فيظن الانسان أنها مقدمة أولية عرفت بغير وسط وهى على التحقيق معلومة بوسط ولا معنى للقياس إلا طلب الحد الاوسط وإلا فالأكبر والأصغر موجودان فى نفس المسئلة المطلوبة. مثاله انك تعلم أن الاثنين نصف الأربعة على البداهة وهذا معلوم بوسط وهو أن النصف الآخر أحد جزئى الكل المساوى للآخر والاثنان من الأربعة أحد الجزئين المتساويين فكان نصفا الدليل عليه أنه لو قيل له كم سبعة عشر من أربع وثلاثين ربما لم يقدر على أن يحكم على البداهة بأنه نصفه ما لم يقسم أربع وثلاثين يقسمين متساويين ثم ينظر إلى كل قسم فيراه سبعة عشر فيعلم أنه نصف وإن كان هذا حاضرا أيضا فى الذهن فاعتبر ذلك فى عدد كثير أو أبدل النصف بالعشر والسدس وغيره فالمقصود المثال.

وبالجملة فلا يستبعد أن يكون الشىء معلوما بوسط ولكن الذهن لا يتنبه لكونه معلوما بوسط وقياس فليس كل ما يثبت على وجه يتنبه الانسان لوجهه، وثبوت الشىء للذهن شىء والشعور بوجه ثبوته والتعبير عنه شىء آخر.

(والوهميات): هى مقدمات باطلة ولكنها قويت فى النفس قوة تمنع من إمكان الشك فيه وذلك من أثر حكم الوهم فى أمور خارجة عن المحسوسات لأن الوهم لا يقبل شيئا إلا على وفق المحسوسات التى ألفها مثل حكم الوهم باستحالة موجود لا إشارة فيه إلى جهة ولا هو داخل العالم ولا خارجه وكحكمه بأن الكل ينتهى إلى خلاء أو ملاء أعنى وراء العالم؛ وكحكمه بأن الجسم لا يزيد عن نفسه ولا يكثر إلا بأن يضاف إليه زيادة من خارج وإنما سبب حكم الوهم بهذا إن هذه الأمور ليست موافقة للحس فلا يدخل فى الوهم وإنما الحكم بطلانه من حيث أنه لو كان كل ما لا يدخل فى الوهم باطلا لكان نفس الوهم باطلا فان الوهم لا يدخل فى الوهم بل العلم والقدرة، وكل صفة لا يدركها الحواس الخسة لا يدركها الوهم وإنما يعرف غلطه فى أمثال هذه المسائل المعينة من حيث أنها لازمة عن أقيسة ترتبت من أوليات يساعد الوهم على قبولها ويسلم أن القياس إذا رتب من الأوليات كانت النتيجة صادقة، ثم إذا حصلت النتيجة كاع عن قبول النتيجة فعلم بذلك أن امتناعه عن القبول لمكان طباعه فانه ينبو عن قبول ما ليس على نحو المحسوسات.

ص (وأما المشهورات): فهى القضايا التى لا يعول فيها إلا على مجرد الشهرة ونظر العوام والظاهر بين أهل العلم أنها أوليات لازمة فى غريزة العقل مثل قولك الكذب قبيح، والنبى ينبغى أن لا يعذب ولا يدخل الحمام بغير مئزر بحيث تنكشف العورة، والعدل واجب والظلم قبيح وأمثاله وهذه أمور تكرر على السمع من الصبا ويتفق عليه أهل البلاد لمصالح معاشهم فتسارع النفوس إلى قبولها لكثرة الألف وربما يؤيدها مقتضيات الأخلاق من الرقة والحنين والحياء ولو قدر الانسان نفسه وقد خلق عاقلا ولم يؤدب باستصلاح ولم يتشبث بخلق ولم يأنس باعتياد وأورد على عقله هذه القضايا أمكنه الامتناع عن قبولها لا كقولنا: الاثنان أكثر من الواحد، وقد يكون بعض هذه المقدمات صادقة ولكن بشرط دقيق أو برهان فيظن أنها صادقة مطلقا كما يظن أن قول القائل إن الله قادر على كل أمر صادق وهو مشهور وإنكاره مستقبح وليس بصادق فانه ليس قادرا على أن يخلق مثل نفسه بل ينبغى أن يقال هو قادر على كل أمر ممكن فى نفسه ويقال هو عالم بكل شىء وليس عالما بوجود مثل له وهذه المشهورات قد تتفاوت فى القوة والضعف بحسب اختلاف الشهرة واختلاف العادات والأخلاق، وقد تختلف فى بعض البلاد وفى حق أرباب الصنائع فليس المشهور عند الأطباء مشهورا عند النجارين ولا بالعكس، والمشهور ليس نقيضا للباطل بل نقيض المشهور الشنيع؛ ونقيض الباطل الحق، ورب حق شنيع، ورب باطل محبوب مشهور ولا شك فى أن الأوليات وبعض المحسوسات والمتواترات والمجربات مشهورة ولكنا قصدنا بهذا ما ليس فيه إلا الشهرة فقط.

(وأما المقبولات): فهى المقبول من أفاضل الناس وأكابر العلماء ومشايخ السلف. إذا تكرر نقل ذلك منهم على ذلك الوجه وفى كتبهم وانضاف إلى ذلك حسن الظن بهم فان ذلك يثبت فى النفس ثبوتا ما.

(وأما المسلمات): فهى التى سلمها الخصم أو كان مشهورا بين الخصمين فقط فانه يستعمل معه دون غيره فلا يفارق المشهور إلا فى العموم والخصوص. فان المشهور تسلمه العامة، وهذا يسلمه الخصم فقط.

(وأما المشبهات): فهى التى يحتال فى تشبيهها بالأوليات والتجربيات والمشهورات، ولا تكون بالحقيقة كذلك ولكنها تقاربها فى الظاهر.

(وأما المشهورات فى الظاهر): فهى كل قول يقبله كل من يسمعه كافة ببادىء الرأى وأول النظر، وإذا تأمله وتعقبه وجده غير مقبول وأحس بكونه فاسدا كقول القائل انصر أخاك ظالما أو مظلوما فان النفس تسبق إلى قبوله ثم تنساق الى أن تأمل فتعلم أن نصرته ظالما ليس بواجب.

(وأما المظنونات): فما يفيد غلبة الظن مع الشعور بامكان نقيضه كما أن من خرج ليلا يقال إنه خائن. اذ لو لم يكن خائنا لم يخرج ليلا وكما يقال إن فلانا يناجى العدو فهو عدو مثله أيضا مع أنه يحتمل ان يكون مناجاته اياه خداعا له أو حيلة عليه لأجل الصديق.

(وأما المخيلات): فهى مقدمات يعلم أنها كاذبة ولكنها تؤثر فى النفس بالترغيب والتنفير كما يشبه الحلاوة بالعذرة فتنفر النفس عنه مع العلم بأنه كذب. فهذه هى المقدمات.

فنذكر الآن مظان استعمالها* (القول فى مجارى هذه المقدمات) أما الخمسة الأولى: فانها تصلح للأقيسة البرهانية وهى الأولية والحسية والتجربية والتواترية والتى قياساتها معها فى الطبع.

وفائدة البرهان ظهور الحق وحصول اليقين.

(وأما المشهورات والمسلمات): فهى مقدمات القياس الجدلى.

(وأما الأوليات) وما معها: لو وقعت فى الجدل كان أقوى ولكن انما يستعمل فى الجدل من حيث أنها مسلمة بالشهرة إذ لا تفتقر صناعة الجدل إلى أكثر منه وللجدل فوائد.

(الأول): إفحام كل فضولى ومبتدع يسلك غير طريق الحق ويكون فهمه قاصرا عن معرفة الحق بالبرهان فيعدل معه إلى المشهورات التى يظن أنها واجبة القبول كالحق، وبطل عليه رأيه الفاسد.

(الثانى): أن من أراد أن يتلقن الاعتقاد الحق وكان مرتفعا عن درجة العوام ولا يقنع بالكلام الخطابى الوعظى، ولم ينته إلى ذروة التحقيق بحيث يطيق الاحاطة بشروط البرهان فانه يمكن أن يغرس فى نفسه الاعتقاد الحق بالأقيسة الجدلية، وهو حال أكثر الفقهاء وطلبة العلم.

(الثالث): أن المتعلمين للعلوم الجزئية مثل الطب، والهندسة وغيرهما لا يذعن أنفسهم أن يعرفوا مقدمات تلك العلوم ومبادئها هجوما بالبرهان في أول الأمر ولو صودرواعليها لم تسمح نفوسهم بتسليمها فتطيب نفوسهم لقبولها بأقيسة جدلية من مقدمات مشهورة إلى أن يمكن تعريفها بالبرهان.

(الرابع): أن من طباع الأقيسة الجدلية أنه يمكن أن ينتج منها طرفا النقيض فى المسألة فاذا فعل ذلك وتأمل موضع الخطأ منهما وبما انكشف له وجه الحق بذلك التفتيش، ويكفى هذا القدر من صناعة الجدل، وإلا فهو كتاب برأسه، ولا حاجة إلى الاشتغال بحكاية ذلك.

(وأما الوهميات والمشبهات): فانها مقدمات الأقيسة المغالطية ولا فائدة لها أصلا إلا أن تعرف لتحذر وتتوقى وربما يمتحن بها فهم من لا يدرى أنه قاصر فى العلم أو كامل حتى ينظر كيف يتقصى عنه وإذ ذاك يسمى قياسا امتحانيا وربما يستعمل فى إفضاح من يخيل إلى العوام أنه عالم ويستتبعهم فيناظر بذلك بين أيديهم ويظهر لهم عجزه عن ذلك بعد أن يعرفوا فى الحقيقة وجه الغلط حتى يعرفوا به قصوره فلا يعتدون به وعند ذلك يسمى قياسا عناديا.

(وأما المشهورات فى الظاهر، والمظنونات، والمقبولات): فتصلح أن تكون مقدمات للقياس الخطابى والفقهى، وكل ما لا يطلب به اليقين. فلا يخفى فائدة الخطابة فى استمالة النفوس وترغيبها فى الحق وتنفيرها عن الباطل، وكذا فائدة الفقه، وفى الخطابة كتاب برأسه ولا حاجة إلى حكايته.

(وأما المخيلات): فهى مقدمات الأقيسة الشعرية فان استعملت الأوليات وما معها فى الخطابة أو الشعر لم يكن استعمالها إلا من حيث الشهرة والتخيل وما وراء ذلك فليس بشرط فيها وليس يحتاج إلا إلى البيان البرهانى ليطلب، والمغالطى ليتقى فلنقتصر فى الحكاية عليها.

(خاتمة القول فى القياس) نذكر مثارات الغلط لتحذر وهى عشرة: (الأول): أن الاحتجاجات فى الأغلب تجرى مشوشة ويثور فيها غلط كثير فينبغى أن يتعود الناظر ردها إلى الترتيب المذكور ليعلم أنه قياس أم لا، وإن كان فهو من أى نوع، ومن أى شكل من الأنواع، ومن أى ضرب من الأشكال حتى ينكشف موضع التلبيس.

(الثانى): أن يلاحظ الحد الأوسط ويتأمله تأملا شافيا ليكون وقوعه فى المقدمتين على وجه واحد فانه إن تطرق إليه أدنى تفاوت بزيادة أو نقصان فسد القياس وأنتج غلطا. مثاله أنا ذكرنا أن السالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، ولو قال قائل لا دن واحد فى شراب صدق وعكسه وهو أنه لا شراب واحد فى دن لا يصدق وهذا سببه أنه لم يراع شرط العكس. بل الواجب أن يقال لا دن واحد شراب فلا شراب واحد دن، وهذا صادق. فأما إذا زيد فى وقيل لا دن واحد فى شراب فعكسه هو لا شىء واحد مما هو فى الشراب دن وهو أيضا صادق، وموضع الغلط أن المحمول فى هذه القضية هو قولك فى شراب لا مجرد الشراب. فينبغى أن يصير هو بكماله موضوعا فى العكس، وإذا راعيت ذلك صدق العكس.

(الثالث): أن يراعى الحد الأصغر والحد الأكبر حتى لا يكون بينهما وبين طرفى النتيجة تفاوت البتة فان القياس يوجب اجتماع الحدين من غير تفاوت وهذا يعرف بما ذكرناه فى شروط النقيض.

(الرابع): أن يتامل فى الحدود الثلاثة وطرفى النتيجة حتى لا يكون فيهما اسم مشترك فان الاسم ربما يكون واحدا والمعنى متعدد فلا يصح القياس وهذا أيضا يعرف من شروط النقيض.

(الخامس): أن يراعى حروف الضمير مراعاة محققة فانه يختلف جهات احتمالة ويثور منه غلط كما لو قال كل ما عرفه العاقل فهو كما عرفه فقوله هو ربما يرجع إلى المعلوم وربما يرجع إلى العالم إذ قد تقول وهو قد عرف الحجر فهو اذن حجر.

(السادس): أن لا تقبل المهملات فانها تخيل الصدق ولو حصر المهمل تنبه العقل لكونه كاذبا فاذا قيل الانسان فى خسر قبلته النفس وصدقت به ولو حصر وقيل كل إنسان لا محالة فى خسر تنبه العقل لكون ذلك غير واجب على العموم فاذا قيل صديق عدوك عدوك قبلته النفس وإذا حصر وقيل كل من هو صديق عدوك فلا بد وأن يكون عدوك تنبه العقل لكون ذلك غير واجب بالضرورة على العموم (السابع): أنك قد تصدق بمقدمة فى القياس ويكون سبب التصديق أنك طلبت له نقيضا بذهنك فما وجدته وهذا لا يوجب التصديق بل صدق إذا علمت أنه ليس له نقيض فى نفسه لا أنك لم تجده فانه ربما يكون وأنت لا تجده فى الحال كتصديقك بقول القائل ان الله قادر على كل أمر إذ لا يخطر ببالك شىء إلا وتصدق إن الله قادر عليه إلى أن يخطر ببالك أنه لا يقدر على خلق مثله فتتنبه لخطئك فى التصديق فالصادق أنه قادر على كل أمر ممكن فى نفسه وهذا ليس له نقيض فى نفسه البتة.

(الثامن):أن يراعى حتى لا يجعل المسئلة مقدمة فى القياس فتكون قد صادرت على نفس المطلوب كما يقال إن الدليل على أن كل حركة تحتاج إلى محرك أن المتحرك لا يتحرك بنفسه فان هذه نفس الدعوى وقد غير لفظه وجعل دليلا.

(التاسع): أن لا يصحح الشىء بأمر لا يصح ذلك الأمر إلا بالشىء كما يقال إن النفس لا تموت لأنها فاعلة على الدوام ولا يعلم أنها فاعلة على الدوام ما لم تعلم أنها لا تموت وبذلك يثبت دوام فعلها (العاشر): أن يحترز عن الوهميات والمشهورات والمشبهات فلا تصدق إلا بالأوليات والحسيات وما معها فاذا راعيت هذه الشروط كان قياسك لا محالة صادق النتيجة وحصل به يقين لا شك فيه وإن أردت أن تشكك نفسك فيه لم تقدر عليه.

(الفن الخامس من الكتاب فى لواحق القياس والبرهان) "وما ينعطف فائدته عليها وهو فصول أربعه" (الفصل الأول فى المطالب العلمية وأقسامها): ونعنى بها الاسئلة التى تقع فى العلوم وهى أربعة.

(مطلب هل): وهو سؤال عن وجود الشىء.

(ومطلب ما): وهو سؤال عن ماهية الشىء (ومطلب أى): وهو سؤال عن فصل الشىء الذى يفصله عن شىء يشاركه فى جنسه.

(ومطلب لم): وهو طلب العلة.

(أما مطلب هل): فهو على وجهين: (أحدهما): عن أصل الوجود كقولك هل الله موجود وهل الخلاء موجود.

(والثانى): عن حال الشىء كقولك هل الله مريد وهل العالم حادث (ومطلب ما): وهو على وجهين: (أحدهما): ما يراد أن يعرف به مراد المتكلم بلفظ ما لم يفسره كما إذا قال عقار فيقال ما الذى يراد به فيقول الخمر.

(والثانى): أن يطلب حقيقة الشىء فى نفسه كما يقال ما العقار فيقول هو الشراب المسكر المعتصر من العنب.

(ومطلب ما) بالمعنى الأول يتقدم على مطلب هل فان من لم يفهم الشىء لا يسأل عن وجوده وبالمعنى الثانى يتأخر عن مطلب هل لأن ما لم يعلم وجوده لا يطلب ماهيته.

(وأما مطلب أى): فهو سؤال عن الفصل والخاصة.

(ومطلب لم): على وجهين: (أحدهما): سؤال عن علة الوجود كقولك لم احترق هذا الثوب فتقول لأنه وقع فى النار.

(والآخر): سؤال عن علة الدعوى وهو أن تقول لم قلت إن الثوب قد وقع فى النار فتقول لأنى رأيته ووجدته محترقا.

(ومطلب ما وأى) :للتصور.

(ومطلب هل ولم): للتصديق.

(الفصل الثانى): فى أن القياس البرهانى ينقسم إلى ما يفيد علة وجود النتيجة وإلى ما يفيد علة التصديق بالوجود فالأول يسمى برهان لم والآخر يسمى برهان أن ومثاله أن من ادعى فى موضع دخانا فقيل له لم قلت فقال لأن ثمة نار وحيث كان نار فثمة دخان فاذا ثمة دخان فقد أفاد برهان لم وهو علة التصديق بأن ثمة دخان وعلة وجود الدخان فأما إذا قال ثمة نار فقيل له لم وقال لأن ثمة دخان وحيث كان دخان فثمة نار فقد أفاد علة التصديق بوجود النار ولم يفد علة وجود النار وأنه بأى سبب حصل فى ذلك الموضع (وبالجملة): المعلول يدل على العلة والعلة أيضا تدل على المعلول ولكن المعلول لا يوجب العلة والعلة توجبه فهذا هو المراد بالفرق بين برهان أن وبرهان لم بل أحد المعلولين قد يدل على المعلول الآخر إن ثبت تلازمهما بأن كانا جميعا معلولى علة واحدة وليس من شرط برهان لم ان يكون علة لوجود الحد الأكبر مطلقا بل إن كان علة لاتصاف الحد الأصغر بالحد الأكبر كفى أعنى أن يكون علة لكونه فيه فانك تقول الانسان حيوان وكل حيوان جسم فالأنسان جسم فهذا برهان لم لأن الحد الأوسط علة وجود الأكبر فى الأصغر فان الانسان كان جسما لأنه حيوان أى الجسمية صفة ذاتية للحيوان تلحقه من حيث أنه حيوان لا لمعنى أعم ككونه موجودا أو لا لمعنى أخص ككونه كاتبا وطويلا.

(الفصل الثالث): في الأمور التى عليها مدار العلوم البرهانية وهى أربعة.

(الموضوعات، والاعراض الذاتية، والمسائل، والمبادئ) (الأول الموضوعات): ونعنى بها أن لكل علم لا محالة موضوعا ينظر فيه ويطلب فى ذلك العلم أحكامه كبدن الانسان للطب والمقدار للهندسة والعدد للحساب والنغمة للموسيقى وأفعال المكلفين للفقه وكل علم من هذه العلوم فلا يوجب على المتكفل به أن يثبت وجود هذه الموضوعات فيه فليس على الفقيه أن يثبت أن للانسان فعلا ولا على المهندس أن يثبت أن المقدار عرض موجود بل يتكفل باثبات ذلك علم آخر* نعم عليه أن يفهم هذه الموضوعات بحدودها على سبيل التصور.

(الثانى الاعراض الذاتية): ونعنى بها الخواص التى تقع فى موضوع ذلك العلم ولا تقع خارجة منه كالمثلث والمربع لبعض المقادير والانحناء والاستقامة لبعضها وهى أعراض ذاتية لموضوع الهندسة وكالزوجية والفردية للعدد وكالاتفاق والاختلاف للنغمات أعنى التناسب وكالمرض والصحة للحيوان ولا بد فى أول كل علم من فهم هذه الأعراض الذاتية بحدودها على سبيل التصور فأما وجودها فى الموضوعات فانما يستفاد من تمام ذلك العلم إذ مراد العلم أن يبرهن عليه فيه.

(الثالث المسائل): وهى عبارة عن اجتماع هذه الأعراض الذاتية مع الموضوعات وهى مطلوب كل علم ويسأل عنها فيه فمن حيث يسأل عنها فيه تسمى مسائل ذلك العلم ومن حيث تطلب تسمى مطالب ومن حيث أنها نتيجة البرهان تسمى نتائج والمسمى واحد ويختلف هذه الأسامى والعبارات باختلاف الاعتبارات وكل مسألة رهانية فى علم فاما أن يكون موضوعها موضوع ذلك العلم أو الأعراض الذاتية فى ذلك العلم لموضوعه فان كان هو الموضوع فاما أن يكون نفس الموضوع كما يقال فى الهندسة كل مقدار مشارك لمقدار آخر يجانسه ولا يباينه وكما يقال فى الحساب كل عدد فهو شطر طرفيه اللذين بعدهما بعدد واحد كالخمسة فانها شطر مجموع الستة والأربعة ومجموع الثلاثة والسبعة ومجموع الاثنين والثمانية ومجموع الواحد والتسعة وإما أن يكون هو الموضوع مع أمر ذاتى أعنى العرض الذاتى كما يقال فى الهندسة المقدار المباين لشىء مباين لكل مقدار يشاركه فقد أخذ المقدار المباين لا المقدار المجرد والمباين عرض ذاتى للمقدار وكما يقال فى الحساب كل عدد منصف فضرب نصفه فى نصفه ربع ضرب كله فى كله فانه أخذ العدد المنصف لا العدد وحده وإما أن يكون نوعا من موضوع العلم كما يقال الستة عدد تام فان الستة نوع من العدد وإما أن يكون نوعا مع عرض ذاتى كما يقال فى الهندسة كل خط مستقيم قام على خط مستقيم آخرحصل منهما زاويتان مساويتان لقائمتين فالخط نوع من المقدار الذى هو موضوع والمستقيم عرض ذاتى فيه وإما أن يكون عرضا كقولك فى الهندسة كل مثلث فزواياه مساوية لقائمتين فان المثلث من الأعراض الذاتية لبعض المقادير فاذا لا يخلو موضوعات المسائل البرهانية فى العلوم عن هذه الأقسام الخمسة وأما محمولها فهى الأعراض الذاتية الخاصة بذلك الموضوع.

(الرابع المبادىء): ونعنى بها المقدمات المسلمة فى ذلك العلم الذى يثبت بها مسائل ذلك العلم وتلك لا تثبت فى ذلك العلم ولكن إما أن تكون أولية فتسمى علوما متعارفة كقولهم فى أول أقليدس إذا أخذ من المتساويين متساويين كان الباقى متساويا، وإذا زيد متساويان كانا متساويين، وإما أن لا تكون أولية ولكن تسلم من المتعلم فان سلمها عن طيب نفس تسمى أصولا موضوعة وإن بقى فى نفسه عناد تسمى مصادرات ويصبر عليها إلى أن تتبين له فى علم آخر كما يقال فى أول أقليدس لا بد وأن نسلم أن كل نقطة يمكن أن تكون مركزا فانه يمكن أن يعمل عليها دائرة، ومن الناس من ينكر تصور الدائرة على وجه تكون الخطوط من المركز إلى المحيط متساوية ولكن يصادر عليها فى ابتداء العلم.

(الفصل الرابع فى بيان جميع شروط مقدمات البرهان): وهى أربعة أن تكون صادقة وضرورية وأولية وذاتية: (أما الصادقة): فنعنى بها اليقينية كالأوليات والمحسوسات وما معها وقد سبق هذا الشرط.

(وأما الضرورية): فنعنى بها أن تكون مثل الحيوان للانسان لا مثل الكاتب للانسان هذا إن كان يطلب منها نتيجة ضرورية فان المقدمة إذا لم تكن ضرورية لم تجب على العقل التصديق بالنتيجة الضرورية.

(وأما الأولية): فنعنى بها ان يكون المحمول في المقدمة ثابتا للموضوع لأجل الموضوع كقولك كل حيوان جسم فانه جسم لأنه حيوان لا لمعنى أعم منه كقولك الانسان جسم فانه ليس جسما لأنه إنسان بل لأنه حيوان ثم لكونه حيوانا كان جسما فالجسمية أولا للحيوان ثم بواسطته للانسان ولا لمعنى أخص منه كالكاتب للحيوان فانه ليس له ذلك للحيوانية بل للانسانية وهى أخص فالأولى ما ليس بينه وبين الموضوع واسطة فيكون لتلك الواسطة أولا ثم بواسطته له هذا شرط فى المقدمات الأولية فاما فى مقدمات كانت نتيجة أقيسة ثم جعلت مقدمات فى قياس آخر فلا يشترط ذلك فيها بل تشترط الضرورية والذاتية.

(وأما الذاتى): فهو احتراز من الأعراض الغريبة فان العلوم لا ينظر فيها للأعراض الغريبة فلا ينظر المهندس فى أن الخط المستقيم أحسن أو المستدير ولا فى أن الدائرة هل تضاد المستقيم لأن الحسن والمضادة غريب عن موضوع علمه وهو المقدار فانه يلحق المقدار لا لأنه مقدار بل بوصف أعم منه ككونه موجودا أو غيره والطبيب لا ينظر فى أن الجراحة مستديرة أم لا لأن الاستدارة لا تلحق الجرح لأنه جرح بل لأمر أعم منه وإذا قال الطبيب هذا الجرح بطىء البرء لأنه مستدير والدوائر أوسع الأشكال لم يكن ما ذكره علما طبيا ولم يدل ذلك على علمه بالطب بل بالهندسة فاذا لا بد وأن يكون محمول المسئلة فى العلوم ذاتيا وفى المقدمات ذاتيا ولكن بينهما فرق ما وهو ان الذاتى يطلق ههنا لمعنيين.

(أحدهما): أن يكون داخلا فى حد الموضوع كالحيوان للانسان فانه ذاتى فيه لأنه يدخل فيه إذ معنى الانسان أنه حيوان مخصوص* (والثانى): أن يكون الموضوع داخلا فى حده لا هو داخلا فى حد الموضوع كالفطوسة للانف والاستقامة للخط فان الأفطس عبارة عن ذى أنف بصفة مخصوصة بالأنف فدخل فى حده لا محالة والذاتى بالمعنى الأول محال أن يكون محمولا فى المسائل المطلوبة فى العلوم لأن الموضوع لا يعلم إلا به. فيتقدم العلم به على العلم بالموضوع فكيف يكون حصوله للموضوع مطلوبا فان من لا يفهم المثلث بحده على سبيل التصور لا يطلب أحكامه فيجوز أن يطلب أن زواياه مساوية لقائمتين أم لا وإما أن يطلب أنه شكل أم لا فهو محال لأن الشكل يفهم أولا ثم يفهم انقسامه إلى ما يحيط به ثلاثة أضلاع وهو المثلث أو أربع وهو المربع فالعلم به يتقدم عليه (وأما المقدمات): فينبغى أن يكون محمولاتها ذاتية ويجوز أن يكون محمولا المقدمتين ذاتيا بالمعنى الآخر ولا يجوز ان يكون كلاهما ذاتيا بالمعنى الأول لأن النتيجة تكون معلومة قبل المقدمة لأن ذات الذاتى بذلك المعنى ذاتى ولا يجوز أن يقال كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم على أن هذا مطلوب لأن العلم بالجسمية يتقدم على العلم بالانسان فاذا كان موضوع المسئلة هو الانسان فلا بد وأن يكون أولا متصورا حتى يطلب حكمه إذ متصور الانسان متصور الحيوان والجسم من قبل لا محالة إذ يفهم الجسم وإنه ينقسم إلى الحيوان وغيره ثم الحيوان ينقسم إلى الناطق وغيره ولكن يجوز أن يكون محمول المقدمة الصغرى ذاتيا بالمعنى الأول ومحمول الكبرى ذاتيا بالمعنى الثانى وكذا بالعكس هذا ما أردنا تفهيمه وحكايته.

(فهرست القسم الأول إجمالا من) مقاصد الفلاسفة (لحجة الاسلام الغزالى) صحيفة م 2 خطبة الكتاب وفيها بيان أقسام الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والالهيات 4 القول فى المنطق وبيان فائدته وأقسامه وتعريف التصور والتصديق وبيان أن المنطق على خمسة فنون 8 الفن الأول فى دلالة الألفاظ ويتضح المقصود منها بتقسيمات خمسة 11 الفن الثاني فى المعانى الكلية واختلاف نسبها وأقسامها 17 الفن الثالث فى تركيب المفردات وأقسام القضايا وشرحها بذكر تقسيمات 25 الفن الرابع في تركيب القضايا وفيه بيان الأشكال والضروب 31 بيان جدول ضروب الشكل الأول منتجها وعقيمها 36 القول فى القياسات الاستثنائية وفيه بيان شرطى المتصل والمنفصل 45 القول فى مادة القياس 52 القول فى مجارى المقدمات 54 خاتمة القول فى القياس 57 الفن الخامس من الكتاب في لواحق القياس والبرهان وفيه أربعة فصول 00 الفصل الأول المطالب العلمية وأقسامها 59 الفصل الثانى فى تقسيم القياس البرهانى 60 الفصل الثالث فى الأمور التى عليها مدار العلوم البرهانية 62 الفصل الرابع فى بيان شروط مقدمات البرهان

~~(الالهيات) بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثانى (الفن الثانى الالهيات)

اعلم أن عادتهم جارية بتقديم الطبيعى ولكن آثرنا تقديم هذا لأنه أهم والخلاف فية أكثر ولأنه غاية العلوم ومقصدها وإنما يؤخر لغموضه وعسر الوقوف عليه قبل الوقوف على الطبيعى ولكنا نورد فى خلل الكلام من الطبيعى ما يتوقف عليه فهم المقصود ونستوفى حكاية مقاصد هذا العلم فى مقدمتين وخمس مقالات.

(المقالة الأولى: فى أقسام الوجود وأحكامه).

(المقالة الثانية: فى سبب الوجود كله وهو الله تعالى).

(المقالة الثالثة: فى صفاته).

(المقالة الرابعة: فى أفعاله ونسبة الموجودات إليه).

(المقالة الخامسة: فى كيفية وجودها منه على مذهبهم).

(المقدمة الأولى في تقسيم العلوم) لا شك فى أن لكل علم موضوعا يبحث فيه عن أحوال ذلك الموضوع والأشياء الموجودة التى يمكن أن يكون منظورا فيها فى العلوم ينقسم إلى ما وجوده بأفعالنا كالأعمال الانسانية من السياسات والتدبيرات والعبادات والرياضات والمجاهدات وغيرها وإلى ما ليس وجوده بأفعالنا كالسماء والأرض والنباتات والحيوان والمغادن وذوات الملائكة والجن والشياطين وغيرها فلاجرم ينقسم العلم الحكمى إلى قسمين.

(أحدهما): ما يعرف به أحوال أفعالنا ويسمى علما عمليا وفائدته أن ينكشف به وجود الأعمال التى بها ينتظم مصالحنا فى الدنيا ويصدق لأجله رجاؤنا فى الآخرة.

(والثانى): مانتعرف فيه أحوال الموجودات لتحصل فى نفوسنا هيئة الوجود كله على ترتيبه كما تحصل الصورة المرئية فى المرآة ويكون حصول ذلك فى نفوسنا كمالا لنفوسنا فان استعداد النفس لقبولها هو خاصة النفس فتكون فى الحال فضيلة وفى الآخرة سببا للسعادة كما سيأتى ويسمى علما نظريا وكل واحد من العلمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

(أما العملى): فينقسم إلى ثلاثة أقسام.

(أحدها): العلم بتديير المشاركة التى للانسان مع الناس كافة فان الانسان خلق مضطرا إلى مخالطة الخلق ولا ينتظم ذلك على وجه يؤدى إلى حصول مصلحة الدنيا وصلاح الآخرة إلا على وجه مخصوص وهذا علم أصله العلوم الشرعية وتكمله العلوم السياسية المذكورة فى ثديير المذن وترتيب أهلها.

(والثانى ): علم تدبير المنزل وبه يعلم وجه المعيشة مع الزوجة والولد والخادم وما يشتمل المنزل عليه.

(والثالث): علم الأخلاق وما ينبغى أن يكون الانسان عليه ليكون خيرا فاضلا فى أخلاقه وصفاته ولما كان الانسان لا محالة إما وحده وإما مخالطا لغيره وكانت المخالطة إما خاصة مع أهل المنزل وإما عامة مع أهل البلد انقسم العلم بتدبير هذه الأحوال الثلاثة إلى ثلاثة أقسام لامحالة.

(وأما العلم النظرى فثلاثة): (أحدها) يسمى الالهى والفلسفة الأولى: (والثانى): يسمى الرياضى والتعليمى والعلم الأوسط.

(والثالث): يسمى العلم الطبيعى والعلم الأدنى وإنما انقسم إلى ثلاثة أقسام لأن الأمور المعقولة لا تخلو إما أن تكون برية عن المادة والتعلق بالأجسام المتغيرة المتحركة كذات الله تعالى وذات العقل والوحدة والعلة والمعلول والموافقة والمخالفة والوجود والعدم ونظائرها فان هذه الأمور يستحيل ثبوت بعضها للمواد كذات العقل وأما بعضها فلا يجب لها أن يكون فى المواد وإن كان قد يعرض لها ذلك كالوحدة والعلة فان الجسم أيضا قد يوصف بكونه علة واحدة كما يوصف العقل ولكن ليس من ضرورتها أن تكون فى المواد وإما أن تكون متعلقة بالمادة وهذا لا يخلو إما أن يكون بحيث يحتاج إلى مادة معينة حتى لا يمكن أن يتحصل فى الوهم بريا عن مادة معينة كالانسان والنبات والمعادن والسماء والأرض وسائر أنواع الأجسام وإما أن يمكن تحصيلها فى الوهم بريا عن مادة معينة كالمثلث والمربع والمستطيل والمدور فان هذه الأمور وإن كانت لا تتقوم وجودها إلا فى مادة معينة ولكن ليس يتعين لها فى الوجود على سبيل الوجوب مادة خاصة إذ قد تعرض فى الحديد والخشب والتراب وغيره لا كالانسان فان مفهومه لا يمكن أن يحصل إلا فى مادة معينة من لحم وعظم وغيرهما فان فرض من خشب لم يكن إنسانا والمربع مربع من لحم أوطين أوخشب وهذه الأمور يمكن تحصيلها فى الوهم من غير التفات إلى مادة والعلم الذى يتولى النظر فيما هو برى عن المادة بالكلية هو الالهى والعلم الذى يتولى النظر فيما هو برى عن المادة فى الوهم لا فى الوجود هو الرياضى والذى يتولى النظر فيما لا يستغنى عن. المواد المعينة هو الطبيعى فهذا هو علة انقسام هذه العلوم إلى ثلاثة أقسام ونظر الفلسفة فى هذه العلوم الثلاثة.

(المقدمة الثانية في بيان موضوعات هذه العلوم الثلاثة) (ليخرج منه موضوع العلم الالهى الذى نحن بصدده) (أما العلم الطبيعى): فموضوعه أجسام العالم من حيث أنها وقعت فى الحركة والسكون والتغير لامن حيث مساحتها ومقدارها ولا من حيث شكلها واستدارتها ولا من حيث نسبة بعض أجزائها إلى بعض ولا من حيث كونها فعل الله تعالى فان النظر فى الجسم يمكن من هذه الوجود كلها ولا ينظر الطبيعى فيه إلا من حيث تغيره واستحالته فقط.

(وأما الرياضى): فموضوعه بالجملة الكمية وبالتفصيل المقدار والعدد* وللعلم الطبيعى فروع كثيرة كالطب والطلسمات والنارنجات والسحر وغيره* وللرياضى أيضا فروع كثيرة* وأصوله علم الهندسة والحساب والهيئة أعنى هيئة العالم والموسيقى وفروعه علم المناظر وعلم جر الأثقال وعلم الأكر المتحركة وعلم الجبر وغيره.

(وأما العلم الالهى): فموضوعه أعم الأمور وهو الوجود المطلق والمطلوب فيه لواحق الوجود لذاته من حيث أنه وجود وفقط ككونه جوهرا وعرضا وكليا وجزئيا وواحدا وكثيرا وعلة ومعلولا وبالقوة والفعل وموافقا ومخالفا وواجبا وممكنا وأمثاله فان هذه تلحق الوجود من حيث أنه وجود لا كالمثلثية والمربعية فانها تلحق الوجود بعد أن يصير مقدارا ولا كالزوجية والفردية إذ تلحقه بعد أن يصير عددا ولا كالبياض والسواد إذ يلحقه بعد ان يصير جسما طبيعيا.

(وبالجملة): كل وصف لا يلحق الوجود إلا بعد أن صار موضوع أحد العلمين الرياضى والطبيعى فالنظر فيه ليس من هذا.

العلم* ويقع فى هذا العلم النظر فى سبب الوجود كله لأن الموجود ينقسم إلى سبب ومسبب والنظر فى وحدة السبب وكونه واجب الوجود وفى صفاته وفى تعلق سائر الموجودات به ووجه حصولها منه* ويسمى النظر فى التوحيد من هذا العلم خاصة العلم الالهى ويسمى علم الربوبية أيضا وأبعد العلوم الثلاثة عن التشويش الرياضى* وأما الطبيعى فالتشويش فيه أكثر لأن الطبيعيات بصدد التغيرات فهى بعيدة عن الثبات بخلاف الرياضيات فهذه هى المقدماث.

(أما المقالات): فالمقالة الأولى فى أقسام الوجود وأحكامه وأعراضه الذاتية ويظهر ذلك بتقسيمات.

(القسمة الأولى): الوجود ينقسم إلى الجوهر والعرض وهذا يشبه الانقسام بالفصول والأنواع وسبيل تفهيم التقسيم أن العقل يدرك الوجود.

على سبيل التصور بلا شك وهو مستغنى هن الرسم والحد إذ ليس للوجود رسم ولا حد.

(أما الحد): فلأنه عبارة عن الجمع بين الجنس والفصل وليس للوجود شىء أهم منه حتى ينضاف إليه فصله ويحصل منه حد الوجود.

(وأما الرسم): فهو عبارة عن تعريف الخفى بالواضح ولا شىء أوضح من الوجود وأعرف أشهر منه حتى يعرف الوجود به* نعم أن ذكر الوجود بالعربية ولم يفهم فقد يبدل بالعجمية ليفهم المراد باللفظ وأما الحد والرسم فممتنعان إذ غايتك فى الرسم والتعريف أن تقول الوجود هو الذى ينقسم إلى الحادث والقديم وهو فاسد لأنه تعريف الشىء بما يعرف به إذ الحادث يعرف بعد معرفة الوجود وكذا القديم فان الحادث عبارة عن موجود بعد عدم والقديم عبارة عن موجود غير مسبوق بعدم فاذا ظهر أن الوجود يحصل فى العقل تصوره حصولا أوليا لا بطلب حد ورسم فليس بخفى أنه ينقسم فى العقل إلى موجود يحتاج إلى محل يحل فيه كالأعراض وإلى مالا يحتاج إلى ذلك والذى يحتاج إلى محل ينقسم إلى مالا يحل فى محل ذلك المحل يتقوم بنفسه دون ذلك العرض وليس يحتاج فى قوامه إلى العرض وحلول العرض لا يبدل حقيقته فلا يغير جواب السؤال عن ماهيته كالسواد للثوب والانسان وإلى ما يحل فى المحل فتقوم حقيقة المحل به فيتبدل بسبب حلوله الحقيقية وجواب الماهية كصورة الانسان فى النطفة وصورة الفارة فى التراب فان من أشار إلى ثوب وقال ماهو فجوابه أنه ثوب فلو صار أسود اوحارا فسأل عنه كان الجواب انه ثوب لأن السواد والحرارة لم يخرجه عن كونه ثوبا ولم تبطل حقيقته والنطفة إذا استحالت إنسانا لم يمكن أن يقال نطفة فى جواب ما هو ولا التراب إذا صار فارة فسئل عنه يمكن أن يقال أنه تراب فالحرارة واللون وصف ينضاف إلى الثوب ويبقى الثوب ثوبا معه والتراب لا يبقى ترابا مع صورة الفارة ولا النطفة تبقى نطفة اذا صارت انسانا وقد استويا أعنى اللون وصورة الانسانية فى أن كل واحد يحتاج إلى محل ولكن بين المحلين وبين الحالين فرق فلا بد من الاصطلاح على عبارتين مختلفتين وقد اصطلحوا على تخصيص لفظ العرض بما يجرى مجرى اللون الحرارة من الثوب وعلى تسمية محل العرض موضوعا فمعنى العرض على هذا الاصطلاح هو الذى يحل فى موضوع ومعنى الموضوع هو الذى يتقوم بنفسه دون المعنى الحال.

فيه وأما مايجرى مجرى الانسانية فيسمى صورة ويسمى محله هيولى فالخشب موضوع لصورة السرير وهيولى لصورة الرماد فانه يبقى خشبا مع صورة السرير ولا يبقى خشبا مع صورة الرماد والصورة تسمى جوهرا إذ وضعوا الجوهر عبارة عن كل موجود لا فى موضوع والصورة ليست فى موضوع كما سبق والهيولى أيضا جوهر فانقسم الجوهر إلى أربعة أنواع.

(الهيولى والصورة والجسم والعقل المفارق): وهوالقائم بنفسه وكل جسم فالجواهر الثلاثة الأول موجودة فيه فالماء مثلا جسم مركب من صورة المائية ومن الهيولى الحاملة للصورة فمجرد الهيولى جوهر ومجرد الصورة جوهر ومجموعهما وهو الجسم جوهر فهذا شرح هذه الانقسامات فى العقل مع تفسير هذه الاصطلاحات فأما إثبات الجواهر الثلاثة فبالبرهان على ما سيأتى إلا الجسم فانه يثبت بالمشاهدة* أما العقل والصورة والهيولى فمطلوب بالدليل لا محالة وحصل من هذا أنهم أطلقوا اسم الجوهر على ما هو محل وعلى ما هو حال أيضا وخالفوا فى هذا المتكلمين فان الصورة عند المتكلمين عرض تابع لوجود المحل وهم يستبدلون ويقولون كيف لا تكون الصورة جوهرا وبها تقوم ذات الجوهر ويتقوم حقيقته وماهيته وكيف يكون عرضا والعرض تابع للمحل بعد تقوم المحل بنفسه والهيولى تابع للصورة فى التقوم وأصل الجوهر كيف لا يكون جوهرا.

(القول فى حقيقة الجسم): لما قسم العقل الجوهر إلى جسم وغير جسم وكان وجود الجسم من جملة الجواهر مدركا بالحس مستغنيا عن البرهان وجبت البداية بيان حده وحقيقته فالجسم هو كل جوهر يمكن أن يفرض فيه ثلاثة امتدادات متقاطعة على زوايا قائمة فانك إذا لاحظت ذات العقل أو ذات البارى تعالى لم يمكنك أن تفرض فيه بعدا أو امتدادا البتة فاذا نظرت إلى السماء والأرض وسائر الأجسام أمكنك أن تفرض امتدادا على الاتصال وتقبل الانقسام والانفصال والامتداد فى جهة واحدة يسمى طولا وهذا يوجد للخط وحده والامتداد فى جهتين يسمى طولا وعرضا وهذا يوجد للسطح وحده فانه ينقسم من جهتين والخط لا ينقسم إلا من جهة واحدة ولا يوجد شىء ينقسم من ثلاثة جهات إلا الجسم فكل ما يمكن أن يفرض بالوهم فيه ثلاث امتدادات متقاطعة على زوايا قائمة فهو الجسم وإنما خصصنا الزوايا بالقائمة لأن ذلك إن لم يشترط فكل جسم يمكن أن يفرض فيه امتدادات كثيرة متقاطعة لا على زوايا قائمة مثل هذا فاذا فرضت الزوايا قائمة لم تزد على الثلاث وهو الطول والعرض والعمق * والزاوية القائمة هى التى تحصل بقيام خط منتصبا على وسط آخر بحيث لا يميل الى أحد الجانبين وبحيث يتساوى الزاويتان.

الحاصلتين من الجانبين فاذا تساويتا سميت كل واحدة قائمة مثل هذا فاذا ميل به الى جانب اليمين مثلا مثل هذا صارت الزاوية من الجانب الذى اليه الميل أضيق من مقابلتها فتسمى حاده وتسمى الواسعة المقابلة منفرجة * وقد قيل فى حد الجسم أنه الطويل العريض العميق وهذا فيه نوع تساهل فان الجسم ليس جسما باعتبار ما فيه من الطول والعرض والعمق بالفعل بل باعتبار قبوله للطول والعرض والعمق والابعاد الثلاثة بدليل أنك لو أخذت شمعة فشكلتها بطول شبر وعرض أصبعين وسمك أصبع واحد فهى جسم لا لما فيه من الطول والعرض إذ لو جعلته مستديرا أو على شكل آخر زال ذلك الامتداد المعين وذلك الطول المعين وحدث امتدادان آخران بدلا عنهما والصورة الجسمية لم تتبدل أصلا فاذا المقادر الموجودة فى الجسم أعراض خارجة عن ذات الجسمية وقد تكون لازمة لا تفارق كشكل السماء ولكن العرضى قد يكون لازما وكذا العرض كالسواد للحبشى فاذا الذاتى للجسم الذى هوالصورة الجسمية كونه بحيث يقبل فرض الامتدادات لا وجود الامتدادات بالفعل بل المقدار الحاصل بالفعل عرض ولذلك يجوز أن يقبل جسم واحد مقدارا أصغر وأكبر فيكبر مرة ويصتغرأخرى من غير زيادة من خارج بل فى نفسه من حيث أن المقدار عرض فيه وليس.

بعض المقادير متعينا له لذاته ويدل على كون المقدار غير حقيقة الجسمية أن الأجسام متساوية فى الصورالجسمية لا يتصور بينها فرق وهى مختلفة فى المقادير لا محالة (القول فى الاختلاف الذى فى تركيب الجسم): قد اختلف الناس فى تركيب الجسم ولا يحصل الوقوف على حقيقة الجسم إلاببيان صحيح المذاهب فيه* وقد اختلفوا على ثلاثة مذاهب فقائل يقول إنه متركب من أجزاء لا تجزأ لا بالوهم ولا بالفعل ويسمى كل من تلك الآحاد جوهرا فردا والجسم هو المتألف من تلك الجواهر* وقائل يقول إنه غير مركب أصلا بل هو موجود واحد بالحقيقة والحد* وليس فى ذاته تعدد* وقائل يقول إنه مركب من الصورة والمادة أما دليل بطلان المذهب الأول فابطال الجوهر الفرد وبيان استحالته بستة أمور.

(الأول): أنه لو فرض جوهر بين جوهرين فكل واحد من الطرفين يلقى من الأوسط ما يلقاه الآخر أو غيره فان كان غيره فقد حصل الانقسام إذ ما شغله هذا الطرف بالمماسة غير ما شغله الآخر وإن كان عينه فلا شك فى أنه محال ثم يلزم عليه أن يكون كل واحد من الطرفين مداخلا للوسط بكليته إذ لقى جميعه وليس له جميع بل هو واحد وقد لقى منه شيئا فقد لقى كله ولقى الآخر كله فيلزم أن يكون مكان الكل ومكان الوسط واحدا وإلاصار الوسط حائلا بين الطرفين وصار ملاقيا لكل واحد من الطرفين بغير ما يلاق الآخر ولا يمكنه أن يلافيه بعين مايلاقى الآخر إلا بالتداخل ثم إن جاء ثالث ورابع فهكذا يلزم فيجب أن لا يزيد حجم ألف جزء على جزء واحد ولا شك فى استحالة هذا.

(دليل ثانى): وهو أنا نفرض خمسة أجزاء رتبت صفا واحدا كأنه خط ووضعنا جزئين على طرفى الخط فالعقل يقبل تقدير حركة الجزئين حتى يلتقيا لا محالة ويقبل تقديرالتقائهما بحركة متساوية من الجزئين وإذا فرض ذلك كان كل واحد من الجزئين قد قطع جزءا من الوسط فيكون الوسط قد انقسم والا فيلزم أن يقال ليس فى مقدور الله إيصال أحدهما إلى الآخر بحركة متساوية بل اذا ابتدأ بتحريكهما وانتهى أحدهما إلى الثانى وقفت القدرة عن تحريكه حتى يتحرك الآخر إلى الثالث* وليت شعرى هل يكون وقوف القدرة فى الجوهر المتيامن أو المتياسر ولم يتعذر على القدرة ذلك فى أحدهما بعينه دون الآخر وذلك الآخر مثله فى قبول الحركة.

(دليل ثالث): هو أنا نفرض خطين كل واحد منهما من ستة أجزاء أحدهما خط.

(اب) : والآخر خط (ج د): على هذا المثال وفرصنا جزئين أحدهما.

يريد أن يتحرك من (ا) آلى (ب) والآخر من (د) الى (ج) ليكونا متقابلين فلا شك فى أنهما يتقابلان أولا ويتحاذيان ثم يجاوز أحدهما الآخر ويمكن أن نفرض ذلك بحركة متساوية من الجزئين وإن ثبت الجوهر الفرد صار ذلك محالا لأن تحاذيهما لا يمكن إلا على ثلاثة أوجه.

