في هذا الجيل نبت معتز، فليس عجيبا أن يرسم لنديم وهو من هو سنا وتجربة وحيلة أين يكون الكلام وكيف يكون. •••
وفي العزاء حرص نديم أن يجلس إلى جانب معتز. - طبعا أبلغك سعد عن الحديث الذي دار بيننا. - أقسم لك بحياة أبنائي أن صلتي بوالدتك ... - عرفت كل شيء، وأشكرك، وأعتذر لك ولسعد. - شكرا. - وسيأتي الوقت لآتي عندك وأعتذر لسعد بنفسي. - ولماذا لا تأتي منذ الغد؟ أنا مستعد أن تجعل الكذبة حقيقة، وما دمت قد عرفت كل شيء فما المانع أن تجعلني أباك الروحي. أنا والمرحومة والدتك يجمعنا مجرم واحد. والمصائب كما يقول الشاعر يجمعن المصابين. - أنا أعجب لك! ولا شك أن لك زملاء كثيرين يمسك هذا الوحش برقابهم، أتتركون رقابكم هكذا بين يديه؟! - ومن أدراك أننا ساكتون. - ما أراه. - انتظر.
ثم كأنما صحا وتلفت حوله. - إياك أن تعيد هذا الكلام. - أنا صغير حقا ولكن السنة من عمر جيلي بعشر سنوات من جيلكم، وكل الأجيال التي سبقتكم. - ولماذا تريد ألا تظهر بجانبي وأنا أمام الناس أبوك. - أنت أبي ولكني لم أقترب منك طول حياة والدتي وطول الفترة التي كنت فيها قويا، فلو اقتربت الآن سأصبح تحت المراقبة. - وماذا تخشى من المراقبة؟ - هذا سري، دم أمي لن يذهب هدرا. - اياك أن تكرر هذا الكلام. - أنا لم أقله إلا لمن أعرف أنه لن يجرؤ على تكراره. - من؟ - أنت. - فقط؟ - فقط. - وأم حسين؟ - وهل أنا عبيط؟ - اسكت. - ساكت.
24
خيوط السماء
حين ملك فرغلي رقاب كثير من الناس وأصبح يتصرف في مصائرهم ما شاء له هواه وما شاءت له مصالحه؛ عجب أن تخرج الطبيعة عن ملكه وتتمرد بقوانينها على مشيئته ورغباته. ولم يتصور أن ينهار بناء الجامعة دون أمر منه، وقد عاش عمره لا يفصح عما يعتمل بنفسه، ولكن نفسه أيضا، دون أن يدري، جزء من الطبيعة، وهي أيضا، دون أن يدري، تخضع لقوانينها. ولذلك عجب هو وليس في الأمر عجيب حين أصابه نوع من الدوار وأحس برأسه يكاد ينفجر وعرف فجأة أنه في تكوين أعضائه إنسان ككل إنسان يجري على جسمه ما يجري على جسوم الناس وقد كان يظن أنه يستطيع أن يصنع جسمه كما يشاء هواه وكما صنع خلقه وكما يصنع مصائر الذين حوله.
وكان ممدوح ابن عمته حريصا منذ حادثة الجامعة واتهام أخيه أن يزوره كل يوم مخافة أن يظن به أنه غاضب لأخيه، وكان حريصا ألا يذكر ما حدث كل الحرص، فهو يعلم أن فرغلي يملك من أمره ما يستطيع به أن يقضي عليه، وفرغلي يعلم ذلك أيضا، فلم يجد في زيارة ممدوح اليومية له ما يدهشه بل إنه كان سيدهش لو فعل ممدوح غير ذلك.
واستطاع ممدوح بخبرة الطبيب العجوز أن يدرك ما يحاول فرغلي أن يخفيه من المرض، ولكنه لم يجرؤ أن يفاتحه ما دام هو لم يشأ أن يذكر شيئا.
قليلا ما صمت فرغلي، فقد طلب إلى ممدوح أن يأتي له بالدكتور أحمد الفقي الباطني الشهير، واتفق الطبيبان سريعا على أن فرغلي يعاني من الضغط العالي، وعجب فرغلي أن ضغطا يفرض عليه الآن حتى ولو كان هذا الضغط من شرايينه هو. وفكر لحظة كيف بدأت حياته بالضغط عليه من جوانب الحياة من أمه ومن أبيه ومن قريته ومن المجتمع ، كان الضغط عليه من الخارج، وحين تصور أنه استطاع أن يتخلص من هذا الضغط إلى الأبد وأصبح هو يفرضه على الحياة من حوله؛ وافاه الضغط من داخله، من كيانه، من جسمه الذي تمرد عليه كما تمرد بناء الجامعة، وكما تمردت قوانين الطبيعة.
وفرض المرض عليه نظاما خاصا في الطعام، فأصبح وحده في البيت لا يأكل إلا الطعام المسلوق الخالي من الملح. واضطر فرغلي أن يخضع بعد أن نسي الخضوع سنوات طويلة من حياته، وكان ممدوح بكل ما في نفسه من ذعر ومن كره يشرف بنفسه على الطعام. •••
Неизвестная страница