مقدمة
أمين الريحاني
جبران خليل جبران
ميخائيل نعيمة
أمين مشرق
إيليا أبو ماضي
رشيد أيوب
وليم كاتسفليس
نسيب عريضة
عبد المسيح حداد
Неизвестная страница
مقدمة
أمين الريحاني
جبران خليل جبران
ميخائيل نعيمة
أمين مشرق
إيليا أبو ماضي
رشيد أيوب
وليم كاتسفليس
نسيب عريضة
عبد المسيح حداد
Неизвестная страница
ما وراء البحار
ما وراء البحار
تأليف
أمين الريحاني وآخرين
جمع
توفيق سعيد الرافعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد سبق لنا في خاتمة كتابنا «أمين الريحاني»، أننا وعدنا القراء بإطلاعهم على شيء من أساليب النبوغ العربي، فيما وراء البحار، ووفاء بوعدنا نشرع في تقديم مختاراتنا، من كتابات أساطين الأدب العربي في البلاد الأمريكية، ولا يعزب عن فكر المطالع اللبيب أننا أشرنا هنالك إلى سبب تقديم الأستاذ الريحاني وإفراده بكتاب خاص، وهو حلوله دار الضيافة بالشرق، وسبقه غيره من أدباء السوريين في الاهتمام بزيارة بلاده الشرقية؛ مسقط رأسه ومهد طفولته، الذي منه درج، للوقوف على حالها، واكتناه مسائلها. وما فاتنا الإشارة إلى أننا نعرف من أدباء السوريين في مهجرهم من هم والريحاني رضيعا لبان أو فرسا رهان، إن لم نقل بتفوقهم على الريحاني نفسه، فوفاء للأدب بحقه، وتكريما للعلم وأهله، من الزائدين عن حقيقته، والمانعين لحرمته، والحافظين لمودته؛ وجب علينا أن نبادر فنشفع كتاب «أمين الريحاني» بكتاب النبوغ العربي؛ ليطلع الشرقيون على مبلغ علم أحفاد الفينيقيين في مهجرهم، فيعرف مقدار نهضتهم وكيفية منازعهم، فلا يبخس الناس أشياءهم.
وحسبنا فخرا أن الريحاني، وكل من نختار له شيئا في كتابنا هذا، ممن ترعرع في بلادنا، وتغذى بغذائنا، ونشق ريح لبناننا. ودليلنا أن القراء الكرام قريبو عهد بما كتبناه عن حياة الريحاني، وكيفية نشأته، ومبدأ هجرته، وهو أحد رجال تلك النهضة العلمية، التي تضم بين أحنائها نبغاء السوريين في دار هجرتهم، وفي طليعتهم الأديب النابغة جبران خليل جبران، فهو أحد أعضاء الرابطة القلمية، وابن لبنان الجميل، ورضيع ثدي العلم في الرياض البيروتية. وقد قاسمهما النشأة والنبوغ زميلهما النحرير مخائيل نعيمة. فبعد أن ارتشف من معين العلم في سوريا، هاجرها إلى البلاد الروسية؛ طلبا لمزيد العلم، وتجويد الاطلاع، ثم أم البلاد الأمريكية، وهناك تجلى نبوغه وأدبه، بعد أن دخل إحدى جامعاتها، فزاع صيته وعلا قدره بين جميع من يتذوق طعم الآداب. ولا يغيبن عن بال القارئ ذاك النابغة، وعضو تيك الجامعة إيليا أبو ماضي، شاعر العرب الأمريكي، وحفيد لبنان الكبير، وربيب الدراسة في البلاد المصرية، ونزيل القارة الأمريكية، وصاحب أحد الدواوين الشعرية. وما أنس من الأمجاد، لا أنس المتأدب الهمام عبد المسيح حداد، صنو هؤلاء الأعضاء الناهضين، وكذلك النوابغ: رشيد أيوب، وأمين مشرق، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة؛ أركان الأدب القوي، وحصنه الحصين.
Неизвестная страница
وحسبنا من سيرة هؤلاء الأفذاذ النابغين، أنهم أنصار الآداب العربية، في بلاد لا صلة بينها وبين آداب الشرقيين، فقد كتبوا وجودوا، ونظموا فأبدعوا، وترنموا فأطربوا، ونادوا فأسمعوا. بيد أنا ونحن في مقام الاعتراف بالجميل، وحب اطلاع القراء على شيء من مختاراتنا من كلام أولئكم الأدباء، رأينا من الحسن، أو مما لا مندوحة لنا عنه، أن نلفت ذهن قارئنا الفطن إلى نقطة هامة، وبودنا أن نجعلها نصب عينيه، وأمام خاطره، حين مطالعته كتابنا هذا، بل ومطالعة كل ما نختاره من كتابات إخواننا في المهجر، وهي أن هذه الطائفة المتأدبة، قد تضلعت بعد هجرتها بآداب الغربيين، فخالطت تلك الآداب نفوسهم، وانطوت عليها جوانحهم، فربما تغالوا فيها حينما يريدون مزجها بالآداب العربية، فلا يراعون في شعرهم قوانين القريض العربي، ولا يتقيدون بأوزانه وقوافيه، بل يطلقون لملكاتهم الأعنة خلف الأساليب الغربية، فيجيء شعرهم ونثرهم رافلا في حلله الغربية، أكثر منه اتشاحا بالحبرات اليمانية، والبرد النجدية، والأكسية العراقية، والسمات العربية، ولكل وجهة هو موليها.