(أحدها): أن يكون على نقطتى (ه ح) فيكون أحدهما قطع أربعة أجزاء والآخر جزئين* والثانى أن يكون على نقطتى (رط) فيكون أحدهما أيضا قد قطع جزئين والآخر أربعة فلاتكون الحركة متساوية* والثالث أن يكون أحدهما على نقطة (ح) والآخر على نقطة (ط) وقد قطع كل واحد جزئين ولكن تقطتا (ح) و(ط) ليستا بمتحاذيتين فاستحال التحاذى مع تساوى الحركة فاستحال التجاوز ولا شك فى أن ذلك غير محال وإنما صار محالا بفرض الجوهر الفرد بل يتحاذيان على الوسط فان كل طول فيقبل التنصيف بنصفين متساويين فيكون المنتصف هو الوسط وهما متحاذيان.

(دليل رابع): وهو أنا نفرض ستة عشرجوهرا فردا وصنعت متلاصقة متجاورة على شكل مربع وهى ذات أربعة أضلاع هكذا وقد وضعناها متفرقة فلنفرضها متلاصقة لا فرجة فيها فلا شك فى أن أضلاعها متساوية لأن كل ضلع مركب من أربعة أجزاء وقطره أيضا مركب من أربعة أجزاء.

فيجب أن يكون قطره مثل ضلعه وذلك محال فان القطر الذى.

يقطع المربع بمثلين متساويين أبدا يكون أكبر من الضلع وذلك معلوم بالمشاهدة من جميع المربعات ودل عليه البرهان الهندسى وذلك محال مع الجوهر الفرد.

(دليل خامس): اذا فرضنا خشبا منتصبا فى الشمس وقع له ظل لا محالة وامتد من الشعاع خط مستقيم من حد الظل كرأس الخشبة الى الشمس وواجب أن يتحرك مهما تحرك الشمس فان الشعاع لا يقع إلا مستقيما فان تحركت الشمس ولم يتحرك الظل كان لخط مستقيم طرفان طرف إلى الجزء الذى كان الشمس فيه أولا وطرف إلى الجزء الذى انتقل اليه ثانيا وذلك محال فان فرضنا تحرك الشمس جزءا واجدا فان تحرك الظل أقل من جزء فقد انقسم الجزء وإن تحرك مثل ما تحرك الشمس فهذا محال إذ يقطع الشمس فراسخ والظل لا يتحرك مقدار شعرة.

(دليل سادس): أن الرحا من الحديد أو الحجر إذا دارت فلا شك فى أنه إذا تحرك طرفه تحرك أجزاء وسطه أقل من ذلك لأن دوائر الوسط أصغر من دوائر الظرف وإذا تحرك الطرف جزءا فاما أن يتحرك الوسط أقل منه فينقسم الجزء أولا يتحرك فيلزم أن ينفصل جميع أجزاء الرحا حتى يتحرك البعض ويسكن وهو محال من الحس فان أجزاء الحديد ليست تنفصل البتة.

(فأما دليل بطلان المذهب الثانى): وهو قول من قال إن الجسم ليس مركبا أصلا بل هو موجود واجد بالحقيقة والحد فهو أن الشىء الواحد من كل وجه لا يتصور أن يعبر عنه بعبارتين يصدق على إحداهما مالا يصدق على الأخرى* ونحن نبين أن العقل يثبت فى كل جسم أمرين يصدق على أحدهما ما لا يصدق على الآخر فان الصورة الجسمية عبارة عن الاتصال لا محالة وهذا الجسم المتصل قابل للانفصال الا محالة والقايل لا يخلو إما أن يكون عين الاتصال أو غيره فان كان عين الالصال فهو محال لأن القابل هو الذى يبقى مع المقبول إذ لا يقال المعدوم قبل الوجود فالاتصال لا يقبل الانفصال فلا بد من أمر آخر هو القابل للاتصال والانفصال جميعا وذلك القابل يسمى هيولى بالاصطلاح* والاتصال المقبول يسمى صورة ولا يتصور جسم لا اتصال فيه ولا يتصور اتصال إلا فى متصل ولا امتداد إلا فى ممتد والمتصل عين الاتصال بالحد والحقيقة وليسا يتباينان بالمكان ولا يمكن أن يتميز أحدهما عن الآخر باشارة الحس ولكن باشارة العقل يتميزان إذ يحكم العقل على أحدهما بما لا يحكم به على الآخر وهو قبول الانفصال الذى حكم باستحالته على الاتصال وقد حكم العقل بثبوته على شىء فذلك الشىء هو غير الاتصال فقد أدرك العقل لا محالة تغايرا والشىء لا يغايرنفسه بحال فهذا برهان إثبات الهيولى والصورة فى كل جسم. وأما ذات الاله وذات العقل وذات النفس فلا يمكن أن يفرض فيها اتصال وانفصال فلم يلزم أن يكون فيها تركيب وإنما الأجسام هى المركبة بالضرورة من الصورة والهيولى لا محالة فاذا تحصل من مجموع ماسبق أن الحق هو الرأى الثالث وهو أن الجسم غير مركب من أجزاء لا تتجزء إلا متناهية ولا غير متناهية إذ لو كان أجزاء غير متناهية لاستحال قطع الجسم مسافة من طرف إلى طرف إذ لا ينتهى إلى النصف ما لم ينته إلى نصف النصف وكذلك نصف.

نصف النصف ويكون ثم أنصاف لانهاية لها فلا يمكن قطعها ولكن الجسم ليس له جزء بالفعل ولكن بالقوة وإنما يحصل له جزء إذا جزىء ويحصل فيه قطع إذا قطع ويحصل فيه قسمة إذا قسم. وقول القائل الجسم منقسم إن لم يعن به أنه مستعد لأن يحدث فيه الانقسام فهو خطأ كقوله إنه منقطع ومنفصل فان الجسم الواحد المتصل كيف يكون منقطعا ومنفصلا. نعم.

يكون مستعدا له والانقسام والانقطاع والتجزؤ عبارات مترادفة وكلها ثابتة فى الجسم الواحد بالقوة لابالفعل وإنما يصير بالفعل بأحد أمور ثلاثة إما قطع بتفريق الأجزاء. وإما بأن يختلف فيه العرض كالخشب الملون إذ يكون الأبيض غير الأسود. وإما بالوهم وهو أن تصرف وهمك إلى طرف دون غيره فيكون ما صرفت إليه توهمك غير ما قطعت الوهم عنه ويكون وضع الوهم عليه كوضع الأصبع ومهما وضعت الأصبع على طرف كان المماس لأصبعك غير المباين فيحدث به انقسام فكذا يتعلق وهمك بتميز عما لم يتعلق به فمن هذا يعسر على الوهم أن يتصور الجسم واحد الأجزاء له لأنه سباق إلى تعيين الأطراف وتخصيص بعض الأجزاء بالتقديرات فيكون الجسم عند ذلك منقسما انقساما حاصلا من الوهم ولم يكن له فى حد نفسه انقسام بل حدث بفعل الوهم. نعم كان مستعدا لفعل الوهم ولظهور هذا الاستعداد وسهولة حصول المستعد له وعجز انفكاك الخيال عنه لا يكاد الوهم يطمئن إلى التصديق بأن الجسم الواحد المتشابه الأجزاء كالماء الواحد واحد بل نقول اعلم أن الماء الذى فى أسفل الكوز غير الماء على سطح الكوز وهذا صدق لأن الانقسام قد حصل باختلاف عرض المماسة.

ثم نقول: الوهم يفرض جزئين غير مماسين للكوز فماعلى جانب اليمين بالضرورة غير ما على جانب اليسار وهذا أيضا صدق وقد حصل الانقسام باختلاف عرض الموازاة لليمين واليسار والقرب من سطح الكوز أو وسطه وكل ذلك يوجب انقساما ولكن إذا نفى هذه الاختلافات كلها واعتبر جسم واحد متشابه من كل وجه حكم العقل بأنه واحد وليس له جزء بالفعل ولكنه قابل للتجزئة فهذا كشف الغطاء فيه.

(القول فى ملازمة الهيولى والصورة) الهيولى ليس لها وجود بالفعل بنفسها دون الصورة البتة بل يكون أبدا وجودها مع الصورة وكذلك الصورة لا تقوم بنفسها دون الهيولى* والدليل على أن الهيولى لا توجد خالية عن الصورة أمران.

(الأول): أنه لو وجدت لكان لا يخلو إما أن تكون مشارا إليها فى جهة باليد إشارة حسية أولم تكن فان كانت مشارا إليها فلها إذا جهتان فما يلقى منها ما يأتيها من جهة غير الذى يلقى منها ما يأتيها من الجهة الأخرى فتكون منقسمة وتكون صورة جسمية إذ لا معنى للصورة الجسمية وحقيقتها إلا قبول القسمة وإن لم تكن مشارا إليها فهو باطل من حيث أنه إذا حلت بها الصورة فاما أن تكون فى كل مكان أولا تكون أصلا فى مكان أو تكون فى مكان دون مكان والأقسام الثلاثة باطلة فالمفضى إليها باطل* أما بطلان كونها فى كل مكان أولا فى مكان فظاهر* وأما بطلان اختصاصها بمكان دون مكان فمن حيث أن الصورة الجسمية من حيث أنها جسمية لا تستدعى مكانا معينا بل سائر الأما كن بالنسبة إليها واحدة فيكون الاختصاص بأمر زائد على الجسمية وذلك بأن يقال الهيولى كانت فى مكان مشار إليه فصادفتها الصورة فيه واختصت به فاذا لم تكن الهيولى مشارا إليها استحال فيها اختصاص بمكان دون مكان* فان قيل فهذا يلزم فى أصل الجسم فانه لم يختص بمكان دون مكان وهو من حيث أنه جسم يناسب سائر الأماكن على وجه واحد قيل لا جرم نقول أنه كما لا يتصور وجود هيولى قائمة بالفعل من غير صورة حالة فيها لا يتصور وجود جسم مطلق ليس له إلا صورة الجسمية مالم ينضم إليه أمر زائد على صورة الجسمية يتمم نوعه كما لا يتصور حيوان مطلق لا يكون فرسا ولا إنسانا ولا غيرهما بل لابد وأن ينضاف الفصل إلى الجنس حتى يتم النوع ويحصل الوجود فاذا ليس فى الوجود جسم مطلق أصلا بل جسم خاص كسماء وكوكب ونار وهواء وأرض وماء وما هو مركب من هذه فيكون استحقاقها بعض الأماكن دون بعض بصورتها كالأرض بصورة الأرضية استحقت المركز والنار بصورة النارية استحقت مجاورة المحيط وكذا سائر الأنواع* فان قيل فيبقى الالزام فى أحد أجزاء مكان نوع واحد وهو أن يشار إلى جزء من الماء فى البحر ويقال هذا من حيث إنه ماء ليس يستحق هذا الجزء من المكان بل لوكان إلى وسط البحر أقرب أو أبعد اكن ممكنا فما الذى خصصه به فيقال إن صورة المائية التى فى ذلك الماء صادفت الهيولى التى حلت فيها فى ذلك المكان لأن الهواء مثلا هو الذى ينقلب ماء وقد كان ذلك الهواء موجودا ثم ملاقاة السبب كالبرد هو الذى أحاله ماء فبقى ماء ثم ولم تكن الهيولى ثم من غير صورة بل مع صورة الهوائية فخلعتها ولبست صورة المائية فهذا أحد الأسباب ومن الأسباب أن ينتقل اليه بسبب محرك أوغيره فأما محض المائية فلا يقتضى جزءا معينا من أجزاء حيز الماء بل أمر زائد عليه من جنس ما ذكرناه فاذا بان أن الهيولى لا تقوم بنفسها دون الصورة.

(الدليل الثانى): أن الهيولى إذا فرضت مجردة عن الصورة فلا تخلو أما أن تنقسم أو لا تنقسم فان كانت تنقسم فاذا فيها الصورة الجسمية وإن كانت لا تنقسم فلا تخلو إما أن تكون نبوتها عن قبول القسمة طبعا لها ذاتيا أو عرضاغريبا فان كان ذاتيا استحال أن تقبل الانقسام كما يستحيل أن ينقلب العرض جسما والعقل جسما وإن كان ذلك عارضا غريبا فيها فاذا فيها صورة وليست خالية عن الصورة ولكن تلك الصورة مضادة للصورة الجسمية هذا مع أن الصورة الجسمية لاضد لها كما سيأتى عند ذكر التضاد فان قيل فبم تنكرون على من يسلم أن الصورة الجسمية تلازم الهيولى ولكن يقول هى عرض فيها لازم لها يقال له هذا محال لأن الموضوع متقوم بنفسه دون العرض فى العقل وإن كان قدلا يفارق فى الوجود فللعقل طريق إلى أن يعتبر ذات ذلك الموضوع ويقول هل هو مشار إليه أم لا وهل هو منقسم أم لا ويرجع الدليلان المذكوران بعينهما مع زيادة أشكال وهو أن الهيولى فى نفسها إذا لم تكن مشارا اليها وصارت الاشارة إلى الصورة التى هى عرض والعرض قائم فى ذات الموضوع فان لم يكن الموضوع مشارا إليه فينبغى أن يكون مباينا للعرض المشار اليه ولا يكون محلا له ولا يكون العرض قائما به بل قائما فى ذاته إذ يصير مشارا اليه وذلك كله محال فلاح أن الهيولى لا توجد دون الصورة وأن الصورة الجسمية والهيولى أيضا لا توجدان دون أن ينضاف اليهما الفصل المتمم لنوع ذلك الجسم لأن كل جسم إذا خلى وطبعه طلب موضعا يستقرفيه وليس ذلك له لكونه جسما بل لزائد وكل جسم فاما أن يكون سريع الانفصال أو عسره أو ممتنعه وكل ذلك ليس بمحض الجسمية بل بزائد عليه فاذا لا بد من الزائد أيضا حتى يتم الوجود وقد تحصل من ذلك أن الجسم جوهر مركب من جزئين صورة وهيولى ليس تركيبهما بطريق الجمع بين مفترقين هما موجودان دون التلفيق بل هو تركيب عقلى كما وقعت الاشارة اليه.

(القول فى الأعراض) لا بد من قسمة الأعراض بعد قسمة الجوهر وهى منقسمة أولا إلى قسمين.

(أحدهما): مالا يحتاج فى تصور ذاته إلى تصور أمر خارج منه.

(والثانى): ما يحتاج* فأما الأول فنوعان الكمية والكيفية.

(أما الكمية): فهى العرض الذى يلحق الجوهربسبب التقدير والزيادة والنقصان والمساواة مثل الطول والعرض والعمق والزمان فان هذا لا يحتاج فى تصوره إلى الالتفات إلى أمر خارج منه ويقع بسببه قسمة الجواهر* والنوع الثانى الكيفية وهى التى لا يحوج تصورها إلى تصور أمر خارج ولا يقع بسببها قسمة للجوهر ومثالها من المحسوسات المدركات بالحواس الألوان والطعوم والروائح والخشونة والملاسة واللين والصلابة والرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة* ومن غير المحسوسات ما هواستعداد لكمال أو نقيضه كقوة المصارعة والمصحاحية والضعف والممراضية ومنها ما هو كمال كالعلم والعفة وأما القسم الآخر المحوج إلى الالتفات إلى أمر خارج فهو سبعة.

(الاضافة وأين ومتى والوضع والجدة وأن يفعل وأن ينفعل).

(أما الاضافة): فهى حالة للجوهرتعرض بسبب كون غيره فى مقابلته كالأبوة والبنوة والأخوة والصداقة والمجاورة والموازاة وكونه على اليمين والشمال إذ الأبوة ليست للأب إلا من حيث وجد الابن فى مقابلته.

(وأما الاين): فهو كون الشىء فى مكان مثل كونه فوق وتحت.

(وأما متى): فهو كون الشىء في الزمان ككونه بالأمس وعام أول واليوم.

(وأما الوضع): فهونسبة أجزاء الجسم بعضها إلى بعض ككونه جالسا ومضطجعا وقاعدا إذ باختلاف وضع الساقين من الفخذين يختلف القيام والقعود.

(وأما الجدة): وتسمى الملك أيضا فهو كون الشىء بحيث يحيط به ما ينتقل بانتقاله ككونه متطلسا ومتغمما ومتقمصا ومتنعلا وكون الفرس مسرجا وملجما فان لم يكن محيطا وكان منتقلا بانتقاله لم يكن منه فان من وضع القميص على رأسه لم يكن متقمصا وإن كان محيطا ولم يكن متنقلا بانتقاله لم يلزم الملك فان البيت محيط بالشخص والاناء بالماء ولكنهما لا ينتقلان بانتقال المحاط.

(وأما أن يفعل): فهو كون الشىء فاعلا فى حالة كونه مؤثرا فى الغير بالفعل ككون النار محرقة فى وقت حصول الاحراق بالفعل وكونها مسخنة.

(وأما الانفعال): فما يقابله وهو استمرار تاثر الشىء بغيره كتسخن الماء وتبرده وتسوده وتبيضه والتسخن غير السخونة والتسود غير السواد فان السخونة والسواد من الكيفية التى لا تحتاج فى تصورها إلى الالتفات إلى الغير وإنما نعنى بالانفعال التأثر والتغير والانتقال من حال إلى حال حيث تتزايد السخونة أو تنتقص فان كان مستقرا كان متكيفا بالسخونة فلم يكن منفعلا فليفهم هذا الفرق (القول فى أقسام آحاد هذه الأعراض) (وإقامة الدليل على أنها أعراض) (أما الكمية): فهى نوعان متصلة ومنفصلة والمتصلة أربعة أقسام الخط، والسطح، والجسم، والزمان.

(أما الخط): فهو الطول وهو الذى لا يوجد فيه الامتداد والمقدار إلا فى جهة واحدة ويكون فى الجسم بالقوة فاذا صار بالفعل يسمى خطا.

(والثانى): ماهو امتداد من جهتين وهو الطول والعرض وهو فى الجسم بالقوة وإنما يحصل بالفعل بقطع فيسمى سطحا ونعنى بالسطح الوجه الظاهر من الجسم وهو منقطعه.

(والثالث): أن يكون له ثلاثة امتدادات وهو الجسم فالوجه الذى يلاقيه المماس إذا لم يعتبر شىء من باطن الجسم سواه هو السطح وهو عرض لأنه لم يكن وكان الجسم موجودا فلما قطع الجسم ظهر فى الجسم وهذا معنى العرض وكما أن السطح عبارة عن منقطع الجسم فالخط عبارة عن طرف السطح ومنقطعه والنقطة عبارة عن طرف الخط ومنقطعه ومهما كان السطح عرضا فلا يخفى أن النقطة والخط أولى بالعرضية نعم النقطة لا مقدار لها إذ لو كان لها قدر وامتداد واحد صارت خطا فاذا كان لها قدران صارت سطحا وإن كان لها قدر فى ثلاث جهات صارت جسما ويمكن أن يتصور الخط والسطح والجسم بتوهم الحركة فالنقطة إذا تحركت حصل الخط * والخط إذا تحرك لافى جهة امتداده حصل السطح* وإذاتحرك السطح لا فى جهة امتداده حصل الجسم وهذا ربما يظن أنه تحقيق وأن الخط يحصل من حركة النقطة وهو محال بل هو أمر توهمى إذ النقطة لا تحرك مالم يكن مكان ولا يكون مكان ما لم يكن جسم فيكون الجسم سابقا فى الحصول على السطح والسطح على الخط والخط على النقطة والنقطة على فرض الحركة فى النقطة.

(وأما الزمان): فهو عبارة عن مقدار الحركة وسيأتى فى الطبيعيات.

(وأما الكمية): المنفصلة فنعنى بها العدد وهوأيضا عرض لأن العدد يحصل من تكررالآحاد فان كان الواحد والوحدة عرضا كان العدد الحاصل منه أولى بالعرضية وإنما يفارق الكمية المنفصلة الكمية المتصلة بشىء وهو أنه لا يوجد بين أجزاء المنفصلة جزء مشترك يصل أحد الطرفين بالآخر إذ ليس بين الثانى والثالث اتصال ولا بيهما جزء مشترك بين الطرفين يصل أحدهما بالآخر كما تصل النقطة المشتركة الموهومة فى وسط الخط بين طرفى الخط وكما يصل الخط بين طرفى السطح وكما يصل السطح الموهوم بين طرفى الجسم وكما يصل الآن بين طرفي الزمان الماضى والمستقبل وآية أن الوحدة عرض أنها تكون إما فى ماء أو إنسان أو فرس ومعنى المائية شىء ومعنى الوحدة شىء ولذلك يصير الماء الواحد بالقسمة اثنين وبالجمع واحدا فيطرأ عليه الوحدة والاثنينية فهو موضوع وهذا عارض نعم الانسان الواحد لا يصير اثنين فان هذا عرض لازم له وذلك لا ينافى كونه عرضا فاذا الوحدة معنى موجود فى موضوع ذلك الموضوع متقوم فى ذاته بحقيقته دون فرض الوحدة وهو المراد بالعرض.

(وأما الكيفية): فنورد منها مثالين الألوان والأشكال فنقول السواد عرض لأنه لو فرض لا فى موضوع فلا يخلو إما أن يكون مشارا اليه ومنقسما أو غير مشار اليه ولا منقسم فان لم يقبل الاشارة والقسمة لم يقبل المقابلة ولم يدرك بالبصر وليس عبارة عن هيئة تقع من الرائى فى جهة مخصوصة ويدركه البصر ويقبل الانقسام وإن كان منقسما فكونه سوادا غير كونه منقسما إذ كونه منقسما يشترك فيه البياض والسواد ويختلفان فى السوادية والبياضية ونحن لانعنى بالجسم إلا المنقسم فهو إما أن يقال فى منقسم وهو العرض* وإما أن يقال هو عين المنقسم وهو محال إذ حقيقة الانقسام هو الجسمية إذ لانعنى بالجسمية سواه وحقيقة السواد غير حقيقة الانقسام لا عينه* نعم لا يتميز السواد عن محله بالاشارة الحسية ولكن يتميز باشارة العقل كما ذ كرناه فاذا هو عرض.

(وأما الأشكال): فهى أيضا أعراض لأن الشمعة تختلف عليها الأشكال وهى مستمرة الوجود فاذا التدوير والتربيع والتثليث كل ذلك من الكيفية وهى أعراض* وقد ينازع فى وجود الدائرة ويقال لا يتصور شكل معين فى وسطه نقطة جميع الخطوط منها إلى المحيط متساوية ويدل على إثباتها أن الجسم مدرك وجوده بالحس وهو إما مركب وإما مفرد والمركب لا يكون إلا من مفرد ولا بد من إثبات المفرد* والمفرد هو الذى ليس فيه طبايع مختلفة بل طبع واحد متشابه كطبع الماء والهواء فهذا إذا خلى منه مقدار ونفسه فأما أن يكون له من ذاته شكل أو لا يكون وباطل أن لا يكون له شكل إذ يكون ذلك غير متناه وقد فرضنا قدرا متناهيا منه وإذا حدث له شكل فهو إما كرة أو مربع أوغيرهما ومحال أن يكون غير كرة لأن الطبع المتشابه فى محل متشابه لا يوجب شكلا مختلفا حتى يقتضى فى بعضه خطا وفى بعضه زاوية ولا متشابه فى الأشكال إلا الكرة فواجب أن يكون شكله كرويا ومهما قطعت الكرة قطعا مستقيما كان المقطع دائرة بالضرورة فقد ثبت إمكان الدائرة وهى أصل الأشكال فقد ثبت أن الكمية والكيفية عرضان* وأما السبعة الباقية فلا تخفى عرضيتها لأنها لا تخلو عن إضافة شىء إلى شىء ولا بد من شىء حتى يمكن إضافته فالفعل نسبة شىء إلى شىء بالتأثير فلا بد من شىء موجود أولا حتى يؤثر والانفعال نسبة شىء إلى غيره بالتأثير فلا بد من شىء أولا حتى ينفعل* وأما الأربعة البواقى فهى محتاجة إلى الموضوع أيضا لأنها نسب إما إلى زمان أو مكان أو إلى محيط أوجزء ولا بد من شىء حتى يكون إما فى زمان أو فى مكان أو على وضع أو هيئة فاذا هذه التسعة أعراض فاذا الوجود ينطلق على عشرة أشياء الأجناس العالية واحد جوهر وتسعة أعراض ولا يمكن تعريفها بالحد إذ لا جنس أعم منها* والحد مايجتمع فيه الجنس والفصل فهى مساوية للوجود فى أنها لا تقبل الحد ولكنها تقبل الرسم دون الوجود إذ لا شىء أشهر من الوجود حتى يعرف به* فأما هذه الأمور فغامضة فيمكن أن ترسم بما هو أشهر منها وتسمى هذه العشرة المقولات العشرة فان قيل فاسم الوجود لهذه العشرة بالاشتراك أو بالتواطؤ* قلنا لا بالاشتراك ولا بالتواطؤ وقد ظن ظانون أنه بالاشتراك وأن العرض لا يشارك الجوهر فى الوجود بل لا معنى لوجود الجوهر إلا نفس الجوهر ولا لوجود الكمية إلا نفس الكمية وإنما الوجود اسم واحد يتناول مختلفات لا تتشارك البتة في المعنى كلفظ العين لمسمياتها وهذا فاسد من وجهين.

(أحدهما): أن قولنا الجوهر موجود كلام مفيد مفهوم ولو كان وجود الجوهر عين الجوهر لكان كقولنا الجوهر جوهر* وإذا قلنا الفعل والافعال ليسا بموجودين ربما يصدق فى بعض الأحوال وقولنا الفعل والانفعال ليسا بفعل وانفعال لا يصدق قط فلو كان قولنا موجود هو كقولنا فعل كان قولنا الفعل ليس بموجود كقولنا الفعل ليس بفعل.

(والثانى): أن العقل قاض بأن القسمة لاتزيد فى كل شىء على اثنين إذ يقال الشىء إما أن يكون موجودا أو معدوما فان لم يكن للوجود معنى سوى هذه العشرة فلا تكون القسمة محصورة فى اثنين بل لا يكون هذا الكلام مفهوما بل ينبغى أن يقال الشىء إما جوهر وإما كيفية وإما كمية إلى بقية العشرة فتكون القسمة عشرة لا اثنين وهذا يظهر بما ذكرناه من قبل من أن الأنية التى هى عبارة عن الوجود غير الماهية ولذلك يجوز أن يقال ما الذى جعل الحرارة موجودة وما الذى جعل السواد فى الحيز موجودا ولا يجوز أن يقال ما الذى جعل السواد لونا وما الذى جعله سوادا ويعرف تغاير الأنية والماهية باشارة العقل لا باشارة الحس كما يعرف تغاير الصورة والهيولى فان قيل إن صح هذا فليكن متواطأ أعنى اسم الوجود على العشرة قيل إنما أطلق اسم المتواطىء على ما يتناول مسمياته تناولا واحدا من غير تفاوت ومن غير تقدم ولا تأخر كالحيوانية للانسان والفرس والانسانية لزيد وعمرو إذ ليس أحدهما اولى من الآخر فيه ولاهو فى أحدهما أقدم من الآخر والوجود يثبت للجوهر أولا وللكمية والكيفية بواسطته ولبقية الأعراض بواسطتهما فقد تطرق اليه التقدم والتأخر* وأما التفاوت فهو ان وجود السواد وهو هيئة قارة ليس كوجود الحركة والتغير والزمان إذ لاثبات ولا قرار لها بل وجود الحركة والزمان والهيولى أضعف من وجود غيرها فاذا هذه العشرة اتفقت فى الوجود من وجه واختلفت من وجه فكان بين المتواطىء والمشترك فلذلك سمى هذا الجنس من الاسم إسما مشككا أو يسمى متفقا اذا قد ثبت أن الوجود عرضى للأشياء كلها فالماهيات يعرض لها لوجود بعلة إذ ليس الوجود لها من ذاتها وكل ماليس من ذات الشىء فهو له بعلة وكذلك كانت العلة الأولى وجودا بلا ماهية زائدة كما سيأتى فليس الوجود إذا جنسا لشىء من الماهيات* والعرض أيضا بالاضافة إلى التسعة هو كذلك لأن لكل واحدة منها ماهية فى ذاتها وعرضيتها هى لها بالنسبة إلى محلها فاسم العرضية لها بازاء إضافتها إلى محلها لا بازاء ماهيتها ولذلك يمكن أن نتصور بعضها ونتشكك فى أنها أعراض أم لا ولا يمكن أن نتصور النوع ونشك فى وجود الجنس له إذ لا يتصور الانسان السواد ويشك فى كونه لونا أو الفرس ويشك فى كونه جسما أو حيوانا وكذا لفظ الواحد وإن كان له عموم كلفظ الوجود فليس ذاتيا لشىء من الماهيات فالوجود والعرض والوحدة ليست جنسا ولا فصلا لشىء من الماهيات العشرة البتة فاذا قد قسمنا الموجود إلى جوهر وعرض والجوهر إلى أربعة أقسام والعرض إلى تسعة أقسام وقسمنا بعض أحاد التسعة ودللنا على أنها أعراض فلنرجع إلى تقسيمات أخر للموجود.

(قسمة ثانية): الموجود ينقسم إلى كلى وجزئى أما حقيقتهما فقد ذكرناها فى أول المنطق* ونذكر الآن أحكامهما ولواحقهما وهى أربعة.

(الأول): أن المعنى المسمى كليا وجوده فى الأذهان لا فى الأعيان ولما سمع قوم قولنا أن كل إنسان فهو واحد في الانسانية وأن كل سواد فهو واحد فى السوادية ظنوا أن السواد الكلى معنى واحد موجود والانسان الكلى معنى واحد موجود* والنفس الكلى معنى واحد بالعدد موجود فى أشخاص متعددة كالأب الواحد لعدة من البنين والشمس الواحدة لعدد من البقاع وهو خطأ محض إذ لو كانت نفس واحدة بالعدد هى بعينها لزيد وهى بعينها لعمرو وكان زيد عالما وعمرو جاهلا لزم أن تكون النفس الواحدة عالمة وجاهلة بأمر واحد فى حالة واحدة وهو محال ولو كان الحيوان الكلى موجودا واحدا فى أشخاص لكان ذلك الواحد بعينه ماشيا وطائرا وماشيا برجلين وبأربع وهو محال ولكن الكلى وجوده فى الأذهان ومعناه أن الذهن يقبل لا محالة صورة الانسان وحقيقته بمشاهدة شخص واحد يسبق اليه فلو رأى بعد ذلك إنسانا غيره لم يتجدد فيه أثر بل يبقى على ما كان وكذا إذا رأى ثالثا ورابعا ويكون النقش الحاصل فى الذهن أولا من زيد نسبته إلى كل إنسان فى عالم الله تعالى واحدة فان أشخاص الانسان لا تختلف فى حد الانسانية البتة فلو رأى بعد ذلك سبعا حصل فيه ماهية أخرى ونقش يخالف الأول فالحاصل من شخص زيد هو صورة شخصية فى الذهن ومعنى كونه كليا أن نسبته إلى كل شخص كائن من الناس وما سيكون وما كان واحدة وإن أى واحد سبق إلى الذهن حصل منه هذا النقش وأن الآخر بعده لا يزيد عليه ومثاله إذا فرضت خواتم على النقش الواحد فوضع واحد على شمعة فحصلت منه صورة فلو وضعت الثانية والثالثة على ذلك الموضع بعينه لم يتغير النقش الأول ولم يتأثر المحل فيقال النقش الذى فى الشمعة هو نقش كلى أى هو نقش كل الخواتم بمعنى أنه يطابق الكل مطابقة واحدة فلا يتميز بعضها بالنسبة اليه عن بعض فهذا معقول وإما أن يفرض نقش واحد بعينه هو فى خاتم الذهب وفى خاتم الحديد وفى خاتم الفضة فهذا محال إلا أن يقال هو واحد بالنوع وأما بالعدد فنقش كل خاتم غير نقش الآخر* نعم تأثيراتها فى الشمعة تأثير واحد والنقش الحاصل من جميعها فى الشمع واحد فهكذا ينبغى أن يفهم انطباع حدود الأشياء فى الذهن ومعنى كليتها فاذا الكلى من حيث أنه كلى موجود فى الأذهان لا فى الأعيان فليس فى الوجود الخارج إنسان كلى وأما حقيقة الانسانية فموجودة فى الأعيان والأذهان جميعا.

(الحكم الثانى): أن الكلى لا يحوز أن يكون له جزئيات كثيرة مالم يتميز كل جزئى عن الآخر بفصل أو عرض فان لم يفرض إلا مجرد الكلى من غير أمر زائد ينضاف إليه لم يتصور فيه التعدد والتخصص فالسوادان فى محل واحد فى حالة واحدة محال بل السواد المطلق يصير اثنين بأن يكون بين الاثنين تغاير لا محالة اما فى المحل كسوادين فى محلين أو فى الزمان كسوادين فى محل واحد فى زمانين وأما إذا اتحد المحل والزمان لم يتصور التعدد وكذا لا يتصور إنسانان إلا أن يفارق أحدهما الآخر بمعنى يزيد على مجرد الانسانية الكلية من مكان أوصفة أو غيرهما لأنه لو لم يكن بينهما مغايرة بوجه وكانا اثنين لجاز أن يقال لكل إنسان أنه إنسانان بل خمسة بل عشرة ولم يتميز عدد عن عدد وكذا فى كل سواد وهو ظاهر الاحالة ولكن برهانه أنه إذا فرض فى محل واحد سوادان حتى قبل ذلك السواد وهذا السواد تميز كل واحد منهما عن الآخر فقولنا لذلك السواد بعينه إنه سواد وإنه هو ذلك السواد بعينه هل هما واحد أم لا فان كانا واحدا كان معنى قولنا هو ذلك السواد بعينه هو سواد بعينه فاذا كل ما قلنا له أنه سواد فقد قلنا أنه ذلك السواد بعينه فاذا السواد الذى فرض للآخر هو أيضا ذلك السواد بعينه فليس ثم تعدد وان كان تحت قولنا هو ذلك السواد بعينه معنى يزيد على ما تحت قولنا سواد فقد انضاف إلى السوادية أمر زائد لا محالة فصار غير الآخر بالمغايرة فى ذلك المعنى الذى انضاف اليه وظهر أنه يستحيل أن تتعدد جزئيات كل واحد إلا بأن ينضاف إلى الكلى أم زائد إما فصل وإما عرض فان كانت العلة الأولى واحدة مجردة لا تركيب فيها بفصل وعرض فلا يتصور فيها اثنينية البتة.

(الحكم الثالث): إن الفصل لا يدخل فى حقيقة الجنس وماهية المعنى الكلى العام البتة وإنما يدخل فى وجوده والوجود غير الماهية بيانه إن الانسانية لا مدخل لها فى حقيقة الحيوانية بل حقيقة الحيوانية بكمالها تثبت فى العقل دون الانسانية والفرسية وسائر الفصول لا كالجسمية فانها لو غابت عن الذهن بطلت ماهية الحيوانية عن الذهن ولوكانت الانسانية شرطا لتكون الحيوانية حيوانية كما كانت الجسمية شرطا لها لما كانت الحيوانية ثابتة للفرس فانه لبس بانسان كما ليست الحيوانية ثابتة لما ليس بجسم والحيوانية للفرس كاملة كما للانسان فلا مدخل إذا للفصل فى ماهيات المعانى الكلية نعم لها مدخل فى صيرورة المعنى الكلى موجودا حاصلا إذ لا يكون الحيوان موجودا إلا أن يكون فرسا أو إنسانا أو غيره ويكون الحيوان حيوانا دون الفرسية والانسانية والوجود غير والماهية غير كما سبق وإذا ثبت هذا فى الفصل فهو فى العرض أظهر لا محالة فان الانسانية إذا لم تدخل فى حقيقة الحيوانية فبأن لا يدخل الطول والعرض أولى.

(الحكم الرابع): إن كل عرضى للشىء فهو معلل وعلته إما ذات الموضوع كالحركة إلى أسفل للحجر والتبريد للماء* وإما خارج من ذاته كالسخونة للماء والحركة إلى فوق للحجر وإنما قلنا ذلك لأن هذا العرض للذات إما أن يكون معللا أو لم يكن معللا فان لم يكن معللا فهو إذا موجود بذاته وكل موجود بذاته فلا ينعدم بعدم غيره ولا يشترط وجود غيره لوجوده والعرض يحتاج فى الوجود إلى ما هو عرض له لا محالة فلا يكون موجودا بذاته فيكون معللا * ثم علته لا تخلو إما أن تكون فى ذات الموضوع أوخارجة عنه. وهذا تقسيم حاصر لا محالة فكان برهانا وكيفما كان السبب إما داخلا فى الموضوع أو خارجا منه فلا بد أن يكون وجوده حاصلا أولا حتى يكون سببا لغيره ولذلك يستحيل أن يكون الماهية سببا لوجود نفسها فكل ماهية لها وجود زائد عليها فعلته غير الماهية إذ العلة لا بد وأن تكون موجودة حتى توجب لغيرها وجودا والماهية قبل الوجود لا تكون موجودة فكيف تكون علة للوجود* فيلزم من هذا أنه إن كان فى الوجود ما ليس بمعلل فلا تكون إنيته غير ماهيته بل تكون الانية هى الماهية إذ لو كان غيرها لكان عرضيا لها ولكان معللا بأم سوى الماهية فيكون معلولا وقد وضعنا أنه غير معلل وهذا محال* فان قيل المعنى الكلى للجزئيات قد يكون نوعيا كالانسان لزيد وعمرو وقد يكون جنسيا كالحيوان للانسان والفرس فبم يدرك الفرق وبم يعلم أن هذا الكلى هو النوعى الذى الذى لا يقبل الانقسام إلا بالاعراض أو إنه هو الجنس الذى يقبل الانقسام بالفصول الذاتية فيقال كل ما عرض عليك من الكليات فأردت أن تقدره موجودا حاصلا معينا وافتقرت فى تقديره الى أن تضيف اليه معنى غير عرضى فهو جنسى وإن لم تفتقر إلا إلى العرضى فهو نوعى فكان إدراك التفرقة بين النوعى والجنسى موقوفا على إدراك التفرقة بين الذاتى والعرضى كما سبق* مثاله أنه إذا قيل لك أربعة أوخمسة لم تفتقر فى تقدير وجود الأربعة إلا أن تضيف اليها كونها جوازا أو فرسا أو إنسانا وهذه الأمور عرضية للأربعة بل للأعداد وليست ذاتية فيها فانا ذكرنا أن معنى الذاتى ما لا يتم المعنى الذى له في الفهم إلا بفهم الذاتى أولا وأنت فى فهم الأربعة لا تفتقر إلى أن يخطر ببالك الجوز والفرس وغيره من المعدودات وإذا قيل لك عدد لم يمكنك أن تفرض العدد موجودا حاصلا بل يتقاضى الطبع أن يعلم أنه أى عدد هو الموجود خمسة أو عشرة أوغيرهما فاذا صارخمسة لم يفتقر بعده إلى شىء سوى تنويع المعدودية وهو عرضى بالاضانة الى العدد لا ككونه خمسة فانه ليس زائدا على العددية عارضا طارئا عليها بل هو حاصل عددية هذا العدد وهذه المعانى هى جلية في النفس وربما يعسر طلبها من العبارات المستعملة فى شرحها حتى توجب فيها تعقيدا فليكن الالتفات إلى المعنى لا إلى اللفظ فهذا حكم الكلى* (قسمة ثالثة للموجود): الموجود ينقسم إلى واحد وكثير فلنذكر أقسام الواحد والكثير ولواحقهما* فأما الواحد فانه يطلق حقيقة ومجازا والواحد بالحقيقة هو الجزئى المعين ولكنه على ثلاث مراتب.

(المرتبة الأولى): هى الجزئي الواحد الذى لا كثرة فيه لا بالقوة ولا بالفعل وذلك كالنقطة وذات البارى جلت قدرته فانه ليس منقسما بالفعل ولا هو قابل له فهو خال عن الكثرة بالوجود والامكان والقوة والفعل فهو الواحد الحق. (الثانية): الواحد بالاتصال وهو الذى لا كثرة فيه بالفعل ولكن فيه كثرة بالقوة أى هو قابل للكثرة كما إذا قيل لنا هذا الخط واحدا أو اثنان وهذا الجسم واحد أو جسمان فان كان فيه انقطاع حكمنا بالاثنينية وإن كان واحدا بالاتصال على سبيل التشابه قلنا هو خط واحد وجسم واحد وماء واحد إذ ليس فيه كثرة وانفصال بالفعل إلا أنه قابل للكثرة فمن هذا الوجه ربما يظن أنه ليس بواحد حقيق لأن القوة القريبة من الفعل يظن أنه بالفعل وإلا فهو بالحقيقة واحد وإنما الكثرة فيه بالقوة.

(الثالثة): أن يكون واحدا بنوع من الارتباط وفيه كثرة بالفعل كالسرير الواحد والشخص الواحد المركب من أجزاء مختلفة كتركب أجزاء الانسان من العظم واللحم والعروق فهذا واحد إذ يقال سرير واحد وإنسان واحد وفيه كثرة حاصلة بالفعل باعتبار الأجزاء لا كالماء الواحد والجسم الواحد المتشابه فبين الرتبتين فرق هذا فى الجزئى الذى اسم الواحد عليه حقيقة.

(أما المجاز): فهو اطلاق اسم الواحد على أشياء كثيرة لاندراجها تحت كلى واحد وذلك خمسة.

(الأول): الاتحاد بالجنس كقولك الانسان والفرس واحد بالحيوانية.

(الثانى): اتحاد النوع كقولك زيد وعمرو واحدا بالانسانية.

(الثالث): الاتحاد بالعرض كما يقال الثلج والكافور واحد بالبياضية. (الرابع): الاتحاد فى النسبة كقولك نسبة الملك الى المدنية ونسبة النفس الى البدن واحدة.

(الخامس): فى الموضوع كقولك فى السكر انه أبيض وحلو فتقول الأfيض والحلو واحد أى موضوعهما واحد فصار الواحد مطلقا على ثمانية معان ثم الاتحاد فى العرض ينقسم بانقسام الأعراض فان كان اتحادا فى عرض الكمية فيقال له المساواة وإن كان فى الكيفية فيقال له المشابهة وإن كان بالوضع فيقال له الموازاة وإن كان بالخاصية فيقال له المماثلة ومهما عرفت أن الواحد يطلق على ثمانية أوجه فالكثير أيضا فى مقابلته يتعدد بتعدده لا محالة ومن لواحق الواحد.

(ألهو هو): فان الشىء إذا كان واحدا فى نفهسه واختلف لفظه أو نسبته فيقال هو هو كما يقال الليث هو الأسد ويقال زيد هو ابن عمرو وأما لواحق الكثرة فالغيرية والخلاف والتقابل وكذا التشابه والتوازى والتساوى والتماثل فان ذلك لا يعقل إلا فى اثنين أوأكثر منه فهى من لواحق الكثرة ولا بد من بيان أقسام التقابل وهى أربعة.

(أحدها): تقابل النفى والاثبات كقولك إنسان لا إنسان.

(والثانى): تقابل الاضافة كالأب والابن والصديق والصديق إذ أحدهما يقابل الآخر.

(والثالث): تقابل العدم والملكة كما بين الحركة والسكون (والرابع): تقابل الضدين كالحرارة والبرودة والفرق بين الضد والعدم أن يقال العدم هو عبارة عن عدم الشىء عن الموضوع فقط لاعن وجود شىء آخر فالسكون عبارة عن عدم الحركة ولو قدر زوال السواد دون حصول لون آخرلكان هذا عدما فأما إذا حصل حمرة أو بياض فهذا وجود زائد على عدم السواد فالعدم هو انتفاء ذلك الشىء فقط والضد هو موجود حصل مع انتفاء الشىء ولذلك يقال إن السبب الواحد لا يصلح للضدين بل لابد للضدين من سببين* وأما الملكة والعدم فسببهما واحد وذلك الواحد إن حضر أوجب الملكة وإن غاب أو عدم أوجب العدم فعلة العدم هو عدم علة الوجود فعلة السكون هو عدم علة الحركة وأما تقابل المضاف فخاصيته أن كل واحد يعلم بالقياس الى الآخر لا كالحرارة فانها معلومة دون القياس الى البرودة ولا كالحركة فانها معلومة دون القياس الى السكون* وأما تقابل النفى والاثبات فيفارق الضد والعدم فى أنه إنما يكون فى القول ويعم كل شىء وأما اسم الضد فلا يقع إلا على ما موضوعه وموضوع ضده واحد ولا يكفى هذا حتى يكون بحيث لا يجتمعان ويتعاقبان ويكون بينهما غاية الخلاف كالسواد والبياض لا كالسواد والحمرة فان الحمرة كانها لون سالك من البياض إلى السواد فهو بينهما وليس على أقصى البعد منه وربما يكون بين الضدين وسائط كثيرة بعضها أقرب الى أحد الطرفين من البعض وربما لا يكون بينهما واسطة فاذا الضد يشارك الضد فى الموضوع وكذا الملكة والعدم وهذا غير واجب فى السلب والايجاب وربما يكون بينهما مشاركة فى الجنس كالذكورة والأنوثة فانهما لا يتواردان على شخص واحد وربما يغلط فيوضع الجنس ويؤخد نفى المعنى الذى تحته ويقرن به فصل أو خاصة فيوضع له اسم إثباتى فيظن أنه ضد كما يقال العدد ينقسم الى زوج وفرد ويظن أنهما متضادان وهو غلط إذ ليس الموضوع واحدا إذ الزوج قط لا يكون فردا والعدد الموضوع لهذا لا يكون موضوعا لذاك بل بينهما تقابل النفى والاثبات فان معنى الزوج أنه ينقسم بمتساويين ومعنى الفرد أنه لا ينقسم بمتساويين* وقولنا لا ينقسم نفى محض ولكن وضع له اسم الفرد بازاء الزوج فيظن أنه مقابل كالضد فان قيل وهل يجوز أن يكون للشىء الواحد أكثر من ضد واحد* قيل مهما كان الضد عبارة عن المتعاقبين على موضوع واحد بشرط أن يكون بينهما غاية الخلاف فيلزم على هذا الاصطلاح أن لا يكون الضد إلا واحدا لأن الذى فى أقصى رتب البعد يكون واحدا لا محالة (قسمة رابعة): الموجود ينقسم إلى ماهو متقدم وإلى ماهو متأخر* والتقدم والتأخر أيضا من الأعراض الذاتية للوجود ويقال للمتقدم أنه قبل وللمتأخر إنه بعد* ويقال إن الله تعالى قبل العالم والقبلية تطلق على خمسة أوجه إذ المتقدم ينقسم إلى خمسة أقسام. (الأول): وهو الأظهر المتقدم بالزمان وكان اسم قبل له حقيقى فى اللغة.

(والثانى): المتقدم بالمرتبة إما بالوضع كقولك بغداد قبل الكوفة إذا قصدت مكة من خراسان وهذا الصف قبل هذا الصف بمعنى أنه أقرب إلى الغاية المنسوبة اليه من القبلة أو غيرها* وإما بالطبع كقولنا الحيوانية قبل الانسانية والجسمية قبل الحيوانية إذا ابتدأنا من جهة الأعم* وخاصية هذا أنه ينقلب إذا أخذت من جانب الآخر فان أخذت الاعتبار من جانب الأخص أولا صارت الحيوانية قبل الجسمية وإن أخذت الاعتبار من مكة صارت الكوفة قبل بغداد.

(والثالث): المتقدم بالشرف كقولنا أبو بكر ثم عمرو وإن أبا بكرقبل سائر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالشرف والفضل. (والرابع): المتقدم بالطبع وهو الذى لا يرتفع بارتفاع المتقدم عليه ويرتفع المتقدم عليه بارتفاعه فانك تقول الواحد قبل الاثنين فانه لو قدر عدم الواحد فى العالم يلزم عدم الاثنين إذ كل اثنين فهو واحد وواحد وإن قدر عدم الاثنين لم يلزم عدم الواحد وقولك الواحد قبل الاثنين لا نعنى به تقدما زمانيا بل يجوز أن يكون مع الاثنين وتعقل قبليته مع ذلك.

(والخامس): المتقدم بالذات وهو الذى وجوده مع غيره ولكن وجود ذلك الغير به وليس وجوده بذلك الغير وذلك كتقدم العلة على المعلول وكتقدم حركة اليد على حركة الخاتم فانه يستحسن أن يقال تحركت اليد فتحرك الخاتم ولا يستحسن أن يقال تحرك الخاتم فتحركت اليد والفاء للتعقيب* ومعلوم أنهما معا فى الزمان ولكن هذه القبلية بالعلية والايجاب.

(قسمة خامسة): الموجود ينقسم إلى سبب ومسبب أى معلول وعلة وكل شىء له وجود فى نفسه لا عن وجود شىء آخر معلوم وذلك المعلوم لاوجود له إلا بالشىء فانما يسمى ذلك الشىء علة ذلك المعلوم وذلك الشىء المعلوم معلول ذلك الشىء وكل ما هو حاصل من أجزاء فلا يكون وجود الجزء بسبب وجود الجملة بل وجود الجملة بسبب وجود الاجزاء واجتماعها.

