فأولهم قيروش الذي لما مكنته عبقريته من تحرير مواطنيه الفرس أخضع إليه سادتهم الميديين، وحكم بقية آسيا إلى حدود مصر، ثم فتح ابنه مصر وسائر الأقطار الأفريقية التي استطاع أن يصل إليها، وثالثهم دارا قد بسط حدود مملكته ومدها إلى سيتيا بفتوحات جيشه البري، وأما أساطيله فجعلته سيد البحر والجزر، وإذ كان لا يجرؤ أحد على مقاومته قد ذلت له هامات الأمم، فكم من أمة قوية حربية ألقت عنانها إلى الفرس ودخلت تحت نير سلطانهم ...!
إذا استحضر الإنسان هذه الظروف في ذهنه أمكنه أن يقدر حقا البسالة التي أتاها يوم مرطون أولئك المقاتلون الذين صبروا على مهاجمة المتوحشين، وعاقبوا تبجح آسيا وكبرياءها، والذين أثبتوا للإغريق بما جاءوا به من الأنفال والغنائم أن قوة الفرس لا تستعصي على المقاومة، وأنه لا شيء من كثرة العدد ولا من سعة الثروة يقف أمام الشجاعة ... لذلك ينبغي أن يسند ثناء هذا النصر الأول إلى أولئك المقاتلين، وأما الثاني فثناؤه مسند إلى الظافرين في الوقائع البحرية بسلامين وأرطيميس. وقد ضرب أبطال مرطون مثلا للإغريق عامة أن فئة قليلة حرة تكفي لرد غارة جيوش المتوحشين البرية، مهما كانت لا تحصى عددا، ولكنه لم يكن ليثبت أن ذلك ممكن أيضا في البحر كما أمكن في البر حتى وقعت الواقعات البحرية فاستحق بها أولئك البحارة المهرة ما أحرزوا من المجد لتخليص الإغريق من الخوف الأكبر، ولأنهم صيروا الأساطيل الفارسية لا تزيد مهابة على الجنود الفارسية.
أما الواقعة الثالثة من وقائع الاستقلال الإغريقي من حيث الترتيب التاريخي ومن حيث شدة الإقدام فهي واقعة بلاتة، وهي أول واقعة اشترك فيها اللقدمونيون والآتينيون وباءوا بمجدها جميعا، وقد كان اللقاء فيها حرجا والخطر محيقا، فتغلبوا على كل شيء، ويا له من فصل يستأهل مدائحنا ومدائح قرون المستقبل!
إلى أي شيء في الإغريق نسبت إستاسيا هذه الشجاعة وهذا المجد؟ إلى علة واحدة، إلى الحرية التي كانت تتمتع بها آتينا، قالت: «ها أنتم هؤلاء ترون كيف أن أجداد هؤلاء المقاتلين وأجدادنا وهؤلاء المقاتلين أنفسهم الذين ولدوا بالطالع المسعود وربوا في مهد الحرية، قد أتوا هذه الفعال الجميلة العمومية والخصوصية لغرض واحد هو خدمة الإنسانية.»
39
وما كان هذا النشيد إلا أليق ما يكون بالأعمال التي يشدو بها، وحقيق بأسباسيا أن تمتدح آتينا وأبناءها. ولما قام مينكسين يشكر سقراط عند انصرافه لم يتمالك نفسه من أن يجهر بهذا القول: «وحق المشتري إن أسباسيا لسعيدة بأنها وهي امرأة تقدر على كتابة مثل هذه المقالات.»
ولا شك في أن هذا الشاب قد أصاب فيما قال، إلا أنه فاته أن هذه المرأة كانت من ملطية، وأن أجدادها، مع أنهم كانوا لا يزالون أضعف من الآتينيين، قد حاربوا الفرس غير مرة من قبل أن تتولى آتينا أمر قهرهم.
وأخيرا فإن أرسطو يشرك أفلاطون وبقراط في رأيهما، فإنه لما تكلم على الصفات المطلوبة في سكان المدينة في حكومة منظمة قال:
لكي يلم المرء بهذه الصفات ما عليه إلا أن يطرح نظره إلى أشهر المدائن الإغريقية وإلى بقية الأمم المختلفة التي تتقاسم سطح الأرض، ليرى أن الأمم التي تسكن الأقاليم الباردة حتى في أوروبا هي على العموم مملوءة بالشجاعة، ولكنهم على التحقيق أقل ذكاء في العقل ومهارة في الصناعة، وبهذه المثابة يحتفظون بحريتهم خير احتفاظ، ولكنهم من الجهة السياسية غير قابلين للنظام، ولم يستطيعوا مطلقا أن يقهروا جيرانهم. أما في آسيا فالأمر على ضد ذلك، فإن أممها أكثر ذكاء وقابلية للفنون، ولكنهم تنقصهم قوة القلب، ويصبرون على البقاء تحت نير العبودية المؤبدة.
أما الجنس الإغريقي الذي هو بموقعه الجغرافي وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فإنه يجمع صفات الطرفين ويجمع بين الذكاء والشجاعة، يعرف كيف يجمع بين حفظ الحرية وبين تأليف حكومات غاية في النظام، فهو جدير إذا توحدت كلمته في حكومة واحدة أن يفتح العالم.
Неизвестная страница