ولكن هذا التقسيم يشمل الكاتب والخطيب معا، ولا يبدأ الفرق بين الاثنين إلا عند الركن الثالث؛ فإن تعبير الخطيب يتبع الذوق وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها والتكرار تارة والتسجيع طورا، وانتقاء الألفاظ الموسيقية الخفيفة على السمع المؤثرة فيه أثرا حسنا، والتحليق في سماء الخيال حينا، والنزوع إلى النكتة حينا آخر مع تطبيق ذلك على ما يضاف إليه مما يكمله كالإشارات والملامح والنظرات ونبرات الصوت وجاذبية الخطيب، وسائر ما يمكن الإنسان الحي أن يضيفه من الحياة إلى هذا الشيء الحي الذي يقال له خطابا.
وها نحن أولاء نبحث فيما يتعلق بهذا التعبير ويخلع على الإنشاء الخطابي مسحة خاصة جاعلين فصلا آخر لما نسميه مكملات الخطيب، فيرى القارئ بعد هذا الشرح صدق التعريف الذي وضعناه للبلاغة في أول الكتاب.
2
إن الكلمات التي تؤلف منها الجمل هي كحجارة الفسيفساء لها لونها الخاص وشكلها المحدود، ولكنها تمثل صورا مختلفة حسب تركيبها وتداخلها بعضا في بعض، فكما أنك قد تجعل من قطع الفسيفساء صورة تدل على القبح أو الحسن والألم أو اللذة وغير ذلك من الأضداد تبعا للطريق التي تؤلف بها بينها كذلك تستطيع - حسب اختيار الألفاظ وتركيبها - أن تمثل هذه العاطفة أو تلك تمثيلا كاملا أو ناقصا، ولا يتم لك الإتقان إلا إذا وقع اختيارك في موقعه وكان لك اللفظ الموافق والتعبير الصادق.
قال القلشقندي: إن الألفاظ من المعنى بمنزلة الثياب من الأبدان، فالوجه الصبيح يزداد حسنا بالحلل الفاخرة، والقبيح يزول عنه بعض القبح كما أن الحسن ينتقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحا إلى قبحه. وقد قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيها.
ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح.
ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين.
ومنها ما هو كالنقاب الرقيق يلقيه الشعر على بعض العواطف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها.
ومنها ما له وميض البرق.
Неизвестная страница