(فالسكنجبين): ليس علة السكر بل السكرعلة السكنجبين إذ به يحصل السكنجبين وهذا فيما يتقدم فيه الجزء على الجملة بالزمان ظاهر فان كانا لا يفترقان فى الزمان كاليد بالاضافة إلى الانسان فهو أيضا كذلك فاذا كل ما هو جزء الجملة فهوعلة الجملة فالعلة تنقسم إلى ما يكون جزءا من ذات المعلول وإلى ما يكون خارجا* والذى هو جزء من المعلول ينقسم إلى ما لا يلزم بوجوده وجود المعلول كالخشب للكرسى وإلى ما يلزم عند تقدير وجوده ذات المعلول كصورة الكرسى فانها إذا فرضت موجودة كان الكرسى لا محالة موجودا لا كالخشب مع أن الكرسى جملة لا يتقوم وجودها إلا باجتماع الصورة والخشب * فما نسبته إلى المعلول نسبة الخشب إلى الكرسى يسمى علة عنصرية* وما نسبته نسبة الصورة يسمى علة صورية* وأما الخارج فينقسم إلى ما منه الشىء كالنجار للكرسى ويسمى علة فاعلية وكذا الأب للابن والنار للحرارة* وإلى ما لأجله الشىء وليس منه ويسمى علة تمامية وغائية وهو كالاستكنان للبيت والصلوح للجلوس للكرسى* ومن خاصية العلة الغائية أن سائر العلل بها تصير علة فانه ما لم يتمثل صورة الكرسى المستعد للجلوس والحاجة إلى الجلوس فى نفس النجار لا يصير هو فاعلا ولا يصير الخشب عنصر الكرسى ولا يحل فيه الصورة فالغائية حيث وجدت فى جملة العلل هى علة العلل * والعلة الفاعلية إما أن تفعل بالطبع كالنار تحرق والشمس تنور وإما أن يكون فعلها بالارادة كالانسان يمشى وكل فاعل له في الفعل غرض فيجب أن لا يكون وجود ذلك الغرض وعدمه له بمثابة واحدة إذ الغرض عبارة عما يجعل وجود الفعل أولى بالفاعل من عدمه فان لم يكن كذلك لم يسم غرضا فان ما كان وجوده وعدمه بمثابة واحدة فى حق الفاعل لم يكن اختيار وجوده على عدمه لفائدة وغرض وكل ماهو كذلك فلا يكون غرضا* ويبقى السؤال فى أنه لم اختار الوجود على العدم ولا ينقطع إلا بذكر الغرض ولا غرض إلا ما يجعل وجود الفعل في حق الفاعل أولى من العدم فان لم يكن أولى ساوى الوجود والعدم فيستحيل الميل إلى أحدهما وكل ماله غرض فهو ناقص لأن حصول ذلك الغرض هو خير له من لا حصوله فاذا له شىء فى نفسه من الخيرات مفقود ويحصل له بالفعل فيكمل بحصوله فلا يكون كاملا بنفسه دون ذلك* وقول القائل إنه يفعل لا لفائدة يرجع اليه بل إلى غيره غلط إذ يقال حصول الفائدة لغيره هل هو فى حقه أولى من لا حصوله فان كانت إفادته أولى وأليق به فقد استفاد فى نفسه بافادة غيره ما هو أولى به وأليق فكان منفكا عنه قبله فكان ناقصا وإن لم يكن له في الافادة فائدة رجع السؤال بأنه لم أفاد رجوعا لا محيص عنه فاذا كل فاعل له غرض والغرض مكمل له ومزيل نقصا كان فيه بالكمال الحاصل بحصوله فان كان فى الامكان ذات يلزم منه المعلول لذاته من حيث إن ذاته ذات يفيض منه وجود غيره لا محالة من غير غرض فهذه العلة الفاعلية أعلى وأجل من الفاعلية بغرض واختبار وكل مالم يكن فاعلا فصار فاعلا فلا بد وأن يكون لطريان أمر وتجدده من شرط أو طبع أو إرادة أو غرض أو قدرة أوحال أية حال شئت وإلا فان كان أحوال الفاعل كما كان ولم يتجدد أمر لا فى ذاته ولا خارجا من ذاته الى الآن لم يكن وجود الفعل منه أولى به من العدم بل كان العدم هو المستمر والأحوال كما كانت فيلزم أن يستمر العدم فان كان العدم قبل هذا مستمرا لأنه لم يكن مرجح للوجود عليه والآن فقد وجد فينبغى أن يكون سببه هو حصول المرجح وإن كان لم يتجدد مرجح وانتفى المرجح كما كان استمرالعدم بالضرورة كما كان* وسيأتى زيادة شرح لهذا * ومما لا بد من ذكره أن العلة تنقسم إلى علة بالذات وإلى علة بالعرض وتسمية العلة بالعرض علة مجاز محض وهو الذى لم يحصل المعلول به بل بغيره ولكن ذلك الغيرلم يتهيأ له إيجاب المعلول إلاعنده كما أن رافع العماد من تحت السقف يسمى هادما للسقف وهو مجاز لأن علة سقوط السقف كونه ثقيلا إلا أنه كان ممنوعا عن فعله بالعماد فرافع العماد مكنه من الفعل ففعل فعله وكما يقال.

(ألسقمونيا): يبرد بمعنى أنه يزيل الصفراء المانعة للطبيعة من التبريد فيكون المبرد هو الطبع ولكن بعد زوال المانع ويكون السقمونيا علة إزالة الصفراء لاعلة للبرودة الحاصلة بعدز والها بالطبيعة (قسمة سادسة): الموجود ينقسم إلى متناه وغير متناه وغير المنتاه يقال على أربعة أوجه.

(اثنان): منها محالان لا يوجدان.

(واثنان): منها دل القياس على وجودهما.

(أحدها): أن يقال حركة الفلك لا نهاية لها أى لا أول لها وهذا قد دل عليه القياس.

(وثانيها): أن يقال النفوس الانسانية المفارقة للابدان أيضا لا نهاية لها وهذا أيضا لازم بالضرورة على نفى النهاية عن الزمان وحركة الفلك أعنى نفى الأولية.

(وثالثها): أن يقال الأجسام لا نهاية لها أو الأبعاد لا نهاية لها من فوق ومن تحت وهذا محال.

(ورابعها): أن يقال العلل لا نهاية لها حتى يكون للشىء علة ولعلته علة ثم لا ينتهى الى علة أولى لا علة لها وهذا أيضا محال * والضبط فيه أن كل عدد فرضت آحاده موجودة معا وله ترتب بالطبع وتقدم وتاخر فوجود مالا نهاية له منه محال لأن الترتيب بين العلة والمعلول ضرورى طبيعى إن رفع بطل كونه علة وكذلك الأجسام والأبعاد فانها أيضا مترتبة أى بعضها قبل البعض بالضرورة إذا ابتدأ من جانب إلا أنه يترتب بالوضع لا بالطبع كما سبق الفرق بينهما فى فى أقسام التقدم والتأخر* وأما ماوجد فيه أحد المعنين دون الآخر فنفى النهاية عنه لا يستحيل كحركة الفلك فان لها ترتبا وتعاقبا ولكن لا وجود لجميع أجزائها فى حالة واحدة* فان قيل حركة الفلك لا نهاية لها لم يعن بها نفى النهاية عن حركات هى موجودة بل فانية معدومة وكذلك النفوس البشرية المفارقة للأبدان بالموت بجوز نفى النهاية عن أعدادها وإن كانت موجودة معا إذ ليس فيها ترتب بالطبع بحيث لو قدر ارتفاعه بطل كونها نفوسا إذ ليس بعضها علة للبعض ولكنها موجودة معا من غير تقدم وتأخر فى الوضع والطبع وإنما يتخيل التقدم والتأخر في زمان حدوثها أما ذواتها من حيث إنها ذوات ونفوس لاترتب فيها البتة بل هى متساوية في الوجود بخلاف الأبعاد والأجسام والعلة والمعلول فأما إمكان نفوس لانهاية لها وحركة لا أول لها فسيأتى ما ذكر فى أدلتها.

(وأما استحالة نفى النهاية): عن الاجسام والأبعاد وما له ترتب بالوضع أو الطبع فنذكره الآن.

(أما استحالة نفى النهاية): عن الأبعاد فتعرف بدليلين.

(أحدهما): إنا لو فرضنا خط.

(زد) بلا نهاية فى جهة.

(ز) وحركنا خط (ا ب) فى دائرته إلى جهة (ز) من خط (د ز) حتى صار فى موازاته كان هذا تحريكا ممكنا بالضرورة فلو حركناه عن الموازاة إلى جهة القرب منه فلا بد وإن تسامت نقطة منه هى أول نقط المسامتة ثم بعد ذلك تسامت بقية النقط إلى أن يرجع عن المسامتة بالانتهاء إلى الموازاة من الجانب الآخر وذلك محال لأنه إن قدر ميل اليه عن الموازاة من غير مسامتة فهو محال والمسامتة محال لأن المسامتة تقع أولا على أول نقطة وليس على الخط الذى لا يتناهى نقطة هى أول وكل نقطة فرضت للمسامتة أولا فلابد وأن تكون قد سامتت ما قبلها قبل المسامتة لها بالضرورة فلا تسامتها ما لم تسامت مالا نهاية له ثم لا يكون فيها أول نقطة هى نقط المسامتة وهو محال وهذا برهان قاطع هندسى فى استحالة إثبات أبعاد لا نهاية لها سواء فرضت الملاء أو الخلاء.

(الدليل الثانى): هو أنه إن أمكن خط بلانهاية فليكن ذلك خط (ا ب) ا ز د ب ولا نهاية له فى جهة (ب) ولنشر الى نقطة.

(د) فان كان من.

(د) إلى.

(ب) متناهيا فاذا زيد عليه (زد) كان (زب) متناهيا وإن كان من (د) الى (ب ) غير متناه فان أطبقنا بالوهم (دب) على (ز ب) فاما أن يمتدا معا فى جهة (ب) بلا تفاوت وهو محال إذ يكون الأقل مساويا للأكثر فان (دب) أقل من (زب) وإن قصر (دب) عن (زب) وانقطع دونه وبقى (زب) مستمرا فقد تناهى (دب) فى منقطعه من جهة (ب) و (زب) ليس يزيد عليه إلا بمقدار (زد) المتناهى وما زاد على المتناهى بمتناه فهو متناه فاذا (زب) متناه بالضرورة* وأما استحالة علل لا نهاية لها إنها إذا فرضت مترتبة بحيث يكون بعضها علة للبعض فلا بد وإن ينتهى إلى علة ليست بمعلوله وهى طرف فتتناهى فان كانت لا تنتهى الى طرف بل تتهادى فلا شك فى أن جملة تلك العلل التى لا نهاية لها حاصلة فى الوجود من حيث هى جملة موجودة معا فلا تخلو تلك الجملة من حيث هى جملة إما أن تكون ممكنة معلولة أو واجبة وباطل أن تكون واجبة لأن الجملة حصلت بآحاد معلولة والحاصل بالمعلول لا يكون واجبا فلا بد وأن يكون معلولا فيفتقر إلى علة خارجة عن تلك الجملة فان كل ما هو من تلك الآحاد فقد أخذناه فى الجملة وثبت الحكم على الجملة المستوعبة للآحاد بأنها معلولة فافتقرت إلى علة خارجة ليست بمعلولة فيكون طرفا لا محالة ويصير متناهيا فهذا هو القول فى المتناهى وغير المتناهى.

(قسمة سابعة): الموجود ينقسم إلى ما هو بالقوة وإلى ما هو بالفعل ولفظ القوة والفعل يطلق على وجوه مختلفة لاحاجة بنا إلى بعضها* أما القوة فتنقسم إلى قوة الفعل وإلى قوة الانفعال* أما قوة الفعل فهى عبارة عن المعنى الذى به يتهيأ الفاعل لكونه فاعلا كالحرارة للنار في فعل التسخين* وأما قوة الانفعال فنعنى به المعنى الذى به يستعد القابل للانفعال كاللين واللزوجة فى الشمع لقبول الانتقاش والتشكلات وتقابل القوة الفعل على وجه آخر فان كل موجود حاصل بالحقيقة يقال إنه بالفعل وليس المراد به ما قدمنا من الفعل فانه يقال إن ذات المبدأ الأول بالفعل من كل وجه وليس فيه شىء بالقوة والفعل بالمعنى الأول في حقه محال ولكن معناه الموجود المحصل والقوة التى تقابل هذا الفعل هى عبارة عن إمكان وجود الشىء قبل وجوده فما دام غير موجود فيقال إنه بالقوة وربما يتسامح فيقال هو موجود بالقوة وتسميته موجودا مجاز كما يقال الخمر مسكر والاسكار فى الخمر وهى فى الدن موجود بالقوة وهو مجاز فانه ليس بمسكر ولكن لكون الاسكار ممكن الحصول منه سمى بالقوة وكما يقال فى الجسم الواحد إنه منقسم أى الانقسام فيه بالقوة وإلا فلا انقسام فيه بالحقيقة قبل فعل التقسيم وإيجاده بقطع الجسم والتفريق بين أجزائه* ونتمم هذه القسمة بذكر حكمين.

(الأول): حكم هذه القوة الأخيرة التى ترجع إلى إمكان الوجود إنها تستدعى محلا ومادة تكون فيه ويلزم منه إن كل حادث فتسبقه مادة فلا يمكن أن تكون المادة الأولى حادثة بل قديمة لأن كل حادث فهو قبل الحدوث بالقوة أى هو قبل الحدوث ممكن الحدوث فامكان الحدوث سابق على الحدوث فلا يخلو هذا الامكان إما أن يكون شيئا حاصلا أوعبارة عن لا شىء فان كان عبارة عن لا شىء فليس لهذا الحادث إذا إمكان فاذا لا يمكن أن يكون فاذا هو ممتنع أن يكون ولو كان ممتنعا أن يكون لم يكن قط وهذا محال* فاذا ثبت أن الامكان أمر حاصل قضى العقل به فلا يخلو إما أن يكون قائما بنفسه جوهرا وإما أن يكون مستدعيا لموضوع وباطل أن يقال الامكان جوهر قائم بنفسه لأنه وصف مضاف إلى ماهو إمكانه لا يعقل قيامه بنفسه فوجب لا محالة أن يكون له موضوع فيرجع حاصل الامكان إلى وصف المحل بقبول التغير كما يقال هذا الصبى ممكن له أن يتعلم فيكون العلم ممكنا لهذا الصبى وهذه النطفة ممكن فيها أن تصير إنسانا فيكون إمكان وجود الانسانية وصفا فى النطفة وهذا الهواء يمكن أن يصير ماء فأما إذا فرض حادث من غير أن تسبقه مادة فلا يكون لقولك ان الحادث ممكن الحدوث قبل الحدوث معنى لأن الامكان وصف يستدعى موجودا يقوم به والشىء قبل وجوده لا يكون محلا لوصف فامكان كل حادث فى مادته وقوة حدوثه فى محله وهو المعنى بقولنا إنه موجود بالقوة كما تقول العلم موجود فى الصبى بالقوة والنخل موجود فى النواة بالقوة* والقوة قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة فالنطفة إنسان بالقوة القريبة والتراب إنسان بالقوة البعيدة إذ لا يصير إنسانا إلا بعد أن يتردد فى أطوار كثيرة.

(الحكم الثانى): قوة الفعل تنقسم إلى قسمين.

(الأولى): ما هو على الفعل لا على نقيضه كقوة النارعلى الاحراق لا على عدم الاحراق.

(والثانية): ما هوعلى الفعل وتركه كقوة الانسان على الحركة والسكون* والأولى تسمى قوة طبيعية والثانية قوة إرادية وهذه القوة الثانية مهما انضافت اليها الارادة التامة ولم يكن ثم مانع كان حصول الفعل منها لازما بالطبع كما يلزم من القوة الأولى فان القدرة إذا حصلت وتمت الارادة انفكت عن التميل والتردد بل صارت جازمة ثم لم يحصل الفعل فلا يكون ذلك إلا لمانع ومهما التقت القوة الفعلية بالقوة الانفعالية وكل واحد من القوتين تامة كان الانفعال حاصلا بالضرورة* وبالجملة فكل علة فانما يلزم معلولها على سبيل الوجوب وما لم يجب وجود المعلول عن علته لا يوجد فانه ما دام ممكنا أن لا يحصل لعدم حصول جميع شروط العلة فلا يحصل فاذا تمت شروط العلة تعين حصول المعلول واستحال أن لا يحصل لأن الموجب إذا حضر ولم يحضر الموجب وتأخر فلا يكون ذلك إلا لقصور فى طبعه إن كان بالطبع أو فى إرادته إن كان بالارادة أو لعدم ذاته إن كان فعله لذاته ومادام يجوز أن لا يحصل منه الموجب فهو ليس علة بالفعل بل بالقوة ولا بد من أمر جديد يخرجه عن القوة إلى الفعل فاذا حضر ذلك الأمر صار الخروج إلى الفعل واجبا.

(قسمة ثامنة): الموجود ينقسم إلى واجب وإلى ممكن ونعنى به أن كل موجود فاما أن يتعلق وجوده بغير ذاته بحيث لو قدر عدم ذلك الغير لانعدم ذاته كما أن الكرسى يتعلق وجوده بالخشب والنجار وحاجة الجلوس والصورة فلو قدر عدم واحد من هذه الأربع لزم بالضرورة عدم الكرسى* وإما أن لا يتعلق ذاته بغيره البتة بل لو قدر عدم كل غير له لم يلزم عدمه بل ذاته كاف لذاته وقد اصطلح على تسمية الأول ممكنا وعلى تسمية الثانى واجبا فنقول كل ماوجوده من ذاته لا من غيره فهو واجب وما ليس له وجود بذاته فاما أن يكون ممتنعا بنفسه فيستحيل وجوده أبدا وإما أن يكون ممكنا فى ذاته فالواجب هو الضرورى الوجود والمحال هو الضرورى العدم والممكن هو الذات التى لا يلزم ضرورة فى وجودها ولا عدمها ولكن كل ممكن فى ذاته إن كان له وجود فوجوده بغيره لا محالة إذ لو كان بذاته لكان واجبا لا ممكنا وله مع ذلك الغير ثلاثة اعتبارات. (أحدها): أن يعتبر وجود ذلك الغير الذى هو علة فيكون واجبا إذ ظهر من قبل أن وجود المعلول واجب عند وجود العلة.

(وثانيها): إن اعتبر عدم العلة فهو ممتنع لأنه لو وجد لكان موجودا بذاته لا بعلة فيكون واجبا وإن لم يلتفت إلى اعتبار علته وجودا وعدما بل التفت إلى مجرد ذاته فله من ذاته.

(الأمرالثالث): وهو الامكان وهذا كما أن علة وجود الأربعة وجود اثنين واثنين فان اعتبر عدم اثنين واثنين استحال وجود الأربعة في العالم وإن اعتبر وجودهما كانت الأربعة واجبة الوجود وإن لم يلتفت إلى الاثنين ولكن التفت إلى ذات الأربع وجد ممكنا فى ذاته أى لا ضروة لوجوده ولا ضرورة لعدمه فاذا كل ممكن وجوده في ذاته إنما يحصل وجوده بعلته وما دام ممكن الحصول بعلته فلا يحصل فاذا صار واجب الوجود بعلته حاصل لأنه ما دام ممكنا استمر العدم فلا بد وأن يزول الامكان وهذا الامكان الذى يزول ليس هو الامكان الذى هو له في ذاته لأن ذلك ليس لعلة حتى يزول بل ينبغى أن يزول الامكان من علته ويتبدل بالوجوب وذلك بأن يحضر جميع الشرائط وتصير العلة كما ينبغى أن يكون حتى يصير علة ولابد الآن من معرفة أصل مهم فى الممكن يبتنى عليه قاعدة كبيرة وهو إن العالم إن كان قديما هل يمكن أن يكون فعلا لله تعالى أم لا وقد علم أن كل ممكن فانما يكون وجوده بغيره وذلك الغير فاعل له وكون الشىء فاعلا له يفهم منه أمران.

(أحدهما): أن يحدثه بأن يخرجه من العدم إلى الوجود كما يبنى الانسان بيتا لم يكن وهذا جلى مشهور* والآخر أن يكون وجود الشىء به كما أن وجود النور بالشمس فتسمى الشمس فاعلة للنور بالطبع* والذين اعتقدوا أن لا معنى للفعل إلا الاحداث ربما ظنوا أنه إذا حصل الحادث استغنى عن المحدث حتى لو عدم لم ينعدم الحادث وربما تجاسر بعضهم على أن يقول لو قدر عدم البارى تعالى عما يقول الظالون لم يلزم منه عدم العام بعد وجوده ويستدل على هذا بمثال وحجة.

(أما المثال): فهو أن البناء بعد بناء البيت لا يضر موته البيت ولا ينعدم البيت بعدمه.

(وأما الحجة): فهو أن المعدوم هو المحتاج إلى موجد* أما الموجود فلا يحتاج إلى موجد* أما المثال فهو باطل لأن البناء ليس سبب وجود البيت إلا مجازا وإنما هو سبب حركة أجزاء البيت بعضها إلى بعض وتلك الحركات معلول حركاته وينقطع بانقطاع حركاته فالآن بقاء شكل البيت معناه إن الجذع وقف في الموضع الذى وضع فهو لأنه ثقيل يطلب أسفل وما تحته كثيف يمنعه فالعلة ثقلة وكثافة ما تحته فلو انعدمت الكثافة بطل شكل البيت* والحائط المبنى من الطين بقى شكله لما فى الطين من اليبوسة فهى التى يتمسك شكلها فلو بناه من مائع فى قالب لكان يبطل شكل الحائط مهما رفع القالب لعدم اليبوسة فاذا البناء ليس فاعل البيت وكذا الأب ليس فاعلا للابن بل هو سبب حركة الجماع وتلك الحركة سبب حركة المنى إلى الرحم ثم حدوث صورة الانسان فى المنى سببه معان فى ذات المنى موجودة مع الصورة وسبب النفس سبب موجود دائم الوجود فلا معنى للاعتراض بهذا المثال فأما الحجة وهو أن الموجود لا يحتاج إلى موجد فهو صحيح ولكن يحتاج إلى مديم لوجوده * وبيانه إن الفعل الحادث له صفتان.

(إحداهما): إنه الآن موجود.

(والأخرى): إنه كان قبل هذا معدوما وكذا الفاعل له صفتان.

(إحداهما): إن الوجود الآن أعنى وجود الحدوث منه.

(والأخرى): إنه قبله لم يكن منه فلينظر فان تعلق الفعل بالفاعل لا يخلو إما أن يكون من جهة وجوده أو من جهة عدمه السابق أو من كليهما وباطل أن يكون من جهة عدمه لأن العدم السابق لا تعلق له بالفاعل ولا تأثير للفاعل فيه وباطل أن يكون من كليهما لأنه إذا بطل تعلق العدم بالفاعل فقد بطل أنه من كليهما فلا بد من تعلق الفعل ولم يبق إلا وجوده فالمتعلق بالفاعل وجود الفعل لا عدمه * فان قيل أنه متعلق به من حيث أنه موجود مسبوق بعدم فمعنى ذلك إن وجوده بعد عدمه ولا تأثير للفاعل فى كونه وجودا بعد عدم إذ هذا الوجود لا يمكن أن يكون إلا وجودا بعد عدم فهو بعد العدم لذاته ولو أراد الفاعل أن يفعله وجودا لا يكون بعد عدم لم يمكن فكونه بعد العدم ليس بجعل جاعل وإنما تأثير الجاعل فى وجوده* نعم يقدر الفاعل على أن لا يفعل ولا يوجد فاما أن يوجده لا بعد العدم فهذا محال فاذا افتقار الحادث إلى الفاعل من جهة وجوده فقط فانه ممكن من هذه الجهة فقط فأما كونه موجودا بعد العدم فهو واجب لا ممكن فلا حاجة فيه إلى الفاعل ومهما كان تعلقه به من حيث الوجود فما دام موجودا لا يستغنى عن الفاعل بل يكون متعلقا به أى وجوده به فى الأحوال كلها كما أن وجود النوربالشمس فى الأحوال كلها.

(وأما الفاعل): فله صفتان أيضا كما ذكرنا فكون الفاعل علة لا يخلو إما أن يكون من حيث أن لغيره وجودا به أو من حيث لم يكن وجوده به ثم حصل به* والحق أنه علة من حيث أن لغيره وجودا به لا من حيث إنه لم يكن ثم كان فانه إنما لم يكن الوجود منه من قبل لأنه لم يكن علة فذلك فى حكم عدم كونه علة لافى حكم كونه علة وفاعلا كما إن الانسان إذا لم يرد أن يكون الشىء الذى لا يكون إلا بالارادة ثم أراد فاذا حصل المراد كان فاعلا من حيث إن المراد حاصل والارادة حاصلة لا من حيث إن الارادة صارت حاصلة بعد العدم فاذا وجود الشىء أمر وصيرورته موجودا أمر آخر وكون الشىء علة وفاعلا أمر وصيرورته علة وفاعلا أمر آخر فصيرورته موجودا بعد إن لم يكن فى مقابلة صيرورته علة وفاعلا بعد إن لم يكن وكونه موجودا فى مقابلة كونه فاعلا فان من فهم من الفعل أن يصير الشىء موجودا بعد إن لم يكن فليفهم من الفاعل أن يصيرعلة بعد إن لم يكن فيتغير إلى العلية حتى يتغير عدم المعلول إلى الوجود وإن فهم من الفعل أن يكون موجودا بالفاعل فليفهم من الفاعل أن يكون علة للوجود لا لصيرورته موجودا وماهو علة وجود أمر زائد على ذاته فهو فاعل فان كان علة على الدوام فهو فاعل على الدوام وإن كان علة فى وقت فهو فاعل فى وقت وإن صار فاعلا صار علة وإن كان على الدوام علة كان على الدوام فاعلا* نعم العوام لا يفهمون الفرق بين كون الشىء فاعلا وبين صيرورته فاعلا فمن هذا يتخيلون ما يتخيلون ويلزم على هذا أن يكون المعلول فى دوامه وفى جميع أحواله قائما بالعلة لا يستغنى عنها فلو انعدمت العلة والفاعل انعدم المعلول والفعل وإن كان قديما كان الفعل قديما لأن تعلقه به من حيث وجوده فقط لامن حيث حدوثه الذى هو عبارة عن وجود بعد عدم كما سبق.

(المقالة الثانية فى ذات واجب الوجود ولوازمه) قد ذكرنا أن الموجود إما ان يتعلق وجوده بغيره بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه أو لا يتعلق فان تعلق سميناه ممكنا وإن لم يتعلق سميناه واجبا بذاته فيلزم من هذا فى ذات واجب الوجود اثنى عشر أمرا.

(الأول): أنه لا يكون عرضا لأنه يتعلق بالجسم ويلزم عدمه بعدم الجسم ونحن عبرنا بواجب الوجود عما لا علاقة له مع غيره البتة فالعرض ممكن وكل ممكن موجود بغيره وذلك الغير علته فيكون معلولا لا محالة.

(الثانى): انه لا يكون جسما لوجهين.

(أحدهما): ان كل جسم ينقسم بالكمية الى أجزاء فتكون الجملة متعلقة بالأجزاء فلو قدر عدم الأجزاء لزم عدمه كالانسان الذى يلزم عدمه بتقدير عدم أجزائه وقد ذ كرنا أن كل جملة فهى معللة بالأجزاء فلهذا لا يجوز أن يكون واجب الوجود مركبا من أجزاء فانه اذا قيل لنا لم كان الحبر موجودا قلنا لأنه كان الماء والعفص والزاج والاجتماع فحصل من المجموع الحبر فهذه الأجزاء علة الجملة وهكذا جزاء كل مركب علة للمركب.

(والآخر): إن الجسم قد ثبت أنه مركب من الصورة والهيولى فلو قدر عدم الهيولى انعدم الجسم ولو قدر عدم الصورة انعدم ونحن عبرناه بواجب الوجود ونعنى بالواجب مالا يلزم عدمه بعدم غير ذاته وإنما يلزم عدمه اذا قدر عدم ذاته فقط.

(الثالث): إن واجب الوجود لا يكون مثل الصورة لأنها متعلقة بالهيولى ولو قدر عدم الهيولى التى معها لزم عدمها ولا يكون أيضا مثل الهيولى التى هى محل الصورة التى لا توجد إلا معها لأن الهيولى توجد بالفعل مع الصورة ويلزم من عدم الصورة عدم الهيولى فلها تعلق بالغير.

(الرابع): هو أنه لا يكون وجوده غير ماهيته بل ينبغى أن يتحد إنيته وماهيته إذ قد سبق أن الماهية غير الانية وأن الوجود الذى هو الانية عبارة عن عارض للماهية وأن كل عارض فمعلول لأنه لو كان موجودا بذاته لما كان عارضا لغيره وإذ ما كان عارضا لغيره فله تعلق بغيره إذ لا يكون إلا معه وعلة الوجود لا تخلو إما أن تكون هى الماهية أو غيرها فان كانت غيرها فيكون الوجود عارضا معلولا ولا يكون واجب الوجود وباطل أن تكون الماهية بنفسها سببا لوجود نفسها لأن العدم لا يكون سببا للوجود والماهية لا وجود لها قبل هذا الوجود فكيف يكون سببا له ولو كان لها وجود قبل هذا الوجود لكانت مستغنية عن وجود ثان ثم كان هذا السؤال لازما فى ذلك الوجود فانه عرضى فيها فمن أين عرض له ولزم فثبت أن واجب الوجود أنيته ماهيته وكان وجوب الوجود له كالماهية لغيره ومن هذا يظهر أن واجب الوجود لا يشبه غيره البتة فان كل ما عداه ممكن وكل ما هو ممكن فوجوده غير ماهيته ووجوده من واجب الوجود كما سيأتى.

(الخامس): أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به على معنى كون كل واحد منهما علة الآخر فان هذا فى غير واجب الوجود محال وهو أن يكون.

(ب) علة.

(ج) و.

(ج) علة.

(ب) لأن.

(ب) من حيث أنه علة فهو قبل.

(ج) و.

(ج) من حيث أنه علة فهو قبل.

(ب) فيكون قبل ما هو قبله وهو محال ويكون كل واحد منهما قبل صاحبه من حيث أنه علة وبعده من حيث أنه معلول وذلك ظاهر البطلان.

(السادس): هو أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به لا بمعنى العلية ولكن على سبيل التضايف كما بين الأخوين فانا نقول إن لم يلزم عدمه لعدم ذلك الغير فلا علاقة له مع ذلك الغير ونحن نجوز أن يكون لغير واجب الوجود علاقة بواجب الوجود فان المعلول يتعلق بالعلة والعلة لا تتعلق بالمعلول وإن كان يلزم عدمه بعدم ذلك الغير فهو ممكن لا واجب فان كل ما يتعلق بغيره فهوممكن لأنه لا يخلو إما أن يكفى فى وجوده ذلك الغير فيكون ذلك الغير وحده علة وهو معلوله* وإما أن يحتاج مع ذلك الغير إلى شىء آخرفيكون هو معلول الجميع وكل ذلك يناقض وجوب الوجود.

(السابع): هو أنه لا يجوز أن يكون شيآن كل واحد منهما واجب الوجود حتى يكون للواجب ند ويكون كل واحد مستقلا بنفسه لا يتعلق بالآخر لأنه لا يخلو إما أن يتشابها من كل وجه أويختلفا فان تشابها من كل وجه بطل التعدد ولم تعقل الاثنينية كما ذكرنا من استحالة سوادين فى محل واحد فى حالة واحدة بيان أن الكلى لا يصير حاصلا إلا بفصل أوعارض يختص به لا محالة وإن كانا مختلفين بفصل أوعارض فهو محال أيضا إذ قد سبق أن الفصل والعارض لا مدخل لهما فى حقيقة ذات الكلى وأن لا مدخل للانسانية فى كون الحيوانية حيوانية وإنما يدخل فى كونه موجودا وذلك فيما يكون الوجود عارضا على الماهية وغيرها فاما ما إنيته وماهيته واحدة والفصل لم يكن داخلا فى ما هيته لم يكن داخلا فى إنيته فيكون دون ذلك الفصل واجب الوجود فيكون الفصل والعارض لغوا وإن كان لا يكون واجب الوجود دون ذلك الفصل فقد صارالفصل داخلا فى حقيقة المعنى أعنى معنى وجوب الوجود وقد سبق أن ذلك محال وإنه إنما يدخل فى وجود الماهية والحقيقة إذا كانت الماهية غير الوجود.

(الثامن): أنه لا يجوز أن يكون له صفة زائدة على الذات لأنه إن كان يتقوم وجوده بتلك الصفة حتى يبطل وجوده بتقدير عدمها فقد تعلق بها وصار مركبا من أجزاء لا تلتئم ذاته إلا بمجموعها وكل مركب من أشياء معلول كما سبق وإن كان لا يلزم عدمه من تقدير عدم تلك الصفة فهى عرضية فيه كالعلم فى الانسان مثلا وذلك محال لأن كل عرضى فمعلول كما سبق وعلته إن كان ذات واجب الوجود كان الذات فاعلا وقابلا وكان كونه فاعلا غير كونه قابلا لأنه يقبل لا من حيث يفعل ويفعل لام ن حيث يقبل فيكون فيه كثرة بوجه ما* وقد بينا أن الكثرة فى ذات واجب الوجود محال لأنه يوجب تعليل الجملة بالآحاد فهو واحد من كل وجه على أنه سنبين فى الطبيعيات أن الجسم لا يتحرك بنفسه ويستحيل أن يكون الشىء محركا ومتحرك من وجه واحد وأن الفاعل لا يكون قابلا بل يكون الجسم قابلا والفاعل من خارج كتحريكه إلى فوق أو يكون القابل هو الهيولى والفاعل هو الصورة كحركته إلى أسفل فيتصور إذا اجتماع الفعل والقبول فى الجسم وما يجرى مجراه مما يتركب من شىء هو كالصورة بها يفعل وشىء هو كالمادة بها يقبل* وقد بينا أن واجب الوجود لا يكون كذلك وباطل أن يكون ذلك العارض من غيره إذ يصير ذا علاقة مع الغير فان وجوده على تلك الصفة يتعلق بوجود ذلك الغير ووجوده خاليا عن تلك الصفة يتعلق بعدم ذلك الغير وهو إما أن يكون متصفا بها أو خاليا ويكون فى كلتا حالتيه متعلقا والمتعلق وجوده بعدم غيره معلول كما أن المتعلق وجوده بوجود غيره معلول لأنه لا يستغنى ذاته عن ذلك الغير حتى لو قدر تبدله بالوجود لبطل ذاته فيكون ذاته متعلقا بالغير وواجب الوجود لا علاقة له مع الغير البتة بل ذاته كاف فى ذاته فهو الذى أردناه بواجب الوجود.

(التاسع): أن واجب الوجود يستحيل أن يتغير لأن التغير عبارة عن حدوث صفة فيه لم تكن وكل حادث فيفتقر إلى سبب ويستحيل أن يكون غيره لما سبق وأن يكون ذاته لأن كل صفة يلزم من الذات يكون مع الذات لا يتأخر عنه وقد ذكرنا أن الفاعل لا يكون قابلا فلا يفعل الشىء شيئا فى ذاته البتة.

(العاشر): أن واجب الوجود لا يصدر منه إلا شىء واحد بغير واسطة وإنما يصدر منه أشياء كثيرة على ترتيب ووسائط وذلك لأنه ثبت أنه واحد لا كثرة فيه بوجه إذ الكثرة إنما تكون بكثرة الأجزاء التى يستقل آحادها ككثرة الجسم المؤلف أو بكثرة المعنى بأن يقسم الشىء إلى أمرين لا يستقل أحدهما دون الاخر كالصورة والهيولى أو كالوجود والماهية وقد نفينا كل ذلك عنه فلا يبقى إلا الوحدة من كل وجه والواحد لا يصدر منه إلا واحد وإنما يختلف فعل الواحد إما باختلاف المحل أو باختلاف الآلة أو بسبب زائد على ذات الفاعل الواحد* وبرهانه أنا إذا عرضنا جسما على شىء فسخنه فعرضناه على اخر فبرده فنعلم ضرورة أن بينهما اختلافا لأنهما لوكانا متماثلين لتماثل فعلاهما فهما استحال وجود شيئين مختلفين من ذاتين متماثلين فبأن يستحيل من ذات واحدة أولى لأن الشىء من غيره أبعد منه عن نفسه فاذا كان مماثلة الغير يوجب أن لا يخالف فعله فعله فمماثلته لنفسه أولى بذلك والمماثلة فى النفس مجاز ولكن المقصود التفهيم.

(الحادى عشر): أن واجب الوجود كما لا يقال له عرض لما سبق فلا يقال له جوهر وإن كان قائما بنفسه ولم يكن فى محل كما أن الجوهر كذلك ولكن الجوهر فى اصطلاح القوم عبارة عن حقيقة وماهية وجودها لافى موضوع نعنى إذا وجد فوجودها لافى موضوع لا إنه موجود وجودا بالفعل حاصلا فانك تحكم ضربا للمثل بأن التمساح جوهر ولا تشك فيه وتشك فى أنه هل هو فى الحال حاصل فى الوجود أم لا وكذا جملة من الجواهر فاذا الجوهر يطلق على حقيقة وماهية إذا عرض لها الوجود عرض لا فى الموضوع فيكون عبارة عما يكون ماهيته غير إنيته فما ماهيته وإنيته واحدة لا يسمى جوهرا بهذا الاصطلاح إلا أن يخترع مخترع اصطلاحا فيجعله عبارة عن وجود لا محل له فلا نمنع إذ ذاك من إطلاقه عليه فان قيل أليس يقال إن واجب الوجود موجود وغيره موجود والوجود شامل فقد اندرج مع غيره تحت الجنس فلا بد وأن ينفصل عنه بفصل فيكون له حد فيقال له لا لأن الوجود يقع عليه وعلى غيره على سبيل التقدم والتأخر بل قد بينا أنه يقع على الجواهر والأعراض أيضا كذلك فلا يكون على سبيل التواطؤ وماليس على سبيل التواطؤ فلا يكون جنسا وإذا لم يكن الوجود جنسا فبأن ينضاف اليه نفى وهو إنه لا فى الموضوع لا يصير جنسا لأنه لم ينضم اليه إلا سلب مجرد فالوجود لا فى الموضوع الذى له ولغيره من الجواهر ليس على سبيل الجنسية والجوهرية جنس لسائر الجواهر فحصل من هذا إن واجب الوجود لا يقع في شىء من المقولات العشرة إذ لم يقع فى مقولة الجوهر فكيف يقع فى مقولات الاعراض كيف ووجود سائر المقولات زائد على الماهيات وعرضى فيها وخارج من ماهياتها ووجود واجب الوجود وماهيته واحد فيظهر من هذا إن واجب الوجود لا جنس له ولا فصل له فلا حد له وظهر إنه لا محل له ولا موضوع فلا ضد له وظهر إنه لانوع له ولا ند له ولا شريك له وظهر إنه لا سبب له ولا تغير له ولا جزء له بحال.

(الثانى عشر): إن كل ماسوى واجب الوجود ينبغى أن يكون صادرا عن واجب الوجود على الترتيب وأن يكون وجود كل ما سواه منه وبرهانه إنه إذا بان إن واجب الوجود لا يكون إلا واحدا فما عداه لا يكون واجبا فيكون ممكنا فيفتقر إلى واجب الوجود فيكون منه لأن الكل ممكنات ولا يخلو من أربعة أقسام إما أن يكون بعضها من بعض ويتسلسل اإلى غير نهاية وإما أن بنتهى إلى طرف وذلك الطرف علة ولا علة له فى نفسه وإما أن ينتهى إلى طرف ولذلك الطرف علة من جملة معلولاته وإما أن ينتهى إلى واجب الوجود ووجه حصر هذه الأقسام هو أنه لا يخلو إما أن يتسلسل أو يتناهى فان تناهى إلى طرف فذلك الطرف إما واجب الوجود أو غيره فان كان غيره فذلك الطرف إما أن يكون له علة أو لا علة له أما القسم الأول وهو التسلسل إلى غير نهاية فقد أبطلناه وأما الثانى وهو أن ينتهى إلى طرف غير واجب الوجود الذى فرضناه وذلك الطرف لا علة له فهذا يؤدى إلى أن يكون واجب الوجود اثنين إذ لا نعنى بواجب الوجود إلا ما لاعلة له أصلا وقد أبطلنا ذلك * وأما الثالث وهو أن يكون علة ذلك الطرف شيئا من معلولاته بالدور مثلا وهو أن يكون.

(ا) علة.

(ب) و.

(ب) علة.

(ج) و.

(ج) علة.

(د) ثم يعود ويكون.

(د) علة.

(ا) فهذا محال لأنه يؤدي إلى أن يكون المعلول علة إذ معلول المعلول معلول فكيف يعود علته وعلة العلة علة فكيف يعود معلولا وقد سبق إبطال ذلك فتعين الرابع وهو أن يرتقى إلى طرف هو واجب الوجود* فان قيل قد قسمتم الموجود إلى ما يتعلق بغيره وإلى ما لا علاقة له وسميتم ما لا علاقة له واجبا وادعيتم أن الواجب يجب أن يكون كيت وكيت حتى يكون منقطع العلائق ولكن لم تدلوا على أن في الوجود الحاصل موجودا بهذه الصفة فما الدليل على إثبات واجب الوجود وهو الموجود الذى وصفه ما ذكرتموه* قيل برهانه أن العالم المحسوس ظاهر الوجود وهو أجسام وأعراض وهى بجملتها إنيتها غير ما هيتها وما كان كذلك فقد أثبتنا أنه ممكن وكيف لا وقوام الأعراض بالأجسام فهى ممكنة وقوام الأجسام بأجزائها وبالصورة والهيولى وقوام للصورة بالهيولى وقوام الهيولى بالصورة إذ لا يستغنى البعض عن البعض وما هو كذلك فقد سبق أنه لا يكون واجبا فانا بينا أنه لا واجب وجود هو صورة ولا هيولى ولا جسم ولا عرض* والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها فشىء من هذا لا يكون واجب الوجود فيكون ممكنا وقد ذكرنا أن الممكن لا يكون موجودا بنفسه بل بغيره وهذا معنى كونه محدثا فالعالم إذا ممكن الوجود فهو إذا محدث ومعنى كونه محدثا أن وجوده من غيره وليس له من ذاته وجود فهو باعتبار ذاته لا وجود له وباعتبار غيره له وجود وما للشىء بذاته قبل ما له بغيره قبلية بالذات والعدم له بالذات والوجود بالغير فعدمه قبل وجوده فهو محدث أزلا وأبدا لأنه موجود من غيره أزلا وأبدا وقد سبق أن دوام الشىء لا ينافى كونه فعلا وما يوجد منه الشىء دائما فهو أفضل مما يتعطل مدة لا نهاية لها ثم ينبعث للفعل وإذا ثبت أن الكل ممكن وقد سبق أن كل ممكن يفتقر إلى علة وأن العلل بالضرورة ينبعى أن ترتقى إلى واجب الوجود ولا بد أن يكون واحد فخرج منه أن للعالم أولا واجبا بذاته واحدا من كل وجه وأن وجوده بذاته بل هو حقيقة الوجود المحض في ذاته وهو ينبوع الوجود في حق غيره فوجوده تام وفوق التمام حتى صارت الماهيات كلها موجودة به على ترتيبها وتكون نسبة وجود سائر الأشياء إلى وجوده مثل نسبة ضوء سائر الأجسام إلى ضوء الشمس فان الشمس مضيئة بنفسها من ذاتها لا من مضىء آخر وغيرها يستضىء بها وهى ينبوع الضوء لكل مستضىء أى يفيض الضوء من ذاتها على غيرها من غير أن ينفصل من ذاتها شىء ولكن يكون ضوء ذاتها سببا لحدوث الضوء فى غيرها وهذا المثال كان يستقيم لو كانت الشمس ضوءا بذاتها من غير موضوع ولكن ضوءها فى جسم هو موضوع ووجود الأول الذى هو ينبوع وجود الكل ليس فى موضوع ويفارق من وجه وآخر وهو أن الضوء يلزم من ذات الشمس بالطبع المحض من غير أن يكون للشمس علم وخبر بحصوله منها فليس علمها بوجود الضوء منها مبدأ وجود الضوء منها وسنبين أن علم الأول بوجه النظام العقول في الكل هو مبدأ النظام وإن النظام الموجود تبع للنظام المعقول المتمثل في ذات الأول.

(المقالة الثالثة فى صفات الأول وفيها دعاوى ومقدمة) (أما المقدمة): فهو أنه قد سبق أن واجب الوجود لا يجوز أن يكون فى ذاته كثرة بحال ولا بد من وصف واجب الوجود بأوصاف فلا بد أن يفرق بين الأوصاف المؤدية إلى كثرة فى الذات وبين ما لا يؤدى حتى لا يثبت له إلا ما لا يؤدى إلى الكثرة والأوصاف خمسة أصناف يجمعها قولنا للانسان المعين إنه جسم أبيض عالم جواد فقير فهذه خمس صفات.

(أما الأول): وهو أنه جسم فهو ذاتى يدخل فى الماهيات وهو جنس ومثل هذا لا يجوز أن يثبت فى ذات واجب الوجود لما سبق من أنه لا جنس له ولا فصل له.

(الثانى): الأبيض وهو وصف عرضى للانسان ومثله أيضا لا يجوز إثباته لواجب الوجود.

(الثالث): العالم فان العلم للانسان عرضى وله تعلق بالغير وهو المعلوم والبياض عرض غير متعلق بالغير فهذا هو الفارق ولا يجوز إثبات عرض فى ذات الواجب متعلقا كان أو لم يكن لما سبق .

(الرابع): الجواد وهذا يرجع إلى إضافة الذات إلى فعل صدر منه وهذا مما يجوز إثباته للأول ويجوزكثرة الاضافات فيه بوجوه مختلفة إلى الأفعال الصادرة منه وهذا لا يوجب كثرة فى الذات فانه لا يرجع إلى وصف فى الذات فان تغير الاضافة لا يوجب تغير الذات وهذا ككونك على يمين إنسان فانه وصف لك إضافى اليه ولكن لو تحول ذلك الانسان الى يسارك كان التغير فيه بالحركة وأما أنت فلا تتغيرذاتك به فلا بأس بكثرة هذا الجنس من الصفات. (الخامس): الفقير وهو اسم لصفة سلب فان معناه عدم المال فيتوهم من حيث اللفظ أنه وصف إثبات وهذا أيضا لا يبعد أن يكون مسوغا فى حق الأول إذ سلب منه أشياء كثيرة ويتولد من وصفى الاضافة والسلب أسامى كثيرة لا توجب كثرة فى ذاته فانه إذا قيل واحد فمعناه سلب الشريك والنظير وسلب الانقسام* وإذا قيل قديم فمعناه سلب البداية عن وجوده* وإذا قيل جواد وكريم ورحيم فمعناه إضافته الى أفعال صدرت منه واذا قيل هو مبدأ الكل فمعناه الاضافة أيضا فهذا هو المقدمة.

(أما الدعاوى): فأولها أن المبدأ الأول حى فان ما يعلم ذاته فهو حى والأول يعلم ذاته فهو إذن عالم وحى* وبرهان كونه عالما بذاته أن تعرف معنى قولنا إن الشىء عالم ما هو وإن معنى قولنا أنه علم ومعلوم ما هو وسيأتى فى كتاب النفس من الطبيعيات أن النفس منا تشعر بنفسها وبغيرها وتعلمه ومعنى كونه عالما أنه موجود برىء من المادة ومعنى كون الشىء معقولا ومعلوما أنه مجرد عن المادة فمهما فرض حلول مجرد فى برىء كان الحال علما وكان المحل عالما إذ لا معنى للعلم إلا انطباع صورة مجردة من المواد فى ذات هى بريئة عن المواد فيكون المنطبع علما والمنطبع فيه عالما ولا معنى للعلم إلا هذا فمهما وجد هذا صدق اسم العلم والعالم ومهما انتفى لا يصدق والمراد بالبرىء والمجرد واحد ولكن خصصنا المجرد بالمعلوم والبرىء بالعالم حتى لا يلتبس فى ترديدات الكلام ثم الانسان إنما علم بنفسه لأن نفسه مجرد وهو ليس غائبا عن نفسه حتى يحتاج إلى حصول مثاله وصورته فيه ليعلمه بل نفسه حاضر لنفسه وذاته غير غائب عن ذاته فكان عالما بنفسه* وقد سبق أن واجب الوجود برىء عن المواد براءة أشد من براءة النفس الانسانية لأن النفس تتعلق بالمادة تعلق الفعل فيها وذات الأول كما سنبين منقطع العلائق عن المواد فذاته حاضر فى ذاته ويكون بالضرورة عالما بذاته لأن ذاته المجردة غير غائبة عن ذاته البرئية والعلم عبارة عن مثل هذه الحالة فقط.

(الدعوى الثانية): إن علمه بذاته ليس زائدا على ذاته حتى يوجب فيه كثرة بل هو ذاته* وبيانه بأن نقدم عليه مقدمة وهى إن كل ما يعرفه الانسان إما أن يكون معلوما له بمشاهدته فى نفسه بحس ظاهر أو بحس باطن وإما أن لا يكون معلوما ولا سبيل إلى إعلامه إلا بالمقايسة إلى شىء مما ثبت فى مشاهدته فى نفسه فما لم يشاهد من نفسه له نظير بوجه ما لم يمكن تعريفه فاذا ثبت هذا فنقول لا يعرف الانسان هذا فى حق الاله إلا بمقايسة إلى نفسه فانه يعلم نفسه فعلومه غيره أو هو عينه فان كان غيره فهو إذا لا يعلم نفسه بل علم غيره وإن كان معلومه هو عينه فالعالم هو نفسه والمعلوم هو نفسه فقد اتحد العالم والمعلوم فنقيم الدليل على إن العلم هو المعلوم أيضا حتى إذا جعلنا المعلوم أصلا وبينا إن العلم هو عين المعلوم وإن العالم أيضا هو عين المعلوم كما سبق لزم منه بالضرورة إن للكل مبدأ واحدا لا كثرة فيه ودليل إن العلم هو المعلوم وكذلك الحس هو المحسوس إن الانسان يكون محسا باعتبار ما انطبع فى عينه من صورة المبصر المحسوس ومثاله فهو مدرك بذلك الأثر المنطبع فيه ومحس له فقط أما الشىء الخارج فهو مطابق لذلك الأثر وسبب حصول الأثر حصوله وهو المدرك الثانى دون الأول بل الملاقى لك ما حصل فى ذاتك والحس عبارة عن ذلك الأثرالمحسوس* والمحسوس الأول هو ذلك الأثر أيضا فالحس والمحسوس واحد وكذلك العلم هو نفس المعلوم ومثاله المطابق له وهو المدرك المعلوم أعنى المثال الذى ينطبع فى النفس* وأما الموجود الخارج فمطابق له وسبب لحصوله فى النفس فالمعلوم بالحقيقة تلك الصورة فاذا ثبت إن المعلوم مهما كان نفس العالم اتحد العلم والعالم والمعلوم فاذا الأول عالم بنفسه وعلمه ومعلومه هو وإنما تختلف العبارات باختلاف الاعتبارات فمن حيث أن ذاته برىء عن المادة وان ذاته مجردة غير غائبة عنه فهو عالم ومن حيث أن ذاته مجردة لذاته البرية فهو معلوم ومن حيث أن ذاته لذاته وفى ذاته وغير غائب عن ذاته فهو علم بذاته وهذا كله لأن العلم يستدعى معلوما فقط فاما أن يكون ذلك المعلوم هو غير العالم أو عينه فلا يوجب العلم فيه تفصيلا بل يجوز أن يقال المعلوم ينقسم إلى ما هو ذات العالم وإلى ما هو غيره فيكون اقتضاؤه لمعلوم مطلق أعم من اقتضائه لمعلوم هو غيره أو عينه.

