فابتسمت كليلة، وقالت: إنها دعوة من الغيب للزواج.
فقال بحدة: كانت حقيقة ملموسة ومشمومة، لا أدري كيف أشك فيها، ولكني لا أستطيع تصديقها أيضا.
فقالت العجوز ببساطة: لا تشغل بالك وتزوج. - هل سمعت من قبل عن حقيقة تتلاشى في حلم؟ - ربنا قادر على كل شيء، ستنسى كل شيء قبل مرور ساعة.
فتنهد قائلا: نعم.
وكان يعلم أنه يكذب، وأنه لن ينسى، وأن قلبه يخفق بحب حقيقي، وأن محبوبه كائن متجسد لا ينسى ولا يمحى أثره من الوجدان.
8
فتح نور الدين دكانه وطالع الناس بوجه جديد .. عرف طيلة عمره اليافع بجماله الصافي وبحضور البديهة في المعاملة، ولكنه بدا ذلك الصباح الربيعي شارد اللب، حائر الطرف .. يتساءل الذين يستبشرون بطلعته عما غيره واستأثر بخياله .. ويتساءل هو طيلة الوقت عن حلمه العجيب الذي فاق الحقيقة في الوجود والدسامة والأثر .. وقد بلغ العشرين من دون أن يتزوج لرغبة قديمة في الزواج من حسنية أخت صديقه فاضل صنعان .. تردد قديما بين رزقه المحدود وثراء أبيها الواسع، وتردد بعد ذلك لمعارضة أمه في الزواج من ابنة رجل خالط العفريت حياتهم .. قالت العجوز: ابعد عن الشر؛ فلا ندري عن هذه الأسرار شيئا.
وأبقى على مودته لفاضل، تاركا حسنية للزمن، ولكن أين حسنية الآن؟ بل أين الدنيا وما فيها؟ لا وجود إلا لتلك الصورة الباهرة والمخدع الوثير والسرير الذي يفوق في حجمه غرفة نومه كلها .. لقد رأى رؤيا حقيقية، ومارس حبا حقيقيا، وها هو يحب حبا يتضاءل بالقياس إليه أي حب حقيقي .. ها هو يعاني فتور الحياة ووحشتها وكآبتها وحزنها الأبدي في البعد عنها .. أما شذاها فيعبق به أنفه، وأما مناجاتها فتردد مع أنفاسه .. وتذكر صباه الذي أنفقه في كنف الشيخ البلخي يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الدين .. عندما أخذ من ذلك كفايته وهم بتوديع الشيخ قال له الرجل: ما أجدرك بالعشق!
فهم أنه يدعوه إلى الاستمرار معه، فقال له: والدي مريض، وعلي أن أحل محله في الدكان.
فقال الشيخ: ما أقبل في صحبتي عاطلا.
Неизвестная страница