وكان مفروضا أن يحكي عبده قصة ما يبرر بها اختفاءه واختفاء النقود، أما أن يحكي قصة كهذه لا يصدقها طفل أو معتوه، أما أن تكون هناك فرق تبحث عن الآدميين المشتبه في مرضهم وتأخذهم بالقوة كي يعالجوا وتعاملهم هذه المعاملة الحيوانية البشعة، أما أن يكون هناك مرض من الأمراض علاجه قطع الأورطي، أما أن يقطع الأورطي، وهو الشريان الرئيس للجسم البشري، الذي يأخذ الدم من القلب ويوزعه على جميع أنحاء الجسد، والذي في سمك العصا التخينة، بحيث أنه لو خدش يحدث من جرائه نزيف يقضي على صاحبه في الحال، فما بالك أن يقطع وأن يعيش عبده بعد قطعه، ليس هذا فقط بل أن يكون باستطاعته أن يسير، لو على عكاز، وأكثر من هذا يجري مثلما كنا منذ دقائق نجري. أما أن يكذب عبده هكذا علي كذبا واضحا صفيقا، لا يحاول حتى أن يداريه أو يبحث قصة أخرى أكثر حبكة وقابلية للتصديق، فهو ما أضاع مني كل سعادتي بالعثور عليه، وما جعلني أحس بتعب ساحق أهوج يعتريني، لإحساسي أنه يسخر مني بقصته تلك سخرية تفوق الوصف. عصب لا حدود لقسوته ولا حدود لما يدفعك إليه، ولم أكن وحدي، كانت الجماعة التي تجري معي تشهد هذا كله وتسمعه وقد آب جريها إلى سير بطيء، بل بدأ أفراد آخرون ينضمون إلينا ويشعرون تجاه عبده وقصته بنفس ما أشعر، وكلنا بلا استثناء قد أصبح أهم شيء لدينا أن النقود معه، وأنه لا بد يخفيها في مكان ما في جسده، فعبده لا يملك مكانا آخر في الدنيا يستطيع أن يخفي فيه شيئا وليس مهما القصة، أي قصة يحكيها، إنما المهم هو العثور على النقود، والعثور عليها أمام «عيني عينك»، وفضحه فضيحة علنية أمام الناس كلهم، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، وهكذا تصاعدت الأصوات تصرخ .. فتشه فتشه .. ولم أكن في حاجة للصرخات لأمد يدي أنزع عنه جلبابه البلدي الباهت الذي لا يملك سواه، غير أني فوجئت أن الجلباب ملتصق بجسده لا يمكن خلعه عنه، وهذا غريب فعبده كان دائما «يلق» في جلبابه الواسع، فكيف به الآن لا يمكن انتزاعه، وكأنه انتفخ فجأة، أو سمن في ثلاثة أيام سمنة غير معقولة، وفي البحث عن حل لخلع الجلباب عنه، اشترك الجميع في الاقتراحات وقد أصبح حماسهم للنيل من عبده يطغى على حماسي أنا الضحية، حماس كان يعمنا في صمت وبلا اتفاق سافر وبكل جهد وإصرار، وبأعصاب منفعلة وبكثير من الاستمتاع، وكأنما نحن متأكدون تماما أننا أخيرا قد عثرنا على بغيتنا، على نقطة كالتي كنا نجري في الميدان نبحث عنها لنبدأ منها الجري .. على مذنب، يحمل الذنب الذي ارتكبه معه، ولا بد أن ينال جزاءه، ونمتع كل ما فينا من خير بإيقاع القصاص به وتطبيق العدالة، ونمتع كل ما فينا من شر يجعلنا نطبق العدالة بأيدينا وبأنفسنا وبالشر حرا طليقا لديه جواز المرور، نوالي أحداث الضرر تحت شعار العقاب.