(الدعوى الثالثة): أن الأول عالم بسائر أنواع الموجودات وأجناسها فلا يعزب عن علمه شىء وهذا الآن أدق وأغمض من الأول وبيانه أنه ثبت أنه يعلم ذاته فينبغى أن يعلمه على ما هو عليه لأن ذاته مجردة لذاته مكشوفة له على ما هو عليه بحقيقته وحقيقته أنه وجود محض هو ينبوع وجود الجواهر والأعراض والماهيات كلها على ترتيبها فان علم نفسه مبدأ لها فقد انطوى العلم بها فى علمه بذاته وإن لم يعلم نفسه مبدأ لم يعلم نفسه على ما هو عليه وهو محال لأنه إنما علم ذاته لأن ذاته ليس غائبا عن ذاته وهما مجردان أعنى ذاته باعتبارين وهو كما هو عليه مكشوف لذاته فالواحد منا إذا علم ذاته يعلمه حيا قادرا لا محالة لأنه كذلك فان لم يعلم كذلك لم يكن علمه على ما هو عليه فالأول أيضا يعلم ذاته مبدأ للكل فينطوى العلم بالكل تحت علمه بذاته على سبيل التضمن لا محالة.

(الدعوى الرابعة): أن هذا أيضا لا يؤدى إلى كثرة في ذاته وعلمه وهذا أغمض من الأول فان المعلومات على كثرتها تستدعى علوما كثيرة فعلم واحد بمعلومات مفصلة محال وجوده إذ معنى الواحد أنه ليس فيه شىء غير شىء وأنه لو قدر عدم بعضه لزم عدمه إذ لا بعض له والعلم إذا فرض بالجواهر والأعراض واحدا فلو قدر زوال تعلقه بالأعراض بقى شىء غير ما قدر زواله وهو تعلقه بالجواهر وكذا كل معلومين وهذا يناقض معنى الوحدة ولكن بيانه بالمقايسة بمشاهدة النفس فان النفس نسخة مختصرة من كل العالم يوجد لكل شىء فيها نظير وبها يتمكن من معرفة الكل فنقول للانسان فى العلم ثلاثة أحوال.

(إحداها): أن يفصل صور المعلومات فى نفسه كما يتفكر فى صورة فقهية مثلا مرتبا بعضها بعد بعض وهذا هوالعلم المفصل. (والثانية): أن يكون قد مارس الفقه وحصله واستقل به وحصل قوة الفقه بحيث يعلم كل صورة تورد عليه من غير حصر فيقال له فى حال غفله عن التفصيل أنه فقيه وليس فى ذهنه علم حاضر ولكنه اكتسب حالة وملكة تلك الملكة مبدأ فياض للصور التى لا تتناهى من الفقه نسبة تلك الحالة إلى كل صورة ممكنة واحدة وهذه حالة بسيطة ساذجة وهى واحدة لا تفصيل فيها ولها نسبة إلى صور غير متناهية.

(الثالثة): وهى حالة بين الحالتين أن يسمع الانسان فى مناظرته مثلا كلاما من غيره فى مسألة وهو مستقل بمعرفته فيعلم ان جوابه حاضر عنده وأن ما يقوله باطل وإنه يقدر على إبطاله قطعا كما لو سمعه يقول العالم قديم بشبهة كذا وكذا وهو عالم بأنه حادث وبوجه الجواب عن تلك الشبهة مع أن ذكرها وإيرادها يستدعى تفصيلا وتطويلا وهو فى الحال يعلم من نفسه يقينا أنه محيط بالجواب جملة ولم يتفصل فى ذهنه ترتيب الجواب ثم يخوض فى الجواب مستمدا من الأمر البسيط الكلى الذى كان يدركه من نفسه فلا يزال يحدث من ذلك الأمر الكلى فى ذهنه صورة صورة مفصلة ويعبرعنه بعبارة عبارة ويوردها مقدمة مقدمة إلى أن يستوفى إيضاح ما كان فى نفسه من الجواب البسيط بمقدمات وتفاصيل لم يكن حاضرا ذلك الوقت على تفصيله فى ذهنه بل كانت له حالة بسيطة كأنها مبدأ للتفصيل خلاق له وهو أشرف من التفصيل فينبغى أن يقدر علم الأول بالكل من قبيل الحالة الثالثة فأما أن يكون من قبيل الحالة الأولى فهو محال لأن العلم المفصل هو العلم الانساني الذى لا يجتمع اثنان منه فى النفس فى حالة واحدة بل يصادف واحدا واحدا فان العلم نقش فى النفس وكما لا يتصور أن يكون فى الشمعة نقشان وشكلان فى حالة واحدة لا يتصور أن يكون فى النفس علمان مفصلان حاضران فى حالة واحدة بل يتعاقبا على القرب بحيث لا يدرك تعاقبهما للطف الزمان إذ تصير المعلومات الكثيرة مجملة كالشىء الواحد فيكون للنفس منها حالة واحدة ونسبتها إلى كل الصور واحدة ويكون ذلك كالنقش الواحد وهذا التفصيل والانتقال لا يكون إلا للانسان فان فرض وجودها معا مفصلا فى حق الله تعالى كانت علوما متعددة بلا نهاية واقتضى كثرة ثم كان متناقضا لأن اشتغال النفس بواحد مفصل يمنع من آخر فاذا معنى كون الأول عالما أى انه على حالة بسيطة نسبتها إلى سائر المعلومات واحدة * فمعنى عالميته مبدأيته لفيضان التفصيل منه فى غيره فعلمه هو المبدأ الخلاق لتفاصيل العلوم فى ذوات الملائكة والأنس فهو عالم بهذا الاعتبار وهذا أشرف من التفصيل لأن المفصل لا يزيد على واحد إذ لا بد وأن يتناهى وهذه نسبته إلى ما لا يتناهى ونسبته إلى ما يتناهى واحدة ومثاله أن يفرض ملك معه مفاتيح خزائن أموال الأرض وهو مستغنى عنها ولا ينتفع بذهب ولا فضة ولا يأخذها ولكن يفيضها على الخلق فكل من له ذهب فيكون منه أخذه وبواسطة مفاتحه اليه وصل فكذلك الأول عنده مفاتيح الغيب ومنه يفيض مبدأ العلم بالغيب والشهادة على الكل وكما يستحيل أن لا يسمى الملك الذى بيده المفاتيح غنيا يستحيل أن لا يسمى الذى عنده مفاتيح العلم عالما والفقير الذى يأخذ منه دنانير معدودة يسمى غنيا باعتبار أن الدنانير بيده فالملك باعتبار أن الدنانير من يده وبافادته يفيض منه الغنى على الكل كيف لا يسمى غنيا فكذا حال العلم فكان نسبة تلك الحالة التى للأول إلى العلوم المفصلة نسبة الكيميا إلى الدنانير المعينة والكيميا أنفس إذ يحصل منه ما لا يتناهى من الدنانير بحكم التقدير وضرب المثال فينبغى أن يفهم علم الأول بسيطا وذلك بالمقايسة إلى الحالة الثالثة فنسبة علم الأول إلى كل المعلومات كنسبة حال المناظر إلى حاصل الجواب المفصل* فان قيل تلك الحالة ترجع إلى أنه خال من العلم ولكنه مستعد لقبول العلم بالقوة القريبة ولكن لقرب القوة يقال إنه عالم والا فهو منفك عن العلم فالأول إذا منفك عن العلم بالفعل فلا يتصور أن يكون بالقوة قابلا فلا يكون عالما لا بالفعل ولا بالقوة قيل ما ذكرت من السؤال هو حقيقة الحالة الثانية لا حقيقة الحالة الثالثة وقد فارقت الحالة الثالثة الثانية فى أن صاحب الحالة الثانية غافل عن العلم والمعلوم جملة وتفصيلا وصاحب الحالة الثالثة عالم بطلان دعواه قدم العالم وبوجه الجواب عن شبهته وواثق من نفسه بذلك ومتحقق بأن له حالة حاضرة بالفعل لتلك الحالة نسبة إلى علوم مفصلة ليس تفصيلها حاضرا فى ذهنه بل هو قادر على إحضارها فبهذه الحالة ينبغى أن يمثل حال الأول حتى يتعلق بالفهم منه ما هو المطلوب من هذه الدعوى.

(الدعوى الخامسة): هو أن الله تعالى كما يعلم الأجناس والأنواع يعلم الممكنات الحادثة وإن كنا نحن لا نعلمها لأن الممكن ما دام يعرف ممكنا يستحيل أن يعلم وقوعه أو لا وقوعه لأنه إنما يعلم منه وصف الامكان ومعناه أنه يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون فان علمنا أن لا بد وأن يكون غدا مثلا قدوم زيد فقد صار واجبا أن يكون وبطل قولنا أنه كان ممكنا أن لا يكون فاذا الممكن ما دام لا يعلم منه إلا الامكان فلا يتصور أن يعلم أنه واقع أو غير واقع ولكن قد ذكرنا أن كل ممكن فى نفسه فهو واجب بسبب فان علم وجود سببه كان وجوده واجبا لا ممكنا وإن علم عدم سببه كان عدمه واجبا لا ممكنا فاذا الممكنات باعتبار السبب واجبة فلو اطلعنا على جميع أسباب شىء واحد وعلمنا وجودها قطعنا بوجود ذلك الشىء كما أن وجدان زيد غدا كنزا ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون فاذا نحن عرفنا وجود أسباب العثور على الكنز زال الشك مثل أن تعرف أنه لا بد وأن يجرى فى داره سبب يزعجه ويوجب خروجه من الدار فى طريق كذا وأن يسير على خط كذا ويعلم أن على ذلك الخط كنزا غطى رأسه بشىء خفيف لا يقاوم ثقل زيد فيعلم أنه لا بد وأن يعثر عليه لأن ذلك صار واجبا باعتبار فرض وجود أسبابه والأول سبحانه وتعالى يعلم الحوادث بأسبابها لأن العلل والأسباب ترتقى إلى واجب الوجود فكل حادث وممكن فهو واجب لأنه لو لم يجب بسببه لما وجد وسببه أيضا واجب إلى أن ينتهى إلى ذات واجب الوجود فلما كان هو عالما بترتيب الأسباب كان عالما لا محالة بالمسبات والمنجم لما تفحص عن بعض أسباب الوجود ولم يطلع على جميعها لا جرم حكم بوجود الشىء ظنا لأنه يجوز أن ما اطلع عليه ربما يعارضه مانع فلا يكون ما ذكره كل السبب بل ذلك مع انتفاء المعارضات فان اطلع على أكثر الأسباب قوى ظنه وإن اطلع على الكل حصل له العلم كما يعلم فى الشتاء أن الهواء سيحمى بعد ستة أشهر لأن سبب الحمى كون الشمس فى وسط السماء بكونها فى الأسد ويعلم ذلك بحكم العادة والدليل أن الشمس لا يتغير مسيرها وأنها ستعود إلى الأسد بعد هذه المدة فهذا وجه العلم بالممكنات (الدعوى السادسة): هو أن الأول سبحانه وتعالى لا يجوز أن يعلم الجزئيات علما يدخل تحت الماضى والمستقبل والآن حتى يعلم أن الشمس لم تنكسف اليوم وإنها ستنكسف غدا ثم إذا جاء الغد فيعلم أنها الآن مكسوفة وإذا جاء بعد غد فيعلم أنها كانت بالأمس مكسوفة فان هذا يوجب تغيرا فى ذاته لاختلاف هذه العلوم عليه وقد سبق أن التغير محال عليه ووجه لزوم التغير إن المعلوم يتبعه العلم فمهما تغير المعلوم تغير العلم ومهما تغير العلم تغير العالم إذ العلم ليس من الصفات التى إذا اختلفت لم يتغير العالم ككونه يمينا وشمالا بل العلم صفة فى الذات يوجب اختلافه اختلاف الذات وليس نسبة العلم إلى المعلوم أيضا نسبة لا يوجب اختلاف المعلوم اختلافا فيها حتى يفرض علم واحد هو علم بأن الكسوف سيكون فاذا كان صار علما بأنه كائن فاذا انجلى صار علما بأنه قد كان والعلم فى ذاته واحد والمعلوم يتغيرلأن العلم هو مثال المعلوم والمختلفات أمثلتها مختلفة فاذا قدر أن الأول عالم بأن الكسوف سيكون فله بهذا حالة فاذا كان الكسوف فان بقيت تلك الحالة صار جهلا لأن الكسوف كائن وإن صار عالما بأنه كائن فان هذه الحالة تخالف ما قبلها فهو تغير بل إنما يعلم الأول الجزئيات بنوع كلى يكون متصفا به أزلا وأبدا ولا يتغير مثل أن يعلم أن الشمس إذا جاوزت عقدة الذنب فانه يعود اليها بعد مدة كذا ويكون القمر قد انتهى اليها وصار فى محاذاتها حائلا بينها وبين الأرض محاذاة غير تامة مثلا ولتكن بثلثها فيوجب أن يرى ثلث الشمس مكسوفا فى إقليم كذا فهذا يعلمه كذلك أزلا وأبدا ويكون صادقا سواء كان الكسوف موجودا أو معدوما فاما أن يقول إن الشمس ليست مكسوفة الآن ثم يقول غدا إنها مكسوفة الآن فيكون قد خالف الثانى الأول فهذا لا يليق بمن لا يجوز التغير عليه فاذا ما من جزئى ولو فى مثقال ذرة إلا وله سبب فيعرف سببه بنوع كلى فليس فيه إشارة إلى وقت وزمان ويبقى عارفا به أبدا وأزلا فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ومع ذلك فان جميع أحواله متشابهة ولا يتغير مهما فرض الأمر كذلك.

(الدعوة السابعة): إن الأول مريد وله إرادة وعناية وإن ذلك لا يزيد على ذاته وبيانه أن الأول فاعل فانه ظهر أن كل الأشياء حاصلة منه فهى فعله والفاعل إما أن يكون فاعلا بالطبع المحض أو بالارادة والطبع المحض هو الفعل المنفك عن العلم بالمفعول وبالفعل وكل فعل لا يخلو عن العلم فلا يخلو عن الارادة والكل فائض من ذات الله تعالى مع علمه بأنه فائض منه وفيضانه منه غير مناف لذاته حتى يكون كارها فلا كراهة فيه له فهو إذا راض بفيضانه منه وهذه الحالة يجوز أن يعبر عنها بالارادة ومبدأ فيضان الكل منه علمه بوجه النظام فى الكل فيكون علمه سبب وجود المعلوم فاذا إرادته علمه وكل فعل إرادى فلا يخلو إما أن يكون عن اعتقاد جزم أو علم أو ظن أو تخيل* أما العلم فكفعل المهندس بموجب العلم الحقيقى وأما الظن فكفعل المريض فى الاحتراز عما يتوهمه مضرا* وأما التخيل فكطلب النفس الشىء الذى يشبه المحبوب مع علمه بأنه غيره وكامتناعه عن الشىء الذى له شبه بما يكرهه وفعل الأول لا يجوز ان يكون بظن أو تخيل لأن هذه عوارض لا تثبت ولا تدوم فينبغى أن يكون بعلم عقلى حقيقى والآن يبقى أنه كيف يكون العلم سببا لوجود شىء وأنه بم عرف أن الأشياء حصلت منه بعلمه أما الأول فلا يعلم إلا بمثال مشاهدة النفس فنحن إذا وقع لنا تصور لشىء محبوب انبعث من التصور قوة الشهوة فان استحكمت وتم الشوق وانضاف اليه تصورنا أنه ينبغى أن يكون انبعثت القوة المنبثة فى العضلات وحركت الأوتار وحصل منه حركة الأعضاء الآلية وحصل الفعل المطلوب كما نتخيل صورة الخط الذى نريد كتبته ونتوهم انه ينبغى أن يكون فتنبعث قوة الشوق اليه فيتحرك به اليد والقلم وتحصل صورة الخط كما تصورناه ومعنى قولنا أنه ينبغى أن يكون أن نعلم أو نظن أنه نافع لنا أو لذيذ لنا أو خير فى حقنا فاذا حركة اليد حصلت من القوة الشوقية وحركة القوة الشوقية حصلت من التصور والعلم بأن الشىء ينبغى أن يكون فقد وجدنا العلم فينا سببا لحصول شىء وأظهر من هذا أن الذى يمشى على جذع ممدود بين حائطين مرتفعين غاية الارتفاع يتوهم فى نفسه السقوط فيسقط أى يحصل السقوط بتوهمه ولو كان ممدودا على الأرض فيمشى عليه ولا يسقط لأنه لا يتوهم السقوط ولا يستشعره فيكون تصور السقوط وحضور صورته فى الخيال سببا لحصول المتصور فقد صادفنا المثال من مشاهدة النفس فنعود إلى الأول فنقول فعل الأول إما أن يصدر عنه كما تصدر الحركة من القوة الشوقية وهو محال لأن الشوق والشهوة محال عليه فانه طلب لأمر مفقود الأولى حصوله وليس فى واجب الوجود شىء بالقوة يطلب حصوله بحال كما سبقت أدلته فلا يبقى إلا أن يقال أن تصوره لنظام الكل سبب لفيضان النظام عنه وأما نحن فان تصورنا لصورة الخط والنقش لا يكون كافيا لوجود صورة الخط من حيث أن الأمور فى حقنا منقسمة إلى ما يوافقنا وإلى ما يخالفنا فافتقرنا إلى قوة شوقية تخلق لنا فى بعض الآلات نعرف الموافقة والمخالفة بالاضافة اليها فاذا انبعثت افتقرنا إلى آلات وأعضاء نحركها فى التحصيل لمقصودنا وأما الأول فنفس تصوره كاف لحصول المتصور ويفارقنا من وجه آخر وهو أنا لا بد أن نعلم أو نظن أو نتخيل أن ذلك الفعل خير لنا وذلك فى حق الأول محال لأن ذلك يوجب الغرض وقد بينا أن الغرض لا يحرك إلا ناقصا فيكون إرادتنا باعتبار تخيلنا أنه خير لنا ويكون إرادته للنظام الكلى باعتبار علمه بأنه خير فى نفسه وأن الوجود خير من العدم في ذاته وأن الوجود يمكن على أقسام وأن الأتم والأكمل من جملة تلك الأقسام واحد وما عداه ناقص بالاضافة اليه والأكمل خير من الأنقص وذات الأول ذات يفيض منه لا محالة كل وجود على الوجه الأتم والأكمل على ترقيه الممكن فيه إلى غاية النظام ويكون معنى عنايته بالخلق أنه علم مثلا أن الانسان يفتقر إلى آلة باطشة لو لم تكن له لكان ناقصا ولكان شرا في حقه وأن الآلة الباطشة ينبغى أن تكون مثل اليد والكف وانه لا بد وأن تكون رؤوسها منقسمة بالأصابع إذ لو لم يكن لامتنع البطش وأن الأصابع يمكن أن يكون لها أوضاع كثيرة وأن تكون الخمسة فى صف واحد كما أن الأربعة فى صف واحد ويمكن أن تكون الأربعة فى صف والابهام فى مقابلتها من حيث يدور على جميعها ويمكن أن يكون فى صفين وعلى وجوه مختلفة وإن ما يراد من اليد في اختلاف حركاتها ليكون باطشا مرة وضاربا أخرى ودافعا تارة لا يكمل إلا بهذه الصورة المشاهدة فيكون علمه به سببا لوجوده نعم نسبة علمه إلى سائر الأوضاع واحد ولكن يعين هذا الوضع ويميزه عن سائر الأوضاع لأن الخير والكمال فيه وذاته ذات يترجح فيه فيضان الخير منه على فيضان الشر ولست أريد الخير والشر فى حقه بل فى نفسه وبالاضافة إلى الخلق فاذا جميع الموجودات من عدد الكواكب ومقدارها وهيئة الأرض والحيوانات وكل موجود فانما وجد على الوجه الذى وجد لأنه أكمل وجوه الوجود وما عداه من الامكانات ناقص بالاضافة اليه بل لو خلق الأعضاء الآلية للحيوانات ولم يهدها إلى وجه استعمالها كان أيضا معطلا فقد خلق المنقار للفرخ الذى ينفلق منه البيض فلو لم يهده إلى استعماله واشتغل فى الحال بالالتقاط لكان معطلا فتمت العناية بتمام الخير وتم الخير بالهداية بعد الخلق كما أخبر عنه الله تعالى إذ قال (الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) وقال عز وعلا (هو الذى خلقنى فهو يهدين) وقال سبحانه (والذى قدر فهدى) فهذا معنى الارادة والعناية وهو راجع إلى العلم لا يزيد عليه والعلم لا يزيد على الذات كما سبق فاما أن يكون فعله لغرض أو من غير علم فلا فان قيل وأى بعد فى أن يكون له قصد كما لنا قصد مع العلوم فيكون قصده إفاضة الخير على الغير لا لأجل نفسه كما أنا قد نقصد إنقاذ غريق لا لغرض بل نريد إفاضة الخير قيل القصد من ضرورته أن يكون المقصود أولى بالقاصد من نقيضه وذلك يشعر بالغرض والغرض يدل على النقص وأما نحن فلا يتصور منا قصد إلا لغرض وهو طلب ثواب أو محمدة أو أن نكتسب خلق الفضيلة فى أنفسنا بفعل الخير فلو كان الفعل وعدمه بمثابة واحدة فى حقنا استحال أن يكون لنا قصد وانبعاث اليه إذ لا معنى للقصد إلا الميل إلى مايقدر موافقا فان لم يعن بالقصد هذا فهو لفظ محض لا مفهوم له.

(الدعوى الثامنة): كونه قادرا وبرهانه إن القادر عبارة عمن إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل وهو بهذه الصفة فانا قد بينا أن مشيئته علمه وإن ما علم أن الخير فيه فقد كان وما علم أن الأولى به أن لا يكون لم يكن* فان قيل كيف يصح هذا ولا يقدر على إفناء السموات والأرض عند هؤلاء فيقال لو أراد لأفناهما إلا أنه ليس يريد وقد سبقت مشيئته الأزلية بالوجود على الدوام ولأن الخير فى الوجود الدائم لا فى الفناء والهلاك والقادر قادر باعتبار أنه يفعل إن شاء لا باعتبار أنه لا بد وأن يشاء إذ يقال فلان قادر على أن يقتل نفسه وإن علم أنه لا يقتل وهو صادق والله تعالى قادر على إقامة القيامة الآن وإن كنا نعلم أنه ليس يفعله وعلى الجملة خلاف المعلوم مقدور فاذا هو قادر على كل ممكن بمعنى أنه لو أراد لفعل وقولنا لو أراد لفعل شرطى متصل وليس من شرط صدق الشرطى أن تصدق الجملتان من جزئيه بل يجوز أن يكونا كاذبين أو أحدهما ويكون هو صادقا فقول القائل الانسان لو طار لتحرك فى الهواء فهو صادق وكلا جزئيه كاذبان ولو قال لو طار الانسان لكان حيوانا فهوصادق ومقدمه كاذب وتاليه صادق* فان قيل قولكم لو أراد لفعل يشعر بأنه يتصور أن يستأنف إرادة شىء وهذا يدل على التغير قيل العبارة الصحيحة أن يقال هو قادر بمعنى أن كل ما هو مريد له فهو كائن وما ليس مريدا له فغير كائن والذى هو مريد له لو جاز أن لا يكون مريدا له لما كان والذى ليس هو مريدا له لو جاز أن يريده لكان فهذا معنى قدرته وإرادته وقد رجعا جميعا إلى علمه ورجع علمه إلى ذاته فلم يوجب شىء منه كثرة فيه.

(الدعوى التاسعة): إن الأول حكم لأن الحكمة تطلق على شيئين.

(أحدهما): العلم وهو تصور الأشياء بتحقق الماهية والحد والتصديق فيها باليقين المحض المحقق.

(والثانى): الفعل بأن يكون مرتبا محكا جامعا لكل ما يحتاج اليه من كمال وزينة والأول عالم بالأشياء على ما هى عليه علما هو أشرف أنواع العلوم فان علمنا ينقسم إلى ما لا يحصل به وجود المعلوم كعلمنا بصورة السماء والكواكب والحيوان والنبات وإلى ما يحصل به وجود المعلوم كعلم النقاش بصورة النقش الذى يخترعه من تلقاء نفسه من غير مثال سابق يحتذيه فيوجد النقش منه فيكون علمه سبب وجود المعلوم فاذا نظر اليه غيره وعرفه كان المعلوم فى حقه سبب وجود العلم والعلم الذى يفيد الوجود أشرف من العلم المستفاد من الوجود وعلم الأول بنظام الوجود هو مبدأ نظام الكل كما سبق فهو أشرف العلوم وأما نظام أفعاله ففى غاية الاحكام إذ أعطى كل شىء خلقه ثم هدى وأنعم عليه بما هو ضرورى له وبكل ما هو محتاج اليه وإن لم يكن فى غاية الضرورة وبكل ما هو زينة وتكملة وإن لم يكن فى محل الحاجة كتقويس الحاجبين وتقعير أخمص القدمين وإنبات اللحية الساترة لتشنج البشرة فى الكبر الى غير ذلك من لطائف تخرج عن الحصر فى الحيوان والنبات وجميع أجزاء العالم.

(الدعوة العاشرة): إنه جواد لأن إفادة الخير والانعام به منقسم إلى ما يكون لفائدة وغرض يرجع إلى المفيد وإلى ما ليس كذلك والفائدة تنقسم إلى ما هو مثل المبذول كمقابلة المال بالمال وإلى ما ليس مثلا كمن يبذل المال رجاء الثواب أو المحمدة أو اكتساب صفة الفضيلة وطلب الكمال به وهذه أيضا معاوضة ومعاملة وليس بجود كما أن الأول معاملة وإن كان العوام يسمون هذا جودا بل الجود هو إفادة ما ينبغى من غير عوض فان واهب السيف ممن لا يحتاج اليه ليس بمنعم والأول قد أفاض الوجود على الموجودات كلها كما ينبعى وعلى ما ينبغى من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو زينة وكل ذلك بلا عوض ولا فائدة بل ذاته ذات يفيض منه على الخلق كلهم كل ما هو لائق بهم وهو الجواد الحق واسم الجواد على غيره مجاز.

(الدعوى الحادية عشر): أن الأول مبتهج بذاته وإن عنده من المعنى الذى يعبر عن نظيره فى حقنا باللذة والطرب والفرح والسرور بجمال ذاته وكماله ما لا يدخل تحت وصف واصف وإن الملائكة المقربين الذين سيقام البرهان على وجودهم من الابتهاج واللذة بمطالعة جمال الحضرة الربوبية ما يزيد على ابتهاجهم بجمال أنفسهم ويعرف هذا بتقدمة أصول.

(الأصل الأول): أن نعرف معنى اللذة والألم فان كان يرجع إلى أمر زائد على إدراك مخصوص لم يتصور فى حقه وإن رجع إلى إدراك موصوف بصفة وثبت أن إدراكه على تلك الصفة تثبت الدعوى لا محالة واللذة والألم بالضرورة يرتبطان بالادراك فحيث لا إدراك فلا لذة ولا ألم والادراك فى حقنا نوعان حسى وهو الظاهر المتعلق بلذة الحواس الخس وباطنى وهو العقلى والوهمى وكل واحد من هذه الادراكات ينقسم باعتبار نسبة متعلقها إلى القوة المدركة بثلاثة أقسام.

(أحدها): إدراك ماهو ملائم للقوة المدركة وموافق لطبعها.

(والثانى): إدراك المنافى.

(والثالث): إدراك ما ليس بمناف ولا بملائم فاللذة عبارة عن إدراك الملائم فقط والألم عبارة عن إدراك المنافى* وأما إدراك ما ليس بملائم ولا بمناف فليس يسمى لا ألما ولا لذة ولا ينبغى أن تظن أن الألم عبارة عن صفة تتبع إدراك المنافى بل هو عينه فلا يتصور ملاقاة المنافى للقوة المدركة مع الادراك إلا ويصدق اسم الألم ويتحقق معناه وإن قدر عدم كل ما سواه وكذا اللذة فالادراك اسم عام وينقسم إلى لذة وإلى ألم وإلى ما ليس بألم ولا لذة فهما غير زائدين عليه.

(الأصل الثانى): أن يعرف أن ملائم كل قوة فعلها الذى هو مقتضى طبعها من غير آفة فان كل قوة خلقت ليصدر منها فعل من الأفعال وذلك الفعل مقتضى طبعها فمقتضى طبع القوة الغضبية الغلبة وطلب الانتقام ولذتها هى إدراك الغلبة ومقتضى طبع الشهوة الذوق ومقتضى الخيال والوهم الرجا وبه يلتذ وهكذا لكل قوة من القوى.

(الأصل الثالث): أن العاقل الكامل تقوى فيه القوى الباطنة على القوى الظاهرة ويستحقر لذات القوى الحسية عند لذات القوى العقلية والوهمية والناقص تقوى فيه القوى الحسية على القوى العقلية والوهمية ولذلك إذا خير المرء بين الحلو الدسم وبين الاستيلاء على الأعداء ونيل أسباب الرياسة والعلا فان كان الخير ساقط الهمة ميت القلب خامد القوى الباطنة اختار الهريسة والحلاوة عليه وإن كان المخير على الهمة رزين العقل استحقر لذة المطعوم بالاضافة إلى ما ينال من لذة الرياسة والغلبة على الأعداء ونعنى بالساقط الهمة الناقص فى نفسه الذى ماتت قواه الباطنة أو لم يتم بعد حياتها كالصبى فان قواه الباطنة بعد لم تخرج من القوة الى الفعل.

(الأصل الرابع): إن كل قوة فانما لها لذة إدراك ما هى قوة عليه إذا كان موافقا لها ولكن تتفاوت اللذات بحسب تفاوت الادراكات والقوى المدركة والمعانى المدركة فهذه ثلاثة مثارات لتفاوت اللذات المثارة.

(الأول): تفاوت القوى المدركة فكلما كانت القوى أقوى فى نفسها وأشرف في جنسها كانت لذتها أتم فان لذة الطعام بحسب قوة شهوة الطعام ولذة الجماع كذلك ولذة العقليات أشرف في جنسها من لذة الحسيات فلذلك غلبتها حتى اختار العاقل اللذات العقلية على المأكولات والمحسوسات.

(والثانى): تفاوت الادراكات فكلما كان الادراك أشد كانت اللذة أتم ولذلك لذة النظر للوجه الجميل على قرب وفى موضع مضى أتم من لذته في إدراكه من بعد لأن إدراكه من القرب أشد.

(والثالث): تفاوت المدرك فانه أيضا يتفاوت فى باب الملائمة والمخالفة فكل ما كان أتم في جهته كانت اللذة أو الألم أتم كما تتفاوت اللذة بتفاوت الوجوه فى الحسن والقبح فاللذة من الأحسن أكثر لا محالة والألم من الأقبح أكثر.

(الأصل الخامس): وهو نتيجة الأصول السابقة أن اللذة العقلية التى لنا لا بد وأن تكون أقوى من اللذات الحسية فانا إن نظرنا إلى القوة وجدنا القوة العقلية أقوى وأشرف من الحسية إذ سنبين فى كتاب النفس أن القوى الحسية لا تكون إلا فى آلات جسمانية وأنها تفسد بادراك مدركاتها إذا قويت إذ لذة العين فى الضوء وألمه فى الظلمة والضوء القوى يفسدها وكذا الصوت القوى يفسد السمع ويمنعه من إدراك الخفى بعده والمدركات العقلية الجلية تقوى العقل وتزيده نورا وكيف لا والقوة العقلية قائمة بنفسها لا تقبل التغير والاستحالة والحسية فى جسم مستحيل وأقرب الموجودات الأرضية إلى الأول وأشدها مناسبة هى القوة العقلية م كما سيأتى* وأما إدراك العقل فيفارق إدراك الحس من وجوه إذ يدرك العقل الشىء على ما هو عليه من غير أن يقرن به ما هو غريب عنه والحس لا يدرك اللون ما لم يدرك معه العرض والطول والقرب والبعد وأمورا أخر غريبة عن ذات اللون والعقل يدرك الأشياء مجردة كما هى ويجردها عن قرائنها الغريبة وأيضا فادراك الحس يتفاوت فيرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا وإدراك العقل يطابق المدرك ولا يتفاوت بل إما أن يدركه كما هو عليه أو لا يدركه وأما المدرك فمدركات الحس الأجسام والأعراض الخسيسة المتغيرة ومدركات العقل الماهية الكلية الأزلية التى يستحيل تغيرها ومن مدركاتها ذات الأول الحق الذى يصدر منه كل جمال وبهاء فى العالم فاذا لا قياس للذة الحسية إلى العقلية.

(الأصل السادس): إنه لا يبعد أن يحضر المدرك الموجب للذة ولا يشعر الانسان بلذته لكونه غافلا أو مشغولا بآفة غيرت مزاجه عن طبعه كالمتفكر الغافل عن الألحان الطيبة أو لكونه ممنوا بآفة غيرت مزاجه عن طبعه كالذى يستلذ أكل الطين أو شيئا حامضا لطول إلفه فان طول الممارسة ربما يحدث ملائمة بين طبعه وبينه فيستلذ ما هو مكروه بالاضافة إلى الطبع الأصلى وكالذى به مرض (يوليموس) فان جميع أجزائه محتاج إلى الغذاء وفى معدته آفة تمنعه من الاحساس بشهوة الطعام وتوجب كراهية له وذلك لا يدل على أن الطعام ليس لذيذا فى نفسه بالاضافة إلى الطبع الأصلى وقد يكون عدم إدرك اللذة لضعف القوة المدركة فالبصر الضعيف قد يتأذى بازاء ضوء وإن كان ذلك موافقا ولذيذا بالاضافة إلى الطبع السليم فاذن بهذا يندفع سؤال من يقول لو كانت العقليات ألذ لكانت لذتنا بالعلوم وألمنا بفقدها يزيد على لذاتنا بالحسيات وألمنا بفقدها فيقال سبب ذلك خروج النفس عن مقتضى الطبع بالعادات الرديئة والآفات العارضة ووقوع الالف مع المحسوسات واشتغال النفس بمقتضى الشهوات فان ذلك نازل في القلب والنفس بمنرلة المرض والخدر في العضو وقد يصيب العضو الخدر نار تحرقه وهو لا يحس بها فاذا زال الخدر أحس والنائم قد يعانقه معشوقه وكذا المريض المغشى عليه فاذا أفاق أحس وعوارض البدن أوجبت مثل هذا الخدر فاذا فارق النفس البدن بالموت أدرك ما هو حاصل لنفس من ألم الجهل إن كان جاهلا ردىء الخلق ولذة العلم إن كان عالما ذكى الطبع* فنرجع إلى المقصود ونقول إن الأول مدرك لذاته على ما هو عليه من الجمال والبهاء الذى هو مبدأ كل جمال وبهاء ومنبع كل خير ونظام فان نظرنا إلى المدرك فهو أجل الأشياء وأعلاها وإن نظرنا إلى الادراك فهو أشرفها وأتمها وإن نظرنا إلى المدرك فهو كذلك فهو إذا أقوى مدرك الأجل مدرك بأتم إدراك لما هو عليه من العظمة والجلال فلينظر الانسان إلى سروره بنفسه إذا استشعر كماله في الاستعلاء بالعلم على الكل والاستيلاء بالغلبة والملك على جميع الأرض إذا انضاف اليه صحة البدن وجمال الصورة وانقياد كافة الخلق فان ذلك لو تصور اجتماعه لشخص لكان في غاية للذة مع إن كل ذلك مستعار من الغير ومعرض للزوال ولا يرجع إلا الى معرفة بعض المعلومات والاستيلاء على جزء من الكائنات وهو الأرض التى لا نسبة لوجودها الى أجسام العالم فضلا عن الجواهر العقلية والنفسية* فقياس لذة الأول الى لذاتنا كقياس كماله الى كمالنا اذا فرضت لنا مثل هذه الحالة* وقد قال (ارسطاطاليس) لو لم يكن له من اللذة بادراك جمال ذاته إلا ما لنا من اللذة بادراكه مهما التفتنا الى جماله وقطعنا نظرنا عما دونه واستشعرنا عظمته وجماله وجلاله وحصول الكل على أحسن النظام منه وانقيادها له على سبيل التسخير ودوام ذلك أزلا وأبدا من غير إمكان تغير لكانت تلك اللذة لا يقاس بها لذة كيف وإدراكه لذاته لا يناسب إدراكنا له فانا لا ندرك من ذاته وصفاته إلا أمورا مجملة يسيرة وأما الملائكة فانها تعرف أيضا أنفسها بالأول وهم على الدوام فى مطالعة ذلك الجمال على ما سيأتى بيانه فلذتهم أيضا دائمة ولكنها دون لذة الأول بل لذتهم بادراك الأول فوق لذتهم بادراك أنفسهم بل كانت لذتهم بأنفسهم من حيث رأوا أنفسهم عبيدا له مسخرين ومثاله الذى يعشق ملكا من الملوك فأقبل عليه وقبله لخدمته كان تبجحه وابتهاجه وتفاخره بمشاهدة جمال الملك وكونه عبدا مقبولا عنده أكثر من تبجحه بجسمه وقوته وأبيه ونسبه وكما أن سرورنا أكمل من سرور البهائم لما بيننا وبينها من التفاوت فى الكمال بالقدرة والعقل واعتدال الخلقة فسرور الملائكة أيضا أكثر من سرورنا وإن لم يكن لهم شهوة البطن والفرج وذلك لقربهم من رب العالمين وأمنهم من زوال ما هم فيه أبد الدهر والانسان له سبيل الى أن يكتسب سعادة أبدية بأن يخرج القوة العقلية من القوة الى الفعل بأن ينتقش فيها الوجود كله على ترتيبه فيدرك الأول والملائكة وما بعدها من الموجودات وربما يحس بأدنى لذة من الاطلاع عليها فى هذه الحياة مع اشتغاله بالبدن فاذا فارق البدن بالموت وارتفع المانع تكاملت اللذة وانكشف الغطاء ودامت السعادة أبد الآبدين ويلتحق بالملأ الأعلى ويكون رفيق الملائكة فى القرب من الأول الحق قربا بالصفة لا بالمكان فهذا معنى السعادة فقط.

(خاتمة القول في الصفات) قد ظهر لك من هذه الجملة أنك لا تعرف الغائب إلا بالشاهد ومعناه أن كل ما سألت عن كيفيته فلا سبيل إلى تفهيمك إلا أن يضرب لك مثال من مشاهداتك الظاهرة بالحس أو الباطنة فى نفسك بالعقل فاذا قلت كيف يكون الأول عالما بنفسه فجوابك الشافى أن يقال كما تعلم أنت نفسك فتفهم الجواب وإذا قلت كيف يعلم الأول غيره فيقال كما تعلم أنت غيرك فتفهم فاذا قلت فكيف يعلم بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال كما تعرف جواب مسألة دفعة واحدة من غير تفصيل ثم تشتغل بالتفصيل فاذا قلت فكيف يكون علمه بالشىء مبدأ وجود ذلك الشىء فيقال كما يكون توهمك السقوط على الجذع عند المشى عليه مبدأ السقوط فاذا قلت فكيف يعلم الممكنات كلها فيقال يعلمها بالعلم بأسبابها كما تعلم حرارة الهواء فى الصيف القابل لمعرفتك تحقيقا بأسباب الحرارة فاذا قلت كيف يكون ابتهاجه بكماله وبهائه فيقال كما يكون ابتهاجك به إذا كان لك كمال تتميز به عن الخلق واستشعرت ذلك الكمال والمقصود أنك لا تقدر على أن تفهم شيئا من الله إلا بالمقايسة إلى شىء فى نفسك نعم تدرك من نفسك أشياء تتفاوت فى الكمال والنقصان فتعلم مع هذا أن ما فهمته فى حق الأول أشرف وأعلى مما فهمته فى حق نفسك فيكون ذلك إيمانا بالغيب محملا وإلا فتلك الزيادة التى توهمتها لا تعرف حقيقتها لأن مثل تلك الزيادة لا يوجد فى حقك فاذا إن كان فى الأول أمر ليس له نظير فيك فلا سبيل لك إلى فهمه البتة وذلك هو ذاته فانه وجود بلا ماهية زائدة على الوجود وهو منبع كل وجود فاذا قلت كيف يكون وجود بلا ماهية فلا يمكننا أن نضرب لك مثلا من نفسك ولا يمكنك إذا فهم حقيقة الوجود بلا ماهية وحقيقة ذات الأول وخاصيته هو أنه وجود بلا ماهية زائدة على الوجود وإن إنيته وماهيته واحد وهذا لا نظير له فيما سواه فان ما سواه جوهر أو عرض وهو ليس بجوهر ولا عرض وهذا أيضا لا تحققه الملائكة فانهم أيضا جواهر وجودها غير ماهيتها وإنما الوجود بلا ماهية ليس إلا الله تعالى فاذا لا يعرف الله إلا الله * فان قلت فعلمنا أنه وجود بلا ماهية زائدة وإن حقيقته الوجود المحض هو علم بماذا إن لم يكن علما به* قلنا هو علم بأنه موجود وهذا أمر عام وقولك أنه ليس غير الماهية بيان أنه ليس مثلك فهو علم بنفى المماثلة لا بالحقيقة المنزهة عن المماثلة كعلمك بأن زيدا ليس بصائغ ولا نجار فانه ليس علما بصنعته بل هو علم بنفى شىء عنه وعلمك بارادته وقدرته وحكمته يرجع كله إلى علمه بنفسه وبغيره وعلمك بأنه عالم بنفسه كانه علم بلازم يحمل من لوازم ذاته لا بحقيقة ذاته فان حقيقة ذاته هو الوجود المحض بلا ماهية زائدة * فان قلت فكيف السبيل إلى معرفة الله تعالى فيقال أن تعرف بالبرهان أن معرفته محال وأنه لا يعرفه غيره وأن الذى يتصور أن يعلم منه افعاله وصفاته ووجوده المرسل ونفى المثل عنه وأن تفهم وجود بلا ماهية لمن ليس فى نفسه وجودا بلا ماهية حتى يقيسه به محال ووجود بلا ماهية زائدة ليس الا له فلا يعرفه سواه ولهذا قال سيد الانس والجن (أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصى ثناء عليك) ولذلك قال الصديق الأكبر (العجز عن درك الادراك إدراك) نعم الناس كلهم عاجزون عن إدراكه ولكن الذى يعلم بالبرهان المحقق استحالة إدراكه فهوعارف مدرك أى مدرك لغاية ما يتصور للبشر أن يدركه ومن عجز ولم يدر أن العجز ضرورى بالبرهان الذى ذكرنا فهو جاهل به وهو كافة الخلق إلا الأولياء والأنبياء والعلماء الراسخون فى العلم.

(المقالة الرابعة): إذ فرغنا من ذكر صفات الأول فلا بد من ذكر أفعاله أعنى أقسام جميع الموجودات فان كل ما سواه هو فعله حتى إذا عرفنا أقسام الموجودات ذكرنا فى المقالة الخامسة كيفية صدورها منه وكيفية ترتب سلسلة الأسباب والمسببات منه مع كثرتها ثم رجوعها بالآخرة إلى سبب واحد هو سبب الأسباب والكلام فى هذه المقالة نحصره فى مقدمة وثلاثة أركان.

(الأول): القول فى الأجسام التى هى فى مقعر فلك القمر وكيفية دلالتها على وجود السموات وحركاتها.

(والثانى): فى السموات وسبب حركاتها.

(والثالث): القول فى النفوس والعقول التى يعبر عنها بالملائكة الروحانية السماوية والكروبيين.

أما المقدمة ففيها تقسيمات ثلاث.

(الأول): إن الجواهر الموجودة باعتبار التأثر والتأثير تنقسم فى العقل بحسب الامكان الى ثلاثة أقسام مؤثر لا يتأثر ويعبر عنه اصطلاحا بالعقول المجردة وهى جواهر ليست منقسمة ولا مركبة ومتأثر لا يؤثر وهى الأجسام المتحيزة المنقسمة ومؤثر متأثر يتأثر من العقول ويؤثر فى الأجسام وتسمى النفوس وهى أيضا لا تتحيز وليست بجسم وأشرف الأقسام العقول التى لا تتغير ولا تحتاج الى استعارة أثر وكمال من غيرها فكمالها حاضر معها وليس فيها شىء بالقوة وأخسها الأجسام المستحيلة المتغيرة وأوسطها النفوس التى هى واسطة بين العقول والأجسام والنفوس تتلقى من العقول أثرا وتفيض على الأجسام أثرا وهذه أقسام يقضى العقل بامكانها أما وجودها فيحتاج الى برهان* نعم الأجسام معلومة الوجود بالحس وأما النفوس فيدل عليها حركات الأجسام وأما العقول فيدل عليها النفوس كما سياتي.

(تقسيم ثانى): الموجودات باعتبار النقصان والكمال تنقسم الى ما هو بحيث لا يحتاج الى أن يمده غيره ليكتسب منه وصفا بل كل ممكن له فهو موجود له حاضر ويسمى تاما والى ما لا يحضر معه كل ممكن له بل لا بد من أن يحصل له ما ليس حاصلا وهذا يسمى ناقصا قبل حصول التمام له ثم الناقص ينقسم الى ما لا يحتاج الى أم خارج من ذاته حتى يحصل له ما ينبغى أن يحصل وهذا يسمى مكتفيا والى ما يحتاج اليه ويسمى الناقص المطلق* وأما التام فان كان قد حصل له ما ينبغى وكان بحيث يحصل لغيره منه أيضا يسمى فوق التمام لأنه فى نفسه تام وكأنه فضل منه لغيره.

(تقسيم ثالث للأجسام خاصة): قد سبق أن الأجسام أخس أقسام الموجودات وهومنقسم إلى بسيط وإلى مركب أعنى انقساما فى العقل بالامكان وإن كان فى الوجود أيضا هوكذلك ونعنى بالبسيط الذى له طبيعة واحدة كالهواء والماء وبالمركب الذى يجمع طبيعتين كالطين المركب من الماء والتراب وقد يحصل بالتركيب فائدة ليس فى البسائط كفائدة الحبر فانها لا توجد فى العفص والزاج ولكن البسيط هو أصل المركب وهو متقدم عليه فى الوجود لا محالة بالرتبة وبالزمان والبسيط بالقسمة العقلية أيضا ينقسم إلى ما يتأتى منه التركيب وإلى ما لا يتأتى ونعنى بما يقبل التركيب هو الذى يحصل من تركيبه فائدة ليست فى بسائطه والذى لا يتركب هو الذى وجد كما له فى بساطته فلا يتصور زيادة عليه فى تركيبه فاذا تمهدت هذه المقدمات فلنرجع إلى الركن الأول وهو القول فيما يدل عليه الأجسام السفلية فنقول وجود الأجسام تحت مقعر فلك القمر معلوم بالمشاهدة وهى قابلة للتركيب فان الطين مثلا مركب من الماء والتراب فنقول هذا التركيب المشاهد يدل على وجود الحركة المستقيمة وتدل الحركة من حيث مسافتها على ثبوت جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع ويدل اختلاف الجهتين على وجود جسم محيط بها وهو السماء وتدل الحركة من حيث حدوثها على أن لها سببها ولسببها سببا إلى غير النهاية فلا يمكن ذلك إلا بحركة السماء حركة دورية وتدل الحركة أيضا فى الجسم على ميل فيه طبيعى وعلى طبع محرك وعلى زمان فيه الحركة* فلنذكر وجه هذه الدلالات واللوازم.

