تمهيد
القسم الأول: البلاغة علما وعملا
تعريف البلاغة
من هو الخطيب؟
الإنشاء الخطابي
المنبر
الخطيب والممثل
الخطيب والشاعر
الخطيب والخطباء
الخطيب والجمهور
Неизвестная страница
تهيئة الخطاب
الارتجال
الرتج
نظرة تاريخية
أنواع الخطابة
القسم الثاني: أمالي طبية ووصايا صحية
نظرة تشريحية
الصوت
التنفس
الرياضة التنفسية
Неизвестная страница
رياضة الصوت
صحة الصوت
قبل الخطاب وبعده
القسم الثالث: أمثلة من خطب العرب والإفرنج
خطب الإفرنج
خطب العرب
بعض كبار خطباء العرب والإفرنج
الخاتمة
تمهيد
القسم الأول: البلاغة علما وعملا
Неизвестная страница
تعريف البلاغة
من هو الخطيب؟
الإنشاء الخطابي
المنبر
الخطيب والممثل
الخطيب والشاعر
الخطيب والخطباء
الخطيب والجمهور
تهيئة الخطاب
الارتجال
Неизвестная страница
الرتج
نظرة تاريخية
أنواع الخطابة
القسم الثاني: أمالي طبية ووصايا صحية
نظرة تشريحية
الصوت
التنفس
الرياضة التنفسية
رياضة الصوت
صحة الصوت
Неизвестная страница
قبل الخطاب وبعده
القسم الثالث: أمثلة من خطب العرب والإفرنج
خطب الإفرنج
خطب العرب
بعض كبار خطباء العرب والإفرنج
الخاتمة
الخطابة
الخطابة
تأليف
نقولا فياض
Неизвестная страница
تمهيد
الخطابة ضرب من الكلام يراد به التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر معا، وهي فطرية في الإنسان كالغناء والنطق؛ ولهذا تجد آثارها عند الأقدمين في كتب الهند المقدسة وكتب مصر وفارس والصين. ولا ريب أن الأعمال العظيمة التي خطت على جبين الدهر من بطولة وكرم ومجد، كان الدافع إليها خطب الأفراد الذين امتازوا بسرعة الخاطر وقوة العارضة وجرأة الفكرة وذلاقة اللسان، فمن أبطال أوميروس إلى الإسكندر وقيصر، إلى بطرس الناسك وتوما الأكويني، إلى لوثر وكلفن إلى ميرابو ودانتون وروبسبير، إلى دزرئيلي وغلادستون وتيارس وغامبتا، إلى جوريس بالأمس وموسوليني اليوم. لا تزال البلاغة أداة الإقناع والعامل الأكبر في إنهاض الهمم وتنبيه العزائم وإذكاء الشعور، بها أثار سولون حماسة الأثينيين فخاضوا غمرات الموت لاسترجاع «سلامين»، وبها كان شيشرون يقود الشعب الروماني المعلق بشفتيه من دار القضاء إلى السوق ومن السوق إلى دار القضاء.
وبها أسكت أبو بكر أهل المدينة وأخمد هياجهم بعد موت النبي، وبها اندلعت نيران الثورة الفرنسية فغيرت شكل الاجتماع، ولولاها لما سحرت الأديان عقول البشر، ولا كان لها أبطال وشهداء في بدو ولا حضر.
والذي يتبادر إلى الذهن أن قوة كهذه لا بد أن تكون قد أشغلت القرائح والعقول، وكانت موضوع الدرس العميق والبحث المستطيل، على أن الواقع بخلاف ذلك، ومن بواعث العجب والأسف قلة الكتب التي خصت بها، وندرة المحفوظ منها بين أيدينا ولا سيما عند العرب وهم كما نعلم من أخطب الأمم.
