قال «جون ستوارت ميل» في رسالته في مذهب المنفعة: «إن جميع القائلين بمذهب المنفعة من أبيقور إلى بنتام لم يريدوا بالمنفعة شيئا يخالف اللذة، بل أرادوا اللذة نفسها والخلو من الألم، وإنهم لم يقولوا: إن الشيء النافع يضاد اللذيذ وما هو حلية وزينة، بل قالوا: إنه يشملهما ويشمل غيرهما.» وعرف مذهب المنفعة بقوله: «إن المذهب الذي يتخذ أساس الأخلاق المنفعة أو أكبر سعادة مذهب يرى أن الأعمال خير بقدر ما تدعو إلى الزيادة في السعادة، وشر بقدر ما تدعو إلى الزيادة في ضدها، والمراد بالسعادة اللذة والخلو من الألم، وبضدها الألم والخلو من اللذة.» من هذا نستنتج أن هذه النظرية القائلة «بأن الأعمال ليست لها قيمة ذاتية وإنما قيمتها بقدر ما تحصل من السعادة» تسمى نظرية المنفعة.
وخالف في هذا القول بعض الفلاسفة فقالوا: إن الأعمال الأخلاقية، ليست وسائل (كما يقول مذهب السعادة) بل هي أنفسها غايات، وبسيرنا على مقتضى قانون الأخلاق نؤدي الغرض الذي من أجله خلقنا، وبسلوكنا الأخلاقي نرقي قوانا التي منحناها؛ لنحصل بها العلم، ونعرف ما هو حق وما هو خير، وبسلوكنا الأخلاقي أيضا نستعمل قوانا الأخلاقية ونرقيها، وبترقيتنا لقوانا العقلية والأخلاقية نصل إلى كمالنا، وهو مقصدنا في الحياة، وهذا الرأي هو أساس الأخلاقية المسيحية.
ولكن على مذهب السعادة، سعادة من نقصد؟ قال قوم: إننا نقصد تحصيل سعادتنا الشخصية، وقال آخرون: نقصد تحصيل السعادة لغيرنا أو السعادة لأكبر عدد، ولخص «جرمي بنتام» رأيه في ذلك في قوله: «أكبر سعادة لأكبر عدد.»
ويتصل بمسألة الغاية والمقصد البحث في الباعث النفسي على العمل أو منبع السلوك الأخلاقي، وبيان ذلك أن الإنسان لم يمنح العقل والفكر فقط، بل منح أيضا الشعور، وللشعور سلطان على طريقته في التفكير، وبواسطة ذلك يكون للشعور أيضا سلطان على أعماله، فكثيرا ما نرى الإنسان يتجه - اتجاها ينطبق على العقل - نحو سلوك أخلاقي ثم يتغلب عليه طبعه؛ أعني دوافع ليست دائما متفقة مع العقل، بل كثيرا ما تحيد بالإنسان عن الصواب في الحكم، فالشعور بما له من التأثير الشديد في عزمنا الاختياري يجعلنا نميل إلى عمل أكثر مما نميل إلى آخر؛ فحالة العقل الباطنة مع تأثيرها في العامل تعتمد - إلى درجة كبيرة - على الطبع والمزاج والبيئة، وأيضا قد يكون الدافع فينا أقوى من العقل، فيتغلب على عقلنا في لحظة ما من لحظات الحياة، ويقودنا إلى أعمال نراها فيما بعد على خلاف ما نراها وقت الدافع، ويجعلنا نتردد في الإتيان بعمل، ونسرع إلى الإتيان بآخر، فظهر من هذا أن غرضنا الاختياري وسلوكنا الأخلاقي وإن كانا وسيلة لتحصيل غاية إلا أنهما كذلك يعتمدان على الدافع الطبيعي، وعلى باعث يستميلنا للسعي وراء هذه الغاية، وليس الغاية متفقة مع الباعث فحسب، بل هي إلى درجة كبيرة تعتمد عليه أيضا، ولسنا نعرف بعقولنا فحسب أنه ينبغي أن نسير في طريق خاص دون غيره، بل نشعر بذلك أيضا، وليس نظرنا إلى المصلحة أو المنفعة وحده هو الذي يوجهنا وجهة خاصة، ويشكل أعمالنا بشكل خاص ، بل العاطفة والشعور أيضا يعملان ذلك.
واستكشاف الدافع العام للناس جميعا، والمحرك العالم للسلوك الإنساني، والعاطفة الأخلاقية أو الشعور الأخلاقي الذي هو بمعزل عن العقل، والذي يؤثر في عزمنا، والذي هو متأصل في أعماق أعمالنا - مسألة من المسائل الهامة التي اجتهد فلاسفة الأخلاق في حلها، واختلفوا في الإجابة عنها، فذهب قوم مثل «هوبز» إلى أن الإنسان إنما يعنى بسعادته هو، وأن كل إنسان إنما يحارب من أجل نفسه، وأن أساس أعماله الأثرة - الأنانية - وقاعدة سلوكه رغبته في نفع نفسه، وليس حبه الظاهري لجاره إلا ضربا خفيا من ضروب حب نفسه. نعم، إنه قد يفعل خيرا لغيره، ولكن ليس إلا لأن فعله يسبب له لذة أو يوصله إلى غرض له، والسبب النهائي في إطاعة الإنسان للقوانين الأخلاقية من صدق وكرم ونحوهما ليس إلا أنانيته، وكل ما يسمى إيثارا أو عملا ليس فيه مصلحة شخصية تجده بعد الفحص الدقيق نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا.
