هنا درويش يتمتم قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعد خرزات سبحته، إلى أن تصل نفسه درجة الغيبوبة.
وهناك فقير يتثاءب، متبعا تثاؤبه بقوله: يا الله يا كريم، ويخر مكبا على وجهه، وهناك بدوي ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل يتعدى على أحد المصلين أو يعكر عليهم ...
الجامع ميناء، يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يقبل أولاد الله على السواء. هو حيث يعثر المنبزذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبة القبة الواسعة، التي تعلوه، وما يتخلل سكينة ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتا فآخر.
ولو أن الجامع قائم في سوق النحاسين، لندر وصول صوت إليه من الخارج، يؤذي رهبة المكان وسكينته، وإن النفس فيه لتخشع من هذا السكون، فتدعو الجسد، ويسبح العقل في العلويات، فينبه النفس بلا صنوج ولا أجراس، بلا آلة موسيقية، ولا جوق مغنين، بلا رسوم ولا تماثيل، ولكن بأضواء الإيمان الدائمة، التي لا تطفأ تندفع النفس لتجد سبيلا لها من خلال السكون الفائق الوصف، والرهبة التي لا تحد، إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعا في إحدى القرى؛ لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب متأملا بهذا التقليد الحكيم؛ لأن لذلك دواعي روحية وحسية، فإنه إذا كان من الدناسة أن تدخل بيت الله وحذاءك في قدميك، فكم بالحري إذا لطخت سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟ ناهيك أني خلعت حذائي امتثالا للعادة، ولأنه كان مضيفا على قدمي أوحال، وأخال كثيرين يرتاحون إلى هذا التقليد، ويجدون به فرحا كما شعرت.
ولم يكن يدخل الجامع سوى مصلين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا، وشحاذ قريب من العراء جامد في الزاوية الأخرى. أما أنا فقد جلست على حصير تحت رواق، مسندا ظهري إلى عامود ممددا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي. إن الراحة والاسترخاء من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار، وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقي في الصلاة وأخوي بتسبيح الله. أما الشحاذ فكان حمالا، وقد ترك حمله عند الباب، وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته، مشمرا كميه الحريرين عن ساعديه، مبتدئا بقوله: «بسم الله.» وانحنى الحمال تحت حمله الثقيل، وقد تشنجت رقبته بالحبل المشدود حول رأسه، ثم خطا متناقلا، ولكن خطوات ثابتة بقوة الله، والتفت الشيخ إلي وقال لي مشتبها: أأنت مسلم؟ فأجبته، وأنا أشد حذائي، ولكني أعبد الله وأكرم النبي، عندئذ دعاني لمناولة الغذاء على مائدته؛ فإن الغرباء الذين يلتقون في الجامع يصبحون إخوانا.
ذكرني هذا بزورتي لمدينة نيويورك، محجة أميركا، حيث ذهبت للصلاة في كنيسة الأغنياء، وهي بناية أنيقة صغيرة خشبية، يدل ظاهرها على أنها هيكل للعبادة المسيحية، وتاريخها يرجع إلى جيل؛ إذ ركبت تركيبا لا بناء، أبعد أن أتى بأخشابها من إنجلترا، وبراغيها الأول أيضا، إلا أن نوافذها ذات الزجاج الملون المشوش الوضع، الخالية مما يستدعي النظر، أو ما ينبه المخيلة جديدة وصحيحة، ولكنها سخيفة مطلية بطلاء يقربها من شكل العاديات ، أو أسطورات التاريخ القديم، وأخالها مصنوعة في أميركا. أما أثمانها فتكال بالذهب ككل شيء تافه في هذه البلاد العجيبة، وقد لاحت لي نافذة منها تثمن بألف ريال، مهداة إلى الكنيسة من مدام «مثرية»، وأخرى أثمن منها من المستر «غني». أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء حقيقية في ميدان سخاء كهذا؟ إني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه حيطان الكنيسة الخشبية، لم يتستروا استحياء. أقول «تشويه» عن قصد وروية، فإني لا أطيق رؤية شبابيك ملونة الزجاجات، على حائط خشبي رقيق، عليه شارة هندسية خارجية، تشوه جماله وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
إلا أن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ ببوقه على السطوح في رائعة النهار فيها: أيها البوق النحاسي، إني لم أسمع صدى رناتك في تلك الجوامع المملوءة هواء نقيا، في ذلك الشرق الهادئ.
ومما يستحق الملاحظة أيضا، تلك المقاعد الكنائسية المربعة الزوايا، التي تستطيع أن تضع مكانها عدة كراسي بين ذات مساند وهرازة، وهي مركبة بطريقة تجعل أربابها يجلسون وجها لوجه، كأنهم جالسون في بهو. أولئك هم أغنياء أميركا الذين يتربعون في أبهائهم الكنائسية، ولماذا يا ترى يجزأ مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولم لا تكون الكنسية كالجامع الفسيح المطلوق للهواء النقي، لا ضرائب عليه، تؤمه وتبقي ما تشاء من الوقت حينما تشاء؟
إن المقاعد الكنائسية تسبب صلاة طويلة، وضريبة مرسومة، وضغطا على حرية الفرد. ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء خمس دقائق لتنبه روحاني، فتقضي خمس ساعات، إذ تحصر في المقعد، وغالبا إما تعكر على الآخرين أو يعكر عليك الآخرون ما يجول في مخيلتك.
Неизвестная страница