ولم تبلغ حاجة الإنسان إلى التكلم في الأندية والجماهير مبلغها اليوم؛ فإن الرقي يسير بالإنسان نحو التوسع في الاشتراك بالحكم، وقد أصبحت المعاملات الاجتماعية أكثر تشعبا وتداخلا بعضها في بعض، تداخلا لم يسبق به عهد، واتسع نطاق التعليم وانتشرت أنوار الثقافة، مما جعل كل طبقة من الناس على كثب دائم من المؤثرات الخطابية.
وكثير من الناس لم تؤهلهم المدارس إلى تعلم الخطابة أو التمرن عليها، وهم مع ذلك في افتقار شديد إلى هذا السلاح لتعدد الفرص الداعية إلى حمله من حفلات سياسية أو عمرانية أو غير ذلك.
فضلا عن هذا فإن المحاماة التي هي من أعظم المهن وأوسعها خدمة للمجتمع تتطلب البلاغة قبل كل شيء، وليس في برنامج الدروس التي يتلقاها طلبة الحقوق ما يختص بتعليم الخطابة، فإذا لم يتسن للطالب أن يستوفي حظه من هذا القبيل فإنه يختم دروسه ويحمل شهادته وهو لا يزال فقير المادة في الكلام قصير الحجة في الجدل، لا يستطيع مع كل ما درس ووعى أن يجاري زملاءه القادرين في الدفاع عن الأرملة واليتيم والمظلوم، ولا أن يسمع في ندوة القضاء - كما يقول هنري روبير: «صوت الرحمة البشرية والعدل الإنساني.»
ثم إن الحكم الدستوري الذي تتمشى نحوه كل الأمم يحتاج إلى سلاح البلاغة، والناخب يؤثر المتكلم الفصيح على سواه؛ ولهذا تجد كثيرا من المحامين على مقاعد النيابة في كل البلدان. وليس الوزير إن حققت سوى محام يدافع أمام المجلس عن واجباته، وعن معاونيه وشركائه في المسئولية. ما الفائدة من انتخاب مزارع مثلا لوزارة الزراعة أو جندي للحربية أو تاجر للأشغال؟ حسب الوزير أن يأخذ من كل علم بطرف على شرط أن يكون فصيح اللسان عذب البيان.
ليست الحاجة إلى البلاغة مقصورة في الحياة السياسية على الحكم الدستوري، بل تمتد إلى الدكتاتورية، وربما كانت الواسطة الأولى التي تمهد لصاحبها طريق الرآسة، فإن موسوليني أو مصطفى كمال أو لينين لم يستطيعوا الانتصار على الحكم السابق إلا بالكلام أولا.
وعلى الجملة فإن فوائد الخطابة أكثر من أن تحصى، وهي تعم الكاتب والتاجر والسياسي والقائد والعالم والمربي وكل من كتب له أن ينزل إلى ميدان الحياة ويدخل معترك الاجتماع.
Неизвестная страница
ذلك ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب واضعا فيه كل ما وقفت عليه في كتب القوم على ندرتها أو عرفته بالاختبار، ولا أدعي به القدرة على أن أخلق ديموستينا أو شيشرونا غير أني واثق أنه يساعد القارئ على تحقيق رغبته في أن يكون يوما من أبطال المنابر.
وقد أردت به على الخصوص خدمة المدارس على أنه لا يخلو من اللذة والفائدة للمحامي والخطيب، والله من وراء كل علم.
القسم الأول
البلاغة علما وعملا
تعريف البلاغة
1
إن تعريف البلاغة صعب ككل تعريف، جرب مثلا أن تعرف الذكاء أو الجمال أو الحكمة، فقد تظن للوهلة الأولى أن ذلك سهل المنال ولا تلبث بعد الإمعان أن تتبين خطأ ظنك فترى أنه أسهل عليك أن تدرك الأشخاص أو الأشياء المطبوعة بطابع الجمال أو الذكاء أو غيرها من أن تحلل جوهر هذه الصفات عينها. كذلك البلاغة فإننا نفهم بلا تعب أن هذا الرجل أو هذا الخطاب بليغ، ولكن الفهم شيء والتحليل شيء آخر.