(فاللازم الأول): من التركيب الحركة المستقيمة ووجهه (فاللازم الأول): من التركيب الحركة المستقيمة ووجهه أن الماء له حيز والتراب له حيز وكل واحد طبيعى إذ لا بد لكل جسم من مكان طبيعى كما سيأتى في الطبيعيات فلا يحصل التركيب إلا بحركة أحدهما إلى حيز الآخر إذ لو لازم كل واحد حيزه لبقيا متجاوزين غير مركبين فهذا ظاهر فاذا العقل يقضى قبل النظر فى الوجود إلى أنه إن كان فى الوجود تركيب من بسيطين فلا يمكن إلا بحركة مستقيمة وإن كانت حركة فلا يمكن إلا عن جهة وإلى جهة فيحتاج إلى جهتين وهذا ظاهر فلا بد أن يكون محدودتين ومختلفتين بالطبع أما اختلافهما بالطبع والنوع فانما يلزم من حيث إن الحركة إما أن تكون طبيعية أو قسرية كما سيأتى فالطبيعة كحركة الحجر إلى أسفل وهى توجب أن يكون الحيز الذى يتركه مخالفا للذى يطلبه إذ لو تشابها لاستحال أن يهرب من أحدهما ويطلب الآخر ولهذا لا يتحرك الحجر طبعا على وجه الأرض إذ بسيط الأرض متشابه فى حقه فبالضرورة ينبغى أن تكون الجهة المهروب عنها مخالفة للجهة المطلوبة المقصودة وإن كانت قسرية كحركة الحجر الى فوق فمعنى القسرية أن يكون على خلاف الطبع فينبغى أن يكون فيه ميل طبيعى الى جهة دون جهة حتى يتصور القسر وكل قسر فهو مرتب على الطبع وقد بان أن الميل الطبيعى الى جهة دون جهة يوجب بالضرورة اختلاف الجهتين* وأما كونهما محدودتين فمعناه أن جهة السفل مثلا ينبغى أن يكون لها مردا اذا انتهى اليه انقطع فيكون منقطعه حده ونهايته وكذا جهة العلو وذلك لأدلة ثلاثة.

(أحدها): أن الجهة إنما تكون فى بعد لا محالة يشار اليه باليد إشارة حسية إذ الأمرالعقلى الذى لا إشارة اليه لا يتصور أن يكون فيه حركة الجسم وقد ذ كرنا أن بعدا بلا نهاية محال فرض فى الخلاء أو فى الملاء.

(الثانى): أن المفهوم من الجهة يقتضى أن يكون إلى حد معين فاذا قلت ينبغى أن يشير إلى جهة الشجر أو الجبل أو الشرق أو الغرب فينبغى أن يكون الشجر الذى الجهة جهته مشارا اليه وكل ما لا ينتهى اليه سلوك فلا إشارة اليه وما لا إشارة اليه فلا جهة له* نعم يكون الشجر مردا واحدا لجهة الشجر فان فرض البعد بينك وبين الشجر غير متناه لم يتصور الاشارة اليه وكذلك إذا قلت جهة السفل اقتضى أن يكون للسفل مردا واحدا معينا ينتهى اليه أسفل السافلين وأن يكون للعلو كذلك وإلا فلو تمادت إلى غير نهاية لم يمكن اليها إشارة البتة.

(الثالث): هو أنك تعقل أن تكون الأشياء الواقعة فى جهة السفل بعضها أسفل من بعض فان لم يكن للسفل مرد معين وحد مشار اليه حتى يكون الأقرب اليه أسفل والأبعد منه أعلى فلا معنى لكون البعض أسفل بل ينبغى أن يكون تلك الجهة متشابهة فلا يكون فيها أسفل وأعلى فما لم يكن سفل لا يكون أسفل فاذا لا بد من جهتين مختلفتين محدودتين لكل حركة مستقيمة والجهة بعد ولا بعد إلا فى جسم كما سيأتى فى استحالة الخلاء فلا بد من جسم محدود يحدد الجهات حتى يتصور الحركة.

(الدعوى الثانية اللازمة من الأول): أن الجسم المحدد للجهات لا بد وأن يكون محيطا بالجسم المستقيم الحركة إحاطة السماء بما فيها فانه لا يتصور اختلاف الجهتين بالنوع والطبع إلا بحسم محيط ليكون المركز غاية البعد والمحيط غاية القرب ويكون بين القرب والبعد غاية الاختلاف بالنوع والطبع* وبرهانه أن اختلاف الجهة لا يخلو إما أن يكون فى خلاء أو فى ملاء وباطل أن يكون فى الخلاء لاستحالة الخلاء ولأن الخلاء إن فرض فهو متشابه فلا يكون بعضه مخالفا للبعض حتى يتعين لجسم منه جهة دون جهة وإذا كان فى ملاء أعنى فى جسم فلا يخلو إما أن يكون اختلاف الجهة داخل الجسم أو خارجه فاذا كان داخل الجسم فليس فى داخل الجسم اختلاف إلا بالمركز والمحيط فان الجسم إذا كان مجوفا كان المحيط غاية القرب منه والمركز غاية البعد فان فرض من المحيط إلى المحيط اختلاف جهة بحيث لا يمر على المركز وهو الخط الذى يقطع الدائرة بقسمين متفاوتين حتى يقال إحدى النقطتين مخالفة للأخرى فهو محال إذ ليس بينهما إلا اختلاف العدد وإلا فهما بالطبع متشابهان إذ لكل واحد منهما قرب من المحيط المتشابه وإذا فرض قطر مار على المركز استحال تقدير اختلاف الجهتين عند نقطتى القطر فان كل واحد قريب من المحيط المتشابه فلا يكون فيه اختلاف إلا بالمركز والمحيط إذ لو جاوز المركز وقع من البعد فى القرب فيكون المركز حد البعد والمحيط حد القرب وإن فرض اختلاف الجهة خارج الجسم فهو محال لأنه لا يخلو إما أن يفرض جسم واحد كالمركز ويفرض الجهات حواليه أو جسمان فان كان واحدا تعين القرب منه ولم يتحدد جهة البعد فان الأحياز حواليه متشابهة لا يخالف بعضها بعضا إلا بالعدد والبعد منه ليس له حد محدود وقد بينا أن الجهة لا بد لها من الحد وإنما لم يتعين البعد لأن المركز يتصور أن يقع عليه دوائر متفاوتة فى البعد إلى غير نهاية فالمركز لا يعين المحيط والمحيط يعين مركزا واحدا بالضرورة وإن فرض جسمان وقيل قرب أحدهما مخالف للآخر فهو محال لأن السؤال في اختصاص كل واحد من الجسمين بالموضع الذى اختص به قائم لأنه ما لم يوجد الجهة أولا لا يوجد مثل هذا الجسم على أنه لا يختلق بالطبع القرب من أحدهما مع القرب من الآخر إن تشابه الجسمان وإن اختلفا فاختلافهما لا يوجب تعين الجهتين وتحددهما بهما بل السؤال يبقى فى اختصاص كل جسم فى الحيز الذى اختص به إنه لم اختص به ولم يتميز حيز عن آخر بالقرب من شىء آخر والبعد منه والخلاء متشابه و لأنه إن فرض ذلك ثم قدر تبديل الحيزين على الجسمين حتى نقل كل واحد إلى مكان صاحبه لم يقتض ذلك زوال اختلاف الجسمين وقد تبدل الجهتان ولو قدر عدم أحدهما بقى ما توهم من اختلاف الجهتين مهما قدر بقاء البعد مع أحد الجهتين وبطل الجسم ولو قدر تركيب الجسمين لبطل اختلاف الجسمين وبقى اختلاف الجهتين فظهر أن اختلاف الجسمين لا يكون علة اختلاف الجهتين وإن ذلك لا يتصور إلا بجسم محيط يحدد الجهتين بالمحيط والمركز وذلك المحيط يستحيل أن يقبل حركة مستقيمة لأنه لا يحتاج إلى اختلاف جهتين وإلى جسم آخر يحيط به فيحدد له الجهات والذى يحدد الجهة يستغنى عن الجهة فلا يكون فيه حركة مستقيمة ويلزم عليه أنه لا يقبل الانخراق إذ معنى الانخراق ذهاب الأجزاء طولا وعرضا على الاستقامة فمن ضرورته حركة مستقيمة ومن ضرورة الحركة المستقيمة اختلاف الجهتين ومن ضرورته محيط آخر يحدد الجهتين كما سبق.

(الدعوة الثالثة): أنه يلزم من الحركة الزمان لا محالة فان كل حركة ففى زمان والزمان هو مقدار الحركة فان لم يكن حركة لم يكن زمان فى الوجود وإن لم تحس النفس بالحركة لم تحس بالزمان كما كان فى حق أصحاب الكهف وكل نائم فى ضحوة وتنبه فى ضحوة اليوم الثانى فلا يحس بانقضاء زمان إلا أن يحس فى نفسه بتغير علم بالعادة إن ذلك لا يكون إلا فى زمان والمتنبه إذا أحس بظلمة أو ضوء أو زوال خلل فيه يعرف زمان النوم مهما علم بالعادة من هذه الأمور مقادير الزمان ولا بد من إشارة إلى تحقيق الزمان وإن كان ذلك بالطبيعيات أليق ولكن نقول لا شك أن بين ابتداء كل حركة وانفطاعها إمكان تقدير حركة أخرى تقطع مسافة معينة بسرعة معينة أو بطؤ معين حتى أنه يقطع بمثل تلك الحركة مثل تلك المسافة ولا يمكن أكثر منه ولا أقل ويمكن أن يقطع بحركة أسرع تبتدىء معها مسافة أكثر وإن كانت أبطأ فمسافة أقل وإن ابتدأت معها وساوتها فى السرعة لم تتخلف عنها فى أثناء المسافة وكان بين ابتداء هذه الحركة إلى النصف وبين انقطاعها إمكان هو نصف الامكان الذى بين نهايتى الحركة التامة وكذلك يمكن أن يفرص لهذا الامكان ربع وسدس وهذه التحديدات لا ترد إلا على مقدار فقد حصل ههنا مقدار وحد المقدار هو غير حد الحركة فليس المقدار هو الحركة أعنى ذاتها بل هو فى الحركة وصفة لها فلكل حركة مقدار من وجهين.

(أحدهما): من حيث المسافة كما يقال مشى فرسخا.

(والثانى): من حيث الامكان الذى ذكرناه ويسمى زمانا كما يقال مشى ساعة فهذا الامكان المقدر هو الزمان وهو مقدار الحركة من حيث انقسامه فى امتداده إلى متقدم وإلى متأخر إذ يستحيل أن يكون مقدار الجسم المتحرك وقد يتساوى في الزمان حركة الفيل والبقة ويستحيل أن يكون مقدار المسافة واحدا إذ قد يتساوى فى الزمان ما يقطع فرسخا وما يقطع فرسخين ويستحيل أن يرد ذلك إلى السرعة والبطؤ إذ الحركتان المتفقتان فى السرعة قد يختلفتان فى هذا الامكان فان الحركة من الطلوع إلى الغروب يساوى الحركة من الشروق إلى الزوال أعنى أنها تساوى نصف نفسها فى السرعة ولا تساويها فى الزمان فاذا ليس ذلك إلا مقدار الحركة فى امتدادها إذ تكون حركة أكثر امتدادا من حركة فكثرة الامتداد كثرة الزمان وقلته قلته وأصل الامتداد أصل المدة والزمان إذ الزمان عبارة عن مدة الحركة أى عن امتداد الحركة ولا يمكن أن يكون الزمان إلا مدة الحركة المكانية لأنه عبارة عن أمر ينقسم الى متقدم ومتأخر لا يبقى المتقدم مع المتأخر بحال فارتبط بالضرورة ما هو على الانقضاء والتصرم حتى لا يجتمع منه جزآن ولا يتصرم بذاته إلا الحركة فما يقارن المتقدم منها يقال إنه متقدم وما يقارن المتأخر أنه متأخر واذا ظهر أنه مقدار الحركة ومست الحاجة الى أن يكون للحركات معيار بقدرها والمعيار ينبغى أن يكون معروفا معلوما حتى يقدر به غيره كالذراع الذى يذرع به الثياب كذلك حركة الفلك الدورية هى أسرع الحركات وأظهرها للخلق فان الشمس أظهر المحسوسات بل بها يحس سائر المحسوسات فاتخذ ذلك معيارا يقدر به الحركات وحركة الفلك لها مقدار فى نفسها وهى تقدر غيرها كالذراع له مقدار فى ذاته ويقدر غيره فالزمان عبارة عن مقدار حركة الفلك من حيث انقسامه الى متأخر ومتقدم لا يبقى المتقدم منه مع المتأخر.

(الدعوى الرابعة): أنه يلزم من حركة هذه الأجسام القابلة للتركيب أن يكون فيها ميل إلى جهة لا محالة وأن يكون فيها طبع موجب للميل فالحركة والميل والطبع ثلاثة أمور متباينة فاذا ملأت زقا من الهواء وتركته تحت الماء صعد إلى حيز الهواء وفى حالة الصعود فيه الحركة والميل والطبع فان أمسكته قهرا تحت الماء فلا حركة وأنت تحس بميله وتحامله على يدك واعتماده عليك فى طلب جهته فهو المراد بالميل فان كان فوق الماء فلا حركة ولا ميل ولكن فيه الطبع الذى يوجب فيه الميل إلى حيزه مهما فارق حيزه والمقصود أن نبين أن كل جسم مركب فهو قابل للحركة وكل قابل للحركة فلا بد وأن يكون فيه ميل لا محالة وبرهانه فى هذه المركبات ظاهر لأنها لا تتركب إلا بحركة فان كانت الجهة التى اليها الحركة للتحرك فيه ميل اليها بالطبع فلو خلى وطبعه لتحرك فان كان لا يتحرك اليها لو خلى وطبعه فاذا لا ميل فيه وإن لم يكن فيه ميل اليها فهو مائل إلى الحيز الذى هو فيه فان فرض على البعد جسم فى حيز لا ميل له إلى ذلك الحيز ولا إلى غيره فهو محال إذ يلزم عليه أن تكون حركته فى غير زمان وهو محال فالمفضى اليه محال* فان قيل لا نسلم أن الحركة فى غير زمان يلزم منه فنقول لا شك فى أن الجسم إذا كان له ميل إلى أسفل مثلا وحركناه إلى فوق كان ذلك الميل مقاوما لميل التحريك القهرى ويوجب ذلك بطأ في الحركة حتى أنه كلما كان الميل أكثر كانت المقاومة أشد والحركة أبطأ وكلما كان الميل أقل كانت الحركة أسرع ففاوت الحركة فى السرعة والبطء على نسبة تفاوت الميل فقول إن فرضنا جسما لا ميل فيه وحركناه عشرة أذرع مثلا فلا شك أنه فى زمان فلنسمه ساعة فلو فرضنا جسما فيه ميل وحركناه كانت حركته أبطأ لا محالة فلنقدر أنه فى عشر ساعات مثلا فنقول يمكن أن يقدر جسم فيه عشر ذلك الميل فيلزم أن يتحرك في ساعة لأن نسبة زمان الحركة إلى زمان الحركة هو نسبة الميل إلى الميل فتكون حركة الجسم الذى فيه عشر ذلك الميل مساويا لحركة الجسم الذى لا ميل فيه وهذا محال بل كما يستحيل أن يتفاوتا في مقدار الميل ويتساويا فى زمان الحركة كذلك يستحيل أن يتفاوتا فى أصل وجود الميل وعدمه ويتساويا فى مقدار الحركة فهذا برهان قاطع على أنه لا بد في كل جسم من ميل طبيعى إما إلى الجهة التى يتحرك اليها أو إلى خلافها كيف ما كان* فان قيل فبم ينكرعلى من ينازع فى المقدمة الثانية وهو استحالة حركة من غير زمان* فيقال الحركة لو فرضت غير زمان لكان لا يخلو إما أن تكون في بعد أو لم تكن فى بعد فان لم تكن فى بعد لم تكن حركة فان كان بعد ومسافة فقد ذكرنا أن الأبعاد كلها منقسمة وأنه لا يتصور جوهر فرد ولا يتصور بعد فرد ولا مسافة لا تنقسم فلا يتصور زمان لا ينقسم لأن الزمان مقدار الحركة وضرورة كل حركة أن تنقسم بانقسام مسافة الحركة فيكون الجزء الذى فى أول المسافة قبل الجزء الذى فيما بعده فهذا معنى كون الحركة فى زمان وبالجملة كيف تكون حركة الشىء فى عشرة أذرع من غير أن يتقدم حركته فى الشطر الأول على حركته في الشطر الثانى وإذا حصل التقدم والتأخر فقد حصل الزمان وأما فرض حركة فى بعد لا ينقسم فهو محال لأنه ثبت أن كل بعد منقسم فالبعد والجسم والحركة والزمان وهذه الأربعة بالضرورة منقسمة لا يتصور فيها جزء فرد كما سبق.

(الدعوى الخامسة): أن هذه المركبات لا تتحرك بالطبع إلا حركة مستقيمة لأن كل جسم فلا بد له من مكان طبيعى لأن حيزه الذى فرض له أن ترك فيه وطبعه استقر فيه فهو له طبيعى وميله اليه أن تنحى عنه إلى موضع آخر فالموضع المطلوب له طبيعى ويكون ميله الطبيعى إلى موضعه الطبيعى فيعرض عند المفارقة الحركة اليه والسكون فيه عند وصوله اليه وإذا كان ميله اليه فلا يتحرك اليه إلا بأقرب الطرق فانه إن انحرف عن أقرب الطرق اليه كان مائلا عنه لا اليه وأقرب الطرق بين النقطتين هو الخط المستقيم فتكون الحركة عليه بالضرورة وإذا ثبت أن لا جهة إلا الوسط والمحيط فتنقسم الحركة الطبيعية لهذه الأجسام التى يحويها المحيط إلى حركتين مستقيمتين.

(إحداهما): من المحيط إلى الوسط.

(والأخرى): من الوسط إلى المحيط.

(الدعوى السادسة): أن الحركة من حيت حدوثها أعنى حركة هذه المركبات تدل على أن لها سببا ولسبها سببا إلى غير نهاية ولا يمكن ذلك إلا بالحركة السماوية الدورية فكل حركة حادثة تدل على حركة دائمة لا نهاية لها إن لم يفرض ذلك لم يتصورحدوث حادث* واذ الحوادث كائنة فلا بد من حركة دائمة لا نهاية لها وبرهانه أن حدوث الحادث بغير سبب محال وسببه لو كان موجودا من قبل وكان لا يحدث فانما كان لا يحدث لافتقار السبب الى مزيد حالة وشريطة يستعد بها للايجاد فاذا لا يحدث السبب ما لم تحدث تلك الحالة لسبب والسؤال فى تلك الحالة لازم وإنها لم حدثت الآن ولم تحدث قبلها فيفتقر الى السبب وكذلك يتسلسل فيفتقر الحادثات بالضرورة الى أسباب لا نهاية لها ولا يخلو تلك العلل والأسباب إما أن تكون على التساوق موجودة معا وإما على التعاقب ووجود علل بلا نهاية معا محال وقد أبطلناه فلا يبقى إلا التلاحق وذلك لا يكون إلا بحركة دائمة كل جزء منها كأنه حادث وجملتها مطردة لا حدوث لها حتى يكون أجزاؤها سببا لما بعدها وكذا كل جزء ولو فرض انقطاع هذه الحركة فى حالة لاستحال بعدها حدوث حادث فانه اذا لم يحدث فى حالة لم يحدث بعدها فيفتقر الى حادث وذلك الحادث أيضا يفتقر الى مثله فلا يتصور الحدوث ومهما فرضت حركة دائمة انقطع السؤال مثاله أن يقال لم قبلت هذه الخشبة فى الأرض النفس النباتى الآن ولم يكن قبله يقبله وكان مدفونا فى الأرض فيقال لفرط البرودة فى الشتاء وعدم الاعتدال من قبل فيقال ولم حدث الاعتدال الآن فيقال لحدوث حرارة الهواء فيقال ولم حدث الآن حرارة الهواء فيقال لارتفاع الشمس وقربه من وسط السماء بدخولها برج الحمل فيقال ولم دخل برج الحمل الآن فيقال لأن طبعها الحركة وإنما انفصلت من آخر الحوت الآن ولم يمكن دخول الحمل إلا بمفارقة الحوت وبعد الوصول اليه فيكون مفارقته الحوت سبب دخول الحمل ويكون كونه متحركا بالطبع مع الوصول إلى الحوت سبب الانفصال منه ويكون سبب الوصول إلى الحوت الانفصال مما قبله وهكذا يتمادى إلى غير نهاية فترجع الحوادث بعد تسلسل أسبابها الأرضية بالآخرة لا محالة إلى الحركة السماوية لا يمكن أن يكون إلا كذلك وتكون حركة السماء سببا لحدوث الأشياء من وجهين.

(أحدهما): أن يكول السبب معه كالضوء الذى يكون مع الشمس تدور معه ثم يحدث فى كل جزء من الأرض شيئأ فشيئا فيحدث النهار فى كل قطر شيئا فشيئا ويحدث بسببه الابصار وزوال الظلام ويحدث بسبب الابصار انتشار الناس فى أغراضهم بأصناف الحركات ويحدث من تلك الحركات حوادث فى العالم لا تخفى.

(والآخر): أن تكون الحركة الدورية سببا لوصول الاستعداد إلى الأسباب ولكن تتأخر المسببات من حيث لا تتم الشروط كما أن الشمس توجب حرارة في الأرض تستعد بسببها للتأثير فى البذر إن بذر فيها ولكن يتأخر لعدم البذر والبذر يتأخر لعدم إرادة المتحرك للبذر وإرادته تبتنى على سبب آخر فاذا تيسر بث البذر عملت الحرارة الآن وقبل هذا كان لا تؤثر لفقد المحل وكان تأخرالحادث لمثل ذلك فهكذا يتصور حدوث الأشياء وقد ظهر أن التركيب بين الماء والطين مثلا دل على الحركة والحركة دلت على اختلاف الجهتين بالضرورة ولم يمكن اختلاف الجهتين إلا بجسم محيط وهو السماء وأنه لا بد وأن يكون متحركا على الدوام حتى يتصور حدوث الحوادث فاذا هذه الأدلة وافقت المحسوس وصار بحيث إذا تأمله الأعمى الذى لا يشاهد السماء وحركتها وإحاطتها إذا نظر بعقله في أدنى حركة يعلم أنه لا بد من وجود سماء تدور على الدوام حتى يتصور الحركة وإلا فخلق الحركة دون ذلك محال والمحال لا يكون مقدورا عليه فلا يكون له وجود البتة والآن فاذ قد بينا حركة السماء برهان الآن وهو الدلالة عليه بالنتيجة فنذكر سبب حركته وأنه لم يتحرك ولنذكر أحكامه.

(القول فى الأجسام السماوية): الدعاوى فيها أنها متحركة عن نفس بالارادة وأن لها تصورا للجزئيات متجددا وأن لها فى الحركة غرضا وأنه ليس غرضها الاهتمام بالسفليات وأن غرضها الشوق والتشبه بجوهر شريف أشرف منها لا علاقة بينه وبين الأجسام يسمى ذلك عقلا مجردا وبلسان الشرع ملكا مقربا وأن العقول كثيرة وأن أجسام السموات مختلفة الطباع وأن بعضها ليس بسببا لوجود البعض.

(الدعوى الأولى): أنها متحركة بالارادة أما أنها متحركة فمشاهد وقد دللنا أيضا عليه ونزيد فنقول إن هذا الجسم المحيط إذا فرض ساكنا كان له وضع مخصوص حتى يكون نصف معين منه مثلا فوقنا الآن ولو قدر هذا تحتنا لم يكن محال لأن سائر أجزاء الحول بالاضافة إلى سائر أجزائه واحد فيستحيل أن يتعين جزء من الحول لجزء من أجزائه إذ لو تعين لبعضه جهة الفوق لكان ذلك الجزء مخالفا للذى تعين له تحت ولكان مركبا والمركب إنما يجتمع من حركة البسائط على الاستقامة وقد بان استحالة قبولها للحركة المستقيمة والبسيط لا يتميز فيه بعض أجزاء الحول عن بعض فاذا هى قابلة للحركة وكل قابل للحركة فقد ذكرنا أنة لا بد وأن يكون فى طبعه ميل ولا يجوز أن يكون ذلك ميلا إلى الحركة المستقيمة فانه لا يقبل الحركة المستقيمة إذ يحتاج إلى جسم آخر يحدد له الجهات فيكون ميله إلى تبدل أجزاء الحول عليه وذلك بالدور حول الوسط فواجب إذا أن يكون فى طبعه ميل إلى الحركة حول الوسط إذ ليس بعض الحول أولى ببعض الأجزاء من بعض ويستحيل أن يكون مثل هذه الحركة بطبع محض خال عن الارادة لأن الحركة الطبيعية هرب من وضع لطلب وضع آخر فاذا وصل إلى ذلك الوضع الطبيعى استقر فيه واستحال أن يعود بالطبع إلى ما فارقه لأنه إن كان ملائما له فلم فارقه وإن كان منافيا فلم رجع اليه وما من وضع للسماء يفارقه بالحركة إلا ويعود اليه وهو زائل عائد على الدوام فلا يكون ذلك بالطبع بل بالارادة والاختيار ولا تكون الارادة إلا مع تصور وكل ما له تصور وإرادة فانما نسميه نفسا إذ ليس للجسم إرادة وتصور بمجرد كونه جسما بل بطبيعة خاصة وصورة مخصوصة والعبارة عنها النفس فاذا حركة السماء بالارادة حركة نفسانية.

(الدعوى الثانية): أنه لا يجوز أن يكون محرك السماء شيئا عقليا محضا لا يقبل التغير كما لم يجز أن يكون طبعا محضا والعقلى عبارة عن الجوهر الثابت الذى لا يقبل التغير والنفسى عبارة عما يقبل التغير فنقول الثابت على حالة واحدة لا يصدر منه إلا ثابت على حالة واحدة فيجوز أن يكون سكون الأرض مثلا عن علة ثابتة لأنه دائم على حالة واحدة أما أوضاع السماء فانها دائما فى التبدل فيستحيل أن يكون موجبه ما هو ثابت غير متغير فان الموجب للحركة من.

(ا) الى (ب) لا يوجب الحركة من (ب) الى (ج) إن بقى على تلك الحالة لأن هذه الحركة غير الأولى فان بقيت العلة على حالها فلا يلزم منها غير ما لزم أولا فاذا لا بد وأن يكون اقتضاؤها للحركة من حد ثانى الى ثالث بسبب طرأ عليها كالشيء الذى يختلف تحريكه لاختلاف كيفيته فانه اذا برد حرك على وجه آخر يخالف تحريكه فى حالة الحرارة فاذا لا بد من تغير الموجب عند تغير الموجب فان كان الموجب هو الارادة فلا بد من تغير الارادات وتجددها فاذا لا بد من تجديد الارادات الجزئية لأن الارادة الكلية لا توجب حركة جزئية فارادتك للحج لا توجب حركة رجلك بالتخطى الى جهة معينة ما لم يتجدد لك إرادة جزئية للتخطى إلى الموضع الذى تخطيت اليه ثم يحدث لك بتلك الخطوة تصور لما وراء تلك الخطوة وينبعث منه إرادة جزئية للخطوة الثانية وإنما ينبعث من الارادة الكلية الارادات الجزئية التى تقتضى دوام الحركة الى الوصول إلى الكعبة فيكون الحادث حركة وتصورا وإرادة فالحركة حدثت بالارادة والارادة حدثت بالتصور الجزئى مع الارادة الكلية والتصور الجزئى مع الارادة الكلية حدثت بالحركة ويكون مثاله من يمشى بسراج فى ظلمة لا يظهر له السراج مثلا إلا مقدار خطوة بين يديه فيتصور خطوة واحدة ومعه السراج فينبعث له من التصور والارادة الكلية للحركة إرادة جزئية لتلك الخطوة بعينها فتحصل الخطوة بعينها وهى موجب الارادة التى هى موجب التصور ثم تكون تلك الخطوة سببا لتصور الخطوة الأخرى فيتصور وتحصل الخطوة فيحدث من الخطوة تصور آخر ومن التصور إرادة خطوة أخرى ومن الارادة الخطوة الأخرى وهكذا على الدوام ولا يمكن أن تكون حركة جزئية إلا كذلك فهكذا يمكن أن تكون حركة السماء وكل ما هو متغير بتغير الارادات والتصورات يسمى نفسا لا عقلا.

(الدعوى الثالثة): أنها ليست تتحرك اهتماما بالعالم السفلى وإن أمر السفلى ليس يهمها بل غرضها أمر أجل وأشرف منها وبرهانه أن كل حركة إرادية فانما تكون جسمانية حسية أو عقلية والحسية هى الحركة بالشهوة والغضب ويستحيل أن تكون حركة السماء لشهوة فان الشهوة عبارة عن طلب ما هو سبب لدوام البقاء وما لا يخاف على نفسه النقصان والهلاك يستحيل أن يكون له شهوة ويستحيل أن يكون له غضب فانه عبارة عن قوة تدفع المنافى المضاد الموجب للهلاك أو النقصان فالشهوة طلب الملايم والغضب لدفع المنافى والفلك يستحيل عليه الهلاك والنقصان فلا يمكن أن يكون غرضه من هذا القبيل فلا بد أن يكون عقليا وبرهان استحالة الهلاك والنقصان عليه إن ذلك لو كان لكان لا يخلو إما أن يكون بزوال عرض منه وهو الاتصال بالانكسار والانخراق أو زوال صورته وطبيعته أو عدمه من أصله بصورته ومادته وباطل أن يكون له انخراق وانكسار فان معناه زوال الأجزاء طولا وعرضا فى جهات مستقيمة فهو معنى التفرق أعنى أن ذلك من ضرورته وقد بان أنها لا تقبل الحركة المستقيمة وباطل أن يعرض بطلان صورته عن مادته لأن المادة لا تخلو إما أن تبقى خالية عن الصورة وهو محال أو تلبس صورة أخرى فيكون ذلك كونا وفسادا وهو محال لأن الكون والفساد من ضرورته قبول الحركة المستقيمة فانه إنما يقبل صورة تخالف الصورة الأولى بالطبع فيستدعى مكانا غير مكانه فيتحرك إلى ذلك المكان حركة مستقيمة كهيولى الهواء فانه إذا خلع الصورة الهوائية ولبس صورة المائية لم يتصور ذلك إلا بأن يتحرك إلى حيز الماء حركة مستقيمة وأما عدمه من أصله أى عدم مادته فهو محال لأن كل ما ليس له مادة فيستحيل عدمه بعد الوجود كما يستحيل وجوده بعد العدم إذ قد ثبت من قبل أن كل حادث فله مادة إذ إمكان حدوثه قبل حدوثه وهو وصف ثابت فلا بد له من محل فلذلك لا يعدم الشىء إلا من مادة حتى يبقى إمكان وجوده بعد عدمه فى مادته وإلا ينعدم انعداما يستحيل بعد وجوده ومحال أن ينقلب الموجود محالا وإذا بقى ممكنا استدعى الامكان الذى هو وصف إضافى إلى جوهر يقوم به فاذا ثبت بهذا استحالة التغير عليها لم تكن حركتها لشهوة ولا غضب فلا يبقى إلا غرض عقلى ويستحيل أن يكون غرضها الاهتمام بهذه الكائنات الفاسدات حتى يكون الغرض من وجودها وحركتها هذه السفليات لأن ما يراد للشىء فهو أخس من ذلك الشىء لا محالة فيؤدى إلى أن يكون العلويات أخس من السفليات مع إن العلويات أزلية غير قابلة للهلاك وهذه السفليات ناقصة ومتغيرة وهى بالقوة وجملة الأرض بما فيها جزء يسير من جرم الشمس فانها مثل الأرض مائة ونيف وستين مرة فلا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها فكيف الفلك الأقصى فكيف يكون الغرض من مثل هذا الجسم هذه الأمور الخسيسة وكيف يكون الغرض من تلك الحركة الأزليه الدائمة هذه الأمور الخسيسة وكيف لا يكون هذه خسيسة بالاضافة اليها وأشرف السفليات الحيوان وأشرفه الانسان وأكثره ناقص والكامل منه قط لا ينال تمام الكمال فانه لا ينفك عن اختلاف الأحوال فيكون أبدا ناقصا أى يكون فاقد الأمر الذى هو ممكن له ولو حصل له لكان أكمل له والأجرام العلوية كاملة وهى بالفعل ما فيها شىء بالقوة إلا ما يرجع إلى أخس أغراضها وهو الوضع كما سيأتى ولا يقصد إلا شرف الأخس لأجل الأخس في نفسه البتة* فان قيل فان كان ما يراد لغيره فهو أخس من ذلك الغير فليكن الراعى أخس من الغنم والمعلم أخس من المتعلم والنبى من الأمة إذ لا يراد الراعى إلا للغنم ولا المعلم إلا للمتعلم ولا النبى إلا لارشاد الأمة* قيل أما الراعى فهو أخس من الغنم من حيث أنه راع وإنما هو أشرف من حيث أنه إنسان وإنسانيته غير مطلوبة لأجل الرعاية فقط فان لم يعتبر منه إلا وصف كونه راعيا فهو بهذا الاعتبار أخس من الغنم كالكلب الحارس للغنم فانه أخس من الغنم بالضرورة إن لم يكن له وصف سوى كونه راعيا فان كان يتأتى منه الصيد فهو بذلك الوجه يجوز أن يكون أشرف فأما هو من حيث أنه حارس للغنم فقط بالضرورة يكون أخس منه لأن ما يراد لغيره فهو تبع لذلك الغير فكيف لا يكون أخس منه وهو الجواب عن المعلم والنبى فان شرف النبى من حيث أنه كامل فى نفسه بصفات يكون بها شريفا وإن لم يشتغل باصلاح الخلق فان لم يعتبر منه إلا وصف الاصلاح لزم أن يكون المطلوب صلاحه أشرف من المستعمل فى الاصلاح* فان قيل وأى بعد فى أن يكون غرضه إفادة الخير ليكون خيرا فاضلا وليكون ما يصدر منه حسنا فان فعل الخير حسن ولا تكون السفليات من حيث ذواتها مقصودة له* قيل قول القائل أن فعل الخير حسن كلام مشهور والمصلحة أن تعتقده العوام لينزجروا عن القبائح فأما إذا رد إلى التحقيق ففى محموله وموضوعه بحث وتفصيل أما الموضوع وهو فعل الخير فهو ينقسم إلى ما يكون بالذات وإلى ما يكون بقصد فالذى بالذات لا يدل على النقص ومعناه أن يكون ذاته بحيث يلزم من ذاته أمر هو خير ولا يقصد منه أمر آخر البتة وهذا الفعل لا يكون بارادة وغرض وقد ذكرنا أن الحركة الدورية إرادية والآخر أن يكون بقصد وهو دليل نقصان القاصد إذ لا بد وأن يكون فعله أولى به من لا فعله ليحصل له بالفعل ما لم يكن له ولو كان كاملا لما افتقر إلى اكتساب أمر آخر فان لم يكن هذا لم يكن قصد وإرادة البتة وأما المحمول وهو أنه حسن فينقسم إلى ما هو حسن فى ذاته وإلى ما هو حسن فى حق القابل وإلى ما هو حسن فى حق الفاعل أما الحسن فى ذاته فكما نقول أن وجود الكل إذا قوبل بعدمه كان الوجود خيرا من العدم وذات الأول ذات يلزم منه ما هو خير ولا يكون خيرا للأول إذ لا يستفيد منه شيئا ولا هو خير لقابل إذ ليس ثم غير الكل حتى يقال الكل خير له* وأما الحسن للقابل فهو حسن ودليل على نقصان القابل وافتقاره إلى أمر وجوده أكمل له من عدمه* والحسن للفاعل يدل على نقصان الفاعل إذ لو كان كاملا لاستغنى عن استفادة الخير والكمال بالفعل وإنما اشتهر أن الفعل الخير فى حق الانسان فضيلة وكمال لا نقصان لأنه يتوقع منه الشر فهو بالاضافة إلى مقتضى طبعه خير وإلا فهو فى الحقيقة وبالاضافة إلى الكمال المطلق نقصان فاذا ثبت هذا فنقول إن لم يكن إفادة الخير خيرا للفاعل لم يكن غرضا ولا يتصور أن يتوجه اليه إرادة فلا بد وأن نبين وجه كونه خيرا له حتى يتصور أن يكون غرضا.

(الدعوى الرابعة): إثبات العقول المجردة وهى أن الحركة تدل على إثبات جوهر شريف غير متغير ليس بجسم ولا منطبع فيه ومثل هذا يسمى عقلا مجردا وإنما يدل عليه بواسطة عدم التناهى فانه قد سبق أن هذه الحركة دائمة لا نهاية لها أزلا وأبدا فلا بد وأن يكون لها استمداد من قوة محركة إذ يستحيل أن يكون فى الجسم قوة على ما لا نهاية له لأن كل جسم منقسم وينقسم بتقدير انقسامه انقسام القوة فلو توهمنا الانقسام لكان بعض القوة لا يخلو إما أن يحرك إلى غير نهاية فيكون الجزء مثل الكل من غير تفاوت وهو محال وإما أن يحرك إلى غاية والبعض الآخر أيضا يحرك إلى غاية فيكون المجموع متناهيا فثبت أنه لا يتصور أن يكون قوة على أمر غير متناهى وتكون تلك القوة في جسم فاذا لا بد لهذه الحركة من محرك مجرد عن المواد والمحرك قسمان.

(أحدهما): يحرك كما يحرك المعشوق العاشق والمراد المريد والمحبوب المحب.

(والثانى): كما تحرك الروح البدن والثقل الجسم إلى أسفل والأول هو ما لأجله الحركة والثانى هو ما منه الحركة والحركة الدورية تفتقر إلى مباشر فاعل يكون منه الحركة وذلك لا يكون إلا نفسا متغيرا لأن المجرد الذى لا يتغير لا يصدر منه الحركة التغيرة كما سبق ذلك فتكون النفس الفاعل للحركة متناهى القوة لكونه جسمانيا ولكن يمده موجود ليس بجسم بقوته التى لا تناهى ويكون بريئا عن المادة لا محالة حتى تخرج قوته عن النهاية ولا يكون فاعلا للحركة بل تكون لأجله الحركة من حيث كونه معشوقا ومقصودا لا من حيث كونه مباشرا للحركة ولا يتصور محرك لا يتحرك فى نفسه إلا بطريق العشق كتحريك المعشوق للعاشق* فان قيل كيف يتصور أن يكون هذا العقل محركا بطريق العشق* قيل المحرك بهذا الطريق إما أن يكون بحيث يطلب ذاته كالعلم فانه يحرك طالب العلم بطريق عشقه له والمطلوب حصول ذاته وإما أن يكون بحيث يطلب التشبه به والاقتداء كالأستاذ فانه معشوق التلميذ ومحركه على معنى إنه يحب التشبه به وكذا كل مرغوب فيه متصف بوصف عظيم يراد التشبه به ولا يجوز أن تكون هذه الحركة من القسم الأول فان المعنى العقلى لا يتصور أن ينال الجسم ذاته فانه بان أنه لا يحل في جسم فلا يبقى إلا أنه يحب التشبه والاقتداء به باكتساب وصف يشبه وصفه ليقرب منه فى الوصف كتشبه الصبى بأبيه والتلميذ بأستاذه ولا يمكن أن يكون بطريق الأمر والائتمار فان الآمر ينبغى أن يكون له غرض في الأمر وذلك يدل على نقصان وقبول تغير والموتر أيضا ينبغى أن يكون له غرض فى الائتمار وذلك الغرض هو المقصود فاما امتثال الأمر لأجل أنه أمر فقط لا فائدة فلا يمكن وإذا ثبت أنه لا يمكن إلا بطريق التشبه بالمعشوق فيكون له ثلاثة شروط.

(الأول): أن يكون للنفس الطالبة للتشبه تصور لذلك الوصف المطلوب ولذات المعشوق وإلا كان بارادته طالبا لما لا يعرفه وهو محال.

(والثانى): أن يكون ذلك الوصف عنده جليلا عظيما وإلا لم يتصور الرغبة فيه.

(والثالث): أن يكون ممكنا حصوله فى حقه فانه إن كان محالا لم يتصور طلبه بارادة عقلية صادقة إلا بطريق الظن والتخيل الذى هو عارض قريب الزوال ولا يدوم أبدا فاذا لا بد وأن يكون لنفس الفلك إدراك لجمال ذلك المعشوق فينبعث بتصوره للجمال عشقه الذى يقتضى نظره والتفاته إلى جهة العلو لينبعث منه الحركة الموصلة إلى المطلوب من التشبه فيكون تصور الجمال سبب العشق* والعشق سبب الطلب والطلب سبب الحركة ويكون ذلك المعشوق هو الأول الحق أو ما يقرب منه من الملائكة المقربين أعنى العقول المجردة الأزلية المنزهة عن قبول التغير التى لا يعوزها شىء من الكمالات الممكنة لها* فان قيل فلا بد من تفصيل هذا العشق والمعشوق والوصف المطلوب تحصيله بالحركة* قيل كل طلب فانه توجه إلى ما هو خاصية واجب الوجود وهو أنه تام بالفعل ليس فيه شى بالقوة فان كون الشىء بالقوة نقصان إذ معناه فقد كمال هو ممكن حصوله له فكل موجود هو بالقوة من وجه فهو ناقص من ذلك الوجه وطلبه أن يزول عنه ما بالقوة إلى الفعل فمطلوب الكل الكمال ونيله وكل ما يكثر فيه ما بالقوة فهو أخس لا محالة وكل ما هو بالفعل من كل وجه فهو كامل والانسان فى جوهره تارة يكون بالقوة وتارة يكون بالفعل وإذا صار فى جوهره بالفعل فلا يزال فى أعراضه بالقوة لا ينال غاية الكمال ما دام فى البدن ولا تفارقه القوة* وأما الجسم السماوى فلا يكون بالقوة في جوهره البتة فانه ليس بحادث ولا يكون بالقوة فى أعراضه الذاتية أيضا ولا فى شكله بل هو بالفعل أى كل ما هو ممكن له فهو حاصل له إذ له من الأشكال أفضلها وهى الكرة ومن الهيئات أفضلها وهى الاضاءة والشفيف وكذا سائر الصفات وإنما يبقى لها أمر واحد لا يمكن أن يكون بالفعل وهو الأوضاع فان كل وضع فرض له أمكن فرضه على وضع آخر إذ لا يمكن أن يكون على وضعين في حالة واحدة ولو لم يمكن فيه هذا القدر بالقوة لكان قريب الشبه بالعقول المجردة وليس بعض الأوضاع أولى من بعض حتى يلزم ذلك ويترك البقية وإذ لم يمكن الجمع بين جميع الأوضاع بالعدد وأمكن الجمع بينها بالنوع على سبيل التعاقب قصد أن يكون كل وضع له بالفعل وأن يستديم جميعها بطريق التعاقب ليكون نوع الأوضاع دائما بالفعل كما أن الانسان لما لم يكن بقاء شخصه بالفعل دبر لبقائه حفظ نوعه بطريق التعاقب * وللحركة الدورية أيضا خاصية فى كونه بالفعل وبعيدا عن التغير والتفاوت فان الحركة المستقيمة إن كانت طبيعية تغيرت إلى السكون فى آخرها وإن كانت قسرية تغيرت إلى الفتور فى آخرها والدورية تستمرعلى وتيرة واحدة فاذا الجسم السماوى مهما تكلف استبقاء نوع الأوضاع لنفسه بالفعل على الدوام فقد تشبه بالجواهر الشريفة بغاية ما يمكن له فى نفسه ويكون طلبه للتشبه عبادة لرب العالمين لأن معنى العبادات التقرب ومعنى التقرب طلب القرب ومعنى طلب القرب أن يتقرب منه فى الصفات لا فى المكان فان ذلك غير ممكن فهذا هو الغرض المحرك للسموات.

(الدعوى الخامسة): أن السموات قد دلت المشاهدة على كثرتها فلا بد وأن تكون طباعها مختلفة وأن لا تكون من نوع واحد بدليلين.

(أحدهما): أنها لو كانت من نوع واحد لكان نسبة بعض أجزاء واحد منها إلى بعض أجزاء الآخر كنسبة بعض أجزائها إلى جزء آخر منها ولو كان كذلك لكان الكل متواصلة لا متفاصلة فالانفصال لا سبب له إلا تباين الطباع وهذا كما أن الماء لا يختلط بالدهن إذا صب عليه بل يحاوره مباينا والماء يختلط بالماء ويتصل به والدهن بالدهن وكما يعلم بمفارقة نسبة أجزاء الماء بعضه إلى بعض لنسبة بعض أجزائه إلى أجزاء الدهن بالانفصال فكذلك ههنا إذ لا مانع للاتصال مع تشابه الكل.

(والثانى): أن بعضها أسفل وبعضها أعلى وبعضها حاوية وبعضها محوية وذلك يدل على تفاوت الطباع واختلاف الأنواع لأن الأسفل لو كان من نوع الأعلى لجاز له أن يتحرك إلى مكان الأعلى كما يجوز فى بعض أجزاء الماء والهواء أن يتحرك إلى أسفل وأعلى من حيز الماء والهواء ولو جاز لكان قابلا للحركة المستقيمة إذ بها يتحرك الأسفل إلى حيز الأعلى كما فى العناصر وقد بان أنه يستحيل أن يكون فيها قبول الحركة المستقيمة.

(الدعوى السادسة): أن هذه الأجسام السماوية لا يجوز أن يكون بعضها علة للبعض بل لا يجوز أن يكون جسم سببا فى وجود جسم وعلة فيه لأن الجسم إنما يؤثر فى الشىء إذا وصل إلى مماسته أو مجاورته أو موازاته* وبالجملة إذا ناسبه مناسبة كما تؤثر الشمس فى إضاءة الجسم إذا حاذاها ولم يكن بينهما حائل وكما تؤثر النار فى إحراق ما تلاقيه وتماسه فاذا لا بد أن يكون ثم موجود يلاقيه الجسم الفاعل حتى يؤثر فيه فيحصل فيه بتأثيره شىء آخر وإذا لم يكن موجود استحال أن يحصل بالجسم اختراع موجود آخر * فان قيل أليس النار سبب لحدوث الهواء مهما أوقد تحت الماء فيكون جسم الهواء حاصلا بسبب النار* قيل الهواء ليس بجسم أول بل هو كائن من جسم آخر لاقاه النار فأثر فيه وإنما كلامنا فى الأجسام السماوية وهى أجسام أول ليست متكونة عن جسم آخر إذ بينا أنها لو كانت متكونة فاسدة لكانت قابلة للحركة المستقيمة وذلك محال فى حقها فاذا ثبت أن الأجسام الأول لا يكون بعضها سببا لوجود البعض* فان قيل فلم قلتم أن الجسم لا يصدر منه فعل إلا بعد الوصول إلى ما فيه الفعل بمماسة أو غيرها* فيقال برهانه أن الجسم لو فعل فاما أن يفعل بمجرد المادة أو بمجرد الصورة أو بالصورة مع توسط المادة وباطل أن يفعل بمجرد المادة لأن حقيقة المادة كونها قابلة للصورة فان كانت فاعلة لم تكن فاعلة من حيث أنها قابلة بل من وجه آخر فيكون فيها شيئان أحدهما ما به القبول وباعتباره هو مادة والآخر ما به الفعل وباعتباره هو صورة إذ لا نعنى بالصورة غيره فتكون المادة فيها صورة ولا تكون مجردة* وباطل أن يفعل بمجرد الصورة لأن مجرد الصورة لا وجود لها بنفسها بل وجودها فى المادة وإن كان بتوسط المادة فاما أن تكون المادة واسطة حقيقية حتى تكون الصورة علة المادة والمادة علة الشىء فتكون الصورة علة العلة وهذا يرجع إلى أن المادة من حيث أنها مادة قد فعلت وقد أبطلنا ذلك وإما أن يكون بتوسط المادة من حيث أنها بتوسطها يصل الجسم إلى الشىء حتى يؤثر فيه كما أن صورة النار بتوسط المادة تكون مرة ههنا وتؤثر فيما تلاقيه ومرة هناك وهذا يستدعى لا محالة شيئا يكون ههنا وهناك حتى يؤثر الجسم فيه.

(الدعوى السابعة): أن العقول المجردة ينبغى أن لا تكون أقل من عدد الأجسام السماوية وذلك لأنه ثبث أنها مختلفة الطباع وأنها ممكنة فيحتاج وجودها إلى علة والواحد لا يصدر منه إلا واحد فلا بد من عدد حتى يصدر عن كل واحد واحد وينبغى أن تختلف بالنوع حتى يصدر منها أنواع مختلفة كيف وقد سبق أن الكثرة بالعدد لا يتصور فى نوع واحد إلا بكثرة المادة وما ليس فى المادة لو كثر فلا يكثر إلا باختلاف النوع وهو اختصاص كل بفصل يباين به الآخر ولا يكون بعارض إذ يستحيل أن يلزم الشىء عارض لا يصدر من نوعه فاذا لم تكن مادة لم يكن كثرة إلا بالنوع وهذه العقول ينبغى أن يكون هى المعشوق لنفوس السموات فيكون التفات كل واحدة إلى علتها وإلى طلب التشبه بها إذ يستحيل أن يكون معشوق الكل واحدا وإلا لكان الكل فى حركتها واحدا وليس كذلك فانه بان فى الرياضيات أن حركاتها مختلفة ولو كان المطلب واحدا لكان الطلب واحدا فيكون لكل واحد نفس تخصه تحركه بطريق المباشرة والفعل وعقل مجرد يخصه يحركه بطريق العشق وتكون النفوس هى الملائكة السماوية لاختصاصها بأجسامها وتلك العقول هى الملائكة المقربة لبراءتها عن علائق المواد وقربها فى الصفات من رب الأرباب.

