حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وكان لاحتجابه عن انتشاق نسيم الأخبار، يصبح ويمسي في اختناق على مقالي النار، ولقد عيل منه الاصطبار، بعد طول الانتظار، وأضحى لا يقر له قرار، بأي مكان من الدار، حتى إنه في خلال الدوران، دخل قاعة مزخرفة البنيان، ووقف تجاه شباك، مشرف على شارع ابن الحباك، فوقع بصره على شيخ كبير، كأنه لضخامته بعير، وهو يتوكأ على عصاه، وقد كشف رأسه وقفاه، وشرع في طلب الصدقة، من ذوي المروءة والشفقة، بقوله: يا أهل المراحم والمروة، والمكارم الشاملة والفتوة، تصدقوا على بعل الشيخة أم طبق، بما يستر العورة ويسد الرمق.
فلما رآه وهو على ما به من الاضطرار، إلى سؤال الجائز والمار، حسده على غدوه ورواحه، وتمنى أن يحظى مثله بإطلاق سراحه، وقال لغلامه وائل: علي بهذا السائل؛ فانطلق على الفور يهرع خلفه، فأدركه قبل الانسياب في أول عطفه، وقال له: أيها السائل المضطر، أجب الرئيس أوحد الدهر، فحصل للشيخ من شدة الارتياع، ضرب من الخدر والصداع، وأوجس منه في نفسه خيفة؛ لتوهمه أنه من الأعوان، الموكلين بضبط كل سائل من الرجال والنسوان. وقال: سألتك بالله يا ابن الحلال، ألا ما تركتني أسعى في طلب زرق العيال، فتلطف به حتى لان وأجاب، وسار معه وهو على غاية من الارتياب، وأدخله القصر بعد صلاة العصر، فاعتراه من هيبة المكان، ما زلزل منه الأركان، وكاد عقله من رأسه يطير، عند رؤيته لأعوان هذا الرئيس الخطير، ومن شدة ما ناله من الذهول، هم بالرجوع من قبل الوصول، فمنعه الخادم أبو خف، عما أراد بلين ولطف، ولا زال يسكن عنه بعض روعه، وينهاه عن رجوعه، ويعده من مولاه بزوال البوس، وامتلاء كيسه بعد الإفلاس بالفلوس، حتى وقف به أمام سيده بالبستان، وقال له: ادن من مولانا وقبل راحتيه بأمان.
فلما عاينه الشيخ جثا عن ركبتيه، وبادر إلى تقبيل مواطئ قدميه، فأقامه وعلى متكأ بجواره أجلسه، وبش في وجهه وبعذوبة ألفاظه آنسه، وسأله عن أحواله، وعن مقر زوجته وعياله، ثم أمر غلامه ابن بسام، بالتوجه به إلى الحمام، وبعد تنظيف بدنه، وإزالة ما عليه من درنه، خلع عليه حلة تليق بحاله، وغمره من الإحسان بما كفه عن سؤاله، وحمله بعد حلق رأسه وقص شاربه، إلى مولاه فأكرمه وأجلسه بجانبه، وقال له: أيها الشيخ، الذي ألبسه الشيب من الوقار أبهى ثياب، أنت صرت الآن عندنا من أجل الأصدقاء والأحباب، وقد ربطنا لك ولعيالك، من المرتبات ما يستقيم به أود حالك، ورفعنا ما بيننا وبينك من الحجاب، فادخل علينا بدون استئذان من أي باب، وأتحفنا بما تلتقط من الأخبار، ولا تخف بعد إقبالنا عليك غائلة الإدبار، فقال الشيخ متمثلا ، بما راق وحلا:
يا أيها البر الكريم ومن له
منن حللن من الزمان وثاقي
من شاكر عني نداك فإنه
من عظم ما أوليت ضاق خناقي
منن تخف على يديك وإنما
Неизвестная страница