ولم تكن هناك طريقة لخلع الجلباب عنه إلا بسلخه كما يسلخ جلد الأرنب عنه، ولكي نسلخ الجلباب لا بد أن يكون معلقا. وأصبحت المشكلة أين وكيف نعلقه، وتصاعد اقتراح، والتفتنا فوجدنا الجزار قريبا، وتحركت المجموعة وعبده في وسطها، لا تزال يدي مستميتة عليه إلى حيث دكان الجزار، وتولى أربعة رفع عبده، بينما أخذ الجزار الشاب البدين على عاتقه مهمة تعليقه في الخطاف الذي تعلق عليه الذبائح من «قبة» صديريه وملابسه الداخلية. وهكذا علق عبده في الخطاف وأصبح مرتفعا هناك، لا حول له ولا قوة، مثله مثل الذبائح والخرفان المسلوخة المعلقة على بقية الخطاطيف. وامتدت أكثر من يد ترفع ذيل الجلباب إلى أعلى وتسلخه عنه وهو معلق صامت لا ينطق بحرف. وما كاد الجلباب يخلع عنه حتى أدركنا السبب جعله يلتصق بجسده هذا الالتصاق الشديد، فحول بطنه وصدره كانت تلتف أشرطة بيضاء كثيرة. وكأنه فعلا قد أجرى عملية وتلك أربطتها، ولكني أدركت على الفور هدفه الخبيث من هذه الأربطة الكثيرة، فلا بد أنه أكثر منها ليستطيع إخفاء النقود في أية طية من طياتها دون أن يستطيع أحد الشك أو التنبؤ بمكانها. وكان لا بد أولا، ولمجرد الروتين، فحص محفظته. ومد الجزار يده السمينة المدربة، وأزاح طيات الشريط قليلا، وأخرج المحفظة من جيب صديريه، وكانت أول مرة أرى فيها محفظة عبده، ولم أكن أتصور أنها بهذه الضخامة؛ فقد كانت أضخم محفظة ممكن أن تراها في حياتك ، وقد توليت بنفسي تفتيشها وإفراغ محتوياتها. وكما توقعنا، لم يكن بها غير خمسة قروش فكة، أحدهما معضوض صدئ لا يصلح للتداول. ومرة أخرى دفع الجزار البدين يده في جيب الصديري نفسه، وكالمتوقع لم تخرج بشيء، كلها إجراءات شكلية. فقد كنا جميعا ندرك أن النقود هناك، مخبأة لا بد في طية من طيات الشريط. وبذلك التحفز النهم للفضيحة، ولإدراكنا أننا حالا، وعيني عينك، سنضع يدنا على ذنب المذنب، وأمامه سنخرج من جسده نفسه الجريمة، وننتشي النشوة الكبرى ونحن نستعد لنرى وجهه لحظتئذ ونسمع ما يقوله. بذلك التحفز امتدت يدي ويد الجزار تفك عنه الشريط، غير آبهين لصرخاته واستغاثاته، وقوله إن فك الشريط عنه معناه موته؛ إذ الشريط هو الذي يمسك الأورطي المقطوع في مكانه. صرخات لم تفعل أكثر من أنها أثارت الضحكات والتعليقات الساخرة، وحفزتنا نحن القائمين بفك الشريط إلى اللحظة القصوى لحظة اكتشاف النقود، وفككنا بعض الأشرطة، وصراخ عبده قد آب إلى سكوت يائس، بينما امتلأت عيناه بالماء الدامع الذي لا يصاحبه أي احمرار، وحتى لو صدقناه واعتبرنا أنهم عملوا له عملية ما فمن الواضح أنه يكذب، فالأشرطة كانت بيضاء نظيفة، ليست فيها بقعة دم واحدة ولا آثار جرح، ولهذا مضينا نفك، وإنما بحرص مخافة أن تسقط منا النقود لدى اللفة التالية. فقد كنا جميعا واقفين ومشاركين، وكأنما عبده هو الآخر ينتظر ظهور النقود لدى اللفة التالية، وكنت ألف من ناحية وأسلم الشريط إلى الجزار البدين ليفكه من ناحيته ويعود ليسلمني إياه، ويبدو أننا كنا استغرقنا في العملية إلى درجة أني مددت يدي أتسلم منه الشريط مرة فلم أجده؛ إذ كان قد انتهى. وقبل أن أنظر إلى عبده، أحسست بشعور غريب ما يعتري الواقفين، وحين اتجهت ببصري إليهم وجدتهم جميعا، وقد خيم عليهم صمت كامل مريب، بينما عيونهم كلها مصوبة إلى جسد عبده، جامدة لا تطرف، وكأنها عيون موتى. ونظرت إلى حيث ينظرون .. كان عبده عاريا تماما، وكان هناك جرح طويل جدا يمتد من صدره إلى آخر بطنه، وكان صدره وبطنه فارغين، وكأنما انتزعت منها كل ما تحويه من أجهزة، وكان الأورطي يتدلى من صدره من مكان القلب كمزمار غاب سميك، طويلا وشاحبا ومقطوعا، يتأرجح داخل بطنه كالبندول.