على أننا لو أرجعنا البصر إلى تاريخ الآداب العربية، لرأينا من رجالات الأدب العربي وفحول القرون الأول، من قد سرى إلى أذهانهم شيء من هذه الأساليب، وقتما استوطنوا الجزيرة الأندلسية، إلا أنهم أدخلوه على الأدب العربي، مع مراعاة مقومات اللغة التي ينتمون إليها، ويحافظون على مشخصات آدابها.
وقصارى القول، أننا نغبط أنفسنا بنشر هذه الآثار، التي نرى فيها نفعا كبيرا لجمهور أهل الأدب، فثقتنا بالقراء الكرام، وحبهم للاطلاع على نافع الموضوعات، وحسن مؤازرتهم لنا، بإقبالهم على مطبوعاتنا؛ حبب إلينا إجهاد النفس في هذا العام، بطبع عدد غير قليل من الكتب الاجتماعية، والسياسية، والأدبية، والتاريخية.
وإنا نختم مجهودنا، بهذا السفر النافع لمن يطلع عليه، وينظر في صفحاته بإمعان، ثم ندع اليراع في هذا العام، طلبا لراحة الجسم وترويح الفكر؛ فإن لبدنك عليك حقا، والسلام.
توفيق الرافعي
القاهرة في مايو سنة 1922
أمين الريحاني
إن حاجتنا إلى التهذيب اليوم، لأشد منها إلى السكك الحديدية والتلفونات. إن حاجتنا إلى العلم الصحيح الذي يهذب الأنفس، ويرقي العقول، ويثقف الأخلاق، لأشد منها إلى العلوم اللغوية، والفقهية، واللاهويتة، والخنفشارية، والتهذيب الصحيح ينبغي أن يعم عناصر الأمة بأسرها على السواء، ليأتي بفائدة تذكر للأمة، وعندي أن أشد الويل والبلاء، إنما هو في بيت يعيش تحت سقفه الجاهل والعالم معا. إن وطننا بهذا البيت أيها الأخوان، وعناصر الأمة فيه كأفراد تنافرت أذواقهم وأخلاقهم، وتعددت صبغاتهم القومية والدينية، وتباينت فيهم درجات المدارك والعلوم، فإذا ارتقى عنصر من عناصر الأمة دون سواه، يلتجئ غالبا إلى المهاجرة، إذا ظلت العناصر المنحطة واقفة في طريق ترقيه، كالسد في وجه المياه، أما الآية:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، فالتاريخ لا يشهد على صحتها إلا مرة في الألف؛ لأن الطبيعة لا تسمح أن تكون المعجزات فيها مبتذلة، والغالب المبتذل هو أن الأكثرية إن كانت في المجالس النيابية أو في الطبيعة تتغلب على الأقلية.
على حكومتنا الدستورية إذن أن تنتبه إلى هذا الأمر الخطير، إن كانت ترجو أن ترتقي الأمة وتحيا. على حكومتنا أن تباشر تأسيس المدارس الوطنية العمومية الإجبارية المجانية، المجردة عن كل صبغة دينية، وإن كانت لا تباشر قريبا، فلا ترج يا أخا الحماسة، كبير خير من هذا الانقلاب، ومن هذا الدستور، ومن هذا المجلس النيابي.
Неизвестная страница
أظنك تعلم أيها القارئ العزيز، أن لا غاية لي من الكتابة والخطابة والتأليف، سوى نشر المبادئ الحرة، والتعاليم السديدة في الأمة، وأن من تجرد عن المآرب السياسية، وعن الأغراض الشخصية المادية، يرسل كلمته في الناس، دون أن يراعي خاطر أحد من الناس. منذ خمس سنوات عدت إلى وطني، من العالم الجديد، وحتى الآن ما عرفت من الرؤساء المدنيين والدينيين، إلا من أحب أن يعرفني، أو من جمعتني به التقادير، قضيت هذه المدة كلها بعيدا عن الرئاسة والسياسة، فبان لي أن في طاقة الإنسان أن يعيش سعيدا، دون أن يتزلف من السياسيين والأمراء، أو عمال الحكومة والرؤساء، نعم عشت محروما هذا الشرف العظيم، فكانت همومي الأدبية ومتاعبي السياسية أقل من هموم سواي من الأدباء.
عسى أن يعذر القراء مني هذه الكلمة الشخصية، فما قلتها إلا لأبني عليها قاعدة عمومية، هي جديرة باعتبار كل من زاول صناعة الكتابة، وأحب أن ينفع الناس بعلمه وأدبه، إن التقرب من العظام، وبالأخص أصحاب السيادة منهم، يفقد الكاتب مزية الحرية والاستقلال؛ هذه هي القاعدة العمومية، التي قلت من أجلها كلمتي الشخصية، تكلمت عن نفسي، وما كنت لأفعل ذلك في غير هذه الأحوال، لأؤكد لكم أيها الإخوان أن الآراء التي أبديها والمبادئ التي أنادي بها، إنما هي ثمرة علم لا يعرف التفريق والتحزب، ولا يفرق بين الجنسيات والأديان.
أحب أن أردد بعد هذا التمهيد، كلمتي السابقة عن المدارس الوطنية، وأردفها بكلمة ليست بأقل منها أهمية، وهي «صيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدا بالأوتاد.» إن الأمة العثمانية لا تصير حقا أمة واحدة متحدة راقية، إلا إذا تأسست في البلاد المدارس الوطنية العثمانية المجانية الإجبارية، وتلقن فيها العلوم أبناء المسلمين، وأبناء الدهريين، وأبناء المسيحيين، وأبناء اليهود معا. بقي علي أن أقول كلمتي الأخرى: إننا لا نصير أمة راقية حرة بكل معنى الكلمتين، إلا متى صار أدباء المسيحيين وأدباء المسلمين يتباحثون في أي موضوع كان، دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا، دون أن يثير ذلك في شعب الملتين غبار الجهل، وسموم التعصب، بل إذا كان لا يحق للمسلم أن ينتقد المسيحيين في شئونهم العمومية الاجتماعية، ولا للمسيحي أن ينتقد المسلمين، فلسنا والله بأمة واحدة، وليس وطننا بذاك الوطن المجيد الجامع، الذي يعبد في هيكله كل أبنائه، على اختلاف المذاهب والعناصر والجنسيات، بل إذا كنا لا نتجرد عن صبغاتنا الدينية، في شئوننا الوطنية والاجتماعية، فحريتنا أيها الناس كلمة مقولة، وإخاؤنا لفظة غير معقولة، والمساواة عندنا قاعدة باطلة مرذولة.