جاء في البيان والتبيين للجاحظ: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل.
وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وفي العمدة لابن رشيق: سئل بعضهم: ما البلاغة؟ قال: قليل يفهم وكثير لا يسأم.
Неизвестная страница
وقال آخر: هي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى.
وقال آخر: معان كثيرة في ألفاظ قليلة.
وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة.
وقال غيره: البلاغة هي الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل.
وقال عبد الحميد بن يحي: هي تقرير المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام.
وقال ابن المعتز: هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام.
وقال الخليل: هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه.
وأنشد المبرد في صفة خطيب:
طبيب بداء فنون الكلام
لم يعي يوما ولم يهذر
Неизвестная страница
فإن هو أطنب في خطبة
قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة
قضى للمقل على المكثر
قال أبو الحسن الرماني: أصل البلاغة الطبع. وقال غيره: هي تقصير الطويل وتطويل القصير. يعني بذلك القدرة على الكلام.
وقال أبو العيناء البليغ: من أجزأ بالقليل عن الكثير وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي.
قال البحتري في وصف بلاغة عبد الملك الزيات:
ومعان لو فصلتها القوافي
هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارا
Неизвестная страница
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك
ن به غاية المراد البعيد
وقال بعض المحدثين: البلاغة هي إصدار المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن أقوال الثعالبي: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه، وأيضا البليغ من يحول الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدر المعاني.
وسئل الكندي عن البلاغة قال: ركنها اللفظ وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفه وتتكلم به، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها.
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين، هؤلاء بالبسر والرطب أبصر منهم بالخطب. فقال له صحار: أجل والله إنا لنعلم أن الريح لتلقحه، وإن البرد ليعقده، وإن القمر ليصبغه، وإن الحر لينضجه.
وقال رجل للقباني: ما البلاغة؟ قال: كل من بلغك حاجته وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع مني، وافهم عني، أو يمسح عثنونه أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة، أو ينبهر في كلامه، قال الشاعر:
مليء ببهر والتفات وسعلة
ومسحة عثنون وفتل الأصابع
Неизвестная страница
وهذا كله من العي.
وفي كتب الإفرنج تعريفات شتى للبلاغة، نقتصر على بعضها.
قال لاهارب: البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حقيقية.
وقال تين: هي فن الإقناع.
وقال سورن: هي الفكرة الصائبة أولا، والكلمة الملائمة بعد ذلك.
وقال بسكال: هي تصوير الفكر.
وقال لابرويار: هي نعمة روحانية تولينا السيطرة على قلوب الناس وعقولهم.
وقال دلامبر: هي فن إظهار الشعور.
وقال فيري: هي حدة التصور وقوة التصوير.
وقال لاكوردير: هي الروح التي تفلت من قيود المادة وتترك الصدر الذي يقلتها لترتمي في صدور الآخرين.
Неизвестная страница
وقد سمى شيشرون البلاغة حركة الأنفس الدائمة، وأقام منها سنيك إلها مجهولا في صدر الإنسان، وجعلها كانتيليان الواسطة للحصول على الحقيقة، ووضعها كنار في القلب والتصور، وعرفها مارمونتل بأنها فطرة قبل أن تكون فنا، ومثلها الأقدمون بهيئة إله يخرج من فيه عند الكلام سلاسل ذهبية ترتمي على السامعين فتربطهم بها.
