قال العجوز بعد أن وضع كوب الشاي بأدب تحس منه أن الأدب أو بالأصح - حتى لا يختلط الأمر - التأدب كان ذات يوم حرفته، ويذهب بك الخيال إلى أنه من الجائز أن يكون قد عمل سفرجيا في قصر باشا أو على الأقل مساعد مرمطون، قال: أنا لي رجاء عندك.
ولم يكن العسكري قد أدرك بعد أن يرجوه، وربما كان لا يزال منصرفا إلى تأمل الشاي وتهيئة نفسه لارتشافه .. فاستطرد العجوز يقول: لو تتكرم وتسمح لنا بعربية نقل تأخذنا .. وقال العسكري وهو منصرف أيضا وبمزاج إلى أخذ الرشفة الأولى من الشاي: (ما أعذب الرشفة الأولى من أي شيء!) تاخدك فين؟
ربما حسن يريد أن يقضي مشوارا في أقرب مدينة تلك التي لا بد تبعد عن المكان بعشرات الكيلومترات، ولكن العجوز قال: أصل أنا ما احبش المواضيع لما تحصل كدة. يبقى أحسن نأخذها من قاصرها وتتكرم علينا بأي سواق توصية!
قال العسكري وملامحه القمحية ذات الندوب تنكمش انكماشات التأثر، إن لم يكن بعض الغضب: هو جالك تاني؟
قال العجوز وهو لا يزال سادرا في رجائه: وقال لي: ورغم هذا قاطعه العسكري: وقال لك برضه ...
قال العجوز: وقال لي برضه فأنا رأيي أحسن طريقه زي ما قلت لسيادتك كدة آخدها من قاصرها، حاكم المسائل لما بتوصل، على إيه ده كله، كلمتين منك وأي سواق وكتر ألف خيرك.
قال العسكري وقد بلغ الانكماش بملامحه درجة الانفراج، إذا الغضب كان قد بدأ يتحول إلى كلام: اسمع يا عم حسن، أنا قلت لك طول ما أنا هنا ماحدش يقدر يقرب لك! - بس أنا المسائل لما بتوصل أقول لنفسي على إيه، الأرض أرض الله، ومافيش أوسع من أرض الله، وربك بيقطع من هنا ويوصل هنا. وكلمتين لسواق ...
بحزم هذه المرة قال العسكري: والله لما يكون هو الجن الأحمر مش يكفاك كلمتي، أنا قلت طول ما نا هنا لا هوة ولا مليون واحد زيه يقدر يهوب ناحيتك، بس ركك أشوفه مرة وأنا أعرف شغلي معاه. هو جالك إمتى؟ - من شوية. - جه منين؟ - م الناحيا دي. - وراح فين؟ - م الناحيا دي. - وازاي ما شفتوش. ركك بس أشوفه. أنا مش قايل لك لما يجيلك اندهلي؟ - يا سيدي ربنا يخليك ويكتر خيرك، بس أنا كان قصدي يعني إن المسائل لما بتوصل مفيش داعي وكلمتين منك ... - خلاص يا عم حسن، بس لما يجيلك اندهلي.
وكان العسكري قد انتهى إلى آخر نقطة من شرب الشاي. فتناول العجوز الكوب، ومسح قاعدته السميكة مرة أخرى. وانحنى ومد يده، ومسح الدائرة المبتلة التي صنتها على المنضدة، ومضى وهو يتمتم لا بد بدعوات وكلمات شكر.
ولو رأيت هذا المشهد، لدفعك حب الاستطلاع حتى إلى سؤال العسكري عن معنى هذا كله، ولخمنت حتى قبل أن يبدأ في أن سببا ما لا بد يدعو العسكري للتمسك بوجود عم حسن العجوز كل هذا التمسك.
Неизвестная страница