نعم يا سيدي، إذا كان إخواننا المسلمون، لا يساعدوننا في نشر التعاليم الحرة في الأمة، إذا كانوا لا يؤيدون قولا وفعلا آراء آباء الحرية والدستور، إذا كانوا لا يرددون صدى أحرار المغرب وعلمائه، ومن ينحو اليوم في الشرق نحوهم من الأحرار الأصفياء والعلماء؛ فعبثا يحاول أبطال الدستور والحرية تجديد حياة الأمة، والمسلمون العنصر الأساسي في الأمة. وأما انتصار الجيش، فلا مجد عظيم فيه، إن لم يتبعه انتصار في العلم والتهذيب؛ لأن الجيش وإن دمر معاقل الحكومة الاستبدادية، فنصره لا يزيل الجهل الذي أسست عليه تلك الحكومة، وما زال الجهل سائدا في الأمة، سيان عندي إن كانت الحكومة فردية استبدادية، أو حرة نيابية، إن لم تباشر الحكومة في تدمير حصون الجهل. إذن يعود الجهل فيدمر حصون الحكومة، ولا يتم لها ذلك إلا في تأسيس المدارس العمومية الوطنية، مجردة عن كل صبغة دينية؛ حيث أولاد المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والدهريين، يتلقنون كلهم العلوم على أستاذ مدني واحد، وتحت سقف واحد، ومن كتاب واحد، وعلى طريقة وطنية واحدة. وما هذه ببدعة أنادي بها؛ فإن مكتب الصناعة في هذه المدينة، أسس على هذه الطريقة الوطنية، وحبذا لو أحيته اليوم الحكومة، فيكون مثالا للمدارس العثمانية العمومية الإجبارية. وعبثا نحاول توحيد العناصر المتعددة في الأمة، إذا كان التعليم لا يوحد على هذه الطريقة الوطنية الجامعة الحرة.
جلست مرة في قهوة من قهاوي البحر، أتفرج على الناس يسبحون، تأملتهم في تلك الحالة الطبيعية، وقد تجردوا عما يميز البعض منهم عن البعض، وقلت في نفسي: أين المسلم الآن؟ وأين اليهودي؟ وأين الكافر؟ وأين المسيحي؟ رأيتهم يسبحون كلهم في بحر واحد ، تحت سماء واحدة، وهم لا يستنكفون من أمواج تلعب حول قلوبهم، كأنها قلب واحد، وتغسل أجسامهم كأنها كلها جسم واحد. فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير عقولنا مرنة نشيطة قوية كأجسامنا؟ متى تصير أنفسنا كأمواج هذا البحر، فلا تخضع إلا لناموس واحد، هو ناموس الله؟ أو في الأقل، متى تصير متساهلة كأبداننا، فتسبح في بحر الآداب الواحد، وتحت سماء العلوم الواحدة، دون تنافر ودون شقاق؟
نظرت إلى البحر وأنا جالس في تلك القهوة، فرأيت هناك المدرعات الحربية الأوروبية، ومنها المدرعتان الإفرنسيتان «لاڨريته» و«فكتور هوغو»، فكرهت الإقامة في بلاد لم تزل تحتاج فيها إلى مثل هذه المظاهرات الكاذبة، وهل كنا نشاهد المدرعات الأوروبية بصفة رسمية في بحرنا لو تأسست عندنا المدارس العمومية الوطنية، منذ ثلاثين سنة، هل كانت تلطخ المذابح تاريخنا، فتلحق بنا وبوطننا العار والشنار، لو وحد منذ ثلاثين سنة التعليم، فنمت في قلوب العثمانيين عاطفة وطنية شاملة، وانتشر روح التساهل الديني في الأمة؟
لا يا إخوتي، أنا لا أحب أن أرى هذه المدرعات على شطوط بلادنا، أنا لا أحب أن يلتجئ أحد عناصر الأمة إلى دولة أوروبية، أنا لا أحب أن أرى «فكتور هوغو» في بحر بيروت، بل أحب أن أشاهد روح فكتور هوغو متجلية في أرواح أبناء بيروت، لا أحب أن أرى «الحقيقة» على شواطئ سوريا، بل أحب أن أراها في قلوب أبناء سوريا، أحب أن تحمينا المبادئ السديدة، لا المدافع والمدرعات، أحب أن يحمينا العلم الخالص من الغش والتعصب المجرد من كل مصلحة جنسية أو دينية، أحب أن يحمينا الإخاء العثماني، والجند العثماني، والعلم العثماني. (1) الكنيسة والجامع
1
لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها (وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة) أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع! هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه، لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلوب الفقراء، أو يرد ثقيلي الأحمال، أو يغفل الورعين. وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، ولا رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة التي تقام فيه نهار الجمعة مأخوذة من القرآن، ولهذا لا تحرف ولا تبدل، بل هي دائما لحن من البلاغة، تعشقه الأسماع، فيحدث خشوعا في القلوب لدى اتجاه الأفكار نحو العلاء.
