2
وفيها بحث كذلك أفلاطون، وسمى هذه الأبحاث «الجدليات» أو علم الكلام، واسم العلم يدل على أنه يبحث فيما وراء الطبيعة، وقد جمع أصحاب أرسطو وتلاميذه أبحاثه المتعلقة بأصل الأشياء، والتي تسمى «الفلسفة المبدئية» ووضعوها بعد أبحاثه المتعلقة بالطبيعيات، ومن هذا نشأ اسم ما بعد الطبيعة علما على ذلك العلم - ولم يكن الحد الفاصل بين مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة واضحا جليا في الفلسفة اليونانية؛ فقد أطلق اليونان اسم الطبيعيات على ما نسميه اليوم ما وراء الطبيعة، ومن ذلك العهد إلى الآن سمي هذا العلم بأسماء شتى، فسماه «ولف» الفيلسوف الألماني: أنتولوجيا، أو «علم الموجود حقا» تمييزا له عن الظواهر التي تدرك بالحواس، وبحث «إدور هرتمان» في مسائل هذا العلم وسماها «ما لا يحس»، وكان «كانت» يقول: «إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له، فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا، لم يستطع أن يكشف معمياتها.» لذلك نصح في كتابه المسمى «نقد العقل المجرد» بنقد عقولنا وقوانا قبل أن ننقد نظريات هذا العلم. أما في إنجلترا أرض الذوق الفطري
3
فلم ينل هذا العلم حظا وافرا، ولم يشتغل به منهم إلا القليل أشهرهم «بركلي».
وسنتعرض في فصل تال لذكر مسائل هذا العلم والمذاهب التي قامت حولها.
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة الطبيعية
إن موضوع بحث الإنسان إما أن يكون هو الطبيعة بأضيق معانيها، ونعني بها مجموعة الأشياء المرئية المدلول عليها بكلمة «العالم»، وإما «العقل» ونعني به القوة التي بها ندرك ونعلم ونتأمل ذلك العالم، وقد شوهد أن ما تقع عليه حواسنا أكثر استرعاء لنظرنا من المدركات العقلية المجردة؛ فإن الأخيرة نتيجة تأمل ناضج لا يكون إلا متى كان للعقل قدرة على التأمل في نفسه، فالطفل أول ما يتذكر إنما يتذكر أسماء الأشياء التي تتميز بلونها أو ثقلها أو صوتها أو نحو ذلك؛ وعلى الجملة فهو إنما يتذكر ما يسترعي حواسه، وما أشبه الأمم في أول حالتها العقلية بالطفل، فإنه يتدرج فكرها في الرقي كما يتدرج فكر الفرد في النمو، ودليلنا على ذلك اللغة، فاللغة تضع أسماء وحدودا لما تدركه حواسنا، وما تدركه قوانا العاقلة، وقد أثبت علم اللغة أن أسماء الجوامد التي تدرك بالحواس أسبق في الوجود من الألفاظ الدالة على عمل الحواس نفسها من نظر وسمع ونحوهما، لهذا كانت المباحث الفلسفية الأولى تدور حول المرئيات؛ أعني مجموعة الأشياء التي نسميها «العالم»، فكانت أهم مسائلهم البحث عن كل المظاهر التي تقع عليها حواسنا، والتي يطرأ عليها التغير الكثير، وعن العنصر أو مادة الشيء التي تبقى مع ما يطرأ عليها من التغيرات، تلك المسائل هي موضوع ما يسمى «فلسفة الطبيعة» ويقابلها «فلسفة العقل».
وقد دون أفلاطون آراءه في هذا الموضوع في رسالة سميت «تيمايس»، وأوضح الفرق بين الطبيعيات وما وراء الطبيعة بأن الطبيعة «معرض التغير»، وأما ما وراءها «فمعرض الثبات»، وجمع أرسططاليس آراءه في الطبيعة وفلسفته فيها في كتابه «علم الطبيعة». وفي العصور الحديثة سمي هذا الجزء من الفلسفة قسمولوجيا - علم الكون - وجعل علم الطبيعة فرعا منها، وقد وجه العقل البشري نظره في طور نشوئه الأول - أي قبل أن يفكر في نفسه - نحو العالم الخارجي؛ أعني نحو الطبيعة ودراستها، والطبيعة وحدة تتجلى في أشكال متعددة. وقد ظل الإنسان من أيام نشأته يجد في البحث وراء معرفة القانون الثابت للتغير المستمر، ويريد أن يعرف ذلك العنصر الذي تنتابه التغيرات وتجري عليه الظواهر المتنوعة، وذلك ما ترمي إليه فلسفة الطبيعة، وكان ممن بحث في هذا الموضوع فلاسفة اليونان الأولون مثل «طاليس» و«أنكسيمندر» و«انسكيمينيز»، وقد ذهب بعضهم إلى أن ذلك العنصر الأساسي الذي تجري عليه التغيرات هو الماء، وآخرون أنه الهواء، ومن أجل هذا سمي فلاسفة اليونان الأولون «الفلاسفة الطبيعيين»، أي الذين بحثوا في المادة - ما ظهر منها للحواس وما خفي - وهم أول من تكبدوا مشاق السير للوصول إلى الحقيقة، وقد كان سيرهم بالطبع بطيئا يصحبه التردد والحيرة، وحاولوا إيضاح الظواهر المتعددة ليدركوا منها وحدة العالم، وليشرفوا على ما شاع من غلط الحواس. وقد نشأ علم ما بعد الطبيعة عند الفلاسفة الأيونيين من الطبيعيات كما نشأ هو (علم ما بعد الطبيعة) عند الفيثاغوريين من العلوم الرياضية؛ فالأولون كان يهمهم البحث في الهيولي (المادة) وحركتها الأبدية، والآخرون (الفيثاغوريون) في النظام الذي يسود العالم - في الوحدة والنسبة، وتوافق المتضادات، والعلاقات الرياضية الكامنة في كل الأشياء - ذاهبين إلى أن كل شيء في علم الهندسة والهيئة والموسيقى مآله العدد، وأن العدد أساس العالم وروحه، وأن الأشياء ليست إلا أعدادا محسوسة، وكما أن العدد روح الأشياء فالوحدة روح العدد.
Неизвестная страница