2
وعلى هذا المذهب تكون كل معرفة - ولو كانت فكرا عميقا أو «لقانة » - ترجع إلى الإدراك الحسي، فمذهب الحاسيين أو التجربيين إذا هو المذهب القائل بأن التجربة هي المنبع الوحيد للمعرفة، أو على الأقل أساسها، وأن كل معرفة تنبع من التجربة، والتجربة نوعان: فإما أن تكون مستقاة من الحواس الظاهرة، وإما من الباطنة، فإدراك الأشياء الخارجية يسمى إحساسا، وإدراك الأشياء الباطنية يسمى تأملا، والإدراك بنوعيه باب ينفذ منه ضوء المعرفة «إلى حجرة الفهم المظلمة».
قال «لوك» في رسالته (العقل البشري): «لنفرض أن العقل صحيفة بيضاء خالية من أية كتابة وأي معنى، فكيف استعدت لأن تتلقى ما يلقى إليها؟ ومن أين لها ذلك المستودع العظيم الذي نقشه عليها خيال الإنسان الواسع نقشا متنوعا إلى أنواع لا تحد؟ ومن أين لها كل مواد الفهم والمعرفة؟ عن كل هذه الأسئلة أجيب بكلمة واحدة وهي: «من التجربة»؛ فمنها استقينا كل ما عرفنا، ومنها نستمد المعرفة؛ فملاحظتنا - سواء كانت ملاحظة محسوسات خارجية أو ملاحظة عمليات العقل الباطنية، وبعبارة أخرى سواء أكانت إدراكا بالحس الخارجي أو تأملا فكريا - هي التي تزود عقلنا بكل أدوات التفكير، ومن هذين الينبوعين تنبع كل أفكارنا ... وكل أفكار يمكن أن تكون ... وهما - على ما أعرف - المنفذان اللذان ينفذ منهما الضوء إلى تلك الحجرة المظلمة؛ إذ يظهر لي أن العقل كحجرة صغيرة حرمت من كل النوافذ إلا فتحات صغيرة تدخل منها صور المحسوسات الخارجية أو الآراء المتعلقة بها.» وقال: «لهذا كان أول مقدرة للعقل هو أن يكون صالحا للانفعال؛ إما بواسطة الحواس التي تدرك الأشياء الخارجية، وإما بالعمليات التي يعملها العقل عند التأمل في هذه الأشياء، وهذه أول خطوة يخطوها الإنسان لاستكشاف أي شيء، والأساس الذي تنبني عليه كل الآراء التي يحصلها في هذا العالم، فكل الأفكار الراقية الجليلة التي تفوق السحاب رفعة وتعلو علو السماء إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة ويفكر ويتأمل تأملات رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قيد ذرة عما أمدته به الحواس أو التأمل (الفصل الأول من الجزء الثاني).» من هذا يعلم أن الحاسيين أو التجربيين يرون أن ما يمكن أن يجرب هو وحده الذي يمكن أن يعرف، وأن أداة المعرفة الصحيحة هو الإدراك بالحس، ومدركاتنا عند التجربيين ناشئة من قوة الإدراك بالحس، أما قوة الفكر فقابلة في الغالب لما يرد عليها لا فاعلة. (انظر فلكنبرج ص318).