الجامع كبير، يسع عادة جماعة الخطباء، حتى والعابدين النوام، ويبقى بعد ذلك فراغ لا يحد، فالمنبر لا يكون أبدا قريبا من الزوايا الساحرة الشكل، التي تظل جماعة المسلمين ونفوسهم، وهم على اختلاف طبقاتهم، يجتمعون للصلاة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشا متمتعا، وشحاذا أعمى، وحمالا منهوك القوى، وأعرابيا عليه غبار البرية البعيدة، وكلهم يؤمون الجامع، بتمام ورع وخشوع، طلبا للراحة بعد العناء، أو لإغماض عيونهم لغفوة قصيرة، فبعضهم يسجدون أمام المحراب، وآخرون يتمددون على الرخام البارد، تحت الأروقة، حين يكون شيخ جليل، أو أمير عريق في النسب راكعا على سجادة عجمية ثمينة، يخر ساجدا ثم ينهض قائما في صلاته.
Неизвестная страница
هنا درويش يتمتم قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعد خرزات سبحته، إلى أن تصل نفسه درجة الغيبوبة.
وهناك فقير يتثاءب، متبعا تثاؤبه بقوله: يا الله يا كريم، ويخر مكبا على وجهه، وهناك بدوي ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل يتعدى على أحد المصلين أو يعكر عليهم ...
الجامع ميناء، يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يقبل أولاد الله على السواء. هو حيث يعثر المنبزذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبة القبة الواسعة، التي تعلوه، وما يتخلل سكينة ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتا فآخر.
ولو أن الجامع قائم في سوق النحاسين، لندر وصول صوت إليه من الخارج، يؤذي رهبة المكان وسكينته، وإن النفس فيه لتخشع من هذا السكون، فتدعو الجسد، ويسبح العقل في العلويات، فينبه النفس بلا صنوج ولا أجراس، بلا آلة موسيقية، ولا جوق مغنين، بلا رسوم ولا تماثيل، ولكن بأضواء الإيمان الدائمة، التي لا تطفأ تندفع النفس لتجد سبيلا لها من خلال السكون الفائق الوصف، والرهبة التي لا تحد، إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعا في إحدى القرى؛ لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب متأملا بهذا التقليد الحكيم؛ لأن لذلك دواعي روحية وحسية، فإنه إذا كان من الدناسة أن تدخل بيت الله وحذاءك في قدميك، فكم بالحري إذا لطخت سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟ ناهيك أني خلعت حذائي امتثالا للعادة، ولأنه كان مضيفا على قدمي أوحال، وأخال كثيرين يرتاحون إلى هذا التقليد، ويجدون به فرحا كما شعرت.
ولم يكن يدخل الجامع سوى مصلين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا، وشحاذ قريب من العراء جامد في الزاوية الأخرى. أما أنا فقد جلست على حصير تحت رواق، مسندا ظهري إلى عامود ممددا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي. إن الراحة والاسترخاء من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار، وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقي في الصلاة وأخوي بتسبيح الله. أما الشحاذ فكان حمالا، وقد ترك حمله عند الباب، وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته، مشمرا كميه الحريرين عن ساعديه، مبتدئا بقوله: «بسم الله.» وانحنى الحمال تحت حمله الثقيل، وقد تشنجت رقبته بالحبل المشدود حول رأسه، ثم خطا متناقلا، ولكن خطوات ثابتة بقوة الله، والتفت الشيخ إلي وقال لي مشتبها: أأنت مسلم؟ فأجبته، وأنا أشد حذائي، ولكني أعبد الله وأكرم النبي، عندئذ دعاني لمناولة الغذاء على مائدته؛ فإن الغرباء الذين يلتقون في الجامع يصبحون إخوانا.
ذكرني هذا بزورتي لمدينة نيويورك، محجة أميركا، حيث ذهبت للصلاة في كنيسة الأغنياء، وهي بناية أنيقة صغيرة خشبية، يدل ظاهرها على أنها هيكل للعبادة المسيحية، وتاريخها يرجع إلى جيل؛ إذ ركبت تركيبا لا بناء، أبعد أن أتى بأخشابها من إنجلترا، وبراغيها الأول أيضا، إلا أن نوافذها ذات الزجاج الملون المشوش الوضع، الخالية مما يستدعي النظر، أو ما ينبه المخيلة جديدة وصحيحة، ولكنها سخيفة مطلية بطلاء يقربها من شكل العاديات ، أو أسطورات التاريخ القديم، وأخالها مصنوعة في أميركا. أما أثمانها فتكال بالذهب ككل شيء تافه في هذه البلاد العجيبة، وقد لاحت لي نافذة منها تثمن بألف ريال، مهداة إلى الكنيسة من مدام «مثرية»، وأخرى أثمن منها من المستر «غني». أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء حقيقية في ميدان سخاء كهذا؟ إني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه حيطان الكنيسة الخشبية، لم يتستروا استحياء. أقول «تشويه» عن قصد وروية، فإني لا أطيق رؤية شبابيك ملونة الزجاجات، على حائط خشبي رقيق، عليه شارة هندسية خارجية، تشوه جماله وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
إلا أن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ ببوقه على السطوح في رائعة النهار فيها: أيها البوق النحاسي، إني لم أسمع صدى رناتك في تلك الجوامع المملوءة هواء نقيا، في ذلك الشرق الهادئ.