ولابن المقفع وصف طويل للبلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإسماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
كل هذه التعريفات تنطبق على البلاغة إلا أنها لا تؤدي منفردة كل ما في البلاغة من معان، ولو أردنا أن نجمع بين هذه الأقوال ونؤلف منها حدا يفي بتفسير البلاغة ويعرفها حسبما يراد منها في هذا العصر ، وكما يجب أن يتصف بها خطيب اليوم لاضطررنا إلى التمييز بين البلاغة الكتابية والخطابية؛ لأنه متى كان الفكر صادقا والتعبير موافقا فقد بلغ الكاتب ما يريد، وأما الخطيب فيحتاج إلى شروط أخر؛ لأن من يتكلم ليس كمن يكتب، وقد قلنا في صدر هذا المقال إن المراد من الخطابة التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر، فكان من الواجب إرضاء هاتين الحاستين، والدخول عليهما بما يقتضيه العطف والإيناس، وهذا ما يحملنا على إضافة معنى آخر عند تعريف البلاغة ليس هو الإقناع كما يقول تن، بل كما يريد لاكوردير من إدخال عاطفة القائل في نفس السامع، وإذن يمكننا تعريف البلاغة هكذا: صدق التفكير وحسن التعبير وقوة التأثير.
وسيرى القارئ فيما يلي من فصول هذا الكتاب قرب هذا التعريف من الحقيقة.
2
يقول المثل: لا تعدم الحسناء ذاما. وكذا البلاغة فقد وجد من عاب بيانها وأنكر إحسانها، فقال بعضهم: إن ضرر البلاغة أكثر من نفعها؛ لأنها تسدل على الحقيقة ستارا من الألفاظ البراقة، والمعاني الخلابة فتظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
وقال آخر: البلاغة تفعل بالتأثير لا الإقناع؛ لأنها تخدر حاسة النقد وتقيم أمرها بالإكراه بما تسوق إليه من تهييج الأعصاب، وكلما زاد عدد السامعين زاد تهييجها، فكان سلطانها أعظم تأثيرا وأبعد مدى.
وقالوا: هي الأصل في كل عداء، والسبب لكل بغضاء، ومن قديم الزمان إلى الآن لا تزال حرب اللسان سابقة لحرب السنان.
وقالوا أيضا: هي أداة نفاق لرجال السياسة يحملونها في كل ناد، ويهيمون منها في كل واد.
وهذا بعض ما قيل في ذم البلاغة، ولكنه على حد ما يقال في ذم الماء لأنه يغرق، والنار لأنها تحرق، أو ذم الدواء لأنه من جوهر سام ولو كان من ورائه الشفاء.
Неизвестная страница
وقد قيل عن الحضارة والرقي مثلما قيل في البلاغة، فأشهروا إفلاس العلم وعجز الارتقاء؛ لأنه لا يزال على الأرض شقاء.
وإذا كانت البلاغة تستعمل أحيانا سلاحا للباطل، فمن العدل أن يتخذها الحق ليحارب بها الباطل؛ ولهذا جعل الأقدمون اللسان في أعلى مقام من الشرف وأدنى مكان من الامتهان.
والحقيقة التي يجب أن تعلم وتقال هي أن البلاغة ليست تجارة كلام بل فنا خطير الشأن عزيز المذهب، غايته تهذيب النفوس، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأذهان، وكبح جماح الشهوات، ودعم النظم والقوانين، ورد الناس إلى الصلاح، وهديهم سواء السبيل.
من هو الخطيب؟
1
هل يولد الإنسان خطيبا كما يولد شاعرا؟ أو بعبارة أصح: هل يحتاج الخطيب إلى ذلك الوحي الآتي من أعماق النفس كأنه انفجار باطني، أم يكفيه العلم والممارسة ليجد سبيلا إلى عقول الناس وقلوبهم؟
من المعلوم أن النطق عمل منعكس من أعمال النفس البشرية كالصمت أو غيره، فكما تجد من الناس من تخرسه مشاهد الوجود الرائعة فيقف منها موقف الدهشة والذهول لا يطيق حركة ولا يحتمل صوتا، تجد بعكس ذلك من لا يستطيع السكوت عما يجيش به صدره من مختلف التأثيرات كأنما هو يريد أن يشرك بها كل من حوله من حي وجماد. قال الأستاذ كركوس في كتابه فن التكلم في الجمهور ما معناه: تصور راعيا يسوق أنعامه في الخلاء وقد حيته ابتسامة الفجر، وهو يفتح للشمس قصره الذهبي، أو ناجاه الشفق الوردي وهو يخلع على الكون رداء السكون، وانظر أي أثر يكون لهذا المشهد في نفسه فقد يقف صامتا جامدا مأخوذا بروعته وجلاله أو يتناول مزماره وينفخ فيه طربا وزهوا، أو إذا كان خطيبا يرفع رأسه وعينيه ويدعو إليه قوى الوجود الخفية باحثا عنها في الريح العاصفة، أو الموجة الثائرة أو الغصن المائل مع الهواء أو الصخرة الصماء.