(المقالة الخامسة): فى كيفية وجود الأشياء من المبدأ الأول وكيفية ترتب الأسباب والمسببات وكيفية ارتقاءها إلى واحد هو مسبب الأسباب* وكأن هذه المقالة هى زبدة الالهيات وحاصلها وهى المطلوب الأخير من جملتها بعد معرفة صفات الأول الحق وأول أشكال فيه أنه سبق أن الأول واحد من كل وجه وإن الواحد لا يوجد منه إلا واحد والموجودات كثيرة وليس يمكن أن يقال أنها مرتبة بعضها بعد بعض فان ذلك ليس يطرد فى جميع الأشياء* نعم يمكن أن يقال الأجسام السماوية قبل العناصر بالطبع والعناصر البسيطة قبل المركبات ولكن ليس يطرد هذا فى كل شىء فالطبائع الأربعة لا ترتب فيها ولا ترتب بين الفرس والانسان وبين النخل والكرم وبين السواد والبياض والحرارة والبرودة بل هى متساوية فى الوجود فكيف صدرت عن واحد وإن صدرت عن مركب فيه كثرة من أين حصلت وبالآخرة لا بد وأن تلتقى كثره بواحد وهو محال فالخلص منه أن يقال الأول صدر منه شىء واحد يلزم ذلك الواحد لا من جهة الأول حكم آخر فيحصل بسببه فيه كثرة ويكون ذلك مبدأ حصول كثرة متساوقة ثم مرتبة ثم تجتمع المساوية والمترتبة فى واحد فيوجب ذلك الواحد بما فيه من الكثرة كثرة وبهذا تكثر فى واحد فيوجب ذلك الواحد بما فيه من الكثرة كثرة وبهذا تكثر الأمور ولا يمكن إلا كذلك وأما وجه تلك الكثرة فهو أن الأول هو الواحد الحق إذ وجوده وجود محض وإنيته عين ماهيته وما عداه فهو ممكن وكل ممكن فوجوده غير ماهيته كما سبق لأن كل وجود ليس بواجب فهو عرضى للماهية ولا بد من ماهية حتى يكون الوجود عرضا لها فيكون بحكم الماهية ممكن الوجود وبقياس السبب واجب الوجود إذ بان أن كل ممكن بنفسه فهو واجب بغيره فيكون له حكمان الوجوب من وجه والامكان من وجه وهو من حيث أنه ممكن بالقوة ومن حيث أنه واجب بالفعل والامكان له من ذاته والوجوب له من غيره ففيه تركب من شىء يشبه المادة وآخر يشبه الصورة فالذى يشبه المادة هو الامكان والذى يشبه الصورة هو الوجوب الذى له من غيره فاذا يصدر من الأول عقل مجرد ليس له من الأول الفرد إلا الوجود الفرد الواجب به فاما الامكان فله من ذاته لا من الأول بل يعرف ذاته ويعرف مبدئه وإن كان يعرف ذاته من مبدئه لأن وجوده منه ولكن يختلف حكمه بذلك فيحصل منه باعتبار هذه الكثرة كثرة ثم لا يزال تكثر قليلا قليلا إلى أن تنتهى إلى آخر الموجودات وإذا لم يكن بد من كثرة ولم يمكن إلا على هذا الوجه وهى كثرة قليلة لم تكن الموجودات الأول فى غاية الكثرة بل على التدريج تتداعى إلى الكثرة حتى توجد العقول والنفوس والأجسام والأعراض وهى أقسام الموجودات كلها* فان قيل فكيف يمكن أن يكون تفصيل ترتيبها وتركيبها قيل هو أن يصدر من الأول عقل مجرد فيه إثنينية كما سبق أحدهما له من الأول والآخر له من ذاته فيحصل منه ملك وفلك وأعنى بالملك العقل المجرد وينبغى أن يحصل الأشرف من الوصف الأشرف والعقل أشرف والوصف الذى له من الأول وهو الوجود أشرف فيحصل منه عقل ثان باعتبار كونه واجبا والفلك الأقصى باعتبار الامكان الذى هو له كالمادة ويلزم من العقل الثانى عقل ثالث وفلك البروج ومن العقل الثالث رابع وفلك زحل ومن الرابع خامس وفلك المشترى ومن الخامس سادس وفلك المريخ ومن السادس سابع وفلك الشمس ومن السابع ثامن وفلك الزهرة ومن الثامن تاسع وفلك عطارد ومن التاسع عاشر وفلك القمر وعند ذلك استوفت السماويات وجودها وحصلت الموجودات الشريفة سوى الأول تسعة عشر عشرة عقول وتسعة أفلاك وهذا صحيح إن لم يكن عدد الأفلاك أكثرمن هذا فان كان أكثر فينبغى أن تزاد العقول إلى استيفاء السمائيات كلها ولكن لم يوقف بالرصد الأعلى هذه التسعة ثم بعد ذلك يبتدئ وجود السفليات وهى العناصر الأربعة أولا فلا شك فى أنها مختلفة لأن أماكنها بالطبع مختلفة فيطلب بعضها الوسط وبعضها المحيط فكيف تتحد طباعها وهى قابلة للكون والفساد كما سيأتى فى الطبيعيات فلا بد وأن يكون لها مادة مشتركة ولأنه لا يتصور أن يكون جسم عن جسم فلا يجوز أن يكون سبب وجودها الأجسام السماوية وحدها ولأجل أن مادة الأربعة مشتركة لا يجوز أن تكون علة وجود مادتها كثرة ولأجل أن صورها مختلفة لا يجوز أن تكون علة صورها إلا كثرة مختلفة محصورة فى أربعة أشياء أوفى أربعة أنواع لأنها أربع صور ولا يجوز أن تكون الصورة وحدها سببا لوجود المادة إذ لو كان كذلك للزم عدم المادة بعدم الصورة وليس كذلك بل تبقى المادة لابسة لصورة أخرى ولا يجوز ان لا يكون للصورة حظ ومدخل فى وجود الهيولى إذ لو لم يكن لها مدخل لبقيت الهيولى وحدها ببقاء علتها مع عدم الصورة وهذا محال فاذن يكون وجود المادة بمشاركة أمور.

(أحدها): جوهر مفارق به يكون أصل وجودها ولكن لا يكون به وحده بل بمشاركة الصورة كما إن القوة المحركة هى سبب وجود الحركة ولكن بشرط قوة قابلة فى المحل وكما أن الشمس سبب نضج الفواكه ولكن بشرط قوة طبيعية في الفاكهة قابلة للأثر فكذلك وجود المادة يكون بالعقل المفارق ولكن كونه بالعقل يكون بمشاركة الصورة وتخصص صورة دون صورة لا يكون من ذلك المفارق بل لا بد من سبب آخر يجعل بعض المادة أولى بقبول صورة دون صورة وإلا فالمادة مشتركة للعناصر وذلك بأن يجعلها مستعدة لقبول صورة مخصوصة دون أخرى وهذا لا يكون فى أول الأمر إلا من الأجسام السماوية إذ تستفيد المواد بسبب القرب والبعد منها استعدادات مختلفة فاذا استعدت قبلت الصورة من المفارق ولأجل أن هذه الأجسام السماوية متفقة فى طبيعة كلية وهى التى تقتضى الحركة الدورية فى الكل فيفيد المادة الاستعداد المطلق لقبول كل صورة ومن حيث أن لكل واحد منها طبع خاص توجب لبعضها استعدادا خاصا لبعض الصور ثم تكون الصورة لكل مادة من المفارق فاذن أصل المادة الجسمية من الجوهر العقلى المفارق وكونها محدودة الجهات من الأجسام السماوية واستعدادها أيضا يكون منها ويجوز أن يكون لبعضها أيضا من بعض استعداد للجزئيات كما أن النار إذا لاقت الهواء أفادته الاستعداد لقبول صورة النارية فتفيض عليه من المفارق وفرق بين كونه مستعدا وبين كونه بالقوة إذ معنى القوة أنها تقبل الصورة ونقيضها ومعنى الاستعداد أن يترجح صلاحه لقبول إحدى الصورتين على الخصوص فتكون القوة على وجود الشىء وعدمه بالسواء والاستعداد للوجود وحده بأن تصير إحدى القوتين أولى من الأخرى كما ان مادة الهواء قابلة للصورة النارية والمائية بالسواء ولكن غلبة البرد يجعلها لقبول صورة المائية أولى فينقلب ماء بقبول صورة المائية من المفارق عند استفادة الاستعداد من السبب المبرد ولمثل هذا كانت المادة المجاورة للجسم المتحرك على الدوام أولى بصورة النار لمناسبة الحركة للحرارة والمادة التى هى أولى بالسكون كانت هى البعيدة منه فعلى هذا الوجه يكون وجود هذه الأجسام القابلة للكون والفساد أعنى العناصر فقد ظهر من هذا سبب الاستعداد الأول الذى للهيولى بالاضافة إلى الصور كلها ثم سبب استعدادها الخاص بالاضافة إلى الطبائع الأربعة ثم يحدث بامتزاج هذه العناصر أجسام أخر أولها حوادث الجو من البخار والدخان والشهب وغيرها وثانيها المعادن وثالثها النبات ورابعها الحيوان وآخر رتبتها الانسان وكل هذا يحصل بامتزاج العناصر فمن امتزاج صورة المائية والهوائيه يحدث البخار ومن امتزاج النارية والترابية يحدث الدخان فيحصل بالاختلاط الأول حوادث الجو ويكون سبب اختلاطها حركات تحصل فيها من الحرارة والبرودة الصادرة من الأجسام السماوية وتستفيد الاستعداد منها ثم تفيض الصور من واهب الصور فاذا حصل امتزاج أقوى من ذلك وأتم وانضاف اليه شروط حصل استعداد لصور الجواهر المعدنية فتفيض تلك الصور أيضا من واهبها وإن كان الامتزاج أتم من ذلك حصل النبات فان كان أتم حصل الحيوان وأتم الامتزاجات مزاج نطفة الانسان الذى له استعداد لقبول صورة الانسانية وسبب هذه الاستعدادات الحركات السماوية والأرضية واشتباكها وسبب الصور الجوهر المفارق فلا تزال السماويات مفيدة للاستعدادات والمفارق مفيد للصور حتى يتم بهما دوام الوجود وليست هذه الامتزاجات بالاتفاق بل أسبابها متسقة على نظام وهو الحركات السماوية فلذلك يرى بعض الأشياء باقية بأعيانها وهى الكواكب وبعضها لا يمكن بقاء عينها كالنبات والحيوان فدبر لبقائها بقاء نوعها وذلك تارة بالتولد من التراب عند حصول الاستعداد بسبب سماوى مخصوص وتارة يكون بالولادة وهو الأغلب إذ خلق فى كل نوع قوة تنتزع منه جزءا يشبهه بالقوة فيكون سببا لوجود مثله منه فهذا سبب حدوث هذه الحوادث ولا حادث إلا فى مقعر فلك القمر فاما الأجسام السماوية فانها ثابتة على حالة واحدة فى ذواتها وأعراضها إلا فما هو أخس أعراضها وهو الوضع والاضافة إذ بحركاتها المتقابلة يحصل الثليث بين الكوا كب والتسديس والمقارنة والمقابلة والتربيع واختلاف مطارح الشعاع وأنواع من الامتزاجات تذكر فى علم النجوم وليس فى قوة البشر استيفاء جميعها فيكون تلك سببا لاختلاف هذه الامتزاجات والاستعدادات لاستفادة الصور من واهب الصور الذى لا يبخل بالافاضة والافادة وإنما لا تحصل الصور منه فما لا يحصل لقصور فى القابل لا لمنع من جهته فاذا اختلفت تلك المناسبات السماوية بالنوع حصلت استعدادات مختلفة بالنوع وفاضت صور مختلفة كصورة الفرس والانسان والنبات فان المادة القابلة لصورة الفرس لا تقبل صورة الانسان البتة ولذلك لم يلد فرس إنسانا قط وإذا تفاوتت فى القوة مع اتحاد النوع أوجبت تفاوتا فى صفة الاستعداد فتتفاوت صورة النوع الواحد فى الكمال والنقصان فما من حيوان ناقص بعضو أو صفة إلا ونقصانه لسبب فى رحم أمه أو فى وقت التربية أو فى أمر من الأمور المتعلقة به ويكون ذلك السبب بسبب آخر وكذلك سببه ولا يتسلسل إلى غير نهاية فترتقى بالآخرة إلى الحركات السماوية فحصل من هذا أن الخير فائض على الكل من المبدأ الأول بواسطة الملائكة حتى وجد كل ما كان فى الامكان وجوده على أحسن الوجوه وأكملها فكل ما هو موجود فوجوده كما ينبغى ولا يمكن أن يكون أتم منه والمادة التى منها الذباب لو قبلت صورة أكمل من صورة الذباب لفاضت من واهبها إذ لا بخل ثمة ولا منع وإنما هو فياض بالطبع كما يفيض النور من الشمس على الهواء والأرض والمرآة والماء فيختلف أثره حتى لا يظهر فى الهواء ويظهر على الأرض ولا ينعكس منه الشعاع ويظهر فى المرآة والماء وينعكس الاشراق لا لتفاوت جاء من ناحية الشمس بل لاختلاف استعداد المواد وينبغى أن يعلم أن الذباب خير من مادة الذباب لو تركت كذلك ولولا أنه كذلك لما وجد* فان قيل نرى الدنيا طافحة بالشرور والآفات والفواحش كالصواعق والزلازل والطوفانات وكالسباع وغيرها وكذا فى نفوس الآدمين من الشهوة والغضب وغيرهما فكيف صدر الشر من الأول أبقدر أم بغير قدر فان لم يكن بقدر فقد خرج عن قدرة الأول ومشيئته شىء فهو مما ذا وإن كان بقدر فكيف قدر الشر وهو خير محض لا يفيض منه إلا الخير فيقال لا ينكشف سر القدر إلا بذكر معنى الخير والشر* أما الخير فيطلق على وجهين.

(أحدهما): أن يكون خيرا فى نفسه ومعناه أن يكون الشىء موجودا ويوجد معه كماله فاذا كان الخير هذا فالشر فى مقابلته عدم الشىء أو عدم كماله فالشر لا ذات له ولكن الوجود هو خير محض والعدم شر محض وسبب الشر هو الذى يهلك الشىء أو يهلك كمالا من كمالاته فيكون شرا بالاضافة إلى ما أهلكه.

(والآخر): أن الخير قد يراد به من يصدر منه وجود الأشياء وكمالها والأول خير محض بهذا المعنى إلا أن الأشياء بهذا الاعتبار أربعة أقسام.

(الأول): ما هو خير محض لا يتصور أن يصدر منه شر.

(والثانى): ما هو شر محض لا يمكن أن يكون منه خير.

(والثالث): ما يوجد منه الخير والشرولكن الخير ليس بأغلب.

(والرابع): ما يكون منه الخير أغلب.

(أما الأول): فقد فاض من الأول وهى الملائكة فانها أسباب للخيرات لا يكون منها شر.

(وأما الثانى): لم يوجد منه وهو ما لا يتصور أن فيه خير بل هو شر محض.

(وأما الثالث): فهو الذى غلب فيه الشر فحقه أن لا يوجد أيضا إذ احتمال الشر الكثير لأجل الخير القليل شر وليس بخير.

(وأما الرابع): فينبغى أن يوجد وذلك مثل النار مثلا فان فيها قواما عظيما للعالم إذ لو لم تخلق لاختل نظام العالم وعظم الشر فى اختلاله ولو خلق لكان لا محالة يحترق ثوب الفقير لو انتهى اليه بمصادمات الأسباب وكذلك المطر إن لم يخلق بطلت الزراعة وخرب العالم ولو خلق فلا بد أن يخرب سطح بيت العجوز إذا نزل عليه وليس يمكن خلق مطر يميز فى نزوله بين موضع وموضع فلا يقع على السطوح ويقع على الزرع الذى فى جواره فان هذا فعل من مختار وصورة الماء بمجردها من غير امتزاج لا تقبل صورة الحياة ولو مزج بغيره وجعل حيوانا لكان لا يحصل منه فائدة الماء بكمالها كما لم يحصل من هذه الحيوانات فالمفيد للخير بين أن يخلق المطر لخير العالم ولا يعبأ بالشر النادر الذى يتولد منه ويلزمة بالضرورة وبين أن لا يخلق المطر ليصير الشر عاما وإذا قوبل هذا بذلك علم قطعا إن الخير فى أن يخلق ومن هذا خلق.

(زحل والمريخ والنار والماء والشهوة والغضب): فان هذه أمور لو لم تكن لبطل بسبب فقدها خير كثير ولا يمكن خلقها إلا ويلزم منها شر قليل وعلم أن ذلك مما يلزم منه مرضى به فالخير مقضى به بالذات والشر مقضى به بالعرض ومرضى بالعرض وكل بقدر* فان قيل كان ينبغى أن يخلق بحيث يكون خيرا محضا فيقال معنى هذا السؤال أنه كان ينبغى أن لا يخلق هذا القسم لأن القسم الذى هو خير محض فقد وجد وبقى فى الامكان ما لا يتمحض خيره ولكن يكثر خيره ويقل شره وكان الخير فى وجوده لا فى عدمه فلو لم يكن كذلك لم يكن هذا القسم فمعنى السؤال أن النار ينبغى أن يخلق بحيث لا يكون نارا وزحل بحيث لا يكون زحلا وهو محال فان قيل فلم قلتم إن الشر قليل قلنا لأن الشر عبارة عن الهلاك والنقصان ومعناه عدم ذات أو عدم صفة ذات هو كمال بالذات وهذا يستحيل فى حق الملك والفلك كما سبق ولا يوجد هذا إلا من حيث توجد الصور المتضادة وهى العناصر إذ يعدم بعض الصور بعضا لتضادها لا محالة فلا يكون ذلك إلا فى الأرض ولو كان الشر عاما فى كل الأرض لكان قليلا إذ كل الأرض قليلا بالاضافة إلى الوجود فكيف والسلامة غالبة وإنما توجد هذه الشرور فى حق الحيوانات وهى أقل ما فى الأرض ثم لا يوجد إلا فى أقل الحيوانات إذ أكثرها يسلم والذى لا يسلم فانه فى أكثر أحواله يسلم وإنما يتغير فى بعض الأحوال أو فى بعض الصفات لا فى الكل فلا يخفى أنه نادر بالاضافة إلى الخير* وعلى الجملة فكل هذا لا يرجع إلا إلى فساد أحوال الذات والخوف من عدم الذوات حيث يتصور الخوف أشد من الخوف من عدم الصفات فالشر هو عدم وإدراك العدم هو الألم والخير هو الكمال وإدراكه هو اللذة فقد اتضح كيفية صدور هذه الموجودات من الأول وكيفية ترتبها وكيفية دخول الشر فيها وكيفية دخوله تحت القضاء والقدر وإنما منع من ذكر سر القدر لأنه يوهم عند العوام عجزا فان الصواب فى أن يلقى اليهم أن الأول قادر على كل شىء ليوجب ذلك تعظيما فى صدورهم فلو فصل وقيل لا بل هو قادر على كل ممكن وقسمت الأمور إلى ممكنة وغير ممكنة وقيل إن خلق النار بحيث يطبخ به الطبيخ ويذاب به الجوهر ولكنه لا يحرق حطب الفقير إذا وقع فى داره غير ممكن لظنوا أن ذلك عجز بل لو قيل لبعضهم أنه لا يقدر على خلق مثل نفسه ولا على الجمع بين السواد والبياض لظن ذلك عجزا فهذا هو سر القدر على ما قيل والله أعلم بالصواب.

~~(الطبيعيات) بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثالث (الفن الثالث فى الطبيعيات)

قد ذكرنا أن الموجود ينقسم إلى جوهر وعرض والعرض ينقسم إلى ما يفهم من غير إضافه إلى الغير كالكمية والكيفية وإلى ما لا يفهم إلا بالاضافة وهو متفرع على الجوهر والكيفية والكمية وأن العلم بالجوهر والعرض وأحكام الوجود من الالهيات وأن التقسيم ينزل منه إلى الكمية التى هى موضوع الرياضيات وإلى ما يتعلق بالمواد تعلقا لا يقبل التجريد عنها فى الوهم والوجود وهو موضوع نظر الطبيعيات فانه يرجع إلى النظر فى جسم العالم من حيث وقوعه فى التغير والحركة والسكون فينحصر مقصوده فى أربع مقالات.

(واحدة): فيما يلحق سائر الأجسام وهى أعم أمورها كالصورة والهيولى والحركة والمكان.

(والثانية): فيما هو أخص منه وهو نظر فى حكم البسيط من الأجسام.

(والثالثة): النظر فى المركبات والمتزجات.

(والرابعة): النظر في النفس النباتى والحيوان والانسانى وبها يتم الغرض.

(المقالة الأولى): فيما يعم سائر الأجسام وهى أربعة الصورة والهيولى إذ لا ينفك عنهما جسم وقد ذكرناهما والحركة والمكان فلا بد الآن من ذكرهما.

(القول فى الحركة): ولا بد من بيان حقيقتها وبيان أقسامها* أما الحقيقة فالمشهور أن الحركة تطلق على الانتقال من مكان إلى مكان فقط ولكن صارت باصطلاح القوم عبارة عن معنى أعم منه وهو السلوك من صفة إلى صفة أخرى تصيرا اليه على التدريج* وبيانه أن كل ما هو بالقوة وأمكن أن يصير بالفعل ينقسم إلى ما يصير بالفعل دفعة واحدة كالأبيض يسود دفعة وكالمظلم يستنير دفعة استنارة مستقرة واقفة لا تزيد وإلى ما يصير بالفعل تدريجا فيكون له بين القوة المحضة وبين الفعل المحض سلوك ويتدرج فى الخروج من القوة إلى الفعل ولا يكون هو محض القوة لأنه ابتدأ فى الخروج منها ولا محض الفعل فانه لم ينته بعد إلى الحد الذى هو المقصود واليه التوجه كالمظلم مثلا وقت الصبح يستنير تدريجا فلا يكون نيرا بالقوة المحضة إذا ابتدأ بالوجود ولا يكون بالفعل المحض لأن الحد الذى هو المقصود بالحصول لم يحصل وكذلك إذا ابتدأ الجسم بالاسوداد مفارقا للبياض فما دام سالكا بين البياض والسواد يسمى متحركا أى متغيرا على التدريج والانتقال من حال إلى حال إنما يقع فى المقولات العشر لا محالة.

(قسمة أولى للحركة) ولا تقع الحركة من جملتها إلا فى أربعة.

(الحركة المكانية والانتقال فى الكمية وفى الوضع وفى الكيفية): أما المكان فلا يتصور منه الانتقال دفعة إذ المكان قابل للانقسام والجسم كذلك فانما يفارق مكانه جزءا بعد جزء ويتقدم البعض منه على البعض* لا يتصور إلا كذلك ففى الكون فى المكان حركة وكذا في الوضع وهو الانتقال من الجلوس إلى الاضطجاع وكذا الانتقال من الكمية بأن يكبر الشىء أو يصغر وكأن كل واحدة من حركة الوضع والكمية أيضا لا يخلو عن الحركة المكانية* وأما الكيفية فيجوز فيها الانتقال دفعة كما لو اسود دفعة ويجوز فيه الحركة وذلك بأن يسود تدريجا* وأما الانتقال فى الجوهر فلا يتصور فيه الحركة فالماء يستحيل هواء دفعة والنطفة تستحيل إنسانا دفعة *وبرهانه أنه إذا ابتدأ فى التغير فلا يخلو إما أن يبقى النوع الذى كان أو لم يبق فان بقى فهو بعد غير زائل عما كان عليه إذ هو إنسان مثلا ولا يتصور تفاوت فى الجوهر فلا يكون إنسان اشد إنسانية من آخر بخلاف السواد وإن زال النوع بالكلية فهو زائل بالكلية فاذا الجوهرية تغيرت بها عن النوعية والاستحالة من النوع مزيلة للنوع فان كان النوع باقيا كانت الاستحالة فى العرض لا فى الفصل والجنس أعنى أنه لا فى الحد والحقيقة* والحركة المستديرة حركة فى الوضع لا فى المكان لأنها لا تفارق المكان بل تدور فى مكان نفسها والسماء الأقصى ليس له مكان كما سيأتى وهى متحركة* وأما الكمية فيتصور فيها حركتان.

(إحداهما): بالغذاء وهو النمو والذبول.

(والأخرى): بغير عذاء وهو التخلخل والتكاثف والنمو بالغذاء هو أن يستمد الجسم المغتذى من جسم آخر قريب منه بالقوة فيتشبه به بالفعل وينمو به الجسم إلى تمام النشو* والذبول هو أن ينقص الجسم لا بسبب تخلخل أجزائه بل بسبب فقد غذاء يسد مسد ما يتحلل منه وإنما يحتاج إلى الغذاء جسم يتحلل منه على الدوام شىء بسبب احتفاف الهواء المحيط به لرطوبته وبسبب إذابة الحرارة الغريزية إياه فيكون الغذاء جابرا لما يتحلل منه دائما* وأما التخلخل فهو أن يتحرك الجسم إلى الزيادة من غير مدد من خارج ولكن يكبر فى نفسه من غير أن يقبل شيئا من خارج بأن يقبل مقدارا أكثر من مقداره الأول كالماء يسخن فيكبر فاذا سد رأس الاناء لم يتسع له فينكسر وكالطعام فى البطن ينتفخ ويتبخر فيعظم مقداره فيكبر البطن بسببه منتفخا وإذا بان أن الهيولى ليس لها مقدار بذاتها وأن المقدار عرضى لها لم يكن بعض المقادير أولى بها من بعض حتى يتعين لها قبول مقدار مخصوص بل لا يستحيل أن تقبل أقل وأكثر وإن لم يكن ذلك جزافا وكيف كان ولا إلى حد معلوم* وأما التكاثف فهو حركة إلى النقصان لقبول مقدار أصغر من غير إبانة شىء منه كالماء إذا جمد صار أصغر.

(قسمة ثانية للحركة باعتبار سببها) الحركة تنقسم إلى ما هو بالعرض وبالقسر وبالطبع فالتى بالعرض هو أن يكون الجسم فى جسم آخر فيتحرك الجسم المحيط ويحصل فى الجسم المحاط حركة بمعنى أنه ينتقل من مكانه العام دون الخاص كالكوز الذى فيه ماء إذا نقل فان الماء فى مكانه الخاص وهو الكوز لم ينتقل ولكن لما انتقل الكوز من بيت إلى بيت صار الماء أيضا منتقلا من بيت إلى بيت والمكان الخاص للماء هو الكوز دون البيت فحركة الماء بالحقيقة هو أن يخرج من الكوز* وأما القسرى فهو أن يترك مكانه الخاص ولكن بسبب خارج من ذاته كانتقال السهم بالقوس وانتقال الشىء بما يجذبه أو يدفعه كما ينتقل الحجر إلى فوق إذا رمى إلى فوق* وأما الطبعى فهو أن يكون له من ذاته كحركة الحجر إلى أسفل والنار إلى فوق وكتبرد الماء طبعا إذا سخن قسرا وهذا لأن الجسم إذا تحرك فلا بد له من سبب وسببه إن كان خارجا من ذاته سمى قسرا وإن لم يكن خارجا من ذاته سمى طبعا ولا شك فى أنه لا يتحرك من ذاته لكونه جسما إذ لو كان كذلك لكان متحركا دائما ولكان لكل جسم على وجه واحد بل لمعنى يزيد عليه يسمى ذلك المعنى طبيعة ثم ينقسم إلى ما يكون بغير إرادة كحركة الحجر إلى أسفل فيخص باسم الطبع إن اتحد نوعه وإن تحرك إلى جهات مختلفة يسمى نفسا نباتيا كحركة النبات وإن كان مع إرادة وكان فى جهات مختلفة يسمى نفسا حيوانيا وإن كانت الجهة متحدة كحركة الفلك يسمى نفسا ملكيا أو فلكيا فان قيل فلم قلتم بأن حركة الحجر والنار طبيعى فلعل الحجر يدفعه الهواء إلى أسفل أو تجذبه الأرض إلى نفسها والزق المملوء هواء فى الماء إنما يصعد لأن الهواء يجذبه أو لأن الماء يدفعه فيقال برهان بطلان ذلك إنه لو كان كذلك لكان الصغير أسرع حركة من الكبير فان جذب الصغير ودفعه أيسر والأمر بضد هذا فدل أنه من ذاته والا لما اشتد لكبر ذاته وضعف بصغر ذاته.

(قسمة ثالثة للحركة) الحركة تنقسم إلى مستديرة كحركة الأفلاك وإلى مستقيمة كحركة العناصر والمستقيمة تنقسم إلى ما هو إلى المحيط عن الوسط ويسمى خفة وإلى ما هو إلى الوسط ويسمى ثقلا وكل واحد ينقسم إلى ما هو إلى الغاية كحركة النار إلى المحيط والأرض إلى المركز وإلى ما هو دونه كحركة الهواء من الماء إلى ما فوقه وكحركة الماء من الهواء إلى ما فوق الأرض فالحركة باعتبار الوسط ثلاث حركات حركة على الوسط وهى الدورية* وحركة عن الوسط* وحركة إلى الوسط.

(القول فى المكان): القول في المكان طويل ووجيزه أن له بالاتفاق أربع خواص.

(أحدها): أن الجسم ينتقل منه إلى مكان آخر ويستقر الساكن فى أحدهما.

(والثانى): أن الواحد منه لا يجتمع فيه اثنان فلا يدخل الخل فى الكوز ما لم يخرج الماء ولا يدخل الماء ما لم يخرج الهواء.

(والثالث): أن فوق وتحت إنما يكونان فى المكان لا غير.

(والرابع): أن الجسم يقال أنه فيه فبهذا غلط من ظن أن المكان هو الهيولى لكون الهيولى قابلا لشىء بعد شىء كما أن المكان كذلك وهو خطأ لأن الهيولى هو قابل للصورة والمكان عبارة عما يقبل الجسم لا الصورة وظن فريق أنه الصورة لأن الجسم يكون فى صورة غير مفارقة له وهو غلط لأن الصورة لا تفارق عند الحركة وكذا الهيولى والمكان يفارق بالحركة وقال فريق مكان الجسم هو مقدار البعد الذى بين طرفى الجسم فمكان الماء هو الذى بين طرفى مقعر الكوز وهو الذى يشغله الماء ثم اختلف هؤلاء* فقال فريق يستحيل تقدير هذا البعد خاليا بل لا يكون الاملاء* وقال أصحاب الخلاء يجوز أن يفرغ هذا البعد عن جسم يملؤه فأثبتوا خلاء وراء سطح العالم لا نهاية له وأنبتوا فى داخل العالم خلاء أيضا ولا بد من إبطال تقدير إمكان الخلاء.

(أما المذهب الأول): وهو أن المكان هو البعد فانما يستقيم لو فهم أن بين طرفي الكوز بعدا يستوى بعد الماء الذى فيه أو الهواء فعند ذلك يكون مكانا للماء أو الهواء وذلك ليس بمعلوم فان المشاهدة ليست تدل إلا على بعد الجسم الذى فى الكوز فاما بعد آخر مداخل له فلا* فان قيل لو قدرنا خروج الماء من غير دخول الهواء لبقى البعد بين الطرفين فهذا ليس بحجة وإن كان صادقا لأنه بناء على محال إذ يستحيل أن يخرج الماء من غير دخول الهواء والصادق إذا ابتنى على محال لم يكن صادقا دون ذلك المحال فانك لو قلت الخمسة لو انقسمت بمتساويين لكان زوجا فهو صادق ولكن لا يجوز أن يتوصل به إلى أنه زوج فكذلك لو خلا الكوز لكان فيه بعد ولكن المقدم محال فالتالى لا يلزم منه فهذا من حيث المطابقة ليفهم ما قالوه* وأما البرهان على استحالته فهو أن بعد الجسم بين طرفى الكوز معلوم فان فرض بعد آخر فقد دخل فى بعد الجسم والابعاد يستحيل تداخلها بدليل أن الأجسام لا تتداخل وليس ذلك لكونها جوهرا لأن البعد عند هؤلاء قائم بنفسه فهو جوهر ومع هذا دخل في الجسم ولا لكونه باردا أو حارا أو غيره من الأعراض إذ لو كان كذلك لجاز التداخل عند عدم تلك الصفة فلا سبب له إلا أنه ذو بعد والأبعاد لا تتداخل ومعناه أن ما بين طرفى الصندوق مثلا ذراع من الهواء وهذا الجسم أيضا ذراع فلو دخل فيه دون خروج الهواء لكان قد صار الذراعان ذراعا واحدا مع وجود الجسمين المذروعين ويستحيل أن يصير ذراعان ذراعا واحدا وكما يستحيل هذا فى ذراع هو هواء يستحيل فى غيره فاذن لا يتداخل بعد ان فانه إن أريد بالتداخل أن أحدهما انعدم وبقى الآخر فهذا انعدام وإن أريد بقاؤهما جميعا رجع إلى أن ذراعين ذراع واحد وهو محال ولأنه إذا قدر البعدان جميعا موجودين فبم يعرف الاثنينية* والدليل الذى أبطل دعوى سوادين فى محل واحد يبطل هذا فان الاثنينية لا تفهم إلا بعد مفارقة الواحد الآخر بعرض من الأعراض كما سبق برهانه فاذا تداخل البعدان جميعا وأحدهما لا يفارق الآخر فأى فرق بين قول القائل أن ههنا بعدين وبين قوله ثلاثة أبعاد وأربعة أبعاد وهذا محال ولا بجوز الفرق بوصف كان موجودا وعدم حالة التداخل لأن المعدوم لا يوقع التفرقة بين الشيئين* أما بطلان الثانى وهو إبطال الخلاء فما ذكرنا أيضا كفاية لأن فيه قولا بتداخل الأبعاد ولكنا نزيد أدلة (الأول): أن الخلاء إنما يقع في الأوهام من الهوا لأن الحس لا يدركه فيظن الانسان أن الكوز الذى لا ماء فيه فارغ خال فينغرس فى الأوهام تصور الخلاء فان ما توهمه أرباب الخلاء هو شىء مثل الهواء لأن له مقدارا مخصوصا وهو قائم بنفسه وهو منقسم* ونحن لا نريد بالجسم إلا ما وجد فيه هذه الصفات وبهذا الاعتبار كان الهواء جسما فالخلاء ليس عدما محضا فانه يوصف بأنه صغير وكبير ومسدس ومربع ومستدير وأن هذا الخلاء يتسع لذراعين من الملاء لا أكثر منه ولو كان أقل منه فلا يطابقه والنفى المحض لا يوصف بمثل هذه الأوصاف فهو موجود قائم بنفسة ليس بعرض وله مقدار ويقبل القسمة ونحن لا نعنى بالجسم إلا هذا بدليل الهواء (الثانى): أنه لو كان الخلاء موجودا لكان الجسم فيه غير ساكن ولا متحرك والتالى محال فالمقدم محال* وإنما قلنا أن السكون فى الخلاء محال لأن السكون إما أن يكون بالطبع أو بالقسر فان فرض سكون الجسم فى جزء من الخلا بالطبع فهو محال لأن أجزاء الخلاء متشابهة لا اختلاف فيها وإن فرض بالقسر فانما يكون بالقسر إذا كان له موضع آخر ملائم على خلاف ما هو فيه وإذا انتفى الاختلاف انتفى الافتراق فى حق الطبع والقسر بعد الطبع* وأما الحركة فى الخلاء فهو أيضا محال بدليلين.

(أحدهما ): ما ذكرنا فانه إن كان بالطبع فكأنه يطلب موضعا مخالفا لما كان فيه ولا اختلاف فيه وكذا القسر.

(والثانى): أنه لو كان فى الخلاء حركة لكان فى غير زمان وهو محال فالمقدم محال ووجه استحالته ما قد سبق أن كل حركة ففى زمان لأن كونه في الجزء الأول قبل كونه في الثانى لا محالة وإنما لزم هذا المحال لأن الحجر يتحرك إلى أسفل فى الهواء أسرع من أن يتحرك في الماء لأن الهواء أرق وممانعته ودفعه أقل ولو صار الماء ثخينا بدقيق أو غيره لصارت حركة الحجر فيه أبطأ أيضا لما يحصل فيه من الممانعة والدفع فنسبة الحركة إلى الحركة في السرعة والبطؤ كنسبة الرقة إلى الثخانة فى الممانعة والدفع فاذا فرضنا حركة فى خلاء مائة ذراع مثلا فى ساعة ثم فرضنا حركة ذلك الجسم مع تقدير وجود الهواء أو الماء فى تلك المسافة فلا بد أن يكون أبطأ فليقدر أنه في عشر ساعات فلو قدرنا الملاء بشىء بدل الماء أرق منه إلى حد يكون نسبته فى الممانعة اليه العشر فتكون الحركة فى ساعة فيؤدى إلى مساواة الحركة مع وجود أصل المنع للحركة في الخلاء مع عدم المنع وإذا كان التفاوت فى قدر المنع يوجب التفاوت فى الحركة فالتفاوت فى وجود المنع وعدمه كيف لا يوجب وهذا برهان قاطع يثبت ما ذكرنا من لزوم اشتمال كل جسم على ميل فيه.

(الثالث): وهو من العلامات الطبيعية على إبطال الخلاء أن الطاس من الحديد إذا ألقى على الماء لم يغص فيه ولا سبب له إلا أن الهواء متشبث بمقعره فانه لو غاص الطاس فالهواء لا يساعده حتى يحصل فى حيز الماء لأنه يطلب الصعود من حيزه ولو انفصل عنه واستمسك فى حيزه وغاص الطاس حصل خلاء بين سطح الطاس وسطح الهواء المنفصل وهو محال وعلى هذا بنيت السفينة ولذلك لو خرج الهواء من الطاس أو السفينة وملىء بماء لرسب وكذلك كوبة الحجام تخرج الهواء بالمص فينجذب معه بشرة المحجوم لأنه لو لم ينجذب لحصل خلاء وهو محال وكذلك سراقة الماء يتماسك الماء فيها مع التنكيس لذلك فلو خرج الماء لم يجد فى أسفل السراقة ما يستخلفه فيخلو ويستحيل وجود الخلاء وانفصال سطوح الأجسام بعضها من بعض من غير خلف وكذلك القارورة قد توضع على الهاون وضعا مهندما ثم يرتفع الهاون برفعها إلى غير ذلك من جملة الحيل التى بنيت على استحالة الخلاء فان قيل ما حقيقة المكان قيل ما استقر عليه رأى أرسطاطاليس هو الذى أجمع عليه الكل وهو أنه عبارة عن سطح الجسم الحاوى أعنى السطح الباطن المماس للمحوى لأن العلامات الأربعة المذكورة موجودة فيه وكل ما وجدت فيه تلك العلامات فهو مكان فقد وجدت فى السطح الباطن من الجسم الحاوى فهو مكان ولم يوجد فى صورة ولا فى هيولى ولا غيره فلا يكون مكانا فاذا جملة العالم ليس فى مكان أصلا ولذلك لا يجوز أن يقال لم اختص بهذا الحيز فلم يكن أرفع منه أو أسفل لأن الخلاء محال فليس ثمة أرفع وأسفل وأما النار فمكانها محيط فلك القمر من الباطن ومكان الهواء السطح الباطن من النار ومكان الماء السطح الباطن من الهواء وعلى هذا الترتيب ينبغى أن نعتمد.

(المقالة الثانية): فى الأجسام البسيطة والمكان خاصة لا يخفى انقسام الجسم إلى البسيط والمركب* والبسيط ينقسم إلى ما لا يقبل الكون والفساد كالسماويات وإلى ما يقبل كالعناصر الأربعة وقد سبق أن السماويات لا تقبل الانخراق ولا الفساد ولا الحركة المستقيمة ولا تخلو عن الحركة المستديرة وأنها كثيرة وطباعها مختلفة ولها نفوس تتصور وتتحرك بالارادة وكل ذلك سبق فى الالهيات ونزيد ههنا أن موادها أعنى هيولياتها مختلفة بالطبع ليست مشتركة كما أن صورها مختلفة لا كالعناصر فان موادها مشتركة إذ لو كانت مادتها مشتركة لكانت مادة الواحد منها تصلح من حيث ذاتها أن تتصور بصورة أخرى ولو كان يتصور ذلك لكان تخصيصها بصورتها بالاتفاق وبسبب اتفق ملاقاته لها ولا يستحيل أن يفرض ملاقاة سبب آخر فتقبل صورة أخرى فتفسد الأولى وتتكون الثانية ويلزم منه أن يتحرك الحركة المستقيمة إلى حيز الطبيعة الأخرى وهو محال والممكن لا يفضى إلى المحال فدل أنه لا يمكن أن تكون مادتها مشتركة ولا مماثلة لمادة العناصر هذا حكم بسائط السماوات* وأما العناصر فندعى فيها أنها لا بد وأن تنقسم إلى حار يابس كالنار وحار رطب كالهواء وبارد رطب كالماء وبارد يابس كالأرض ثم ندعى أن الحرارة والرطوبة واليبوسة والبرودة أعراض فيها لا صور ثم ندعى أنه يتصور أن تستحيل وتتغير فى تلك الأعراض كما يسخن الماء وأنه ينقلب بعض هذه العناصر إلى بعض وأنه يقبل كل واحد مقدارا أكبر وأصغر مما هو عليه وأنها تقبل الآثار من الأجسام السماوية وأنها لا بد وأن تكون فى وسط الأجسام السماوية فهذه سبع دعاوى.

(الأولى): أن هذه الأجسام القابلة للتغير والكون والفساد والتركيب لا تخلو عن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لأنها إما تكون سهلة القبول للشكل سهلة الترك له وهو المراد بالرطوبة وإما أن تكون عسرة القبول للشكل أو الاتصال حتى يجوز أن يتماس منه أجزاء وتبقى غير متصلة فان كانت سريعة الاتصال عبر عنه بالرطب مثل الماء والهواء وإن كانت لا تتصل عند التماس يسمى ذلك يابسا كالتراب والنار ثم أنها لا تخلو عن الحرارة والبرودة لأنها قابلة للمزاج كما سيأتى فلا بد أن تتفاعل وأن يؤثر بعضها فى بعض والا كان مجاورة ولم يكن مزاجا وفعلها إما أن يكون بالتفريق ويسمى حرارة ~~أو بالتعقيد ويسمى برودة ولذلك يلحقها الانكسار وذلك عند شدة امتزاج الرطوبة باليبوسة واللين إنما يكون من الرطوبة والصلابة من اليبوسة والملاسة الطبيعية من الرطوبة والخشونة الطبيعية من اليبوسة فاذن أصول هذه الطبايع هذه الأربعة وتلحقها البقية بعدها ولا تخلو هذه الأجسام عن هذه الأربعة أما الرائحة والطعم واللون فيجوز أن تخلو عنها فلا لون للهواء ولا طعم للمياه ولا للهواء ولا رائحة للهواء ولا أيضا فى الحجر فاذن الكيفيات الملموسة تكون فى الأجسام أولا وسابقة على المرئية والمشمومة والمذوقة والمسموعة فاذن يكون الاختلاط الأول لهذه الطبائع الأربعة وأما الخفة فانها مع الحرارة والثقل مع البرودة وكلما زادت اليبوسة مع واحدة من الحرارة والبرودة زادت الخفة والثقل فالحار اليابس أشد خفة والبارد اليابس أشد ثقلا وإذا لم يكن بد من اجتماع كيفيتين لكل جسم كان التركيب أربعة حار يابس ولا شىء أبلغ فيهما من النار وهو البسيط الحار اليابس وحار رطب وهو الهواء وبارد رطب وهو الماء وبارد يابس وهو الأرض فاذا المركبات بعدها دونها فى هذه المعاني ويقاربها من المركبات ما يغلب فيه هذه الطبايع ودليل أن الهواء حار بالطبع أنه يطلب جهة فوق إذا حبس فى الماء وإذا أوقد النار تحت الماء وحمى تبخر وصار هواء متصاعدا نعم الهواء الذى يجاور أبداننا يحس منه البرودة لأنه يمتزج بأبخرة اختلطت به من الماء المجاور له ولولا أن الأرض تحمى بالشمس ويحمى بسببها الهواء المجاور لها لكان الهواء أبرد من هذا ولكنه يحمى الهواء المجاور للأرض إلى حد ما فتقل البرودة ويكون ما فوقه أبرد إلى حد ما ثم يترقي إلى ما هو حار وإن لم يكن مثل النار فى الحرارة وأما الأرض فهو يابس بارد وبرودته من حيث أنه لو ترك بنفسه لكان باردا ولولا البرودة لما كان ثقيلا كثيفا طالبا جهة تناقض جهة النار فى البعد فاذن الأجسام البسيطة هذه الأربعة وهى أمهات الأجسام وسائر الأجسام يحصل من امتزاجها.

(الدعوة الثانية): أن هذه الصفات الأربع أعراض وليست بصور كما ظنه قوم لأن الصورة جوهر وهو لا يقبل الزيادة والنقصان والأشد والأضعف وهذه الأجسام تتفاوت فى الحرارة والبرودة فرب ماء أبرد من ماء ولأن صورة الماء لو كانت البرودة لكانت تبطل صورته بالحرارة وكان يجب أن يفارق مكانه إلى مكان الحار ولما كان تبقى حقيقة المائية بل كان يفسد بفساد البرودة ولو كانت صورة الهواء الخفة والحركة إلى فوق لكان إذا حبس فى وسط الماء فى زق لم يكن هواء لزوال صورته فهذه أعراض وإنما صورة العنصر طبيعة أخرى أعنى أنها حقيقة حالة فى الهيولى لا تدرك فى نفسها بالحواس وإنما المدرك بالحواس من اللون والبرودة والرطوبة أعراض تصدر من تلك الطبيعة وإنما عرفت بفعلها فانها تفعل فى جسمها السكون فى محله الطبيعى والرد اليه عند المفارقة ويوجب الميل الذى يعبر عنه بالخفة والثقل ويوجب فى كل جسم كيفية خاصة وكمية خاصة فطبيعة الماء تظهر فيه البرودة وإذا أزيلت البرودة عنه بالقسر ردتها اليه عند انقطاع القاسر كما أنه يوجب حركة إلى أسفل مهما رمى إلى فوق قهرا وذلك إذا زالت القوة القاهرة وكذلك ربما يتغير مقدار الماء بالقهر إلى أصغر وأكبر فان زال القهر عاد إلى مقداره الطبيعى فاذن لكل واحد من هذه الأربع صورة هى حقيقته ووجوده وهذه الكيفيات المحسوسة أعراض.

(الدعوى الثالثة): إن هذه العناصر تقبل الاستحالة والتغير فيجوز أن يصير الماء حارا أى تحدث صفة الحرارة فى نفس الماء وكذا سائر العناصر وتحدث الحرارة بثلاثة أسباب.

(أحدها): أن يجاوره جسم حار مثل النار فانها تسخن الماء.

(والثانى): الحركة كما أن اللبن يحمى فى الممخض بالحركة والماء الجارى أحر من الماء الراكد وإذا حك حجر بحجر حمى وظهر منه النار.

(والثالث): الضوء فانه إذا صار جسم مضيئا حمى كما أن المرآة الحراقة تحرق بضوئها وقد خالف قوم فى هذا فقالوا إن الماء لا يحمى والأرض كذلك وإن الهواء لا يبرد فتكلفوا لهذه الأقسام وجها فقالوا إذا جاور الماء النار انفصل من أجزاء النار ما يمتزج بأجزاء الماء ن فيكون الحار أجزاء النار ورودة الماء تصير مستورة لكون أجزاء النار غالبة والا فهو فى نفسه بارد كما كان ومهما انقطع مدد النار انفصلت منه أجزاء النار وعادت البرودة ظاهرة بعد أن كمنت لا أنها عدمت فاما الشىء فانما يحمى بالحركة لأن باطنه لا يخلو عن أجزاء من النار فالحركة تخرج الأجزاء إلى الظاهر وأما الضوء فانه لا يجعل غيره حارا فانه ليس بعرض بل هو جسم حار فى نفسه وهو لطيف ينتقل من موضع إلى موضع وإنما تكلفوا هذا لأنهم ظنوا أن هذه الأعراض صور فلم يجدوا وجها لزوال برودة الماء مع بقاء ~~صورته فتكلفوا هذا القول لذلك* وقد أبطلنا هذا الأصل ونتكلم على فساد استنباطهم فى هذه الثلاث.

(أما القسم الأول): وهو أن الحركة تخرج أجزاء النار من الباطن فيدل على بطلانه أنه إن كان صحيحا يجب أن يحمى ظاهره ويبرد باطنه بانتقال الحارمن باطنه وليس كذلك فان السهم إذا كان نصله من رصاص فرمى ذاب كله ولو خرجت الحرارة إلى ظاهره لازداد باطنه انعقادا وبقى كما كان كيف ولو كسر ولمس حال حرارته بالحركة وجد باطنه أحر مما كان قبل ذلك وكذا ظاهره وكذا الماء إذا حرك فى الزق زمانا طويلا وجد حارا بجميع أجزائه حرارة متشابهة فى الظاهر والباطن فدل أن الحرارة حدثت فى جميع الأجزاء ولم تنتقل* فان قيل الحركة جعلت أجزاء النار التى كانت فيها حارة بعد أن لم تكن* قيل فهذا اعتراف بالاستحالة وهو أنها كانت موجودة غير حارة أو ضعيف الحرارة ثم تجددت فان قيل النصل يذوب عن حرارة النار التى فى الهواء لا من حرارة فى باطن النصل وكذلك يذوب أجزائه* قيل هذا باطل لأن الهواء لا يزيد الحرارة على النار الصرف واللابث فى النار أشد احتراقا من المتحرك فيها بسرعة لأن المؤئر يحتاج إلى زمان حتى يؤثر فكأن المتأثر في الهواء أولى باحتراقه من حركة خفيفة فيه فان قيل إذا تحرك فهو بسرعة حركته يجتذب نيران الهواء إلى نفسه فيدخل فى باطنه فيجتمع فيه نيران كثيرة قيل خروج أجزاء النار منها إلى الهواء أسهل من الدخول فيه فكان ينبغى ان يصير أبرد وأشد انعقادا لخروج النار منها فان النار تدخل فى مسامه لا محالة وتلك المسام يحتمل خروج النار منها كما يحتمل الدخول فيها بل انفلات النار فى موضع غريب أيسر من تولجها فى موضع غريب فان كانت الحركة تمنع من الخروج فلتمنع من الدخول.