مايو 1965م
صاحب مصر
فكرت أن أجعل للرجل زوجة جميلة صغيرة لتلائم سنه الكبير، فكرت أن أجعل الجميلة بنته، ولكن الزوجة مغرية أكثر، والقارئ الملول لا بد أن يسيل لعابه تتبعا للزوجة الصغيرة الحلوة أملا في حدوث المتعة الكبرى بشم رائحة الخيانة أو التلظي نشوة وقلقا على نار الشك في وجودها.
فكرت في أشياء كثيرة، وتصورت وكأنني الكاتب المحترف، كل الآفاق المثيرة المجهولة التي يمكنني أن أقود إليها القارئ الهاوي النهم، كي أؤكد تفسيرا لحماس صميدة للرجل العجوز، وصميدة ليس اسمه، وأنا لا أعرف اسمه، ولكني لا بد إذا سميته أن أختار له لقبا كصميدة، فيه حرف صاد مذكر الموسيقى، جهيرها، ليعبر عن شخصه .. ولا بد أن ارتباكا قليلا قد حدث، وأن الحيرة تملكتكم عن أي الرجلين أتحدث .. الواقع كان هناك رجلان كل منها يستحق الحديث، ولكن الأنسب أن نتجاوز عن كليهما معا لنتحدث عن المشهد؛ فقد كان هناك رجلان ومشهد، والمشهد ليس بسيطا أبدا رغم خلوه التام من الفواجع والكوارث وكل مسببات التوتر، ولكي نبدأ علينا أن نتصور مكانا معزولا ولا تماما عن العالم، كأن الدنيا بكل غموضها ومجهولها تنتهي عنده، ولكننا لا بد أن نعتقد أنها أبدا لا تنتهي عنده، فالطريق الذي يقطعه يظل ممتدا بعد بقعتنا مثلما يظل ممتدا قبلها، إلى ما لا نهاية البصر. بالاختصار، لنتصور طريقا من طرقنا المسفلتة الطويلة، يمر بمساحة شاسعة من الأرض غير الزراعية أو المطروقة أو تعرضت في عمرها الملاييني الكثير للمسة من يد الإنسان، صحراء، أو براري، أو جبل وعر، على امتداد الإصبع الخنصر لبحرنا الأحمر. إن طريقا كهذا يظل الخط المستقيم بلا فائدة، كالرجل المستقيم بلا مبدأ، وبمجرد المحاكاة والتقليد، لا معنى له ولا قيمة لاستقامته، حتى يحدث له حادث ينتهي مثلا أو يلتوي، أو بالذات يلتقي بطريق غيره أو يتقاطع، هنا فقط، عند التقاطع واللقاء يصبح للطريق المستقيم الممتد معنى؛ إذ يصبح التقاطع وكأنه الإثبات لنظرية كانت قبله فرضا، ووصولا كان طوال الطريق مجرد حلم كحلم الجوعان بالخبز.
