أمسيت يا طير مقصوص الجناح وقد
ألقاك صيادك المحتال في القفص
لا فرج الله عنك الكرب فيه ولا
أخلاك فيه مدى دنياك عن غصص
وأنت لا شك بعد الموت في سقر
بنص ما أنزل الجبار في القصص
وكان قد اكتسب من الرزق الحلال بالهمة، ما لا يحصى من الأموال الوافرة الجمة، وادخرها في داره المضاهية في زينتها لمدينة إرم، التي كانت آهلة بالسراري الحسان والحشم، ولولا شغفه بحب الرياسة، وتولعه بأحوال السياسة، لعاش عيشة راضية في يسار وثروة، ولذة وافية وزيادة حظوة، وكيف لا وقد كان في هذه الدار المزخرفة الرصينة الأسوار، ما تشتهي الأنفس وتعجز عن وصفه الألسن، مما يشرح الصدور ويسر الأعين، من عرب أتراب، تسحر بجمالها الألباب، وحور عين حسان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وهو معهن آناء الليل وأطراف النهار، في جنات تجري من تحتها الأنهار.
ولما توارى عن ذوي الأحقاد، وانقطعت عنه ألسنة الحساد، كان لا يسمع ما يكدر منه الخاطر، أو يحرك ما انطوت عليه الضمائر من غيظ وحنق، على من بنار النميمة احترق، فلو أنه دام على هذه الحال؛ لتنعم منه البال، لكنه لما طال عليه المدى، وتذكر شماتة العدى، عاف الشراب والطعام، وانعجم لسانه عن الكلام، وضاق منه الخناق، وكادت روحه تبلغ التراق، وهجر الكواعب، وبسر في وجوه ذوي الملاعب، ومج سمعه الأنغام والأغاني، وأعرض عن مشاهدة الغواني، وتوهم أن بستانه النضير الواسع، وروضه المزهر البائع؛ قد أمسى لتقارب الأطراف، أضيق من سم الخياط بلا اختلاف، وأظلمت الدنيا في عينيه، وصار لا يبصر ما بين يديه، وساءت منه الأخلاق، واعترض في سره وعلانيته على الخلاق، مع أنه كان يستقبح الفسق والفجور، ويمقت منكر البعث والنشور، ويقضي بكفر أدهى أبناء معرة النعمان؛ حيث قال وهو أشعر العميان:
أتترك لذة الصهباء عمدا
بما وعدوك من لبن وخمر
Неизвестная страница