فالخطيب إذن هو الذي تهزه المؤثرات الطبيعية فيتردد صداها فيه بالوحي ينزل على لسانه والبلاغة تتدفق في بيانه.
2
هذا التعريف يختص بالبلاغة الفطرية، وهي اليوم لا تكفي وحدها لبلوغ الغاية من التأثير والجلوس على عرش الأسماع والقلوب؛ ذلك لأن اتساع دائرة المعارف الإنسانية وتعدد وسائل البحث والاختبار قد جعلا موقف الخطيب صعبا، فهو يحتاج إلى ذخيرة من العلم كان الأقدمون في غنى عنها لافتقاره غالبا إلى إقامة برهان وتأييد حجة ودفع اعتراض ، وإقناع فئة من الناس قد نضجت عقولها فهي لا تقبل بالكلام يرسل على عواهنه، سواء أكان هذا منها عنادا ودعوى، أم رغبة بالعلم واستزادة من الفائدة.
Неизвестная страница
فالخطيب الذي يجمع إلى استعداده الذاتي وذكائه الفطري اضطلاعا واسعا، ويكون موفور الحظ من العلم واللغة ليستطيع التكلم في كل موضوع بسهولة ورشاقة وإقناع، كما يقول شيشرون، فهو المصقع البليغ الضارب على أوتار كل فؤاد.
لا بد إذن للخطيب من الدرس والمطالعة؛ لأن الحياة كما يشهدها ويقرؤها هي ميدان عمله، وليس فيها شيء لا يحتاج أن يسمعه أو يبحثه أو يعالجه؛ ولأن الروح - كما قال فولتر - نار إذا أنت لم تطعمها لتزيد وتقوى تناقصت وخبت.
لقد أتى على الإنسان مئات من السنين وهو يكتب ويخطب فما غادر الشعراء من متردم، ولم يبق فكرة لم تمر بخاطر ولم تجر على لسان، كما قال زهير:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
فلا يجب أن يكون هذا مدعاة إلى شعور القارئ بقصوره عن أن يأتي بأحسن أو بأكثر مما أتاه السلف، بل ليذكر أن كل جيل من الناس ينظر إلى الحياة نظرة خاصة به مستقلة عن نظرات غيره.
وهكذا تتجدد الحياة ومع الحياة يتجدد العمل، فإذا جاز لنا أن نقول ما ترك الأول للآخر شيئا فقد جاز لنا أن نقول أيضا: لقد ترك الأول للآخر كل شيء.
وللمطالعة شرائط لا بد من اتباعها إذا أردت أن تثمر وتنتج نتاجا مفيدا، وهي: أن تكون بتأن وترو لا إفراط ولا تفريط؛ فالذين يفترسون الكتب افتراسا - إن صح هذا التعبير - لا تلبث قوة الاختراع فيهم أن تضعف والبداهة أن تضيع، ولهذا لا تجد أدنى نسبة بين عدد الكتب التي يقرؤها الرجل ودرجة ثقافته، أما من يتخذ القراءة ضربا من التسلية ووسيلة لقتل الوقت فيقرأ كما يدخن متنقلا من كتاب إلى آخر دون ترتيب ولا نظام ولا غاية معينة فهو يستفيد القليل دون الكثير، ولا يحفظ مما يقرأ إلا بقدر ما تحفظ العين من الصور المتحركة التي تتعاقب أمامها.
