فالخطيب الذي يجمع إلى استعداده الذاتي وذكائه الفطري اضطلاعا واسعا، ويكون موفور الحظ من العلم واللغة ليستطيع التكلم في كل موضوع بسهولة ورشاقة وإقناع، كما يقول شيشرون، فهو المصقع البليغ الضارب على أوتار كل فؤاد.
لا بد إذن للخطيب من الدرس والمطالعة؛ لأن الحياة كما يشهدها ويقرؤها هي ميدان عمله، وليس فيها شيء لا يحتاج أن يسمعه أو يبحثه أو يعالجه؛ ولأن الروح - كما قال فولتر - نار إذا أنت لم تطعمها لتزيد وتقوى تناقصت وخبت.
لقد أتى على الإنسان مئات من السنين وهو يكتب ويخطب فما غادر الشعراء من متردم، ولم يبق فكرة لم تمر بخاطر ولم تجر على لسان، كما قال زهير:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
فلا يجب أن يكون هذا مدعاة إلى شعور القارئ بقصوره عن أن يأتي بأحسن أو بأكثر مما أتاه السلف، بل ليذكر أن كل جيل من الناس ينظر إلى الحياة نظرة خاصة به مستقلة عن نظرات غيره.
وهكذا تتجدد الحياة ومع الحياة يتجدد العمل، فإذا جاز لنا أن نقول ما ترك الأول للآخر شيئا فقد جاز لنا أن نقول أيضا: لقد ترك الأول للآخر كل شيء.
وللمطالعة شرائط لا بد من اتباعها إذا أردت أن تثمر وتنتج نتاجا مفيدا، وهي: أن تكون بتأن وترو لا إفراط ولا تفريط؛ فالذين يفترسون الكتب افتراسا - إن صح هذا التعبير - لا تلبث قوة الاختراع فيهم أن تضعف والبداهة أن تضيع، ولهذا لا تجد أدنى نسبة بين عدد الكتب التي يقرؤها الرجل ودرجة ثقافته، أما من يتخذ القراءة ضربا من التسلية ووسيلة لقتل الوقت فيقرأ كما يدخن متنقلا من كتاب إلى آخر دون ترتيب ولا نظام ولا غاية معينة فهو يستفيد القليل دون الكثير، ولا يحفظ مما يقرأ إلا بقدر ما تحفظ العين من الصور المتحركة التي تتعاقب أمامها.
كانت المطبوعات في القديم نادرة فكانوا يقرءون الكتاب الواحد مرارا ولا يملون الرجوع إليه كلما اقتضت الضرورة، وقد توالت أعصر والكتب المقدسة وحدها مرجع الخطباء المصاقع، يجدون فيها ما أرادوا من وحي وإلهام، ولا ريب أن الاكتفاء بمطالعة كتاب مفيد ومراجعته خير من تقليب كتب عديدة لم تتضح فائدتها بعد.
وعلى الجملة فالدرس والمطالعة أمران لا بد منهما لفارع المنبر، وقد قال الجاحظ: لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك العلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التبحر.
Неизвестная страница