فهز المعلم رأسه في أسف، ولاذ بصمت مبين، فهمس سعيد في أذنه: يلزمني مسدس جيد!
فقال طرزان بلا تردد: تحت أمرك.
فربت على منكبه شاكرا، ثم قال بشيء من الارتباك: لكن ليس ...
فوضع أصبعه الغليظ على شفتيه قاطعا كلامه في عتاب وهو يقول: لا عاش من أحوجك إلى اعتذار!
وأتى على ما في القدح في ارتياح، ثم قام ماضيا إلى النافذة، وقف وراءها ناصبا قامته النحيلة المفتولة المتوسطة الطول، فبسط الهواء جناحي جاكتته كالشراع، ومد البصر إلى الخلاء المنتشر على الأرض المفعم بالظلام، فتبدت النجوم في السماء الصافية كالرمال، وكأن القهوة جزيرة في محيط، أو طيارة في سماء، وفي أسفل الهضبة التي تقوم عليها القهوة تحركت السجائر - كالنجوم - في أيدي الجالسين في الظلمة من رواد الهواء الطلق، وعند الأفق الغربي لاحت أنوار العباسية بعيدة جدا يشعر بعدها بمدى توغل القهوة في الصحراء، وأطل من النافذة، فصعدت إليه أصوات الجالسين حول الهضبة، النازحين إلى الصحراء، طلبا للهواء والراحة، وانحدر إليهم صبي القهوة حاملا نارجيلة تتوهج جمراتها، ويتطاير منها الشرر مطقطقا، واحتدم السمر تتخلله الضحكات، وقال صوت يافع ملتذا بالحديث فيما بدا: دلوني على مكان واحد في الأرض ينعم بالطمأنينة؟
فأجابه آخر متحديا: هذا المجلس، ألا ينعم مجلسنا الآن بالطمأنينة؟ - تقول «الآن» وهذه هي المأساة! - لم نلعن القلق والمخاوف، ألا تعفينا في النهاية من التفكير في المستقبل؟ - إذن، فأنت عدو للسلام والاستقرار! - إذا كان حبل المشنقة حول عنقك فالطبيعي أن تخشى الاستقرار. - هذه مسألة خاصة يمكن معالجتها فيما بينك وبين عشماوي. - أنتم تثرثرون في هناء لأنكم في حمى الظلام والصحراء، ولكنكم لن تلبثوا أن تعودوا إلى المدينة، فما الفائدة؟ - المأساة الحقيقية هي أن عدونا هو صديقنا في الوقت نفسه!
أبدا، المأساة الحقيقة هي أن صديقنا هو عدونا! - بل أننا جبناء، لم لا نعترف بهذا؟ - ربما، ولكن كيف تتأتى لنا الشجاعة في هذا العصر؟ - الشجاعة هي الشجاعة. - والموت هو الموت! - والظلام والصحراء هما هذا كله!
يا له من سمر، ماذا يقصدون؟ لكنك شعرت بأنهم يعبرون عن حالك على نحو ما، نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل، أنت أيضا كانت لك يفاعة متوثبة، والقلب سكران برحيق الحماس، والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال، وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية، وساكن القصر رقم 18 كان على رأسهم، على رأسهم يتمرن ويمرن ويلقي بالحكم، المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران، المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك، وذات مساء سألك: «سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟» ثم أجاب غير منتظر جوابك: «إلى المسدس والكتاب؛ المسدس يتكفل بالماضي، والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ.» ووجهه وهو يقهقه في بيت الطلبة قائلا: «سرقت؟ .. هل امتدت يدك إلى السرقة حقا؟ برافو! كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك.» وشهد هذا الخلاء مهارتك، قالوا: إنك الموت نفسه، وإن طلقتك لا تخيب، وأغمض عينيه مستسلما للهواء النقي، وإذا بيد توضع على كتفه، فالتفت وراءه فرأى المعلم طرزان مادا يده الأخرى بالمسدس وهو يقول: نار على عدوك بإذن الله!
فتناوله ومضى يتفحصه ويختبره، ثم سأله: بكم يا معلم؟ - هدية! - كلا، كل ما أرجوه أن تمهلني إلى ميسرة! - كم طلقة تحتاج؟
وعادا معا متجهين نحو أريكة المعلم، وعندما مرا بباب القهوة لعلعت في الخارج ضحكة أنثوية، فضحك المعلم طرزان، وقال: نور، ألا تذكرها؟
Неизвестная страница