كانت المطبوعات في القديم نادرة فكانوا يقرءون الكتاب الواحد مرارا ولا يملون الرجوع إليه كلما اقتضت الضرورة، وقد توالت أعصر والكتب المقدسة وحدها مرجع الخطباء المصاقع، يجدون فيها ما أرادوا من وحي وإلهام، ولا ريب أن الاكتفاء بمطالعة كتاب مفيد ومراجعته خير من تقليب كتب عديدة لم تتضح فائدتها بعد.
وعلى الجملة فالدرس والمطالعة أمران لا بد منهما لفارع المنبر، وقد قال الجاحظ: لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك العلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التبحر.
Неизвестная страница
3
تكلمنا عما يجب أن يكتسبه الخطيب ليساعد الفطرة ويزيد رأس ماله، وينمي فيه قوة الاختراع، ونأتي الآن على صفات أخرى لا تكتسب بالدرس، وإنما هي تتعلق بالمزاج والأخلاق والتربية الأدبية.
على الخطيب أن يكون:
أولا:
رابط الجأش، ساكن الجوارح، لا يأخذ منه الغضب ولا يفرغ عنده الصبر، فإن الذي لا يكون سيدا على أهواء نفسه لا يستطيع أن يتحكم بأهواء سواه. وإذا احتاج إلى الغضب فليكن غضبه خطابيا، فكما أن الممثل يجتهد أن يجعل تمثيله طبيعيا مطابقا للواقع، ولا يمنعه ذلك من طلاء وجهه بالدهان، فالخطيب يقدر أن يخلع على سحنته ما يريد من الملامح دون أن يمس إخلاصه أو يخل بموقفه الطبيعي.
ثانيا:
أن يكون بسيكولوجيا؛ أي نقابا، صادق الحس، ملهما، عجيب الفراسة، بعيد مطارح النظر، يدخل إلى أعماق القلوب، ويقف على مكنونات الصدور ليخاطب كل فئة على حسب هواها، ويحمل عليها على أقدار منازلها، فلا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الشباب بكلام الشيوخ، ولا العمال بكلام أصحاب المال، ويكون له فضل التصرف في كل طبقة.
ثالثا:
أن يكون سلسا، لين العريكة متضعا، يمتزج بمن يخاطبهم، ويقرب ما بينه وبينهم، فيكون في الظاهر خادما لهم وهو السيد المطلق، ويجاريهم في أهوائهم كلما قضت الحال، لأنه لا يطاع إلا إذا عرف أن يطيع كربان السفينة يلين للريح ويسايرها ليسلم بمركبه فلا يتحطم دون الشاطئ.
رابعا:
Неизвестная страница
أن يكون حاضر الذهن، فلا يتجاوز في القول ما يهم سامعيه، وكلما سمع نبوة من النفوس عنه، أو ملة للقلوب منه ألقى إليهم نغمة جديدة، وطلع عليهم بفكرة غير منتظرة، فيمنع التثاؤب والملل، ويعيد الانتباه إلى مقره، ويملك عليهم سمعهم وشعورهم؛ لأن في الخروج من معهود إلى مستجد - كما يقول الجاحظ - استراحة للفكر، ورياضة للخاطر.
خامسا:
أن يكون حي الجنان، صادق البيان؛ ليحرك من الأعماق عواطف الحرية والإنسانية والتقوى والفضيلة الراقدة في قلب كل إنسان، ويمثل أمام تلك العيون المستعرة الناظرة إليه صور المجد والوطنية، ويبعث الكهربائية في نفوس سامعيه؛ فيثيرهم بإشارة من يديه، ويهدئهم بنظرة من عينيه.