ويعارض نظرية الحاسيين أو التجربيين نظرية الذهنيين أو العقليين، وهؤلاء يقولون: إن التجربة التي تحصل بواسطة الحواس مضلة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة، فإذا كانت كل معارفنا بواسطة الإدراك بالحس فالمعرفة مستحيلة؛ ذلك لأن الإدراك والتجربة إنما يخبراننا بما يتعلق بحالة واحدة من أحوال الشيء، ولا يستطيعان أن يتناولا كل الأحوال، فلو كان الأمر مقصورا عليهما لما عرفنا حقيقة عامة، وإذ كان من الثابت أن المعرفة ممكنة وجب أن نقول: إن بعض المدركات التي تكون المعرفة ليس أساسها الحواس - ولأن تعد الحواس عدوا للمعرفة الحقة أقرب من أن تعد خادمة لها - وإن ما يظهر للعقل بواسطة الحواس إنما هو مظهر الأشياء الخارجي الخداع لا ماهيتها الحقة التي لا تحس. (انظر فلكنبرج ص219). فالمعرفة إذا إنما تحصل بالفكر، وبالتفكير وحده يمكننا أن (نشرف على مملكة الظواهر المتغيرة)، وبينا التجربي يرى أن كل الحواس والتأمل منبع المعرفة إذا بالعقلي يرى أن التفهم والتعقل هو المنبع الوحيد للمعرفة، ويستدل العقليون بأن العلم والفلسفة يميلان إلى العموم والضرورة
3
كما يظهر ذلك في العلوم الرياضية التي هي أهم مظهر للمعرفة العلمية. والعلم والفلسفة لا يمكن أن يحصلا بالتجربة لأنها محدودة، وإنما يحصلان من طريق العقل الذي به الإدراك، وهو وحده المدرك، ثم كيف يفهم ما لا يحس؛ كالله والأبدية ومجموع العالم إذا نحن اعتبرنا التجربة لا العقل منبعا لمعرفتنا وآرائنا؟ الحق أنه بواسطة التفكير المحض وحده يمكننا فهم حقائق الأشياء، وقد غلا بعضهم في معارضة التجربيين «فذهب إلى أنه لا يصل شيء إلى النفس من الخارج، ولا يمكن للنفس أن تبتكر شيئا إذا لم يكن من الأصل فيها».
إنما شغل العقليون والتجربيون أنفسهم بمسألة المعرفة، فذهب الأولون إلى أنها تحصل بواسطة العقل المحض، وبه وحده يحصل العلم بالأشياء، أما بواسطة الإدراك بالحس فمستحيل أن يحصل ذلك، والتجربيون ينكرون تحصيل المعرفة بالعقل المحض، ولكن لم يتعرض أحد المذهبين لمسألة إمكان المعرفة، فكلاهما وثق بالعقل البشري ثقة تامة واعتقد بقدرته على معرفة الأشياء.
ولكن لما كان هذا الموثوق بالعقل وبقدرته على تحصيل الحقائق قد تزلزل بنظرية التجربيين؛ كانت النتيجة أن ضعفت الثقة بالعقل أولا، وتلا ذلك تعريضه للنقد والامتحان، وظهرت هذه المسألة: هل تمكن المعرفة؟ وإذا أمكنت فإلى أي نقطة تمتد؟ وما حدودها؟ والعقليون والتجربيون لم يبحثا في هذه المسألة، بل آمنا بأن لنا قدرة على معرفة الأشياء؛ إما بواسطة الإدراك بالحس، وإما بواسطة التفكير، وبأن الأشياء في الحقيقة هي كما ندركها، ويسمى هذان المذهبان مذهب اليقين؛ نظرا لتيقنهما بإمكان المعرفة.
ويعارض مذهب اليقين مذهبان آخران يكونان نظامين من نظم الفلسفة، ويتعلقان بمسألة إمكان المعرفة وحدودها: أحدهما مذهب الشك، والآخر مذهب النقد، فمذهب الشك يشك فحسب، وينكر إمكان المعرفة وقدرة الإنسان عليها، ويمسك عن إبداء أي رأي، ويقابله مذهب النقد؛ فهو لا بد من أن ينكر ببساطة، ويشك من غير تعليل، ينقد ويبحث في كيف نشأت المعرفة كما يبحث في حدودها.
رأى النقاد - أصحاب مذهب النقد - أنفسهم أمام مسألتين لا تحل ثانيتهما إلا بحل أولاهما، فقبل أن يبحثوا في منبع المعرفة وأصلها قالوا: يجب أن نبحث في حدود المعرفة ويقام البرهان على إمكانها، وبعد أن تعرف الشروط التي بها تحصل المعرفة يمكن للإنسان أن يعرف ما يمكن إدراكه بهذه الشروط. (فلكنبرج 322).
Неизвестная страница