اجتنبها مع القدرة والإرادة كما يتمكن من امرأة ومواقعتها، فكفّ نفسه عن الوقاع، ويقتصر على النظر والمس؛ فإنَّ مجاهدته نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرًا في تنوير قلبه [من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره. فإن كان عِنّينًا] (*)، ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرًا، ولكن امتنع لخوف أمر آخر، فهذا لا يصلح للتكفير أصلًا، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه لو قدم له لما شربه، فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار، وهذا ظاهر يدل
عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا اقترن به القصد حسنة، وإنما قيد بذلك، وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه، أنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب على الإشكال المتقدم أن يُقال: قوله في الحديث: ما اجتنبت الكبائر ليس قيدًا لأصل التكفير، بل لشمول التكفير سائر الذنوب، وكأنه قال: الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها، وتكفيرها للجميع كائن في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر، ومقيدًا باجتناب الكبائر، وإلا فليست الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير، لكن قرينة الآية اقتضت العدول عنه إلى ذلك جمعًا بين الأدلة.
فإن قيل: فإذا اجتنبت الصغائر باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟
قلنا هذا حينئذ من قبيل من فعل أمورًا، كل واحد منها مكفر، فإن المكفرات لا تنحصر فيما ذكر [وحكمها أنّها إن ترتبت فالمكفّر السّابق، وإن وقعت معًا فالمكفّر واحد منها يشاؤه الله تعالى وأمّا البقيّة فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصّغائر لو وجدت على ما تقدّم، كما لو فعل واحدًا من الأمور المكفّرة ولم يكن قد ارتكب ذنبًا. وسيأتي مزيد كلام يتعلق بهذا في الفصل الثّاني في الكلام على صوم عرفة.
هذا ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم بعد التأمّل. ثم رأيت في كلام البغوي ما يقتضي أنّ الحديث بيان للمراد من الآية فإنه قال: " ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي من الصّلاة إلى الصّلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان". ثمّ ساق الحديث المتقدّم من رواية مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ: "الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" فعلى ما اقتضاه كلامه لا يحصل التّكفير إلاّ بفعل كلّ من هذه الأمور واجتناب الكبائر، وكأنّه اكتفى في الآية بذكر اجتناب الكبائر عن فعل هذه الأمور لأنّ التّارك لها لم يجتنب الكبائر لأن ترك هذه الأمور من جملة الكبائر.
ثم رأيت ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم وما اقتضاه كلام البغوي مصرّحًا به،] (*)، قال الزركشي، في قواعده: قال المحب الطبري، في أحكامه: اختلفت العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما: نعم، وهو ظاهر قوله ﷺ: ما اجتنبت الكبائر ظاهره الشرطية، فإذا اجتنبت الكبائر كانت فكفرات لها، وإلا فلا. قال: وقد ذكره ابن عطية، في تفسيره: أن هذا قول الجمهور. وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث الاستثناء، والتقدير مكفرات لما بينهن إلا الكبائر.
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف
1 / 178