4
من الناس من تجتمع فيه هذه الصفات أو أكثرها، ولا يوفق مع ذلك إلى الإجادة في الخطابة لعيوب خلقية تمنع عليه سهولة المخرج أو جهارة المنطق، أو تكميل الحروف وإقامة الوزن، كاللجلجة (التردد في الكلام) والتمتمة (التتعتع في التاء) والفأفأة (التتعتع في الفاء) واللثغة واللفف وهو أن يدخل الرجل بعض كلامه في بعض، والحبسة وهي ثقل الكلام دون أن يبلغ به حد الفأفأة، والتمتام، والحكلة أي نقصان آلة النطق، وعجز أداة اللفظ فلا يسمع الصوت تماما.
أكثر هذه العيوب تبدأ في الصغر، وأسبابها التعجل في الكلام، وعدم التروي والتدقيق في التفكير، والخجل الذي يستولي على المتكلم، فإذا كبر زادها ظهورا عدم التمرين والعادة، والتقصير في درس الموضوع الذي يراد الكلام فيه، أو في الاستعداد له أو في استظهاره، وليست معالجتهما بعيدة المنال ولا إصلاحها مستحيلا، فقد كان ديموستين ضعيف البنية والصوت، فلما اعتزم الخطابة أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد الجبال الوعرة، أو أمام شاطئ البحر مغالبا صخب الأمواج مما يدلك على أنه بالتربية والتمرين وجهد النفس وأخذ اللسان قد تجيب الطبيعة، ويصلح التعهد ما أفسد الإهمال.
وأعم هذه العيوب وأكثرها شيوعا اللثغة التي يحول بها اللسان من السين إلى الثاء، ومن الراء إلى الغين أو الياء، وقد كان ديموستين يسعى إلى سترها بوضع حصى في فيه عند الكلام، وتكلف مخرج الراء على حقيقتها، وروى الجاحظ عن واصل بن عطاء أنه كان قبيح اللثغة شنيعها، فحاول إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل. قال الجاحظ: وكان واصل طويل العنق جدا، وفيه قال بشار الأعمى:
مالي أشايع غزالا له عنق
كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم
Неизвестная страница
أتكفرون رجالا أكفروا رجلا
فلما هجا واصلا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين وقال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
قال واصل بن عطاء: «أما لهذا الملحد المشنف المكتنى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالين لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله.» فتجنب الراء في كل الجملة، وحين لم يستطع أن يقول بشار وابن برد والمرعث؛ جعل المشنف بدلا من المرعث، والملحد بدلا من الكافر، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه. ولم يقل لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه. ولم يقل على فراشه.
وقد يفسد النطق عند الكثير من الخطباء بفساد طريقة التنفس وجهلهم أصولها، وقد شرحنا هذا في القسم الثاني من الكتاب، أو لعله في اللسان أو الشفاه أو في الأسنان من نقص أو تكسر.
وخلاصة القول: أن التغلب على هذه العاهات لا يتعذر على الحكيم الصبور بالتمرين والحيلة، والانتباه الدقيق والتأني في تلفظ الحروف وما إليه.
الإنشاء الخطابي
1
للكتابة إنشاء خاص، وللكلام إنشاء آخر، ومن يجيد الواحد قد لا يجيد الثاني، بل ربما كان تناقض بين الاثنين، فإن السواد الأعظم من مشاهير الكتاب لم يكونوا خطباء، وبخلاف ذلك قلما تجد بين الخطباء من لا يعد كاتبا.
Неизвестная страница
وإذا كان الكاتب غير الخطيب، فليس ذلك فقط لأنه لا يعرف أن يتكلم كما يعرف أن يكتب، بل لأن كتابته لا توافق المنبر، فإن المكتوب ينال بالنظر ويذاق بالفكر، أما المقول فهو لا يصل إلى القلب إلا إذا مر في الأذن، وللأذن إحساس يجب إرضاؤه ونعومة يحاذر من تخديشها، والشعور الذي يثيره السمع ليس كالذي تولده القراءة، فضلا عن ذلك فإن عقلية الجمهور المحتشد في مكان عمومي تختلف عن عقلية الفرد المعتزل في غرفته.
