أريد بالمقارنة بين آسيا وأوروبا أن أبين كيف أن كلتيهما تخالف الأخرى في كل شيء، وأنه ليس بين الأمم التي تقطن كلتيهما أية مشابهة في البنية، وقد يكون من التزام ما لا يلزم تعديد جميع الفروق، بل أكتفي بأكثرها أهمية، وأشدها بروزا للعيان، لأعرض رأيي الذي ارتأيته في ذلك، فأقول: إن آسيا تختلف عن أوروبا اختلافا عظيما بطبيعة حاصلاتها جميعا، سواء فيها ما تخرج الأرض وما يخرج من ظهور الناس الذين يزرعونها، فكل ما يتولد في آسيا يفضل ما يتولد في أوروبا فضلا كبيرا في الجمال وفي بسطة الجسم؛ جوها أكثر اعتدالا، وأممها أدمث أخلاقا وأسهل قيادا، والعلة في ذلك هي التوازن التام بين الفصول ... فإن الماشية التي ترعى في أرض آسيا حسنة المنظر خصبة التكاثر إلى حد مدهش، وتربيتها ناجحة إلى الغاية.
وأما الناس فيها فنموهم عظيم يمتازون عن الأجناس الأخرى بجمال صورهم وفضل قامتهم، ولا يختلف بعضهم عن بعض في الرواء ولا في الصورة، ويمكن أن يقال: إن مثل هذه الجهة بينها وبين الربيع نسب يكاد يكون متصلا بالنظر لتأليف فصول السنة ولطف آثارها، ولكن لا شجاعة الرجولة ولا مصابرة المشاق ولا إجهاد النفس في العمل ولا شدة البأس؛ كل هذه الصفات لا تنمو في مثل هذه الطبيعة، سواء فيه الوطنيون والمستوطنون، بل إن حب الملاهي عندهم يتغلب على ما عداه من الميول الأخرى.
أما من جهة ضعة النفس وعدم الشجاعة فإن الآسيويين إذا كانوا أقل ميلا للحرب وأكثر سلاما في الطبع من الأوروبيين فعلة ذلك إنما هي على الخصوص في حال إقليمهم؛ حيث لا توجد تقلبات شديدة لا في الحر ولا في البرد، بل قليلا ما يشعر بتغير الجو، وحيث لا يعتري العقل صدمات ولا يعرو الجسم تغيرات، وتلك انفعالات من شأنها أن تكسب الخلق وحشة وتمزج به ميلا للجماح والعصيان أكثر مما تفعل الحال الجوية دائمة التماثل. ألا إنها التغيرات من النقيض إلى النقيض هي التي تنبه العقل الإنساني وتمنعه من أن ينام في ظلال السكون، تلك هي الأسباب التي يتعلق بها على ما يظهر لي ضعة نفوس الآسيويين.
ينبغي أن يضاف إلى ذلك حال النظامات، فإن جزء آسيا الأكبر خاضع للملوك، وحيثما كان الناس لا يملكون حرية أشخاصهم لا يعنيهم المرون باستعمال السلاح، بل يصرفون كل عنايتهم في أن يظهروا بمظهر العجزة غير الصالحين للخدمة العسكرية، ذلك بأن الخطر ليس مقسوما بينهم قسمة عادلة؛ إذ يسعى الرعايا إلى خوض غمار الحرب يذوقون فيها من المتاعب ألوانا يموتون فيها من أجل أسيادهم بعيدين عن أبنائهم وعن نسائهم وعن كل ما هو عزير عليهم.
وفي حين أن كل ما يأتونه من ضروب النشاط والبسالة إنما يجني أسيادهم ثمرته، يكبر به قدرهم وتشتد به عصيتهم، فإن أولئك المحاربين لا يجنون من وراء كل ذلك إلا الأخطار والهلاك، وفوق ذلك فإن هؤلاء الرعايا لا بد لهم من أن يروا في الغالب دخول الأعداء وانقطاع الأشغال سببا لجعل غيطانهم حصيدا جرزا. بهذه المثابة ترى الذين آتتهم الطبيعة في هذه الأمم قوة في القلب وميولا حسنة قد تمنعهم تلك النظامات السياسية من الانتفاع بها. وإن أكبر برهان على ما أقدم هو أن في آسيا جميع الأمم الإغريقية والمتوحشة المتحللة من نير السيادة والتي تضع قوانينها بنفسها لنفسها وتشتغل لحسابها هي أكثر الأمم الآسيوية ميلا إلى الحرب. ولما أنها كانت تتعرض لأخطار الحروب لحسابها الخاص فكانت تتمتع بثمرة شجاعتها أو تحتمل سوء نتائج جبنها، ليسوا كالآسيويين المحكومين بالملوك؛ فإن الشجاعة تفقد وجودها بالضرورة في قلوب الرجال الخاضعين لحكم الملوكية، نفوسهم مستعبدة فلا يكادون يهتمون بمعاناة الأخطار بمحض إرادتهم من أجل توسيع سلطان غيرهم، ولكن الأمر على ضد ذلك إذا كان الإنسان غير خاضع إلا إلى قوانينه الذاتية، وإذا كان يعرض نفسه للخطر من أجل منفعته الخاصة لا من أجل منفعة غيره. من هذا شأنه يقتحم المخاوف طائعا مختارا، ويلقي بنفسه بكل قلبه في جميع مهاوي المصادفات؛ لأنه سيجني لنفسه ثمرة انتصاره، من أجل ذلك كانت القوانين مساعدة عن سعة على تكوين الشجاعة.
تلك هي المقارنة العامة التي يمكن تقريرها بين أوروبا وآسيا في كل الأشياء.
37
ذكر أفلاطون في كتابه المينكسين حيث لا يريد سقراط على أن يكرر مقالات أسباسيا الشاعرة الملطية تمجيدا للإغريق الذين قهروا قبائل آسيا ما نصه:
لما جاء الفرس الذين هم سادة آسيا وحكامها يسعون لإذلال أوروبا، قابلهم آباؤنا أبناء هذه الأرض فقهروهم ودحروهم ، ولتقدير قيمة هذا العمل العظيم ينبغي أن ننتقل بالفكرة إلى العصر الذي كانت فيه آسيا كلها خاضعة إلى ملكها الثالث،
38
Неизвестная страница