وقد يمكن القول بأن مدح الفرزدق للنبي وأهله هو بداية الصدق في المدائح النبوية؛ ذلك بأن مدائح حسان وقعت في أيام كان مدح النبي فيها ينفع الشاعر ولا يضره، أما مدح النبي وأهله في أيام الفرزدق فكان بابا من الشر يفتح للمادحين؛ لأن تلك المدائح ما كانت تروق خلفاء بني أمية ، وكيف تروقهم وهي تزكية لخصوم أولئك الخلفاء؟! إن أقوى حجة عند خصوم بني أمية كانت قرابتهم من الرسول، فلا بدع أن يكون مدح الرسول تنويها بشأن أولئك المعارضين، ألم تر كيف غضب هشام وسجن الفرزدق؟
ومعنى هذا أن السياسة كانت بدأت تستقل عن الدين بعض الاستقلال، فمدح الرسول وأبنائه في نظر خلفاء بني أمية كان ضربا من التمرد والشغب والخروج على الدولة، وتعليل ذلك سهل؛ فموقف علي بن الحسين من بني أمية شبيه بموقف خلفه الشريف الرضي من بني العباس، والشريف هو الذي يقول:
ردوا تراث محمد ردوا
ليس القضيب لكم ولا البرد
وتراث محمد كان أهم ما فيه ولاية أمر المسلمين، وقد انتزعت من آل البيت، انتزعها بنو أمية، ثم بنو العباس.
نقول هذا لنبين أثر الشجاعة الصوفية عند الفرزدق حين مدح علي بن الحسين في حضرة هشام بن عبد الملك، وقوله حين رفض العطية: «مدحته لله تعالى لا للعطاء» يذكر بالكميت، وقد دخل عليه جعفر بن محمد بعطاء وكسوة فقال: «والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله.»
فإن لم يكن مثل هذا الحب تصوفا وروحانية، فما منزلته بين نوازع الود والوفاء؟ (13)
رأينا كيف نشأت المدائح النبوية وكيف تطورت: رأينا كيف كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يمدح، كما يمدح الرؤساء المسيطرون، في شعر الأعشى وكعب بن زهير، وكيف مدح بشيء من روح العطف والحنان في شعر حسان، وكيف مدح تدينا في خطب علي بن أبي طالب، وكيف درج الشعراء بعد ذلك على الجمع بين مدحه ومدح آل البيت، فلنذكر الآن أن هذا الفن بلغ أشده في القرن الرابع، وسندرس ما وقع منه في شعر الكميت ودعبل والشريف الرضي ومهيار الديلمي، ونسارع فنقرر أن من أهم الشواهد على نضج هذا الفن في ذلك العصر أن الثعالبي جمع منه شذرات في كتابه «سحر البلاغة»، وهو كتاب يمثل النزعات الفنية في عصر المؤلف، ومادة ذلك الكتاب لم تؤخذ عن كاتب واحد، ولا شاعر واحد، وإنما هي فقرات أخرجها من ألفاظ عدد كبير من الكتاب والشعراء.
Неизвестная страница