إذن يوجد إنشاء للسمع كما يوجد إنشاء للقراءة، فما هي أصول هذا الإنشاء وقواعده؟
قال ابن المعتز والشيباني: إن البلاغة بثلاثة أمور؛ أن تغوص لحظة القلب في أعماق الفكر، وتتأمل بوجوه العواقب، وتجمع بين ما غاب وما حضر، ثم يعود القلب على ما أعمل به الفكر فيحكم سياق المعاني والأدلة، ويحسن تنضيدها ثم يبديه بألفاظ رشيقة مع تزيين معارضها واستكمال محاسنها.
هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها البلاغة هي ما يسميه الإفرنج في تقسيمهم بالاختراع أو الإيجاد والتنسيق والتعبير.
فالاختراع هو استنباط الوسائل
1
الخليقة بإقناع السامع وتحريك عواطفه.
والتنسيق هو تنظيم الخطبة وإحكام ربط أجزائها بعضها ببعض، وترتيبها ترتيبا جميلا بحيث تكون أبين غرضا وأحسن في النفوس وقعا.
2
والتعبير هو إفراغ المعنى في القالب الموافق، وإلباسه الحلة اللائقة به ليصل إلى قلب السامع من أقرب طريق وأسهل سبيل.
Неизвестная страница
ولكن هذا التقسيم يشمل الكاتب والخطيب معا، ولا يبدأ الفرق بين الاثنين إلا عند الركن الثالث؛ فإن تعبير الخطيب يتبع الذوق وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها والتكرار تارة والتسجيع طورا، وانتقاء الألفاظ الموسيقية الخفيفة على السمع المؤثرة فيه أثرا حسنا، والتحليق في سماء الخيال حينا، والنزوع إلى النكتة حينا آخر مع تطبيق ذلك على ما يضاف إليه مما يكمله كالإشارات والملامح والنظرات ونبرات الصوت وجاذبية الخطيب، وسائر ما يمكن الإنسان الحي أن يضيفه من الحياة إلى هذا الشيء الحي الذي يقال له خطابا.
وها نحن أولاء نبحث فيما يتعلق بهذا التعبير ويخلع على الإنشاء الخطابي مسحة خاصة جاعلين فصلا آخر لما نسميه مكملات الخطيب، فيرى القارئ بعد هذا الشرح صدق التعريف الذي وضعناه للبلاغة في أول الكتاب.
2
إن الكلمات التي تؤلف منها الجمل هي كحجارة الفسيفساء لها لونها الخاص وشكلها المحدود، ولكنها تمثل صورا مختلفة حسب تركيبها وتداخلها بعضا في بعض، فكما أنك قد تجعل من قطع الفسيفساء صورة تدل على القبح أو الحسن والألم أو اللذة وغير ذلك من الأضداد تبعا للطريق التي تؤلف بها بينها كذلك تستطيع - حسب اختيار الألفاظ وتركيبها - أن تمثل هذه العاطفة أو تلك تمثيلا كاملا أو ناقصا، ولا يتم لك الإتقان إلا إذا وقع اختيارك في موقعه وكان لك اللفظ الموافق والتعبير الصادق.
قال القلشقندي: إن الألفاظ من المعنى بمنزلة الثياب من الأبدان، فالوجه الصبيح يزداد حسنا بالحلل الفاخرة، والقبيح يزول عنه بعض القبح كما أن الحسن ينتقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحا إلى قبحه. وقد قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيها.
ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح.
ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين.
ومنها ما هو كالنقاب الرقيق يلقيه الشعر على بعض العواطف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها.
ومنها ما له وميض البرق.
Неизвестная страница