(وأما القسم الثانى): وهو دخول أجزاء النار في الماء والخشب عند المجاورة فذلك لا يمكن إنكاره إذ يجوز أن يكون الاختلاط أحد الأسباب ولكن إذا ثبت بما سبق جواز الاستحالة لم يبعد أيضا أن يستحيل فى نفسه من غير دخول أجزاء النار فيه.

(وأما القسم الثالث): وهو دعوى كون الشعاع جسما حارا فهو باطل بأمور.

(الأول): أنه كان ينبغى أن لو كان حارا كلهيب النار أن يستر كلما وقع عليه كما يستر النار ومعلوم أنه يظهر الأشياء ولا يسترها بخلاف النار.

(والثانى): أنه كان ينبغى أن يتحرك إلى جهة واحدة والضوء يتفشى فى سائر الجهات.

(والثالث): أنه كان ينبغى أن يكون وصوله من موضع بعيد أبطأ من وصوله من موضع قريب ولو أسرج سراج وقت انجلاء كسوف الشمس وصل ضوئهما إلى الأرض فى وقت واحد من غير تفاوت.

(الرابع): أنه إذا أشرق البيت من روزنه ثم سد فجأة ودفعة واحدة كان ينبغى أن يبقى البيت مضيئا بتلك الأجسام التى كانت فيه إذ منعت من الانفلات بسد الرزونة فان زعموا أنه زال ضوءها لما سد الروزن فهو إذن جسم يقبل الضوء تارة والظلمة أخرى فصار الضوء عرضا لجسم فلا حاجة اليه بل ينبغى أن يعترف بالحق وهو أن الأرض يقبل الضوء مرة والظلمة أخرى بمقابلة الشمس ومفارقتها. (الخامس): أن تلك الأجسام إن كانت متفرقة فكيف يتواصل الضوء فى جميع الهواء والأرض وإن كانت متواصلة غير متفرقه فكيف تداخل أجسام الهواء وإذا لم تداخل كانت متفرقة فكيف يتواصل الضوء على وجه الأرض.

(السادس): أنه لو كان ينتقل من الشمس أو السراج أجسام مضيئة لكانت أجزاء الشمس تتحلل وينقص ضوءها فى ثانى الحال لفارقة الأجزاء المضيئة إياها فان قدر أن تلك الأجسام لا تخرج منها بل هى ثابتة فيها ملازمة لها يتحرك معها عند حركتها وإنما تقع على الأرض فى مقابلتها فقد تقدم الجواب عنه من موضعين حيث قلنا أنها كانت تستر ما وراءها وأنها تكون مداخلة لأجسام الهواء فينبغى أن لا يكون منها شىء فى الهواء لأن جسما واحدا لا يجوز أن يبعد عن الأرض ويقرب منها فينبغى أن لا يخلو الهواء عنه فلو أخرج جسم فى الهواء لكان يجب أن لا يقع الضوء عليه إذ يستحيل أن يقال أن الضوء الذى على الأرض علم اعتراض جسم فانتقل اليه.

(السابع): أنه لو كان جسما لكان انعكاسه عن الأشياء الصلبة كالحجر لا عن اللينة كالماء فظهر بهذه العلامات ان الشعاع عرض ومعناه أن الشمس سبب لحدوث عرض فيما يقابلها إذا كان بينهما جسم شفاف ويكون الجسم المستضىء أيضا سببا لحدوث الضوء فيما يقابله مرة أخرى بالعكس أو بالانعطاف ومهما قبل الشىء الضوء وكان قابلا للحرارة حدثت الحرارة فيه وهى عرض آخر.

زيادة من خارج كما يكبر الماء مرة ويتصغر أخرى فمهما صار حارا صار أكبر ومهما برد جمد وصار أصغر وقدره وهو فاتر بينهما وقد سبق أن المقدار عرض فى الهيولى فلا يلزم أن يكون وقفا على مقدار واحد ولكن نستدل الآن بالمشاهدة على صحة ذلك فان الخمر فى الدن ينتفخ حتى يشقه والقمقمة التى تسمى الصياحة إذا كانت مشدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت ولا سبب لذلك إلا أن الماء صار أكبر مما كان* فان قيل لعله كبر بدخول أجزاء النار فيه* قيل فكيف يمكن دخول أجزاء النار فيه ولم يخرج شىء من الماء ولو خرج شىء من الماء فدخل بدله لكان كما كان ولم تنكسر الصياحة ولو قيل النار طلبت جهة الفوق بطبعها فلذلك كسرت* قيل فكان ينبغى أن ترفع الاناء وتطيره لا أن تكسره لأنه ربما يكون الرفع أسهل من الكسر إذا كان الاناء قويا وكان وزنه خفيفا ثم كان ينبغى أن تكسر الموضع الذى تلاقيه ولكن السبب فيه أن الماء ينبسط فى جميع الجوانب فيدفع سطح الاناء من كل جانب فينفتق الموضع الذى كان هو أضعف من الاناء من أى جانب كان فاذن المقدار عرض يزيد وينقص والطبيعة المقتضية للمقدار لا تزول ولكن تقبل عرضا مخصوصا ما لم يكن قاسر فان وجد قاسر فربما قسر فعلها عن غاية مقتضاه.

(الدعوى الخامسة): إن هذه العناصر الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض فينقلب الهواء ماء أو نارا والماء هواء أو أرضا وكذلك باقيها وقد أنكر هذا قوم* وبرهانه المشاهدة وهو أن منفخ الحدادين لو نفخ فيه زمانا متطاولا نفخا قويا حمى ما فيه من الهواء واحترق وصار نارا ولا معنى للنار إلا هواء محترق ولو ركب كوز من الزجاج مثلا في وسط الثلج تركيبا مهندما برد الهواء الذى فى داخله واستحال ماء واجتمع قطرات على سطحه فاذا كثرت اجتمعت فى اسفله وليس ذلك بدخول الماء فيه من المسام فان الماء الخارج لا ينقص ولو كان بدل البارد ماء حار كان أولى بالدخول من المسام وذلك لا يوجد مع الحار وإنما يوجد مع البارد المفرط أو الثلج وأيضا لو كان ذلك بدخول الماء لكانت القطرات لا توجد إلا فى الموضع الذى فيه الماء وهى قد توجد على طرف من الكوز هو أعلى من الثلج وقد شوهد فى البلاد التى بردها مفرط استيلاء البرد على الهواء الصافى القريب من الأرض فى وقت الضحو وانقلابه ثلجا وسقوطه إلى الأرض حتى اجتمع منه شىء كثير من غير غيم* وأما استحالة الماء هواء فهو ظاهر عند إيقاد النار تحته وتصاعد البخار هواء* فأما استحالة الماء أرضا فقد شوهد ذلك في قطرات الماء الصافى من المطر إذا وقعت على المواضع التى فيها قوة محجرة معقدة فتنعقد فى الحال أحجارا وأما استحالة الحجر بالذوبان ماء فيدرك بالتجربة من صناعة الكيمياء وتحليل الأحجار وهذا كله لأن الهيولى مشتركة ولا يتعين لها صورة من هذه الصور بذاتها بل تقبل الصور بحسب السبب الذى يلاقيها فاذا تغير السبب تغيرت الصورة وإنما يحصل استعدادها لصورة أخرى بحدوث أعراض تناسب تلك الصورة كالحرارة إذا غلبت على الماء فانه يستعد بها للصورة الهوائية فلا تزال الحرارة تقوى والصورة المائية باقية إلى أن تتم قوتها فتصير القوة الهوائية أولى منها فتخلع المائية وتلبس الهوائية من واهب الصور. (الدعوى السادسة): إن هذه السفليات قابلة للتاثر من السماويات فأظهر الكواكب تأثير الشمس والقمر إذ بهما يحصل نضج الفواكه ومد البحار إذ بزيادة القمر تكون زيادة المد وزيادات الفواكه وأمور أخرى يعرف تفصيلها فى الكتب الجزئية وأظهر آثارها فى السفليات الضوء ثم الحرارة بواسطة الضوء وليس يلزم من ذلك كون الشمس حارة ولو جعلت الحرارة منها بواسطة الضوء كما أن الشمس إذا سخنت الماء حركته إلى فوق بالتبخر ولا يدل ذلك على أن الشمس متحركة إلى فوق وكذلك حرارته لا تدل على حرارتها بل للسماويات طبيعة خامسة خارجة عن هذه الطبايع كما سبق ولكن هذه الأعراض متعاشقة ومتعاهدة ومتصاحبة فالحرارة يلازمها الحركة والضوء تلازمه الحرارة بمعنى أن أحدهما يعطى الموضوع استعداده لقبول الآخر حتى يفيض الآخر من واهب الصور فاذن لا يلزم بالضرورة أن يكون فعل الشىء من جنسه لكن الأغلب أن الحاصل فى الجسم من جسم آخر يناسب الفاعل فالسخونة من النار والبرودة من الماء والضوء من الشمس وفعل الجسم فى الجسم تارة يكون بالمجاورة كما أن النار تسخن بالمماسة جسما آخر والريح تحرك بالمماسة جسما آخر وتارة بالمقابلة كما أن الأخضر إذا قابل حائطا فى موضع شروق الشمس أوجب حصول خضرة فى الحائط مثل العكس وكما أن الصورة عند المقابلة للمرآة توجب انطباع مثلها فيها ولو كان مماسا لم توجبه فكذلك مقابلة المتلون للعين توجب حصول مثل صورته فى العين عند البعد فأما مع المماسة فلا وليس حقيقة هذا امتداد جزء من المضىء أو ~~خروج صورة من الصور إلى العين أو المرآة فان ذلك محال لكن وجود المضىء فى مقابلة الجسم الكثيف سبب لحصول مثل صورته فيه بطريق التجدد مهما توسط بينهما جسم شفاف وإذا حدث الضوء فيه بسبب استعد للحرارة فصار حارا ثم ربما يستعد بالحرارة للحركة فيتصاعد بخارا إذا كان ذلك فى ماء والمرآة المحرقة إنما تحرق من حيث أنها مقعرة مخروطة فتقبل النقطة التى هى مركزها الضوء من جميع أجزاء المرآة بالرد والانعكاس اليها فيشتد ضوءها واستعدادها للحرارة فتشتد حرارتها فتحرق ولذلك تغلب الحرارة فى الصيف لأن ضوء الجسم المضىء إنما يقوى بتمام المقابلة لأنه إنما يفعل بالمقابلة فاذا كانت المقابلة أشد كان الضوء أكثر والمقابلة التامة إنما تكون على العمود والشمس فى الصيف تكون فى جانب الشمال قريبا من وسط رؤوسنا ولذلك يكون نهار الصيف أضوء من نهار الشتاء ويكون أحر لا محالة وفى الشتاء ينحرف العمود لميل الشمس عن سمة رؤوسنا إلى الجنوب فيضعف الضوء فتضعف الحرارة وأعنى بالعمود الخط الذى يخرج من مركز الشمس إلى مركز الأرض على زاويتين من الجانبين قائمتين فما يميل عنه لتفاوت الزوايا فلا يكون عمودا.

.(الدعوى السابعة): إن هذه العناصر ينبغى أن تكون فى وسط السماوات ولا يتصور أن تكون خارجة منها ولا يتصور أن يكون لها فى داخل السماوات موضعان طبيعيان بل ينبعى أن يكون مكان كل واحد من العناصر واحدا أما إنه لا يجوز أن يكون خارجا من هذه السماوات فمن حيث أن هذه الأجسام تستدعى جهتين مختلفتين كما سبق لقبولها الحركة المستقيمة فلا يتصور أن تكون إلا حيث يحيط بها جسم يحدد جهتها فان فرضت خارجة عن السطح الأعلى من العالم وليس يحيط بها جسم فهو محال وإن فرضت سماء أخرى حتى يفرض عالمان متجاوران أو متباعدان هكذا كان محالا لأنه يكون بينهما بعد وهو خلاء والخلاء محال ولأنه يكون ذلك البعد ذا جهتين يتصور بينهما حركة مستقيمة فيحتاج إلى ما يوجب اختلاف الجهة وقد بينا أن الجسم لا يوجب الجهة من خارج فيحتاج إلى جسم ثالث محيط بهما ويحويهما وذلك أيضا محال وهو أن يكونا فى موضعين يحويهما محيط واحد على ما فى هذه الصورة مثل جسم القمر وجسم العناصر فانهما جميعا فى فلك القمر ومثل ذلك محال ولهذا نقول يجب أن يكون مكان العنصر البسيط واحدا لأنه لو فرض له مكان طبيعى بين المكانين وليكن العنصر الذى فرض له مكانان الماء لكان لا يخلو إما أن يميل بالطبع إلى أحد المكانين فيكون هو المكان الطبيعى له دون الآخر أو يقصد بعضه أحدهما وبعضه الآخر وهو محال لأن الماء بسيط متشابه الأجزاء فينبغى أن تكون حركته متشابهة إذ لا مخصص لبعضها حتى يجب أن يفارق البعض الآخر فالمكان الطبيعى للجسم هو المكان الذى إذا قدر أجزاء ذلك الجسم فى مواضع متفرقة وخليت وطبعها تحركت كلها إلى ذلك المكان واجتمع الجسم كله فيه بجميع أجزائه فمكان الكل ما يجتمع فيه أجزاء الكل فلا يؤدى إلى المحال الذى ذكرناه فقد بان من هذا أن العالم واحد لا يمكن أن يكون إلا كذلك وأن أجسامه منقسمة إلى ما يستدعى الجهة وإلى ما يفيد الجهة فالذى يستدعى الجهة لا بد أن يكون فى وسط المفيد حتى يتميز جهتاه بالقرب والبعد وأن المستدعى الجهة لا بد أن يكون بعضه داخل البعض ولا يجوز أن يكون خارجا عنه وكل هذا يبنى على أصول هى أن هذه الأجسام بسيطة وكل جسم بسيط فله شكل طبيعى وهو الكرة ومكان واحد طبيعى وقد بان أن الخلاء باطل فينبنى على مجموع هذه الأصول تلك النتيجة التى ذكرناها وإنما قلنا أن كل جسم فله مكان طبيعى لأنه إذا خلا من القواسر فاما أن يسكن فى مكان فنقول هو المكان الطبيعى له أو يتحرك فيتوجه إلى الجهة التى فيها مكانه الطبيعى له لا محالة وإنما قلنا ينبغى أن يكون واحدا لما ذكرناه حتى لا يلزم المحال وهو افتراق أجراء البسيط إذا خلا من الحدين حتى يتوجه إلى المكانين بعضه إلى ذا وبعضه إلى ذلك فانه لو توجه إلى أحدهما وترك الآخر فالطبيعى ما توجه اليه.

(المقالة الثالثة): فى المزاج والمركبات ولا بد فيها من النظر فى خمسة أمور.

(النظر الأول): فى حقيقة المزاج والمعنى به أن تمتزج هذه العناصر بحيث يفعل بعضها فى بعض فتتغير كيفيتها حتى يستقر للكل كيفية متشابهة ويسمى ذلك الاستقرار امتزاجا وذلك أن يكسر الحار من برودة البارد والبارد من حرارة الحار وكذلك الرطب واليابس حتى تصيرالكيفيات المحسوسة التى بينا أنها أعراض للصورة متشابهة لتعادلها بالتفاعل فأما الصور وهى القوى الموجبة لهذه الكيفيات فانها تكون باقية ببقاء التفاعل لأن الصور كلها لو بطلت لكان ذلك فسادا لا مزاجا ولو بطلت الصور النارية مثلا وبقيت الصور الهوائية لكان ذلك انقلاب النار هواء لا مزاجا ولو لم تتغير الكيفيات بتصادم التأثيرات لكان تجاورا لا مزاجا وحيث قال أرسطو أن قوى العناصر باقية فى المزاجات فانه لا يريد بها إلا القوى الفاعلة فان نفى قوى التفاعل يدل على الفساد وهو إنما استدل بهذا على أن المزاج لبس بفساد ثم كيف يقع فساد ولو كانت متكافية فلا يفسد البعض البعض وإن غلب بعضها بقى الغالب وبطل المغلوب وانقلب إلى الغالب وعلى الجملة فلا واسطة بين الجواهر والصور جواهر فلا تقبل الزيادة والنقصان فيلزم من ذلك أن يعتقد حقيقة المزاج كما ذكرناه والمزاج ينقسم فى الوهم إلى معتدل وإلى مائل فالمعتدل غير ممكن الوجود إذ لو وجد لكان الجسم غير ساكن ولا متحرك فانه إن سكن على الأرض فالأرض غالبة عليه وكذلك إن سكن فى الهواء فان الهواء يكون غالبا عليه وإن تحرك من الهواء إلى النار فالنار غالبة عليه وإن تحرك إلى الأرض فالأرض غالبة عليه وحقه أن لا يسكن فى موضع وأن لا يتحرك إلى موضع وذلك محال.

(النظر الثانى): فى الاختلاط الأول بين العناصر التى تقدم القول فى صفاتها وبساطتها فاعلم أن الأرض ينبغى أن تكون ثلاث طبقات الطبقة السافلة وهى ما تكون حول المركزمائلة إلى البساطة فتكون ترابا صرفا وفوقها طبقة تختلط بها رطوبة المياه المنجذبة اليه فتكون طبقة الطين وفوقها طبقة هى وجه الأرض وينقسم إلى ما يستوى عليه البخار وإلى ما تنكشف عنه فما تحت البحر يغلب عليه المائية وما ينكشف عنه يغلب عليه اليبوسة بسبب حرارة الشمس والسبب فى أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فيحصل فى ذلك الموضع وهدة والماء ينقلب أرضا فيحصل بسببه ربوة والأرض صلبة ليست بمشاكلة للماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائها إلى بعض فيزيل عن نفسه التفاوت ويتشكل بالاستدارة كما يكون ذلك فى الماء والهواء فيميل المرتفع منه إلى المنخفض فينكشف بعض المواضع للهواء وهذا هو الذى اقتضته العناية الالهية فان الحيوانات البرية لا بد لها من الاغتذاء بالهواء لدوام روحها ولا بد أن تكون الأرضية غالبة عليها لتكون محكمة ثابتة فلم يكن بد من أن تنكشف الأرض للهواء فى بعض المواضع ليتم وجود الحيوانات البرية وأما الهواء فهو أربع طبقات الطبقة التى تلى الأرض فيها مائية من البخارات التى ترتفع اليها من مجاورة المياه وفيها حرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمى فتتعدى الحرارة إلى ما يجاورها وفوقها طبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن تكون أقل حرارة لأن حرارة الأرض لا ترتفع اليها لبعدها وفوقها طبقة هى هواء صاف لأن البخار والحرارة المنعكسة عن الأرض لا يرتفعان اليها وفوقها طبقة فيها دخانية لأن الأدخنة من الأرض ترتفع في الهواء وتقصد عالم الأثير أعنى النار فتكون كالمنتشرة فى السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصاعد فتنحرق* وأما النار فانها طبقة واحدة محرقة لا ضوء لها بل هى كالهواء وألطف منه ولو كان لها لون منع رؤية الكواكب بالليل ولكان لها ضوء كما للنيران المشتعلة ولون السراج وضوءه إنما يحصل من شوب النار الصافية بالدخان المظلم فيحصل من مجموع ذلك اللون والضوء وإلا فالنار الصافية لا لون لها وحيث تقوى النار فى السراج لا يكون لها لون حتى يظن أنها كالثقبة الخالية ليس فيها إلا خلاء أو هواء فانما النار بالحقيقة تلك وإذا حصل لها لون فلكونها مشوبة بالدخان وبالحقيقة فانما ذلك لون الدهن المحترق لا لون النار أو لون الحطب المحترق وإنما النار مثل الهواء لا لون لها ولا ضوء لها لأنها شفافة حيث أنها هواء محترق.

(النظر الثالث): فيما يتكون في الجو من مادة البخار ليس يخفى أن الشمس إذا سخنت الأرض بواسطة الضوء صعدت من الرطب بخارا ومن اليابس دخانا ويتكون عما يحتبس منهما في باطن الأرض المعادن وعما ينفلت منهما ويتصاعد فى الهواء أمور كثيرة لا بد من ذكرها أما ما يتكون من مادة البخار فهو الغيم والمطر والثلج والبرد وقوس قزح والهالة وغير ذلك فمهما ارتفع من الطبقة الحارة من الهواء إلى الباردة شىء تكاثف بالبرد وانعقد به وصار غيما لأن البرد أسرع تأثيرا في قلب البخار الحار ماء في الهواء وذلك للطف البخار بسبب الحرارة أما ترى أنه إذا دخل الشتاء اشتد حمو الحمام فأظلم هواء الحمام وتكاثف البخار لتكاثف الغيم ولذلك يترك الماء وقت العصر فى الشمس لتلطف الشمس بخاره مهما أريد تبريده بالشمال ليلا وكذلك إذا صب الماء البارد والحار على الأرض فى الشتاء كان الحار أسرع جمودا من البارد ويظهر ذلك فيمن يتوضأ بالماء الحار فى البلاد الباردة فينجمد فى الحال على شعر لحيته ولا يكون البارد كذلك وهذه الأبخرة إنما تتصاعد من باطن الأرض لما سرى فيها من حرارة الشمس ولكنها تنفد وتقوى على الخروج من مسام الأرض إلا ما يقع تحت الجبال الصلبة فانها تمنعه من النفوذ إذ تجرى الجبال منها مجرى الانبيق الذى يمسك البخار ثم إذا احتبس فيها صار مادة للمعادن وإذا قوى ثم وجد منفذا فى شعوب الجبال ارتفع منه قدرصالح ثم يختلف فان كان ضعيفا بددته حرارة الشمس فى الجبال وأحالته هواء ولذلك قل ما يجتمع فى نهار الصيف منه غيم ويجتمع فى الليل والشتاء إذا كانت الشمس ضعيفة الحرارة منه أكثر وإن كان ذلك البخار قويا أو كانت حرارة الشمس ضعيفة أو اجتمع الأم إن لم تؤثر فيه الشمس فاجتمع وربما تعين الريح أيضا على جمعه بأن تسوق البعض إلى البعض حتى يتلاحق فمهما انتهى إلى الطبقة الباردة تكاثف وعاد ماء وتقاطر ويسمى مطرا كالبخار يتصاعد عن القدر فينتهى إلى غطائها وعندما يلاقى أدنى برودة ينزل فينعقد قطرات عليه فان أدركه برد شديد قبل أن يجتمع ويصير قطرات جمدت وتفرقت أجزائه ونزل كالقطن المندوف ويسمى ذلك ثلجا وإن لم تدركه برودة حتى كان منه قطرات ثم أدركتها حرارة من الجوانب فانهزمت برودتها إلى بواطنها وتوفر عليها برد الجو الذى كانت منتشرة فيه وانعقدت سميت حينئذ بردا ولذلك لا يكون البرد إلا فى الخريف والربيع فتجتمع البرودة فى بواطنها باحاطة حرارة ما بظواهرها ومهما صار الهواء رطبا بالمطر رطوبة مع أدنى صقالة صار كالمرآة فالمحازى له إذا كانت الشمس وراءه يرى الشمس فى الهواء كما يراها فى المرآة إذا قابلها بها ويشتبك ذلك الضوء بالبخار الرطب فيتولد منه قوس قزح وله ثلاثة ألوان وربما لا يكون اللون المتوسط ويكون مستديرا حتى يكون بعد أجزاء المرآة من الشمس واحدا فان المرآة إنما ترى الصورة إذا كانت على نسبة مخصوصة من الرائى والمرئى ويستقصى ذلك فى علم المناظر ولا تتم الدائرة إذ لو تمت لوقع شطرها تحت الأرض إذ الشمس تكون في قفا الناظر كالقطب لتلك الدائرة ويكون مرتفعا عن الأرض ارتفاعا قريبا فان كان قبل الزوال رئى قوس قزح فى المغرب وإن كان بعده رئى فى المشرق وإن كانت الشمس فى وسط السماء لم يمكن أن يرى إلا قوس صغيرة في الشتاء إن اتفق والهالة وهى الدائرة المحيطة بالقمر من مثل هذا السبب أيضا فان الهواء المتوسط بين القمر وبين البصر صقيل رطب فيرى القمر فى جزء منه وهو الجزء الذى لو كان فيه مرآة لرأى القمر فيها ثم الشىء الذى يرى فى مرآة من موضع لو كانت مرايا كثيرة محيطة بالمبصر وكانت موضوعة على تلك النسبة لرأى الشىء فى كل واحدة من المرايا فاذا تواصلت المرايا يرى فى الكل فيرى دائرة لا محالة* وأما وسطها فانما يرى مظلما لأن البخار المتوسط لطيف فاذا قرب من المضىء انمحق وصار لا يرى وإذا بعد منه صار مرئيا وليس هو كالذرة ترى فى الشمس لا فى الظل بل هو كالكواكب تختفى بالنهار وتظهر بالليل فلهذا يرى وسط الدائرة كأنه خال عن الغيم وهذه الدائرة ربما تحصل من مجرد برودة الهواء وإن لم يكن مطر إذ يحصل في الهواء بها أدنى رطوبة ولم يكن غبار ودخان يمنع صقالة تلك الرطوبة.

(النظر الرابع): فيما يتكون من مادة الدخان وهو الريح والصواعق والشهب والكواكب ذوات الأذناب والرعد والبرق فاذا تصاعد الدخان ارتفع من وسط البخار لأنه أميل إلى جهة الفوق وأقوى حركة من البخار فان ضربه البرد فى ارتفاعه ثقل وانتكس وتحامل على الهواء دفعة وحرك الهواء بشدة كتحريك المروحة العظيمة للهواء فحصلت الريح من ذلك فانها عبارة عن هواء متحرك وإن لم يضر به البرد تصاعد إلى الأثير واشتعلت النار فيه فيكون منه نار تشاهد وربما يستطيل بحسب طول الدخان فيسمى كوكبا منقضا ثم إن كان لطيفا فاما أن ينقلب نارا صرفة أو ينطفى فلا يرى فينمحى لأن الدخان يخرج عن كونه مبصرا بأن يصير نارا صرفة وهى النار المحضة أو ينطفى بالبرد فى ارتفاعه فينقلب هواء فيصير شفافا فان كان الملاقى له البرد المؤثر فى الأطفاء فانه يستحيل هواء وإن قويت النار أثرت فى التخليص من شوب الدخان فيستحيل كله نارا إذ لا يبرد ثم وأن كان الدخان كثيفا واشتعل ولكن لم يكن يستحيل على القرب بقى ذلك زمانا فيرى أنه كوكب ذو ذنب وربما يدور مع الفلك إذ النار متشبثة الأجزاء بأجزاء مقعر الفلك فيدور فى مشايعتها فيدور هذا الدخان الحاصل فى حيزها وإن لم يشتعل ولكن كان كالفحم الذى انطفت النار المشتعلة فيه فانه يرى أحمر فيظهر منه علامات حمر فى الجو وبعضه تزايله الحمرة فيكون كالفحم الذى انمحت ناره فيرى كأنه ثقبة مظلمة فى الهواء ثم إن بقى شىء من الدخان فى تضاعيف الغيم وبرد صار ريحا وسط الغيم فيتحرك فيه بشدة ويحصل من حركته صوت يسمى الرعد وإن قويت حركته وتحريكه اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدخان معا فصار نارا مضيئة فيسمى البرق وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ولكنها نارا لطيفة تنفذ فى الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالحديد والذهب فتذيبها حتى تذيب الذهب فى الكيس ولا يحترق الكيس وتذيب ذهب المذهب ولا يحترق الشىء ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعا عن الحركة ولكن البصر أحد إدراكا فقد يرى البرق ولا ينتهى صوت الرعد إلى السمع لأن البصر يدرك بغير زمان والسمع لا يدرك ما لم يتحرك الهواء الذى بين السمع والمسموع حتى ينتهى أثره إلى السمع وكذلك إذا نظر الناظر إلى القصار من بعد رأى حركته قبل سماع صوته بزمان ما.

(النظرالخامس): فى المعادن وهى إنما تتكون مما يختفى فى الأرض من البخار والدخان فتمتزج فتستعد بسبب أمزجتها المختلفة لقبول صور مختلفة يفيض عليها من واهب الصور فان غلب الدخان كان الحاصل منه مثل النوشادر والكبريت وربما يغلب البخار فى بعضه فيصير كالماء الصافى والمنعقد المتحجر يكون منه الياقوت والبلور وغيرهما وتعسر إذابة هذا النوع بالنار ولا ينطرق تحت المطارق فان الانطراق والذوبان برطوبة لزجة تسهى دهنية وما فيها من الرطوبة نفدت فجمدت وانعقدت فأما الذى يذوب وينطرق كالذهب والفضة والنحاس والرصاص فهو الذى استحكم امتزاج الدخان منه بالبخار وقلة الحرارة المخفية فى جوهرها وبقيت فيها رطوبة ودهنية وذلك لكثرة تأثير حرارته فى رطوبته حتى انكسرت به برودته وامتزجت به الهوائية وبقى فيه شىء من الأرضية مع الهوائية فهذا يذوب فى النار لأن ما فيه من الكبريت يعين النار على الاذابة فتسيل الرطوبة ويقصد التصاعد فتجذبها الأرضية المتشبثة به فيحصل من تصعد ذلك وجذب هذا حركة دورية لا يتفرق أجزاؤها لاستحكام امتزاجها فان كان الامتزاج ضعيفا تصعد البخار وانفصل من الثقيل الجاذب إلى أسفل فاذا كثرت عليه النار ينقص لانفصال البخار فصار كلسا كالرصاص وكلما كانت الدهنية فيه ابعد عن الانعقاد كان أقبل للانطراق تحت المطارق وما انعقد ولم يقبل الاذابة إذا طرح عليه الكبريت والزرنيخ وخلطا به وسريا فيه تسارعت اليه الاذابة مثل سحالة الحديد والطلق والخارصينا وكل ما عقده البرودة ألانه الحرارة مثل الشمع وكلما عقده الحر أذابه البرد مثل الملح فانه ينعقد بالحر مع مشاركة من يبوسة الأرض فان الحرارة تعين الرطوبة واليبوسة جميعا ويزيد فيهما وكل ما كانت المائية فيه غالبة ينعقد بالبرودة وكل ما غلبت فيه الأرضية انعقد بالحرارة فاذا كان فى الشىء أرضية ورطوبة والأرضية أشد مناسبة للحرارة ينعقد بالبرد وتعسر إذابته كالحديد وتفصيل هذا يستدعى تطويلا ومنه تتفرع صناعة الكيميا وصناعات كثيرة سواها.

(المقالة الرابعة فى النفس النباتى والحيوانى والانسانى) (القول في النفس النباتى): كما أن اختلاط الدخان والبخار يوجب استعدادا لقبول صورة المعادن فكذلك العناصر قد يقع لها امتزاج أتم من ذلك واحسن وأقرب إلى الاعتدال وأبعد من بقاء التضاد فى الكيفيات الممتزجة فيستعد لقبول صورة أخرى أشرف من صورة الجمادات حتى يحصل فيه النمو الذى لا يكون فى الجمادات وتسمى تلك الصورة نفسا نباتية وهى التى تكون فى النجم وفى الشجر وهذه النفس لها ثلاثة أفعال.

(أحدها): التغذية بقوة مغذية.

(والثانى): التنمية بقوة منمية.

(والثالث): التوليد بقوة مولدة والغذاء عبارة عن جسم يشبه الجسم المغتذى بالقوة لا بالفعل وإذا وصل إلى المغتذى أثرت فيه القوة المغذية وهى قوة محيلة للغذاء تخلع صورته وتكسوه صورة المغتذى فينتشر فى أجزائه ويلتصق به ويسد مسد ما تحلل من أجزائه* وأما النمو فهو عبارة عن زيادة الجسم بالغذاء فى أقطاره الثلاثة على التناسب اللائق بالنامى حتى ينتهى إلى منتهى النشوء مع التفاوت الذى يليق به أعنى فيما ينخفض من أجزاء النامى ويرتفع ويستدير ويستطيل والقوة التى يليق لها هذا الفعل تسمى منمية فان هذه القوى لا تدرك بالحس بل يستدل عليها بالفعل إذ كل فعل فلا بد له من فاعل فيشتق لها الاسم من الفعل.

(والقوة المولدة): هى التى تفصل جزأ من جسم شبيها به بالقوة ليستعد لقبول صورة مثله كالنطفة من الحيوان والبذرة من الحبوب ثم القوة الغاذية لا تزال عاملة إلى آخر العمر ولكن تضعف فى آخره لعجزها عن سد ما تحلل لضعفها عن إحالة جسم الغذاء.

(وأما القوة المنمية): فانها تفعل إلى وقت البلوغ وكمال النشوء ثم تقف فاذا وقفت النامية من حيث الزيادة فى المقدار لا من حيث الزمان انتهضت المولدة وقويت.

(القول في النفس الحيوانى): فان اتفق مزاج اقرب إلى الاعتدال وأحسن مما قبله استعد لقبول النفس الحيوانى وهو أكمل من النباتى إذ فيه قوى النباتى وزيادة قوتين.

(أحدهما): المدركة.

(والأخرى): المحركة فان الحيوان عبارة عما يدرك ويتحرك بالارادة وهاتان قوتان هما والنفس واحدة فترجعان إلى أصل واحد ولذلك يتصل فعل بعضها بالبعض فمهما حصل الادراك انبعثت الشهوة حتى يتولد منها الحركة إما إلى الطلب وإما إلى الهرب* والقوة المحركة لا بد لها من الارادة ولا تكون الارادة إلا من الشهوة والنزوع إما أن يكون إلى الطلب ويحتاج اليه لطلب الملائم الذى به بقاء الشخص كالغذاء أو بقاء النوع كالجماع ويسمى هذا النوع من النزوع قوة شهوانية وإما أن يكون إلى الهرب والدفع ويحتاج اليه لدفع ما ينافى ويضاد دوام البقاء ويسمى القوة الغضبية والخوف عبارة عن ضعف القوة الغضبية والكراهة عن ضعف القوة الشهوانية وهما متحركتان للقوة المحركة المنبثة فى العضلات والأعصاب على سبيل البعث والاستحثاث على مباشرة الحركة فالقوة التى في العضلات مؤتمرة والقوة النزوعية باعثة آمرة وأما القوة المدركة فتنقسم إلى ظاهرة كالحواس الخمس وإلى باطنة كالقوة الخيالية والمتوهمة والذاكرة والمتفكرة كما سيأتى تحقيقها ولولا أن للحيوان قوة باطنة سوى الحواس لكان إذا تصور أكل شىء مثلا دفعة واحدة استبشعه لا يمتنع منه ثانيا ما لم يذقه دفعة أخرى بالأكل فانه أكل في الأول لأنه لم يعرف أنه مضر فلولا أنه بقى فى ذكره تلك الصورة لكان لا يعرفه إذا رآه ثانيا أنه مضر وذلك الذكر أمر وراء الرؤية والشم وسائر الحواس فلولا أن هذه الحواس الخمس تؤدى ما تدرك من الصور إلى قوة أخرى واحدة جامعة للكل تسمى حسا مشتركا لكنا إذا رأينا شيئا أصفر لا ندرك أنه حلو ما لم نجد إدراك ذلك المذوق أولا أعنى العسل فان العين لا تدرك الحلاوة والذوق لا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم يجتمع عنده الأمران حتى يحكم بأن الأصفر حلو وليس هذا الحكم للذوق ولا العين وإنما ذلك لقوة أخرى باطنة ليست واحدة من الحواس الظاهرة ولولا وجود قوة باطنة لم تكن الشاة تدرك العداوة من الذئب فتهرب منه فان العداوة لا ترى* وهذه مجامع القوى ولا بد من تفصيلها.

(القول فى تحقيق الادراكات الظاهرة) أما حس اللمس فظاهر وهو قوة مبثوثة فى جميع البشرة واللحم يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والصلابة واللين والخشونة والملاسة والخفة والثقل وهذه القوة تصل إلى أجزاء اللحم والجلد بواسطة جسم لطيف كالحامل لها يسمى روحا ويجرى فى شباك العصب وبواسطة العصب يصل وإنما يستفيد ذلك الجسم اللطيف تلك القوة من الدماغ والقلب كما سيأتى وما لم تستحيل كيفية البشرة إلى شبه المدرك من البرودة والحرارة أو غيرها لم تكن مدركة ولذلك لا تدرك إلا ما هو أبرد منه وأسخن فأما المساوى لها فى الكيفية فلا تؤثر فيه فلا تدركه* وأما الشم فانه قوة في زائدتى الدماغ الشبيهتين بحلمتى الثديين وإنما تدرك بواسطة جسم ينفعل من الروائح ويمتزج أو يختلط به أجزاء ذى الرائحة وذلك مثل الهواء والماء وليس يلزم أن يكون أجزاء ذى الرائحة مختلطة بالهواء بل لا يبعد أن يستحيل الهواء فيقبل الرائحة ويستعد لقبولها من واهب الصور بسبب المجاورة منه لا بأن تنتقل الرائحة اليه فان ذلك محال في العرض وقد بينا استحالة انتقال الأعراض ولو لم يكن اختلاط أجزاء الرائحة بأجزاء الهواء لما انتشرت الرائحة فراسخ وقد حكى اليونانيون أن الرخمة انتقلت برائحة الجيف التى حصلت من حرب وقعت بينهم من مسافة مائتى فرسخ إلى المعركة في بلدة لم تكن حواليها رخمة بل كانت الرخمة منه على مائتى فرسخ وذلك بقوة حواس الطير وانفعال الهواء وقبوله لرائحة الجيف* وأما البخار المتصاعد من الجيف فلا يمكن أن ينتشر أجزاؤه إلى هذا الحد* وأما السمع فانه قوة مودعة فى عصبة مفروشة فى أقصى الصماخ ممدودة عليه مد الجلد على الطبل وهى تدرك الصوت والصوت عبارة عن تموج الهواء بحركة شديدة يحصل من قرع بعنف أو قلع بحدة فان كان من قرع اصطك منه الجسمان وانفلت الهواء بشدة وإن كان من قلع تولج الهواء بين الجسمين المنفصلين بشدة وحدث الصوت عند التموج فى الهواء ويصل إلى حيث تصل حركة التموج فاذا انتهت تلك الحركة إلى الهواء الراكد الذى فى الصماخ انفعل بها ذلك الهواء الراكد المجاور لتلك العصبة وهى مفروشة على أقصى الصماخ فحدث فيها ما يحدث فى جلد الطبل من الطنين فتشعر بذلك الطنين القوة المودعة فى تلك العصبة والحركة تحدث فى الهواء موجا مستديرا كما يحدث الموج المستدير فى الماء إذا ألقى فيه حجر فتنتشر منه دوائر صغار ولا تزال تلك الدوائر تتسع وتضعف فى حركتها إلى أن تنمحى فكذلك يحدث فى الهواء وكما أن الطاس إذا كان فيه ماء وألقى فيه حجر نشأت عنه دائرة إلى أطراف الطاس المحيطة بالماء انصدمت بها تلك الدائرة ثم انعطفت إلى الوسط إلى موضع ابتدأت فيه فكذلك موج الهواء إذا انصدم بجسم صلب ربما انعطف فيكون منه الصدى ويكون بتلاحق الانعطاف وتزيده دوام الصوت فى الطشت والحمام والصريخ تحت الجبل* فأما الذوق فهو بقوة مودعة في العصبة المفروشة على ظاهر اللسان بواسطة الرطوبة اللعابية التى لا طعم لها المنبسة على ظهر اللسان فانها تأخذ طعم ذى الطعم وتستحيل اليه وتتصل بتلك العصبة فتدركها القوة المودعة فى العصبة وأما البصر فهو قوة دراكة للألوان والأشكال مودعة فى ملتقى تجويف العينين من مقدم الدماغ والابصار هو عبارة عن أخذ صورة المدرك أعنى انطباع مثل صورته فى الرطوبة الجليدية من العين التى تشبه البرد والجمد أى الجليد وهى مثل المرآة فاذا قابلها متلون انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الانسان المقابل للمرآة فيها بتوسط جسم شفاف بينهما لا بأن ينفصل من المتلون شىء ويمتد إلى العين ولا بأن ينفصل من العين شعاع فيمتد إلى الصورة فان كليهما محالان فى الابصار وفى المرآة ولكن يحدث مثال صورته فى المرآة وفى عين الناظر ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة مع توسط الشفاف* وأما حصوله فمن واهب الصور وكل إدراك فى الحواس الخمس بل وغيرها إنما هو عبارة عن أخذ صورة المدرك فاذا حصلت الصورة فى الجليدية أفضت إلى القوة الباصرة المودعة فى ملتقى العصبتين الجوفتين.

النابتتين من مقدم الدماغ على هذه الصورة فأدركته النفس بتوسط الحس المشترك كما سيأتى شرحه ولو كان للمرآة نفس لأدركت مما يقابلها ويحصل فيها مثال صورته* وأما سبب تأثير البعد في أن يرى الصغير كبيرا فهو أن الرطوبة الجليدية كرية ومقابلة الكرة إنما تكون بالمركز فاذا فرضنا سطحا مستديرا كالترس في مقابلة كرة العين أدركت العين السطح المستدير بانفعال الهواء الذى بين السطح والعين وانفعال طبقة العين عن الهواء إلى أن ينتهى إلى الروح الباصر ويكون المنفعل وهو الهواء مخروط الشكل قاعدته سطح المدرك ورأسه ينتهى إلى الروح الباصر ورأسه زاوية مجسمة هى المدرك بالحقيقة فاذا ازداد سطح المرئى الذى هو قاعدة المخروط بعدا من العين طال المخروط وصغرت زاويته أعنى رأسه الذى ينتهى إلى الحدقة وكلما بعد سطح المرئى أعنى قاعدة المخروط طال المخروط وبطوله يدق رأسه أى يصغر الزاوية المدركة في الحقيقة إلى أن ينتهى من الصغر إلى حد لا تقوى القوة الباصرة على إدراكه فيغيب المرئى عن الادراك وهذه صورته ولو كان المرئى غير مستدير لكان أيضا الهواء المنفعل بينه وبين الحدقة شكلا مخروطا يحيط به أضلاع وزوايا بحسب شكل المرئى وينتهى رأسه إلى الحدقة على زاوية أو زوايا ويستقصى علم ذلك من الكتب الموضوعة في علم المناظر من الرياضات وفى هذا القدر كفاية لغرضنا وهذا الذى استقر عند (ارسطاطاليس) في كيفية الادراك وأما من قبله فقالوا لا بد من اتصال بين الحس والمحسوس حتى يحصل الاحساس قالوا وإذا استحال أن ينفصل من المبصر صورة ويمتد إلى العين فلا بد وأن ينفصل من العين جسم لطيف هو الشعاع ويتصل بالمبصر وبواسطته يحصل الابصار وهذا محال إذ متى تتسع العين لأجسام تنبسط على نصف العالم ونصف كرة السماء فاستبشع هذا طائفة من الأطباء فاحتالوا له وقالوا إن الهواء المتصل بالعين يحدث فيه الانفعال بسبب خروج شعاع يسير من العين واشتباكه بشعاع الهواء حتى يصيرا كالشىء الواحد في أقل من طرفة العين ويصير بمجموعهما آلة فى الابصار وهذا أيضا محال من وجوه.

(الأول): أن الهواء إن كان يصير آلة يبصر بها حتى يكون هو المبصر (كالحدقة) مثلا حينئذ إذا اجتمع جماعة من ذوى الأبصار فينبغى أن يقوى إدراك الضعيف البصر الذى معهم فان شعاعه أن ضعف عن إحالة الهواء فهذه الأشعة الكثيرة اشتبكت بالهواء فيجب أن يستعين الضعيف بكثرة أشعة الابصار كما يستعين بقوة ضوء السراج وإن كانت الصورة المبصرة لا تظهر في الهواء بل فى العين ولكن بواسطة الهواء يصل اليها فأى حاجة في خروج الشعاع والهواء متصل بجرم العين والمبصر متصل بالهواء فينبغى أن يوصل الهواء الصورة بغير شعاع.

(الوجه الثانى): وهو مبطل لأصل الشعاع وأن الشعاع لا يخلو إما أن يكون عرضا فيستحيل عليه الانتقال أو جسما فيلزم منه محال لأنه إن كان لا يبقى متصلا بالعين ممتدا مثل الخطوط فلا يؤثر فى العين ما انفصل عنها وإن بقى متصلا به فينبغى أن يتفرق ويدرك الشىء متفرقا وينبغى أن يكون مثل خيط ممدود فاذا هبت ريح أمالته إلى موضع آخر وأخرجته عن استقامته فيجب أن يرى ما ليس على مقابلته بامالة الريح إياه أو يقطع اتصاله فيمنع الرؤية.

(والثالث): أنه لو كان ينفصل من العين مائلا فى المبصر لكان يدرك المبصر قريبا وبعيدا على وجه واحد من غير تفاوت فى القدر لأن الملاقى مطابق للملاقى فى الحالين مهما لم يقدر مقابلة فى مثل مخروط كما سبق ولا يمكن أن يقال أن الشعاع يقع على بعضه إذا بعد لأنه يبصر جميع المرئى بعيدا أو قريبا وقد يرى في بعض الأحوال أكثر فهذه هى الادراكات فالمدركات الخاصة بها هى الألوان والروايح والطعوم والأصوات وما ذكر فى اللمس ويدرك بواسطة هذه الأشياء خمسة أمور أخر وهى الصغر والكبر والبعد والقرب وعدد الأشياء وشكلها مثل الاستدارة والتربيع والحركة والسكون وتطرق الغلط إلى هذه التوابع أكثر من تطرقه إلى تلك الأصول .

(القول فى الحواس الباطنة) اعلم أن الحواس الباطنة أيضا خمسة* الحس المشترك والقوة المتصورة والقوة المتخيلة والقوة الوهمية والقوة الذاكرة* أما الحس المشترك فهو حاسة منها ينتشر تلك الحواس واليها يرجع أثرها وفيها يجتمع وكأنها جامع لها إذ لو لم يكن لنا ما يجتمع فيه البياض والصوت لما كنا نعلم أن ذلك الأبيض هو ذاك المغنى الذى سمعنا صوته فان الجمع بين اللون والصوت ليس للعين ولا للأذن* وأما القوة المتصورة فعبارة عن الحافظة لما ينطبع في الحس المشترك فان الحفظ غير الانطباع والقبول ولذلك كان الماء يقبل الصورة والشكل وينطبع فيها ولا يحفظها والشمع يقبل الشكل بقوة اللين ويحفظ بقوة اليبوسة ومهما حلت آفة بمقدم الدماغ بطل حفظ المتخيلات وحصل النسيان للصوره وأما الوهمية فهى التى تدرك من المحسوس ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عداوة الذئب وليس ذلك بالعين بل بقوة أخرى وهى للبهائم مثل العقل للانسان* وأما الذاكرة فعبارة عما يحفظ هذه المعانى التى أدركتها الوهمية فهى خزانة المعاني كما أن المتصورة الحافظة للصور المنطبعة فى حس المشترك خزانة للصور وهاتان أعنى الوهمية والذاكرة في مؤخر الدماغ والمشترك والمصورة في مقدمه* وأما المتخيلة فهى قوة فى وسط الدماغ شأنها التحريك لا الادراك أعنى أنها تفتش عما فى خزانة الصور وعما في خزانة المعانى فانها مركوزة بينهما وتعمل فيها بالتركيب والتفصيل فقط فتصور إنسانا يطير وشخصا واحدا نصفه إنسان ونصفه فرس وأمثال ذلك وليس لها اختراع صورة من غير مثال سابق بل تركب ما ثبت فى الخيال متفرقا أو تفرق مجموعا وهذه تسمى مفكرة فى الانسان والمفكرة بالحقيقة هى العقل وإنما هذه آلته فى الفكر لا أنها المفكرة فانه كما أن ماهيات الأسباب هى التى بها تتحرك العين فى الجحر من جميع الجوانب حتى يتيسر بها الأبصار والتفتيش عن الغوامض فكذلك ماهيات الأسباب هى التى بها يتأتى التفتيش عن المعانى المودعة فى الخزانتين فطبع هذه القوة الحركة فلا تفتر ولا فى حالة النوم فمن طبعها سرعة الانتقال من الشىء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة أو بأن كان مقترنا به فى الوقوع الاتفاقى عند حصوله فى الخيال ومن طبعها المحاكاة والتمثيل حتى إذا قسم عقلك الشىء إلى أقسام حاكاه بشجرة ذات أغصان وإن رتب شيئا عل درجات حاكاه بالمراقى والسلالم وبها يتذكر ما نسى فانها لا تزال تفتش عن الصور التى فى الخيال وينتقل من صورة إلى صورة قربت منها حتى تعثر على الصورة التى منها أدرك المعنى المنسى فيتذكر بواسطتها ما نسيه وتكون نسبة تلك الصورة إلى حضور ما يقارنها ويتعلق بها نسبة الحد الأوسط إلى النتيجة إذ بحضوره يستعد لقبول النتيجة فهذه هى القوى الظاهرة والباطنة وهى بجملتها آلات إذ المحركة ليست إلا لجلب المافع أو دفع المضار والمدركة ليست إلا كالجواسيس التى تقتنص بها الأخبار فالمصورة والذاكرة لحفظها والمتخيلة لاحضارها بعد الغيبة فلا بد من أصل يكون هذه كلها آلة له وتجتمع اليه وتكون مسخرة له وسببه يعبر عن ذلك الأصل بالنفس وليس هو الجسم إذ كل عضو من الجسم هو أيضا آلة وإنما أعد لغرض يرجع إلى النفس فلا بد إذا من نفس تكون هذه القوة والأعضاء آلات لها.

