بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، من يحيى النواوي، اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده، التارك مصلحة لنفسه في تهيئة جهازه له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين، حملا مني لك على ما هو شان المؤمنين، من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين، فأنكر عليه بلساني وقلبي، لأنها غيبة لا أعلم صحتها.
ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان، " وفقّه الله الكريم للخيرات ": إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء، وهذا من الافتراء الصريح، والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء، أن يبين بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين، وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين، وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، فإنه يجب على الناس نصيحته، لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: " الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم "، وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان، وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه بكرامته.
وقد شاع بين الخواص والعوام إن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ويحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتب القضاة من المذهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان " أعز الله أنصاره " بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر ذلك ولم يخالفه. فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما إفتراه، ودلّس على السلطان وأظهر أن انتزاعها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد، وجب عليهم نصيحة السلطان وتبيين الأمر له على وجهه.
وإن هذا خلاف إجماع للمسلمين، فإنه يجب عليه نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين، فوفّقهم الله تعالى على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته، على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحدًا بعينه، بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب. وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك، لما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها وليَّ الأمر، " أدام الله نعمه عليهم "، لينصحوه ويبينوا حكم الشرع.
ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات، حصل لي العلم بقولهم: إنك كرهت سعيهم في ذلك، وشرعت في ذم فاعل ذلك، وأسندت معظم ذلك كله إليّ، ويا حبذا ذلك من صنيع، وبلّغني عنك قول هؤلاء الجماعات أنك قلت: قولوا ليحيي هذا الذي سعى في هذا، فينكفّ عنه، وإلا أخذت منه دار الحديث، وبلّغني عنك هؤلاء الجماعات أنك حلفت مرات بالطلاق الثلاث أنك ما تكلمت في انتزاع هذه البساتين، وأنك تشتهي إطلاقها.
قيا ظالم نفسه، أما تستحيي من هذا الكلام المتناقض؟ فكيف يصح الجمع بين شهوتك في إطلاقها، وأنك ما تتكلم فيها، وبين كراهتك السعي في إطلاقها، ونصيحة السلطان والمسلمين؟ ويا ظالم نفسه، هل تعرّض لك أحد بمكروه، أو تكلم فيك أحد بعينك؟ وإنما قال العلماء؛ من قال هذا للسلطان فقد كذبه، ودسّ عليه وغشه، ولم ينصحه، فإن السلطان ما يفعل هذا إلا لاعتقاده أنه حلال عند بعض العلماء، فبينوا أنه حرام عند جميعهم، وأنت فقد قلت: إنك لم تتكلم فيها، وحلفت على هذا بالطلاق الثلاث، فأيّ ضرر عليك في إبطال قول كاذب على الشرع، غاشّ مدلِّس على السلطان، وقد قلتَ: أنه غيرك؟ وكيف تكره السعي على شيء قد أجمع الناس على استحسانه؟ بل هو واجب على من قدر عليه، وأنا بحمد الله من القادرين عليه بالطريق الذي سلكتُ. وأما نجاحه فهو إلى الله تعالى مقلّب القلوب والأبصار.
ثم أي أتعجب غاية العجب من اتخاذك إياي خصمًا، ويا حبذا من اتخاذٍ، فإني " بحمد الله " أُحب في الله تعالى وأُبغض فيه، فأحبّ من أطاعه، وأبغض من خالفه. وإذا أخبرت عن نفسك بكراهتك السعي في مصلحة المسلمين ونصيحة السلطان، فقد دخلت في جماعة المخالفين وصرت ممن نبغضه لله رب العالمين، فإن ذلك من الإيمان كما جاءت به الآثار، الصحيحة المنقولة بأسانيد الأئمة الأخيار:
أرض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابُه فيهِ
1 / 37