لنتصور حادثا كهذا وقع لطريقنا الذي اخترناه ممتدا بلا معنى في أرض متسعة بلا مفهوم، ولنكن أيضا على ثقة أننا لن نكون أول المتصورين، فقبلنا بكثير سنجد أن الحكومة، باعتبارها المسئولة عن الأرض والطريق وكل الأشياء ذات المعاني والمعدومة المعنى، قد تصورته، وأدركت أهمية هذه الحقيقة الفلسفية أو الصوفية المحضة، مع أنه ليس من عادة حكومة في العالم أن تعير أمثال هذه الحقائق التي ينقسم عندها البشر، وأحدثت - ولا تزال تحدث - أعظم الهزات والمعارك والانتصارات الإنسانية، أي التفات، ولكنها بالسليقة من زمن لا بد أدركتها. وبادرت فأقامت عند هذا التقاطع «كشكا»، وقالت لعسكري كن داخل الكشك فكان، وهكذا انحسرت كل المعاني الكلية المهولة عن التقاء الطريق بالطريق وتقاطع الطريق مع الطريق، وكما يضيق «القمع» ويتدبب، ضاع المعنى وانكمش، واتخذ بالكشك والعسكري في الحال مفهوما واضحا خاصا، بل حتى الأرض نفسها، تلك التي كانت من أمتار قليلة مستمتعة بلا جدواها ولا أهميتها وبحريتها أن تمتد إذا أرادت وتتجبر وتتجبل إذا أرادت وشاءت أن تمتد، وتجن وتطلق شعورها وبراريها ولحاها كلما عن لها أن تصنع ذلك، أصبح عليها منذ الآن أن تدير رأسها وأن تعقل وتخفي عورتها، ومن الكرة الأرضية الهائلة والكون والطبيعة تنسلخ، وتتخذ أسماء وتنتهي إلى شعب محدد وإلى جزء من أرض ذلك الشعب، محافظة أو مركزا تئول وكما يعطي العسكري والكشك والطريق هذا المعنى المحدد الخاص. يرتد العطاء، ويصبحان أو على الأقل يصبح العسكري، ليس مجرد أي عسكري في أي كشك، ولكنه، في ذلك الجزء المقطوع عن العالم المعزول يصبح المثل الحي للنظام العام الذي أخضع الأرض وحدها وسماها وامتلكها ولكافة القوانين التي ابتكرتها عقول من أصبحت تمت لهم هذه الفرس الوحشية .. الأرض .. وراكبها الذي استأنسها .. ذلك الطريق.
في ذلك الوقت، ولنجعله بعد الظهر بقليل، وقد انتهى العسكري من تناول غدائه بحيث يمكننا أن نقدم عليه بلا حرج ونجلس إليه على أمل أن نتحدث، وحتى قبل أن يدور أي حديث بمجرد الجلوس، سندرك أن البقعة قد تكون معزولة ومهجورة بالنسبة للآدميين وللراحلين، ولكنها أبدا ليست كذلك بالنسبة للعربات. فما تكاد تمضي دقيقة حتى تكون عربة قد أقبلت، بل أحيانا يتراكم لدى الكشك أكثر من عربة، كل ما في الأمر أنها في الخلاء الواسع لا تبدو للعيان .. قلما تصادفك عربة؛ إذ هي نقطة لا تظهر إلا عند الكشك. من الخلاق الواسع الشفاف تظهر فجأة كأن دخانا كان يخفيها باتساعه وشفافيته، وإلى الخلاء الواسع تعود إلى الاختفاء بعد اجتياز التقاطع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحتما لا بد نفاجأ، قبل أن نبدأ نعير العسكري نفسه أي التفات، وإنما نحن مشغولون بتأمل المكان الفريد الغريب ومتابعة غير قليل من الأفكار التي يولدها بالضرورة وجودنا لأول مرة في مكان كذاك، حتما لا بد نفاجأ حين يقبل رجل عجوز قصير القامة، أول ما يلفت النظر إليه جبهته السمراء البارزة المحدودية، ومقدم رأسه الخفيف الشعر الأشيب، ينحني على المنضدة الموضوعة أمام العسكري ليستطيع أن يصل إلى حافتها الملاصقة له، ثم يضع، ويا للمفاجأة، كوب شاي متوسط الحجم، رخيص الزجاج، وإن بدا الشاي نفسه جيد الصنع، عنبري اللون محمرا، تماما كما يحبه أنصاف الكيفية، ونفاجأ أكثر حين نجد أن العسكري نفسه لم يفاجأ بما حدث وكأنه كان يتوقعه، وكأنما هي عادة. وحتى إذا كنت متوسط الذكاء، فلن تأخذ وقتا طويلا لكي تدرك أن الرجل العجوز صاحب ما اصطلحنا على تسميته