ومما يستحق الملاحظة أيضا، تلك المقاعد الكنائسية المربعة الزوايا، التي تستطيع أن تضع مكانها عدة كراسي بين ذات مساند وهرازة، وهي مركبة بطريقة تجعل أربابها يجلسون وجها لوجه، كأنهم جالسون في بهو. أولئك هم أغنياء أميركا الذين يتربعون في أبهائهم الكنائسية، ولماذا يا ترى يجزأ مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولم لا تكون الكنسية كالجامع الفسيح المطلوق للهواء النقي، لا ضرائب عليه، تؤمه وتبقي ما تشاء من الوقت حينما تشاء؟
إن المقاعد الكنائسية تسبب صلاة طويلة، وضريبة مرسومة، وضغطا على حرية الفرد. ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء خمس دقائق لتنبه روحاني، فتقضي خمس ساعات، إذ تحصر في المقعد، وغالبا إما تعكر على الآخرين أو يعكر عليك الآخرون ما يجول في مخيلتك.
Неизвестная страница
ولقد علمت أن مقاعد كنيسة نيويورك لا تباع، ولا تؤجر، ولا تعرض للمصليين، ولكنها تقتنى اقتناء، فكأنها ملك لصاحب، أو عرش لرب، يتحول بالإرث من أب إلى ابنه، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله للصلاة، إلا إذا أراد أن يقف عند الباب بفارغ صبره، وإن حصوله على خلاص لنفسه، لأسهل من حصوله على مقعد ليريح ركبتيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست على مقعد مضيفي، وأخال مضيفي حصل عليه بالقوة؛ لأن جلدة كتاب الترانيم تحمل اسما غير اسمه، وهم اسم إحدى العائلات العريقة، المتسلسلة من عائلات إنكلترا القديمة، وقد طرأت على هذا المقعد تقلبات عديدة، بتنقله من يد صاحب إلى آخر، حتى لم يبق من فراغ قليل على جلدة كتاب الترانيم لوضع اسم جديد.
يقاسي الأغنياء قليلا من إجحاف يسببه غناهم، فعنهم قال مؤسس الديانة المسيحية نفسه أشياء مؤلمة، وقد حرم عليهم دخول السماء بمثل ضربه، فوا الحالة هذه لا يجب أن يعدموا الحق، بأن يجعلوا لأنفسهم سماوات أخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم دون مقاوم أو معكر. ها هنا أولئك الأغنياء المساكين، يحبسون أنفسهم ردحا قصيرا، ولا حق لأحد من سائر سكان الغرباء، أن يتطفل عليهم بدقائقهم المكرسة للعبادة، فهم يستوون جالسين في متكآتهم، برزانة وتأنق، يرنمون النشيد المائة والسادس والسبعين، أو المزمور الواحد والخمسين، خاشعين، يستوعبون الإيمان بكل مسامعهم، وشاعرين بسلام داخلهم، وسلام مع العالم، ومع الله.
وهذه حال الواعظ، الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئا من أمثال الناصري - عن الغني والعازر - أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم يراعي شعوريته وأميالهم.
ليغفر لي الله ما ذكرته هنا؛ فقد أتيت الكنسية لأصلي لا لأغالط. وأما أولئك الذين قد يكونون المسببين لي هذا التغيير العقلي السيئ من قريب وبعيد، وحاضر أو غائب، فأنا أبتهل إلى الله أن يغفر لهم ويرحمهم.
انتهت الصلاة، ولكن القسم الجوهري منها لم ينته، بل سيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة؛ حيث شرذمة من البوليس، يهتمون بحركة العربات الذاهبة والآتية، حينذاك يتقدم قطار سيارات متعددة الألوان والأشكال، متألقة، يحف بها الحشم، وعلى دفتها سائقون بهيئاتهم المتشامخة، وتظهر العربات المتلألئة تجرها الجياد المطهمات، فيثب منها الغلمان المرتدون أثوابهم الخاصة، ليفتحوا أو يقفلوا أبواب العربات.
غوغاء غرور ... ضجيج ... تصلف، معرض مدهش لإظهار أبهة وفخفخة، فتعال معي يا أخي المسيحي؛ تعال معي إلى الجامع.
جبران خليل جبران
(1) وعظتني نفسي
وعظتني نفسي ، فعلمتني حب ما يمقته الناس، ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين. أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها، وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء، لتضم كل ما سيكون. •••
Неизвестная страница
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة، حتى يبدو لي حسنا، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان. أما الآن فقد تبدد الدخان واضمحل، فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي، فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة، ولا تضج بها الحناجر، وقبل أن تعظني نفسي، كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح. أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة، فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر، ولا يسكب بكئوس لا ترفع بالأيدي، ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي، كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير، أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي، ولكن في هذه الحرقة التي لا تطفي مسرة لا تزول. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتجمد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، وبالبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المتكمشة، وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود؛ ليمتزج بما خفي منه. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين، ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي، كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين، أو من القوارير والمباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحرق ولا يهرق ، وأملأ صدري من أنفاس زكية، لم تمر بجنة من جنات هذا العالم، ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أقول «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطير، وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته، ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسبل سلما أتسلق درجاته؛ لأبلغ الخطر. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أقيس الزمن بقولي «كان بالأمس وسيكون غدا»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد، والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنية الحاضرة كل الزمن، بكل ما في الزمن، مما يرجى وينجز ويحقق.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أحد المكان بقولي: «هنا وهناك وهنالك»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون، وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي، ولا يرصدون أحلامهم في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني، ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها، حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف، ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء، ولا تخشى الملامة. •••
Неизвестная страница
وعظتني نفسي، فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين؛ رجلا ضعيفا أرق له أو أزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردا مما كون البشر منه جماعة ، فعناصري عناصرهم، وطوبتي طوبتهم، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم، فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم، وإن تقاعدوا تقاعدت معهم. •••
وعظتني نفسي، فعلمتني وأفهمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد. •••
وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني، ولقد وعظتك نفسك وعلمتك، فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي، وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك، وفي تكتمك شيء من الفضيلة. (2) بين ليل وصباح
اسكت يا قلبي، فالفضاء لا يسمعك.
اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل، لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح، فمن يترقب الصباح صابرا يلاقي الصباح قويا، من يهوى النور فالنور يهواه.
اسكت يا قلبي، واسمعني متكلما. •••
في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.
ورأيت زنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج.
Неизвестная страница
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلا يلعب بالجماجم وهو يضحك.
رأيت جميع هذه الصور في الحلم، ولما استيقظت ونظرت حولي؛ رأيت البركان هائجا، ولكني لم أسمع الشحرور مغردا، ولا رأيته مرفرفا.
ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول والأودية، ساترا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة.
ورأيت القبور صفوفا منتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصا، ولا من يجثو مصليا.
ورأيت رابية من الجماجم، وليس هناك من ضاحك سوى الريح.
في اليقظة رأيت الحزن والأسى، فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته؟
أنى توارت بهجة المنام، وكيف اضمحلت رسومه؟
وكيف تتجلد النفس، حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟
أصغ يا قلبي واسمعني متكلما. •••
Неизвестная страница
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة، تمتد عروقها إلى أعماق الأرض، وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرت نفسي في الربيع، وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة، ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون، ثم يسيرون في سبيلهم.
ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة، نظرت فلم أر في أطباقي سوى ثمرة واحدة، أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلت، فألفيتها مرة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلت لنفسي: «ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟»
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.
اقتلعتها بعروقها من التربة، التي نمت فيها وترعرعت، اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع، وألف خريف.
وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلا: إن السهر يدنينا من النجوم. وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلا إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.
ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.
وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب، ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم، ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»
Неизвестная страница
ثم عدت وجلست في ظل نفسي المنفردة، في حقل بعيد عن سبل الزمن. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح.
اسكت، فالفضاء قد أتخمته رائحة الأشلاء، فلن يتشرب أنفاسك.
أصغ يا قلبي واسمعني متكلما.
كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلب بين أمواج البحار، وتنتقل مع الأهواء من شاطئ إلى شاطئ.
ولقد كانت سفينة فكرتي خالية، إلا من سبعة أكواب طافحة مختلفة بألوان مختلفة، تشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.
وجاء زمن مللت فيه التنقل على وجه البحار، فقلت سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد، الذي ولدت فيه.
ثم أخذت أطلي جوانب سفينتي بألوان صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذوب الشقيق، وأرسم على شراعها ودفتها رسوما غريبة، تجذب العين وتبهج البصيرة. ولما انتهيت من عملي، وقد ظهرت سفينة فكرتي كرؤيا نبي، تطوف بين اللانهايتين البحر والسماء؛ دخلت ميناء بلدي، فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف، نافخين الزمور.
فعلوا ذلك؛ لأن خارج سفينتي كان مزخرفا بهجا.
ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.
Неизвестная страница
ولم يسأل أحد ماذا جلبت فيها من وراء البحار.
ولم يدر أحد أنني عدت بها فارغة إلى الميناء.
عند ذلك قلت في سري: «لقد ضللت الناس، وبسبعة أكواب من الألوان، قد كذبت على باصرتهم وبصائرهم.» •••
وبعد عام ركبت سفينة فكرتي وأبحرت ثانية.
سرت إلى جزر الشرق، فجمعت منها المر واللبان والند والصندل، وأدخلتها إلى سفينتي.
وإلى جزر الجنوب، فجلبت منها التبر والعاج والياقوت والزمرد، وجميع الحجارة الكريمة.
وإلى جزر الشمال، فعدت منها بالخز والوشي والبرفير.
وإلى جزر الجنوب، فحملت منها الدروع المزردة، والسيوف المشرفية، وسائر أنواع الأسلحة.
ملأت سفينة فكرتي بنفائس الأرض وغرائبها، وعدت إلى ميناء بلدي قائلا: «سوف يمجدني قومي، ولكن عن جدارة، وسيدخلوني المدينة منشدين مزمرين، ولكن عن استحقاق.»
ولكن لما بلغت الميناء، لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلت شوارع بلدي فلم يلتفت إلي أحد.
Неизвестная страница
ووقفت في ساحتها معلنا للناس ما جلبت لهم من ثمار الأرض وطرائفها، فكانوا ينظرون إلي والضحك ملء أفواههم، والسخرية على وجوههم، ثم يتحولون عني.
فعدت إلى الميناء كئيبا مستغربا، ولكنني ما لمحت سفينتي حتى فطنت لأمر كنت مشغولا عنه بمنازع أسفاري ورغائبها. فهتفت قائلا: «إن أمواج البحر قد محت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكل من عظام، وعفت الأرياح والأنواء وحرارة الشمس الرسوم عن شراعها، فظهرت كأثواب رمادية بالية.»
لقد جمعت طرائف الأرض ونفائسها، في تابوت يعوم على وجه الماء، وعدت إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
في تلك الساعة تركت سفينة فكرتي، وذهبت إلى مدينة الأموات، وجلست بين القبور المكلسة، مفكرا بأسرارها. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح، اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعماقك، وكهوف الوادي لن ترجع بصداها رنات أوتارك .
اسكت يا قلبي حتى الصباح، فمن يترقب الصباح متجلدا يعانقه الصباح مشتاقا.
ها قد طلع الفجر يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.
هو ذا موكب الصباح يا قلبي، فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تلاقي بها الصباح.