(القول في النفس الانسانى) إذا كان مزاج العناصر أحسن واتم اعتدالا بلغ إلى الغاية التى لا يمكن أن يكون اتم وألطف وأحسن منها مثل نطفة الانسان التى حصل نضجها في بدن الانسان من أغذية هى ألطف من أغذية الحيوان ومن أغذية النبات وبقوى ومعادن أحسن من قواهما ومعادنهما فيستعد لقبول صورة من واهب الصور هى أحسن الصور وتلك الصورة هى نفس الانسان وللنفس الانسانى قوتان.

(إحداهما): عالمة.

(والأخرى): عاملة والقوة العالمة تنقسم إلى القوة النظرية كالعلم بأن الله تعالى واحد والعالم حادث وإلى القوة العملية وهى التى تفيد علما يتعلق بأعمالنا مثل العلم بأن الظلم قيح لا ينبغى أن يفعل وهذا العلم قد يكون كليا كما ذكرناه وقد يكون جزئيا مثل قولنا زيد لا ينبغى أن يظلم والقوة العاملة هى التى تنبعث باشارة القوة العلمية التى هى نظرية متعلقة بالعمل وتسمى العاملة عقلا عمليا ولكن تسميتها عقلا بالاشتراك فانها لا إدراك لها وإنما لها الحركة فقط ولكن بحسب مقتضى العقل وكما أن القوة المحركة الحيوانية ليست إلا لطلب أو هرب فكذا القوة العاملة فى الانسان إلا أن مطلبها عقلى وهو الخير والثواب متصل بما بعده والنفع فى العاقبة وإن كان مؤلما فى الحال بحيث تنفر منه الشهوة الحيوانية وللنفس الانسانى وجهان وجه إلى الجنبة العالية وهى الملأ الأعلى إذ منها يستفيد العلوم وإنما القوة النظرية للنفس الانسانى باعتبار هذه الجهة وحقه أن يكون دائم القبول ووجه إلى الجنبة السافلة وهى جهة تدبير بدنه وإنما يكون له القوة العملية باعتبار هذه الجهة ولأجل البدن ولا يمكن شرح القوة العقلية الانسانية إلا بذكر حقيقة الادراكات وأقسامها ليتبين أن هذه القوة خارجة عنها وزائدة عليها فنقول قد ذكرنا أن معنى الادراك هو أخذ صورة المدرك إلا أن هذا الأخذ على مراتب.

(الأول): إدراك البصر فانه يدرك الانسان مثلا مركبا مع لوازمه وتوابعه ولا يدركه مجردا بل يدرك معه لونا مخصوصا ووضعا مخصوصا وقدرا خصوصا وهذه توابع لو لم تكن هى بأعيانها لكان هو إنسانا مع عدمها فانه ليس إنسانا بها بل هى عوارض غريبة التحقت بالانسان وليس للبصر قوة تجريد الانسانية عن اللواحق الغريبة ثم يحصل منه صورة فى الخيال يطابق صورته فى الابصار أعنى أن صورته أيضا فى الخيال مع الوضع والقدر واللون وجميع لواحقه الغريبة كما كانت في الابصار غير مجردة عن اللواحق البتة ولا تخالف إلا فى أمر واحد وهو أن الجسم المبصر لو انعدم أو غاب بطل الابصار ولم تبطل صورته الباقية في الخيال أعنى فى القوة التى تسمى مصورة فكائنها صارت أبعد عن المادة قليلا حيث لم يستدع وجودها المادة وحضورها كما يستدعيها الابصار ولما كانت الصورة بقدرها ووضعها وأطرافها ووسطها وسائر أجزائها تحصل فى الخيال لم يمكن أن يحصل إلا في آلة جسمانية لأن أجزاء المقدر بمقدار وأطراف لا يتميز إلا في جسم كما لا يتميز الصورة إلا فى جسم هو مرآة أو ماء فهاتان القوتان أعنى البصر والخيال جسمانيتان* وأما الوهمية فهى عبارة عن قوة تدرك من المحسوسات معانى غير محسوسة مثل عداوة السنور للفأرة والشاة للذئب وموانقة الشاة لسخلتها وهى أيضا متعلقة بالمادة لأنه لو قدر عدم إدراك صورة الذئب بالحس لم يتصور إدراك هذه فهذه القوة أيضا جسمانية وملتصقة بأمور غريبة عن حقيقة المدرك زائدة على ماهية غيرمجردة عنها ومعلوم أنا ندرك الانسانية بحدها وحقيقتها أو مجردة بحيث لا يقترن بها شىء غريب إذ لو لم يدرك ذلك مجردا لما حكمنا عليه بأن القدر واللون والوضع غريب كلها في حقه وعوارض له ليست داخلة في ماهيته فاذن لها فينا قوة تدرك الماهية غير مقترنة بشىء من هذه الأمور الغريبة بل مجردة عن كل أمر سوى الانسانية وندرك السواد المطلق مجرداعن كل أمر سوى السوادية فكذلك سائر المعانى* وهذه القوة تسمى عقلا وهذه المجردات لا يقدرالخيال على إدراكها فانا لا نقدرعلى أن نتخيل إنسانا إلا على بعد منا أو قرب أو على قدر فى الصغر أو الكبر أو قاعدا أو قائما أو عاريا أو كاسيا وهذه الأمور غريبة عن ماهية الانسان فليس للخيال هذا الادراك ولا أيضا للابصار وهو حاصل فينا فهو إذن بقوة أخرى وتلك القوة هى المطلوب المسمى عقلا وبهذه القوة يقتنص الانسان العلم بالمجهولات بواسطة الحد الأوسط فى التصديقات وبواسطة الحد والرسم فى التصورات وتكون الادراكات الحاصلة فيها كلية لأنها مجردة فتكون نسبتها إلى آحاد جزئيات المعنى نسبة واحدة وليس ذلك الشىء لسائر الحيوانات سوى الانسان ولهذا كانت كلها على نمط واحد فى جهلها بوجه الحيلة للخلاص مما يشق عليها مع اختلاف أنواعها وليس لها إلا مقدار حاجتها فانها تخص بالطبع على سبيل الالهام والتسخير فاذن خاصية الانسان التى لا يشاركه فيها الحيوانات هى التصور والتصديق بالكليات وله استنباط المجهول بالمعلوم فى الصناعات وغيرها وهاتان القوتان مع سائر القوى كلها لنفس واحدة كما سبق* ثم نقول أن للقوة العقلية مراتب ولها بحسبها أسامى فالمرتبة الأولى أن لا يحصرها شىء من المعقولات بالفعل بل ليس لها الاستعداد والقبول كما فى الصبى وتسمى حينئذ عقله عقلا هيولانيا وعقلا بالقوة ثم بعد ذلك يظهر فيه نوعان من الصور المعقولة.

(أحدهما): نوع الأوليات الحقيقية التى تقتضى طبعها أن تنطبع فيه من غير اكتساب بل تقبلها بالسماع من غير نظر كما بيناه.

(والثانى): نوع المشهورات وهى فى الصناعات والأعمال أبين فاذا ظهر فيه ذلك سمى عقلا بالملكة أى قد ملك كسب المعقولات النظرية قياسا فان حصل بعد ذلك فيه شىء من المعقولات النظرية باكتسابه إياها سمى عقلا بالفعل كالعالم الغافل عن العلوم القادر عليها مهما أراد فان كانت صورة العلوم حاضرة فى ذهنه سميت تلك الصورة عقلا مستفادا أى علما مستفادا من سبب من الأسباب الالهية يسمى ذلك السبب ملكة أوعقلا فعالا ولا يجوز أن تكون هذه الادراكات بآلة جسمانية بل المدرك لهذه المعقولات الكلية جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو منطبع فى جسم ولا يفنى بفناء الجسم بل يبق حيا أبد الآبدين إما متلذذا وإما متألما وذلك الجوهر هو النفس ويدل على كون إدراك العقل بغير جسم عشرة أمور سبعة هى علامات قوية مقنعة بعدمها وثلاثة هى براهين قاطعة.

(العلامة الأولى): أن الحواس المدركة بآلة جسمانية إذا أصاب الآلة آفة فاما أن تدرك وأما أن يضعف إدراكها أو يغلط فيه.

(الثانية): أنها لا تدرك آلتها إذ البصر لا يدرك نفسه ولا آلته. (الثالثة): أنها لو كان فيها كيفية ما لم يدركها وإنما يدركها أبدا غيرها حتى أن سوء المزاج إذا صار متمكنا فى البدن جوهر بآلته مثل الدق لم يدرك ذلك قوة اللمس.

(الرابعة): أنها لا تدرك نفسها فان الوهم لو أراد أن يتوهم نفسه وهو الوهم لم يمكنه.

(الخامسة): أنها إذا أدركت شيئا قويا لم يمكنها الادراك للضعيف بعده وعقيبه بل بعد زمان فلا تسمع الصوت الخفى عقيب القوى الهائل ولا ذا اللون الضعيف عقيب الضوء الظاهر ولا طعم الحلاوة الضعيفة عقيب الحلاوة القوية فانها إذا انفعلت بمدركها القوى لم تقبل سرعة الانفعال بمدركها الضعيف لاشتغال المحل بذلك المدرك القوى واشتباكه به.

(السادسة): أنها لو هجم عليها مدرك قوى ضعفت الآلة وفسدت فقد تفسد العين بقوة الشعاع ويفسد السمع بالصوت الهائل.

(السابعة): أن القوى الجسمانية تضعف بعد الأربعين وذلك عند ضعف مزاج البدن وهذا الذى ذكرناه كله ينعكس فى القوة العقلية فانها تدرك نفسها وتدرك إدراكها لنفسها وتدرك ما يقدر أنه آلتها كالقلب والدماغ وتدرك الضعيف بعد القوى والخفى بعد الجلى وربما تقوى بعد الأربعين فى غالب الأمر* فان قيل القوة العقلية أيضا قد تقصر عن الادراك بالمرض الذى يظهر فى مزاج البدن قيل قصورها أو تعطلها عند تعطيل آلاتها لا يدل على أنها لا فعل لها فى نفسها بل يجوز أن تكون فساد الآلة مؤثرا فيها من وجهين.

(أحدهما): أنه إذا فسدت اشتغلت النفس بتدبيرها وانصرف عن جهة المعقولات فان النفس إذا اشتغلت بالخوف لم تدرك اللذة وإذا اشتغلت بالغضب لم تدرك الألم وإذا اشتغلت بفن معقول لم تدرك في حال الشغل غيره فيشغلها شىء عن شىء فلا يبعد أن يشغلها ضعف الآلة والحاجة إلى إصلاحها.

(والوجه الثانى): أن الآلة الجسمانية ربما تحتاج القوة اليها ابتداء ليتم لها الفعل بنفسها بعد حصولها كما يحتاج من يقصد بلدة مثلا إلى دابة فاذا وصل استغنى عنها فاذا فعل واحد بغير آلة يدل على أن له فعلا فى نفسه وتعطل الفعل بتعطيل الآلة يحتمل هذين الوجهين الذين ذكرناهما فلا حجة فيه.

(الثامنة): وهى البرهان أن العلم المجرد الكلى لا يجوزأن يحل فى جسم منقسم لأن العلم الكلى لا ينقسم والجسم ينقسم وما لا ينقسم لا يحل فيما ينقسم والعلم لا ينقسم فاذا لا يحل العلم في جسم وهذه المقدمات لا يمكن النزاع فيها إذ الجزء الذى لا يتجزى قد بطل فلا يكون العلم فيه وإذا كان في جسم منقسم انبسط فيه كالحرارة واللون فاذا قسم الجسم انقسم العلم بالمجهول بزعم الزاعم والعلم الواحد بالمعلوم الواحد لا ينقسم إذ ليس له بعض البتة فاستحال أن يحل فى الجسم وإن قيل فلم قلتم أن العلم الواحد لا ينقسم قيل العلم بالمعقول المجرد ينقسم إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه كثرة وقبول قسمة كالعلم المجرد بالوجود وكالعلم بالوحدة فانه لا بعض للمعلوم فلا بعض للعلم الذى هو مثال مطابق له وإلى ما يتوهم فيه كثرة كالعلم بالعشرة والعلم بالانسان الذى هو متقوم من الحيوان والناطق وهما الجنس والفصل وهذا النوع ربما يظن أن له أجزاء إذ يقول القائل العشرة لها جزء والعلم بها مثال لها ومطابق إياها فالعلم بها له جزء وكذلك العلم بالانسان وهو محال فان العشرة من حيث هى عشرة لا جزء لها إذ ما دون العشرة ليس بعشرة فليست كالماء الكثير فان بعضه إذا قسم فهو ماء بل هى كالرأس مثلا فانه واحد لكل إنسان ولا جزء له من حيث هو رأس بل له جزء من حيث هو جلد ولحم وعظم وكونه جلدا ولحما وعظما غير كونه رأسا وكونه رأسا لا يقتضى أن يكون له جزء فان الرأس من حيث هو رأس لا ينقسم وكل معلوم لم يتحد بهذا النوع من الاتحاد فلا يكون معلوما واحدا* وأما الانسان فهو معلوم واحد لأنه من حيث أنه إنسان شىء واحد وله صورة واحدة كلية ولأجل وحدتها تصير معقولا فيكون واحدا لا يقبل القسمة على أنا نقيم برهانا على استحالة القسمة وهو أنه لو انقسم العلم بانقسام الجسم لكان أحد القسمين فى جزء وهذا الجزء المفروض فيه قسم العلم الواحد لا يخلو إما أن يخالف الكل أو لا يخالف فان لم يخالف أحدهما الآخر فى شىء أصلا كان الجزء مثل الكل وذلك محال إذ يخرج عن كونه جزءا وإن كان مخالفا فلا يخلو إما أن يخالفه مخالفة النوع للنوع ومخالفة الشكل للون وهو محال إذ لا يكون الشكل داخلا فى اللون وكل جزء فهو داخل فى الكل وإما أن يخالفه بعد كونه داخلا فيه مخالفة الحيوان للانسان وهى مخالفة الجنس للنوع وإن كان داخلا فيه أو مخالفة الواحد للعشرة وباطل أن يخالفه مخالفة الجنس للنوع لأنه يؤدى إلى أن يكون العلم بالحيوان في جزء والعلم بالناطق في جز آخر فليس فى كل واحد منهما علم للانسان فيؤدى إلى نأ لا يكون العلم بالانسان حاصلا بل ليت شعرى إذا قدرنا الجزئين أحدهما فوق مثلا والآخر أسفل فالعلم بالجنس بأنهما يختص ولم يستحق أحدهما أن يكون محلا للجنس والآخر محلا للفصل ثم أن تركب الانسان من الحيوان والناطق فلا يتركب الحيوان من عدد يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهى إلى أول واحد وإلا فيؤدى إلى أن لا يعلم الشىء إلا بعد علوم غير متناهية وذلك محال وإن كان يخالفه فى المقدار مخالفة الواحد للعشرة فلا يخلو إما أن يكون ذلك الجزء علما أو لا يكون علما فان لم يكن علما أدى ذلك إلى أن يحصل من أجزاء ليست علوما وهو كما يقال حصل من جزئين هما شكل وسواد وهو محال وإن كان ذلك الجزء علما فمعلومه إن كان هو معلوم الكل كان الجزء مساويا للكل وان كان معلوم آخر استحال أن يكون الكل علما غير العلم بالأجزاء إذ لا يحصل من العلم بالشكل والعلم بالسواد العلم بالقدرة وإن كان العلم بالجزء معلوم الكل فقد فرضنا ذلك في معلوم واحد لا جزء له فدل على أن القسمة محال.

(والتاسعة): وهى برهان أيضا المعقول المجرد يحصل في النفس للانسان كما سبق ويكون مجردا عن الوضع وعن المقدار فتجريده لا يخلو إما أن يكون باعتبار محله أو باعتبار ما منه حصل وباطل أن يكون باعتبار ما منه حصل فان الانسان إنما يتلقى حد الانسان وحقيقته ويحصل ماهيته فى عقله من انسان شخصى له قدر مخصوص لكن العقل يجرده عن القدر والوضع فبقى انه منزه عن الوضع والقدر لمحله لا لما منه أخذ وحصل وذلك أن محله أعنى نفس الانسان يميزه عن القدر والوضع وإلا فكل حال في ذى وضع وقدر يكون له قدر ووضع بسبب محله لا محالة.

(والعاشرة): اعلم أن كل ما يقدر آلة للعقل من قلب أو دماغ فالعقل قادر على إدراكه فاذا أدركه فادراكه لا يكون إلا بحصول صورة فيه إذ هذا معنى كل إدراك فالصورة الحاصلة لا تخلو إما أن تكون عين صورة الآلة أو غيرها بالعدد ولكن تماثلها وباطل أن يكون هى عين صورة الآلة فانها حاضرة أبدا فيها فينبغى أن يكون أبدا مدركا لها وليس كذلك فانه تاره يعقلها وتارة يعرض عن إدراكها والأعراض عن الحاضر محال وإن كان غيرها بالعدد فاما أن يحل فى نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بذاتها وليست فى الجسم وإما أن يكون بمشاركة الجسم حتى يكون هذه الصورة المغايرة فى التعين فى القوة فى الجسم الذى هو الآلة وهى مثل الجسم فيؤدى إلى اجتماع صورتين متماثلتين فى جسم واحد وذلك محال كما يستحيل اجتماع سوادين في محل واحد فانا بينا ان الاثنينية لا تكون إلا بنوع مفارقة وههنا لا مفارقة فان كل عارض يذكر لاحدى الصورتين فهى للصورة الأخرى موجود وبذلك يصيران متطابقين وقد ظهر استحالته.

(دليل حادى عشر): هو انا قد ذكرنا فيما تقدم أن كل قوة جسمانية فلا تكون الا قوة على متناه والقوة على ما لا يتناهى لا تكون فى الجسم البتة والقوة العقلية قوة على صور عقلية وجسمانية وغيرها لا نهاية لها إذ ما يمكن أن يدركه العقل من الحسيات والمعقولات ليس محصور فيستحيل أن تكون القوة العقلية جسمانية أما برهان أنها لا تفنى بفناء الجسم فيتقدم عليه أنها حادثة مع الجسم لأنها لو كانت موجودة قبل الجسم لكانت النفوس اما واحدة وأما كثيرة وباطل أن تكون كثيرة فان الكثرة لا تكون إلا باختلاف وتغاير بالعوارض وإذا لم تكن مواد وعوارض يقع بها الاختلاف فلا يتصور الاختلاف وإن كانت واحدة فهو محال أيضا لأنها فى الأبدان كثيرة والواحد لا يصير كثيرا كما لا يصير الكثير واحدا إلا إذا كان له حجم ومقدار فيتصل مرة وينفصل أخرى ودليل كثرته في الأبدان أن معلوم زيد ليس معلوم عمرو ولو كان نفسا واحدا لما كان الشىء معلوما لنفس ومجهولا بعينه لنفس أخرى إذ يكون الشىء معلوما لنفس الواحدة ومجهولا لها وذلك محال ولكنا نقول مع أنها حدثت مع الأجسام فليست حادثة بالأجساد إذ قد سبق أن الجسم لا يكون سببا لاختراع شىء البتة لا سيما ما ليس بجسم بل سببها واهب الصور وهو جوهر عقلى أزلى ويبقى المعلول ببقاء العلة وذلك الجوهر باق* فان قيل كما يفتقر حدوثها إلى البدن فكذلك بقاؤها* قيل البدن شرط لحدوث النفس لا علته وكأنه شبكة بها يقتنص من العلة هذا المعلول أو يستخرج من هذه العلة فبعد الوقوع في الوجود بواسطة الشبكة لا يحتاج إلى بقاء الشبكة ووجه كونه شرطا لا علة أن العلة لو صدرت منها نفس لكانت اما واحدة أو اثنتين او عددا غير متناه فى كل لحظة وكل ذلك محال إذ ليس عدد أولى من عدد فلا ترجيح لواحد من الأعداد ولو اقتصر على واحد لم يكن له مخصص أيضا فان امكان الثانى منه كامكان الأول فلما لم يترجح إمكان الوجود على إمكان العدم بقى العدم مستمرا إلى أن تستعد النطفة لأن تكون آلة لنفس يشتغل بها فصار وجود النفس حينئذ أولى من عدمها واختص عددها بعدد النطف المستعدة فى الأرحام وهذا شرط الابتداء ليترجح الوجود على العدم فبعد الوجود يكون بقاؤه بعلته لا بالمرجح* وأما برهان بطلان التناسخ فان النفس إذا تركت تدبير البدن بفساد المزاج وخروجه عن قبول التدبير فلا يخلو إما أن يكون مشتغلة بتدبير حجر أو خشب وما لا يستعد لقبول التدبير فيصير نفسا له وهو محال أو يشتغل بتدبير نطفة استعدت لقبول التدبير لأية نطفة سواء كانت نطفة انسان أو حيوان أو غيره وهو الذى ظنه قوم وذلك محال لأن كل نطفة استعدت لقبول النفس استحقت حدوث نفس من الجوهر العقلى الذى هو مبدأ النفوس استحقاق بالطبع لا بالانحراف والاختيار فيؤدى الى اجتماع نفسين لبدن واحد وهو محال فان استعداد النطفة لقبول نور النفس من واهب النفوس بازاء منزلة استعداد الجسم لقبول نور الشمس إذا رفع الحجاب من وجهه فان كان عند ارتفاع الحجاب ثم سراج حاضر أشرق نور السراج ونور الشمس جميعا ولا يمتنع نور الشمس بنور السراج فكذلك لا يمتنع تأثير النطفة لقبول النفس من مبدئها بوجود النفس فى العالم غير مشغولة ببدن فيؤدى ذلك إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد وما من شخص إلا وهو يشعر بنفس واحدة فالتناسخ محال.

(المقالة الخامسة) (فيما يفيض على النفوس من العقل الفعال): لا شك أن النظر فى العقل الفعال يليق بالالهيات وقد سبق اثباته وصفته وليس النظر فيه من حيث ذاته الآن بل من حيث تأثيره في النفوس بل ليس النظر في تأثيره وإنما هو فى النفس من حيث تأثرها به ولنذكر فى هذه المقالة دلالة النفس على العقل الفعال ثم كيفية فيضان العلوم عليها منه ثم وجه سعادة النفس به بعد الموت ثم وجه شقاوة النفس المحجوبة عنه بالأخلاق المذمومة ثم سبب الرؤيا الصادقة ثم الرؤيا الكاذبة ثم سبب إدراك النفس علم الغيب ثم اتصالها بعالم العلوم ثم سبب مشاهدتها ورؤيتها في اليقظة صورا لا وجود لها من خارج ثم معنى النبوة والمعجزات وطبقاتها ثم وجود الأنبياء ووجه الحاجة اليهم فهذه عشرة أمور.

(الأول): دلالة النفس على العقل الفعال ووجه أن النفس الانسانية تكون عالمة بالمعقولات المجردة والمعاني الكلية في الصبى بالقوة ثم تصير عالمة بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل فاذا لا بد للنفس فى خروجها فى حال الصبى من القوة إلى الفعل من سبب وهذا أيضا لا بد له من سبب ويستحيل أن يكون ذلك السبب جسما لأن الجسم لا يكون سببا لما ليس بجسم كما سبق والعلوم العقلية تقوم بالنفس التى ليست بجسم ولا هى منطبعة فى جسم فلا تدخل فى المكان والحيز حتى يحاورها جسم آخر أو يحاذيها فيؤثر فيها فاذن يكون السبب جوهرا مجردا عن المادة وهو المعنى بالعقل الفعال لأن معنى العقل كونه مجردا ومعنى الفعال كونه فاعلا فى النفوس على الدوام ولا شك فى أن هذا من الجواهر العقلية التى سبق إثباتها فى الالهيات وأولاها بأن تنسب اليه العقل الأخير من العقول العشرة التى ذ كرناها والشرع أيضا مصرح بأن هذه المعارف في الناس وفى الأنبياء بواسطة الملائكة.

(الثانى): كيفية حصول العلوم فى النفس فذلك أن المتخيلات المحسوسة ما لم تحصل فى الخيال لا يحصل منها المعانى الكلية المجردة ولكنها في ابتداء الصبى تكون في حكم صورة مظلمة فاذا كمل استعداد النفس أشرق نور العقل الفعال على الصور الحاضرة في الخيال فوقع منها فى النفوس المجردات الكلية حتى يأخذ من صورة زيد صورة الانسان الكلى ومن صورة هذا الشجر صورة الشجر الكلى وغير ذلك كما تقع من صور المتلونات عند إشراق الشمس عليها مثلها في الأبصار السليمة والشمس مثال العقل الفعال وبصيرة النفس مثال قوة الأبصار والمتخيلات مثل المحسوسات فانها محسوسة مرئية بالقوة فى الظلام فى العين مبصرة بالقوة فلا يخرج إلى الفعل إلا بسبب آخر وهو إشراق الشمس فكذلك هذا ومهما أشرق هذا النورميزت القوة العقلية من الصور المنتقشة فى الخيال العرضى عن الذاتي وميزت الحقائق عن الأمور الغريبة التى ليست ذاتية فيكون مجردة ويكون كلية أيضا إذ أبطل وجود العقل الجزئية بحذف المخصصات التى هى عرضية خارجة عن الذات فبقى أمر واحد مجرد نسبته إلى جميع الجزئيات نسبة واحدة.

(الثالث): السعادة وهى أن النفس إذا استعدت بالاستعداد لقبول فيض العقل الفعال وأنست بالاتصال به على الدوام انقطعت حاجتها عن النظر إلى البدن ومقتضى الحواس ولكن لا يزال البدن يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن تمام الاتصال فاذا انحط عنها شغل البدن بالموت ارتفع الحجاب وزال المانع ودام الاتصال لأن النفس باقية والعقل الفعال باق أبدا والفيض من جهته مبذول فانه لذاته والنفس مستعدة للقبول بجوهرها إذا لم يكن مانع وقد زال المانع فدام الوصال لأن البدن وإن كان تحتاج اليه النفس لما فيه من الحواس والقوى فى الابتداء لتحصل بواسطة التخيلات حتى تلتقط من الخيالات المجردات الكلية وتقتنصها بواسطتها إذ ليس يمكنها فى الابتداء كسب المعقولات إلا بواسطة الحواس فالحاسة نافعة فى الابتداء كالشبكة وكالمركوب الموصل إلى المقصد ثم بعد الوصول إلى المقصد يصير عين ما كان شرطا وبالا عليها بحيث تكون الفائدة فى الخلاص منه لكونه مانعا للنفس من التمتع بالمقصود بعد الوصول وشاغلا لها وكذلك هذا وإنما كانت هذه سعادة لأنها لذة عظيمة لا تدخل تحت الوصف وإنما كانت لذة لما بينا من قبل أن معنى اللذة إدراك كل قوة لما هو مقتضى طبعها بغير آفة وخاصية طبع النفس المعارف والعلم بحقائق الأشياء على ما هى عليه فان هذه العقليات ليست للحس أصلا وقد ظهر أنه لا قياس للذة القوة العقلية إلى لذة القوة الحسية وظهر أن سبب خلونا عن إدراك لذة العلوم ونحن فى شغل البدن ماذا وقد سبق هذا فى الالهيات فاذا كانت المعارف التى هى مقتضى طباع القوة العقلية وخاصيتها المعرفة بالله وملائكته وكتبه ورسله وكيفية صدور الوجود منه إلى غير ذلك من المعارف حاضرة حتى اشتغلت النفس بها وهى فى البدن عن أن تصير مستغرقة بالبدن وعوارضه مستوعبة لهمتها ما دام اتصالها وكمل حالها بعد فراق البدن والتذت بها لذة لا يدرك الوصف كنهها وإنما ليس يشتد الشوق والرغبة فى هذا الآن لعدم ذوقه كما لو وصفت لذة الجماع للصبى وليست له شهوة لم يرغب فيه بل ربما يعاف صورة الجماع وهذه اللذة العقلية إنما تكون لنفس كملت في هذا العالم فان كانت منزهة عن الرذائل ولكنها منفكة عن العلوم وهمها مصروف إلى المتخيلات فلا يبعد أن يتخيل الصورة الملذة كما فى النوم فيتمثل لها وصف فى الجنة من المحسوسات فيكون بعض الأجرام السماوية موضوعا لتخيلها إذ لا يمكن التخيل إلا بجسم.

(الرابع القول فى الشقاوة): وهى أن تكون النفس محجوبة عن عن هذه السعادة التى هى مقتضى طبعها فاذا حيل بينها وبين ما تشتهيه فقد تشقى وإنما تصير محجوبة بأن تتبع الشهوات وتقصر الهمة على مقتضى الطبع البدنى وتؤثر هذا العالم الخسيس الفانى فترسخ بالعادة تلك الهيئة فيها ويتأكيد شوقه اليها فيفوته بالموت آلة درك المشوق واقتناص العلوم ويبقى الشوق والنزوع وهى الألم العظيم الذى لا حد له وذلك يمنع من الوصال والاتصال بالعقل الفعال لأن النفس في هذا العالم لا يمنع دوام اتصالها لكونها منطبعة فى البدن وإن كانت ليست في البدن كما بينا ولكن لاشتغالها بعوارضه وشهواته ونزوعه اليه وعشقه الطبيعى الذى يحول بين النفس ومقتضى طبعها ولكن لا يحس فى هذا العالم بالم ذلك لشغل البدن إياها كالمشغول بالقتال أو الخوف فانه قد لا يشعر بالألم وقد شرحنا أسباب ذلك فاذا فارقت البدن بالموت ارتفع ذلك الشاغل وبقى الشوق وفاتت الآلة أعنى الحواس والقوى البدنية التى يفيض بها المعقولات وعدم المركب الذى يوصل إلى المقصد وصار الشوق إلى ما تعوده وألفه من الحس صارفا له إلى ما فاته ومانعا إياه عن الاتصال بمقتضى طبعه وهو البلاء العظيم المخلد وهذه النفس ناقصة بفقد العلم ملطخة باتباع الشهوة وأما الذى استكمل القوة العقلية فحصل المعارف ولكنه اتبع الشهوات فذلك يبقى هيئة الشهوات والنزوع اليها فى نفسه فيجاذبها إلى جهة الطبيعة السفلى وما حصله من المعارف فى جوهره يجذب نفسه إلى الملأ الأعلى ويحصل من تصاد المتجاذبين ألم عظيم هائل ولكنه ينقطع ولا يخلد لأن الجوهر قد كمل وهذه الهيئة عارضة وقد انقطع أسبابها بالموت فلم يبق ما يؤكدها ويجددها فتمحى بعد زمان ولا يتعذب أبدا ويكون قرب الزوال وبعده بحسب قوة تلك الصفة وضعفها وعن هذا أخبرتك الشريعة بأن المؤمن الفاسق لا يخلد فى النار وأما من اكتسب شوق الاستكمال بالعلم بممارسة مباديه ثم تركه يتضاعف عقابه لأنه ينضاف إلى آلامه تحسره على ما فاته مع كونه مشتاقا اليه وان ما لا يعرف قدره لا يشتاق اليه فلا يشعر بفواته ولا يتحسر عليه كما لو قتل ملك وأخذ الملك من أولاده وله ولدان.

(أحدهما): صبى لا يعرف ما الملك.

(والآخر): أكبر قد عرف الملك ومارسه ولم يصل بعد إلى استكماله واستدامته فانه لا شك يكون أعظم حسرة وأشد من أخيه الذاهل عن قدر ما فاته ألما وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا. (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه): وقال النبى صلى الله عليه وسلم.

(من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا).

(الخامس فى سبب الرؤيا الصادقة): وليعلم أولا أن معنى النوم انحباس الروح من الظاهر إلى الباطن والروح عبارة عن جسم لطيف مركب من بخار الاخلاط معتصبة القلب وهو مركب القوى النفسانية والحيوانية وبها تتصل القوى الحساسة المتحركة إلى آلاتها ولذلك مهما وقعت سدة فى مجاريها من الأعصاب المؤدية إلى الحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة وكذلك إذا شدت يد الانسان شدا محكما أحس بخدر فى أطراف اليد مما يلى الأنامل وبطل فى الحال حسه إلى أن يحل فيعود الحس بعد زمان وهذا الروح بواسطة العروق الضوارب منتشر إلى الظاهر من البدن وقد يتحجز فى الباطن بأسباب مثل طلب الاستراحة من كثرة الحركة ومثل اشتغال الباطن لنضج الغذاء ولذلك يغلب النوم عند الامتلاء ومثل أن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفى أثره فى الباطن والظاهر جميعا ولنقصانه ولزيادته أسباب طبية والاعياء معناه نقصان الروح بالتحلل بسبب الحرارة وميل الرطوبة والثقل الذين يظهران فيه فيمنعانه عن سرعة الحركة كما يغلب وقوعه عن من أطال المقام فى الحمام وبعد الخروج منه وتناوله الشىء المرطب للدماغ فاذا ركدت الحواس بسبب انحباس الروح الحاملة لقوة الحس عنها بسبب من هذه الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورده الحواس عليها فاذا وجدت فرصة للفراغ وارتفع عنها المانع استعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التى فيها نقش الموجودات كلها المعبر عنها فى الشرع باللوح المحفوظ فانطبع فيها أعنى فى النفس ما فى تلك الجواهر من صورة الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض النفس ويكون مهما لها ويكون انطباع تلك الصورة فى النفس منها عند الاتصال كانطباع صورة مرآة فى مرآة أخرى يقابلها عند ارتفاع الحجاب بينهما وكل ما يكون فى إحدى المرآتين يظهر فى الأخرى بقدرها فان كانت تلك الصورة جزئية وقعت من النفس فى الصورة وحفظتها الحافظة على وجهها ولم تتصرف القوة المتخيلة الحاكية للأشياء بتمامها فتصدق هذه الرؤيا ولا يحتاج إلى التعبير إذ يكون ما رآه بعينه وإن كانت المتخيلة غالبة وإدراك النفس للصورة ضعيفا سارعت المتخيلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال كتبديل الرجل بشجرة والعدو بحية أو إلى تبديله بما يشبهه ويناسبه مناسبة ما أو بما يضاده كما أن من رأى أنه ولد له ابن فولدت له بنت وكذا بالعكس وهذه الرؤيا تحتاج إلى تعبير ومعنى التعبير أن يتفكر المعبر فى أن هذا الذى بق فى حفظه من الصور التى رآها ما الذى يمكن أن تكون النفس قد رأته حتى انتقل الخيال منه إلى هذا الباقى فى الحفظ ويكون ذلك لمن يتفكر فى شىء فينتقل خياله إلى غيره ثم منه إلى غيره حتى نسى ما كان يتفكر فيه أولا فيكون طريقه فى التذكر والتخيل وذلك بأن يقول هذا الخيال الحاضر لماذا تذكرته فيتذكر السبب الموجب له ثم يتأمل فى ذلك حتى يتذكر بسببه وهكذا وربما يعثر فى تخيله على الأول الذى انجر به إلى هذا الأخير ولما كانت انتقالات الخيال غير مضبوطة بنوع مخصوص انشعبت وجوه التعبير وصارت تختلف بالأشخاص والأحوال والصناعات وفصول السنة وصحة النائم ومرضه وصار لا ينال إلا بضرب من الحدس ويغلط فيه ويغلب عليه الالتباس.

(السادس): أضغاث الأحلام وهى المنامات التى لا أصل لها وسببها حركة القوة المتخيلة وشدة اضطرابها فانها فى أكثر الأحوال لا تفتر عن المحاكاة والانتقالات وكذلك فى حال النوم لا تفتر أيضا فى أكثر الأحوال فمهما كانت النفس ضعيفة فتبقى مشغولة بمحاكاتها كما تكون فى حال اليقظة مشتغلة بالحواس فلا تستعد للاتصال بالجواهر الروحانية والمتخيلة باضطرابها إذا كانت قد قويت بسبب من الأسباب فلا تزال تحاكى وتخترع صورا لا وجود لها وتبقى فى الحافظة إلى أن يتيقظ النائم فيتذكر ما رآه فى المنام ويكون لمحاكاتها أيضا أسباب من أحوال البدن ومزاجه فان غلب على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر وإن كان فيه إفراط الحرارة حاكاها بالنار والحمام الحار وإن غلبت عليه البرودة حاكاها بالثلج والشتاء وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة وإن كانت النفس مشغولة تفكر نسيت بخيال بقية التفكر فلا يزال الخيال يتردد فيما يتعلق بالهمة فيها وإنما حصلت صورة النار مثلا فى المتخيلة عند غلبة الحرارة لأن الحرارة التى فى موضع يتعدى إلى غيره إذا كان مجاورا له ومناسبا كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه يكون سببا لحدوثها إذا علقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره فالقوة المتخيلة منطبعة فى الجسم الحار ويؤثر به تأثيرا يليق بطبعه وهى ليست بجسم أعنى المتخيلة حتى يقبل الحرارة نفسها لكن يقبل من الحرارة المقدار الذى فى طبعها قبوله وهى صورة الحار وصورة النار وأمثاله هذا هو السبب فيه.

(السابع فى سبب معرفة الغيب فى اليقظة): اعلم أن سبب الحاجة إلى النوم لادراك علم الغيب بالرؤيا ما أوردناه من ضعف النفس وكون الحواس شاغلة لها حتى إذا ركدت الحواس اتصلت النفس بالجواهر العقلية واستعدت للقبول منها ويمكن أن يكون ذلك لبعض النفوس فى اليقظة من وجهين.

(أحدهما): أن لقوى النفس قوة لا يشغلها الحواس ولا يستولى عليها بحيث يستغرقها ويمنعها من شغلها بل يتسع ويقويها للنظر إلى جانب العلو وجانب السفل جميعا كما يقوى بعض النفوس فيجمع فى حالة واحدة بين أن يتكلم ويكتب فمثل هذه النفوس يجوز أن يفتر عنها فى بعض الأحوال شغل الحواس ويطلع إلى عالم الغيب فيظهر لها منه بعض الأمور فيكون مثل البرق الخاطف وهذا النوع من النبوة ثم إن ضعفت المتخيلة بقى فى الحفظ ما انكشف من الغيب بعينه وكان وحيا صريحا وإن قويت المتخيلة اشتغلت بطبيعة المحاكاة فيكون هذا الوحى مفتقر إلى التأويل كما يفتقر تلك الرؤيا إلى التعبير.

(والسبب الثانى): أن يغلب على المزاج اليبس والحرارة حتى يصرفه بغلبة السواد عن موارد الحواس فيكون مع فتح العينين كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع وذلك لضف خروج الروح إلى الظاهر فهذا أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شىء من الغيب فيتحدث به ويجرى على لسانه وكأنه أيضا غافل عما يحدث به وهذا يوجد فى بعض المجانين والمصروعين وبعض الكهان من الأعراب فيحدثون بما يكون موافقا لما سيكون وهذا النوع نقصان والسبب الأول نوع كمال.

(الثامن فى سبب رؤية الانسان فى اليقظة صورا لا وجود لها): وذلك أن النفس قد تدرك الغيب إدراكا قويا فيبقى عين ما أدركه فى الحفظ وقد تقبله قبولا ضعيفا يستولى عليه المتخيلة فتحاكيه بصورة محسوسة فاذا قويت تلك الصورة فى المصورة استصحب الحس المشترك وانطبعت الصورة فى الحس المشترك سراية اليه من المصورة والمتخيلة* والابصار هو وقوع صورة فى حس المشترك فان الصورة الموجودة من خارج ليست بمحسوسة بل هى بسبب صورة تماثلها فى الحس المشترك فالمحسوس فى الحقيقة هى الصورة الحادثة فى الحس بسبب الصورة الخارجة فالخارجة تسمى محسوسة بمعنى آخر فلا فرق بين أن تقع الصورة فى الحس المشترك من خارج أو من داخل فانها كيف ما يكون محسوسة يكون حصولها إبصارا فمهما وقع ذلك فى المشترك صار صاحبه مبصرا له وإن كانت الأجفان مغمضة أو كان فى ظلمة أيضا والذى يرى الانسان فى اليقظة إنما لا ينطبع فى الحس المشترك حتى يصير مبصرا لأن الحس المشترك مشغول بما يؤدى اليه الحواس من الظاهر وهى أغلب ولأن العقل يكسر على المتخيلة اختراعها ويكذبها فلا يقوى تصورها فى اليقظة فمهما ضعف العقل عن ردها وتكذيبها بسبب مرض من الأمراض لم يبعد أن ينطبع فى الحس المشترك ما يقع فى المتخيلة فيرى المريض صورا لا وجود لها بل إذا غلب الخوف واشتد توهم الخائف للمخوف وتخيله إياه وضعفت النفس والعقل المكذب فربما يمثل للحس صورة المخوف منه حتى يشاهد ويبصر ما يخافه ولهذا يرى الجبان الخائف صورا هائلة والقول الذى يحدث به فى الصحارى وبما يسمع من كلامه هذا سببه وقد تشتد شهوة هذا العليل الضعيف فيشاهد ما يشتهيه ويمد اليه يده كأنه يأكله ويرى صورا لا وجود لها بسبب ذلك.

(التاسع فى أصول المعجزات والكرامات): وهى ثلاث خواص.

(الخاصة الأولى فى قوة النفس فى جوهرها): بحيث يؤثر فى هيولى العالم بازالة صورة وإيجاد صورة بأن يؤثر فى استحالة غيرها ويؤثر فى استحالة الهواء غيما ويحدث مطرا كالطوفان أو بقدر الحاجة للاستسقاء أو ما يجرى مجرى ذلك وهو ممكن فانه قد ثبت فى الالهيات أن الهيولى مطيعة للنفوس ومتأثرة بها وإن هذه الصور تتعاقب عليها من آثار النفوس الفلكية وهذه النفس الانسانية من جوهر تلك النفوس وشديدة الشبه بها وهى التى كانت نسبتها اليه نسبة السراج إلى شمس فان ذلك لا يمنع من تأثير كما لا يمنع ضعف السراج من كونه مؤثرا فى التسخين والاضاءة كالشمس فكذلك نفس الانسان تؤثر فى هيولى العالم ولكن الغالب عليها أن يقتصر تاثيرها على عالمها الخاص وذلك بدنها وكذلك إذا حصلت فى النفس صورة مكروهة استحال مزاج البدن وحدثت رطوبة العرق وإذا حدثت فى النفس صورة الغلبة حمى مزاج البدن واحمر الوجه وإذا حصلت صورة مشتهاة فى النفس حدثت فى أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح حتى يمتلئ. به عروق آلة الوقاع فتستعد له وهذه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التى تحدث فى البدن من هذه التصورات ليست عن حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة أخرى بل عن مجرد التصور فاذا صار مجرد التصور سببا لحدوث هذه التغيرات فى هيولى البدن وليس ذلك لكون النفس منطبعة فيه إذ ليست فى البدن فيجوز أن يؤثر فى بدن غيره مثل هذا التأثير أو دونه ولكن فيه أولى وأكثر إذ لها ببدنها بحكم علاقة البعثة لحدوثها معه وعشقها له بالطبع ميل اليه ولا ينكر مثل هذا العشق الطبيعى فان الصبى ربما وقع فى نار أو فى ماء فألقت أمه نفسها فى النار وراءه بالطبع فاذا لم يبعد عشق نفسها لبدن آخر هو فرع بدنها فمن أين يبعد عشقها لبدنها بالطبع وإن لم يكن حالة فى بدنها ولا فى بدن الولد وهذه العلاقة العشقية هى التى يقصر تأثيرها عليه وقد يتعدى أثر بعض النفوس إلى بدن آخر حتى يفسد الروح بالتوهم ويقتل الانسان بالتوهم ويعبر عن ذلك بأنه إصابة العين ولذلك قال عليه الصلاة والسلام.

(إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر): وقال عليه الصلاة والسلام أيضا.

(العين حق): ومعنى ذلك أن المصيب بالعين يستحسن الجمل مثلا ويتعجب منه ويتفق أن يكون نفسه خبيثة حسودة فيتوهم سقوط الجمل فينفعل الجمل عن توهمها ويسقط في الحال وإذا كان هذا ممكنا لم يبعد أن تقوى نفس من النفوس على الندور قوة أكثر من هذا فيؤثر فى هيولى العالم باحداث حرارة وبرودة وحركة وجميع تغاير العالم السفلى بنشعب عن الحرارة والبرودة والحركة كما سبق فى حوادث الجوهر وغيره ومثل هذا يعبر عنه بالكرامة والمعجزة.

(الخاصة الثانية للقوة النظرية): هى أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد والاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم فان النفوس منقسمة إلى ما يحتاج إلى التعليم وإلى ما يستغنى عنه والمحتاج إلى التعليم منه ما يؤثر فيه التعليم وإن طال تعبه ومنه ما يتعلم سريعا وقد يوجد من يستنبط الشىء من نفسه من غير معلم بل العلوم كلها لو تؤملت لوجدت مستنبطة من النفوس فان المعلم الأول لم يكن متعلما من معلم بل يرتقى ذلك إلى من عرف من نفسه وما من ناظر إلا وهو يذكراستنباطات كثيرة وقد استنبطها من نفسه من غير معلم وذلك بأن تخطر النتيجة بباله فيتنبه للحد الأوسط كأنه الذى فى نفسه من حيث لا يدرى أو يبتدر للحد الأوسط فتحضر النتيجة كمن نظر إلى سقوط الحجر إلى أسفل فيخطر له أنه لولا اختلاف الجهتين لما كان الحجر ينزل من أعلى إلى أسفل ثم يخطر له أن اختلاف الجهتين لا يكون إلا فى البعد من جسم والقرب منه وذلك لا يتصور إلا بمحيط ومركز فينكشف له بذلك أن السماء هى محيطة ولا بد من وجودها أو ينظر فى حدوث الحركة فيخطر له أن كل حادث فلا بد له من سبب حادث ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية ويعرف أن ذلك لا يمكن إلا بحركة دورية ثم يسبق له أن الحركة الدورية لا تكون بالطبع فانها رجوع الى ما فارقته من الوضع فيحتاج الى النفس والنفس إلى العقل كما سبق فهذا وأمثاله غير محال وإذا خطر فليس بمحال أن يتمادى إلى آخر المعقولات إما في زمان طويل أو قصير ومن انكشفت له هذه المعقولات كلها فى زمان قصير من غير تعلم فيقال أنه نبى أو ولى ويسمى ذلك كرامة أو معجزة للنبى وهو ممكن وليس بمحال وإذا كان يمكن التصور إلى حد يمتنع عن الفهم من التعلم جاز أن يترقى الكمال إلى حد يغنى عن التعليم وكيف لا يمكن هذا وكم من متعلمين في مدة واحدة يسبق أحدهما الآخر بحقائق العلوم مع أن اجتهاده أقل من اجتهاد المسبوق ولكن شدة الحدس وقوة الذكاء أعطته ذلك فالزيادة فى فى هذا من الممكنات.

(الخاصة الثالثة للقوة المتخيلة): أن النفس قد تتقوى كما سبق وتتصل فى اليقظة بعالم الغيب كما سبق وتحاكى المتخيلة ما أدركت بصور جميلة وأصوات منظومة فيرى فى اليقظة ويستمع ما كان يراه ويسمعه في النوم للسبب الذى ذكرناه فتكون الصور المحاكية المتخيلة للجوهر الشريف صورة عجيبة فى غاية الحسن وهو الملك الذى يراه النبى أو الولى أو يكون المعارف التى تصل إلى النفس من اتصالها بالجواهر الشريفة يتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع فى الحس المشترك فيكون مسموعا فهذا أيضا ممكن غير مستحيل فهذه طبقات النبوة ومن اجتمعت له هذه الثلاثة فهو النبى الأفضل وهو فى الدرجة القصوى من درجات الانسان وهى متصلة بدرجات الملائكة لكن الأنبياء فى هذه يتفاضلون يكون للواحد منهم خاصيتان من هذه الثلاث وقد يكون له خاصة واحدة وقد لا يكون إلا مجرد الرؤيا وقد يكون له من كل واحدة شىء ضعيف وبه يتفاوت منازلهم فى القرب من الله تعالى وملائكته.

(العاشر): فى إثبات أن النبى لا بد له أن يدخل تحت الوجود وأن يصدق بدخوله فى الوجود وذلك أن العالم لا ينتظم إلا بقانون مسموع بين كافة الخلق يحكمون به بالعدل والا تقاتلوا وهلك العالم وكما لا بد لنظام العالم من المطر مثلا والعناية الالهية لم تقتصر عن إرسال السماء مدرارا فنظام العالم لا يستغنى عمن يعرفهم وجه صلاح الدنيا والآخرة ولا يشتغل بذلك كل واحد وهذا النظام موجود فى العالم فاذن سبب النظام موجود ومن هو سبب النظام فى العالم فهو خليفة الله فى أرضه إذ بواسطته يتم فى خلق الله تعالى الهداية إلى مصاح الدنيا والآخرة وإلا فالخلق دون الهداية لا يفضى إلى خير ولذلك قال تعالى (قدر فهدى) وقال عز وجل (أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) فالملك واسطة بين الله تعالى والنبى* والنبى واسطة بين الملك والعلماء* والعلماء واسطة بين النبى والعوام والعالم قريب من النبى* والنبى قريب من الملك والملك قريب من الله سبحانه وتعالى ثم تفاوت درجات الملائكة والأنبياء والعلماء فى مراتب القرب تفاوتا لا يحصى فهذا ما أردنا أن نحكيه من علومهم (المنطقية والالهية والطبيعية) من غير اشتغال فى تميز الغث من السمين والحق من الباطل ولنفتح بعد هذا بكتاب (تهافت الفلاسفة) حتى يتضح بطلان ما هو باطل من هذه الآراء والله الموفق لدرك الحق بمنه وحوله* والحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين آمين (تم بعون الله وحسن توفيقه)

Страница 0