بالغرزة، أو القهوة الصغيرة المتنقلة، وأنه يحط رحاله تحت شجرة على الناحية الأخرى من الطريق، وأنه لا بد قد لاحظ أن العسكري قد انتهى من تناول غذائه فأحضر له كوب الشاي. كما قلت: لا حوادث هناك ولا شيء غير عادي، من الطبيعي جدا أن توجد قريبا من هذا التقاطع غرزة صاحبها رجل عجوز أو مريض، وأن يتعامل العسكري معه ، وأن يحضر له الشاي، وأن يقدمه في أدب. ولكن أشياء غير عادية بدأت تحدث، منها مثلا أن يدفع العسكري يده في جيب بنطلونه الأمامي «فجيوب بنطلونات العساكر مركبة إلى الأمام ولا أحد يعرف لم!» ويخرج قرشا من جيبه، ويعطيه للرجل العجوز قائلا: خذ قبل ما أنسى. حادثة لا شك. فالمفروض، والعسكري يمثل كل ما ذكرته آنفا، والرجل يمثل التجار الصغار، أن يتقاضى ضريبة يضعها تحت أي اسم يشاء .. ضريبة ليست أقل من كوب الشاي مثلا، وأن يعفي العسكري هذا الرجل من الضريبة، ليس فقط .. بل أن يخسر من جيبه قرشا، أمر له دلالة خطيرة. لا بد أن هناك سببا لهذا الاستثناء، فإذا اتضح أن لا سبب هناك، فمعنى هذا أننا في مواجهة ظاهرة خارقة .. عسكري مرور .. ملك متوج على بقعة نائية مهجورة، ويستطيع من هذا المكان أن يسيطر على غرائزه، وبالذات على غريزة فرض الضرائب غير القابلة للسيطرة والتحكم، ويكون ذا ضمير مستيقظ لماح.
هنا لا بد أن تلتفت كلية للعسكري، وتعيد النظر فيما دار بينك وبينه من حديث، فستقطع أخطر محاورة مفروض أن تدور حالا بين العجوز والعسكري، لأننا لن نستطيع إدراك مضمون الحوار إدراكا حقيقيا، إلا إذا وضحت لنا صورة العسكري، فلا بد لنا أن نؤجل الحوار إلى حين. العسكري شباب في حدود الثلاثين، في حديثه وآرائه تحديدات من لم يتزوج بعد، أو إن كان قد تزوج فلم يستطع الزواج أن يصيب ضحيته، كما يصيب الجسد، بالترهل وعدم الميل إلى التحديد. الزواج باعتباره عملية تنازل مستمرة ومساومة في أحسن الأحوال يصيب الرجل بعادة الرغبة في المسألة والبحث عن الحل الوسط، فالجمل لا بد أن تكون لها نهايات مفتوحة تجعلها قابلة للتراجع التام في أحيان، أو الاتصال بجملة أخرى تغير تماما من المعنى المقصود، الزواج ضد نقط النهاية وضد الحسم ربما خوف من سوء وضع النهاية. ما علينا. شخصيته محددة، آراؤه في الناس أيضا محددة، وكذلك في عملية وطبيعته، وهذا شيء نادر هنا، فالوظيفة، أية وظيفة، كالزواج تماما، صاحبها فتح الجمل وكثرة استعمال حروف الوصل والضم والجر والألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى وتفسير لاستخدام معناها الآخر، كسلم الحريق حالة وقوع الكوارث وتحمل المسئولية. له شارب .. تحس إنه عن عمد قد وضع شاربا، لا للعياقة أو إظهار الرجولة، إنه ليس في حاجة إلى إظهار، وإنما لأنه - ما دام الناس صنفين - فقد اختار أن يكون من الصنف ذي الشارب، صعيدي أو عربي فلا تزال به بقايا قبلية، في لغته وفي ميله إلى الحديث عن كل ما هو عام، فالانتماء يبعد عن الذات وكل ما يمت إلى الشخص بمفرده. ولا أستطيع أن أقول إنه شهم ذو نخوة وأريحية، فلم يكن قد بدا منه ما ينبئ بأي من هذا، ولكنك تتمنى. بل ترجح شهما ذا أريحية، ولكنه أبدا ليس كاملا، فصحيح أنه يعامل السائقين بمساواة تامة، لا يبالغ في رد تحياتهم المفرطة وكذلك لا يرد عليها بتعاظم وتكبر، ولكنه يكاد ينتفض واقفا إذا جاءت التحية من عربة ملاكي، فعلى رأيه من يمتلك عربة لا بد أنه صاحب نفوذ؛ موظف كبير، أو صاحب مهنة غني، أو ابن لهذا أو لذاك، وليس من العقل أو الحكمة أن يصطدم من كان مثله بأمثالهم!
Неизвестная страница