هو ذا أسراب الحمام والشحارير تتطاير، متنقلة في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جناحيك صلابة لتطير معها؟
هو ذا الرعيان يسيرون أمام قطعانهم، من الحظائر والمرابض، فهل أبقت لك أشباح الليل عزما لتسير وراءها إلى المروج الخضراء؟
Неизвестная страница
هو ذا الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم، فهلا نهضت ومشيت معهم؟
قم يا قلبي، قم وسر مع الفجر؛ فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلت مع أحلامه السوداء.
قم يا قلبي، وارفع صوتك مترنما، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام. (3) البنفسجة الطموحة
كانت في حديقة منفردة، بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف، تعيش مقتنعة بين أطرابها، وتتمايل فرحة بين قامات الأعشاب.
ففي صباح، وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها ونظرت حواليها، فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء، ورأس يتسامى متشامخا، كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق، وقالت متنهدة: «ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار! فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة، حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثل ما تفعل الورود.»
وسمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة، فاهتزت ضاحكة، ثم قالت: «ما أغباك بين الأزهار! فأنت في نعمة تجهلين قيمتها، فقد وهبتك الطبيعة من الطيب والظرف والجمال، ما لم تهبه لكثير من الرياحين، فخل عنك هذه الميول العوجاء، والأماني الشريرة، وكوني قنوعة بما قسم لك، واعلمي أن من خفض جناحه يرفع قدره، وأن من طلب المزيد وقع في النقصان.»
فأجابت البنفسجة قائلة: أنت تعزيني أيتها الوردة، لأنك حاصلة على ما أتمناه، وتغمرين حقارتي بالحكم؛ لأنك عظيمة، وما أمر مواعظ السعداء في قلوب التعساء! وما أقسى القوي إذا وقف خطيبا بين الضعفاء!
وسمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة، فاهتزت مستغربة، ثم رفعت صوتها قائلة: ماذا جرى لك يا ابنتي البنفسجة؛ فقد عرفتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك، شريفة بمسكنتك، فهل استهوتك المطامع القبيحة، أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟
فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل والاستعطاف: أيتها الأم العظيمة بجبروتها، الهائلة بحنانها، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل، وما في روحي من الرجاء، أن تجيبي طلبي وتجعليني وردة، ولو يوما واحدا.
Неизвестная страница
فقالت الطبيعة: «أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء الطعمة الظاهرة من البلايا الخفية، فإذا رفعت قامتك، وأبدلت صورتك، وجعلتك وردة، تندمين حين لا ينفع الندم.»
فقالت البنفسجة: «حولي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة، مروعة الرأس، ومهما يحل بي بعد ذلك، يكن صنع رغائبي ومطامعي.»
فقالت الطبيعة: «لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة، ولكن إذا داهمتك المصائب والمصاعب، فلتكن شكواك من نفسك.»
ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية، ولمست عروق البنفسجة، فتحولت بلحظة إلى وردة زاهية، متعالية فوق الأزهار والرياحين.
ولما جاء عصر ذلك النهار، تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار، ثم هاجت سواكن الوجود، فأبرقت وأرعدت، وأخذت تحارب تلك الحدائق الأنصاب، واقتلعت الأزهار المتشامخة، ولم تبق إلا على الرياحين الصغيرة، التي تلتصق بالأرض، أو تختبئ بين الصخور.
أما تلك الحديقة المنفردة، فقد قاست من هياج العناصر، ما لم تقاسه حديقة أخرى.
فلم تمر العاصفة، وتنقشع الغيوم، حتى أصبحت أزهارها هباء منثورا، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء، سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدران الحديقة.
ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها، فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها، فابتسمت فرحا، ثم نادت رفيقاتها قائلة: «ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة تيها وإعجابا.»
وقالت بنفسجة أخرى: «نحن نلتصق بالتراب، ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء.»
وقالت بنفسجة ثالثة: «نحن حقيرات الأجسام، غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.»
Неизвестная страница
ونظرت إذ ذاك مليكة طائفة البنفسج، فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة، وقد اقتلعتها العاصفة، وبعثرت أوراقها الرياح ، وألقتها على الأعشاب المبللة، فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم.
فرفعت مليكة البنفسج قامتها، ومدت أوراقها، ونادت رفيقاتها قائلة: «تأملن وانظرن يا بناتي، انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع، فتحولت إلى وردة لتشامخ ساعة، ثم هبطت إلى الحضيض، ليكن هذا المشهد أمثولة لكن.»
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة، واستجمعت قواها الخائرة، وبصوت يتقطع قالت: ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف والإعصار، لقد كنت بالأمس مثلكن، أجلس بين أوراقي الخضراء، مكتفية بما قسم لي، وقد كان الاكتفاء حاجزا منيعا، يفصلني عن زوابع الحياة وأهوائها، ويجعل كياني محدودا بما فيه السلامة، متناهيا بما يساوره من الراحة والطمأنينة. ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن، ملتصقة بالتراب، حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت والعدم، قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج، منذ وجد البنفسج على سطح الأرض. لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع والزهد في الأمور التي تعلو طبيعتها عن طبيعتي، ولكن أصغيت في سكينة الليل، فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم: «إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود.» فتمردت نفسي على نفسي، وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني، وما زلت أتمرد على ذاتي، وأشوق إلى ما ليس لي، حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة، واستحال شوقي إلى إرادة مبدعة، فطلبت إلى الطبيعة - وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية - أن تحولني إلى وردة، ففعلت، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق.