وذهب آخرون مثل «هيوم» و«آدم سمث» إلى أن في الإنسان أيضا عاطفة حب للناس، وأن في نفس الإنسان عاطفة تدعوه للإتيان بأعمال يريد بها أن يزيد في سعادة بني جنسه، وأن سعادة الناس وبؤسهم لا حب النفس ومراعاة لذتنا نحن هو المتأصل في طبيعتنا، وهو الأساس العام لسلوكنا الأخلاقي، أعني أنه هو الأساس الذي ينبني عليه المدح والذم، وتسمى هذه النظرية نظرية الإيثار، وهي ضد نظرية الأثرة، ومن أتباعها آدم سمث وهيوم، وهي تقول: إن في طبيعتنا شيئا نقومه أكثر من تقويمنا لسعادتنا الشخصية، وذلك الشيء هو ما يحس به العامل عملا أخلاقيا من مشاركته لمن ينالهم بره في السرور والعواطف والسعادة، وذلك الشيء أيضا هو العنصر الأخير الذي نحلل فيه عواطفنا وانفعالاتنا. إن نفوسنا لتهتز عطفا على الناس ورحمة بالمنكوبين وغضبا على الخاطئين، وإنا لنحس رغبة شديدة تنبعث من نفوسنا تحملنا على العمل لخير الناس وسعادتهم، وهذا الشعور بأنواعه التي ذكرنا يكون قوة كبيرة صادرة من طبيعتنا، ومؤثرة في سلوكنا الأخلاقي ، تارة يحملنا على بعض الأعمال، وطورا يمنعنا من ارتكاب بعض آخر. وإلى المذهب الأول؛ أعني مذهب الأثرة، ذهب فلاسفة اليونان الأقدمون والفلاسفة الذين كانوا في عصر الثورة الفرنسية، وذهب هذا المذهب في العصور الحديثة «ماكس سترنر» و «نيتشه»، وإلى المذهب الثاني؛ أعني مذهب الإيثار، ذهب «كانت» و«فخته» و«شوبنهور»، وذهب «آدم سمث» و«جون ستوارت ميل» إلى أكثر من ذلك؛ فطلبا من العامل الأخلاقي تضحية النفس، «ولكن لا تبذل هذه التضحية ما لم تكن سببا في سعادة الآخرين.»
قال «ميل»: «إن من نقص الدنيا واختلال نظامها أن أحسن طريق يمكن للإنسان أن يسلكه في مساعدة غيره على تحصيل السعادة هو تضحية سعادته تضحية تامة، ولكن ما دامت الدنيا على هذا الحال من النقص؛ فإنني أقر أن الاستعداد لتلك التضحية أكبر فضيلة يمكن أن يتصف بها الإنسان.» «إن أصحاب مذهب المنفعة يقولون: إن النوع الإنساني يمكنه أن يضحي أكبر خيراته من أجل خير الآخرين، ولكن لا يقولون بأن هذه التضحية في نفسها خير، بل يقولون: إن كل تضحية لا تزيد فعلا في مقدار الخير في العالم، ولا تدعو إلى ذلك، ولا يعتد بها وتذهب هباء، وليس عندهم تعفف محمود إلا ما كان موصلا إلى خير الآخرين، ويشترط أن يزيد في مقدار الخير العام أكثر مما ينقص منه.»
وهناك مسألة أخرى شغلت عقول فلاسفة الأخلاق، وهي مسألة المقياس الأخلاقي وما له من سلطان، وبعبارة أخرى: مسألة أساس الأخلاق وعلاقته بإرادة الإنسان، أي القانون الأخلاقي وما له من قوة ملزمة تحمل الإرادة على العمل بموجبه.
3
قال «ميل» في رسالته «مذهب المنفعة»: «إنني أشعر بأنني ملزم بألا أسرق ولا أقتل، وبألا أخون ولا أخدع، ولكن لم ألزم بالعمل للسعادة العامة؟ وإذا كانت سعادتي الشخصية في شيء؛ فلماذا لا أفضله على غيره؟» وأيضا إن الواجبات على الناس والأحكام التي تصدر على الأعمال لتختلف باختلاف الأشخاص وأخلاقهم، وإن ما نحمل الأشخاص من المسئولية ليختلف باختلاف الأحوال، أليس من الجائز إذا أن نكون في أحكامنا مخطئين ؟ أوليس من المحتمل أن نكون في عملنا مبطلين ونحن نظن أنا محقون؟ فأين نجد مقياس الأخلاق؟ وما الذي له من سلطان؟ على هذا السؤال أجيب بجوابين:
Неизвестная страница