وسكتت الوردة هنيهة، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق: أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود، ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي؟
ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد أن يكون لهاثا قالت: أنا أموت الآن، أموت وفي نفسي ما لم تكمنه نفس بنفسجة من قبلي، أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود، الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي.
وأطبقت الوردة أوراقها، وارتعشت قليلا، ثم ماتت وعلى وجهها ابتسامة علوية - ابتسامة من حققت الحياة أمانيه - ابتسامة النصر والتغلب - ابتسامة الله. (4) حياة الحب
الربيع
هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول، فقد ذابت الثلوج، وهبت الحياة من مراقدها، وتمايلت في الأودية والمنحدرات. سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل في تموجات اخضرار السهول حولها.
ها قد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح، فظهرت كالعرائس في ليلة القدر، واستيقظت الكروم، وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.
تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات.
Неизвестная страница
لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج ونتبادل قبلات المحبة.
الصيف
هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي، فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه، وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة. تعالي قبل أن تسبقنا الطيور، فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا. هلمي نجني ثمار الأرض، مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء، التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر، كما ملأت الحياة أهواء عواطفنا.
هلمي يا رفيقتي، نفترش الأعشاب، ونلتحف السماء، ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار، ونسمع مسامرة غدير الوادي.
الخريف
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي، ونعصر العنب، ونوعيه في الأجران، مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة، ونستقطر الأزهار، ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار، ونثرها الهواء، كأنه يرد أن يكفن بها أزهار أقضت لوعة عندما ودعها الصيف. تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل، وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان، فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع، فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع قرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي ، فالطبيعة قد راودها النعاس، فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني، ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا. اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية. حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي ... اسق السراج زيتا، يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك؛ لأرى ما كتبته الليالي على وجهك ... هاتي جرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
Неизвестная страница
اقتربي! اقتربي مني يا حبيبة نفسي، فقد خمدت النار، وكاد الرماد يخفيها ... ضميني فقد انطفأ السراج، وتغلبت عليه الظلمة ... ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين ... ارمقيني بعين كحلها النعاس ... عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى ... قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك ... آه يا حبيبتي، ما أعمق بحر النوم! آه؛ ما أبعد الصباح ... في هذا العالم! (5) في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة، حتى بلغت أكمة عالية، ألبستها الطبيعة أجمل حلاها. فوقفت، وقد بانت المدينة بكل ما فيها، من البنايات الشاهقة، والقصور الفخمة، تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان، فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة، ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدو المستقر في تلك. من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب، تقلب الطبيعة بطنه ظاهرا، وتبدع منه نباتا، ثم حيوانا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.
بينما أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء، تتقدمه الموسيقى، وتملأ الجو ألحانا محزنة، موكب جمع بين الفخامة والعظمة ، وآلف بين أشكال الناس. جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء، وهم يبكون ويولولون، ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبانة، فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق، وبعد قليل انبرى الخطباء فأبنوا الراحل بمنتقيات الكلام ثم الشعراء، فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل. وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون، وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتفننين.
رجع الموكب نحو المدينة، وأنا أنظر من بعيد وأفتكر، ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
في تلك الدقيقة نظرت، فرأيت رجلين يقلان تابوتا خشبيا، ووراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية، وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى. جنازة فقير حقير وراءهما زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير، وفي مسيره حزن وكآبة.
وصلوا هؤلاء إلى المقبرة، وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة، والكلب يتلفت نحو محط رحال رفيقه، حتى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء، ثم نحو مدينة الأموات، وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء، فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
Неизвестная страница
قلت هذا، ونظرت نحو الغيوم المتلبدة، المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول ... هناك. (6) بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق، حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة، بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين نبات المرجان، ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة، ويتحدثن بأصوات موسيقية، حديثا سمعته اللجة، فحملته الأمواج إلى الشواطئ، فجاء به النسيم إلى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا.»
فقالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا، ولكن الإنسان - وهو الذي يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية، أهرقت فيها الدماء، حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري، هو قتيل الحرب .»
فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب، ولكني أعلم أن الإنسان، بعد أن تغلب على اليابسة، طمع بالسيادة على البحر، فابتدع الآلات الغريبة، ومخر العباب، فدرى نبتون إله البحار، وغضب من هذا التعدي، فلم ير الإنسان بدا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا. فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة، هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم.»
قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون! ولكن، ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية. تعالين لنرى جثة هذا الشاب، فربما أفادتنا شيئا عن طائفة البشر.»
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب، وبحثن في جيوب أثوابه، فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:
يا حبيبي، ها قد انتصف الليل، وأنا ساهرة، وليس لي مسل غير دموعي، ولا معز سوى أملي برجوعك إلي، من بين مخالب الحرب، ولا أقدر بأن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع، بأن عند كل إنسان أمانة من الدمع لا بد من ردها يوما ... لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب، بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء، ويعزيها الحب، الذي يجعل الألم لذة، والأحزان مسرة، لما وحد الحب قلبينا، وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة، نادتك الحرب، فاتبعتها مدفوعا بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين، ويرمل النساء، وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لا يحفل به القوي، وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان، فسلام على الواجب والوطنية ... لا، لا يا حبيبي، لا تحفل بكلامي بل كن شجاعا، ومحبا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب، وأضاع بصيرتها الفراق، إذا كان الحب لا يرجعك إلي في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية.
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب، وسبحن بسكينة محزنة. ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون.»
ميخائيل نعيمة
Неизвестная страница