بسم الله الرحمن الرحيم
زواهر نطق، يلوح أنوار ألطافه، من مطالع الكتب والصحائف.
وبواهر كلام، يفوح أزهار إعطافه، على صفحات العلوم والمعارف.
حمد الله، الذي جعل زلال الكمال قوت القلوب والأرواح.
وخص مزايا العرفان، بفرحة خلا عنها أفراح الراح.
وفضَّل الذوق الروحاني على الجسماني تفضيلا، لا يعرفه إلا من تضلع أو ذاق.
وأودع في كنه الفضل لطفا، لا يدركه إلا من تفضل وفاق.
والصلاة والسلام على الذي كمّل علوم الأولين والآخرين، بكتاب ناطق آياته، ببينات وحجج.
قرآنا عربيا غير ذي عوج.
صلى الله - تعالى - عليه، وعلى آله الأبرار، وصحبة الأخيار.
ما طلع شموس المعاني من وراء حجاب السطور والدفاتر.
وأنار أنوار المزايا من أشعة رشحات الأقلام والمحابر.
وبعد، فلما كان كشف دقائق العلوم، وتبين حقائقها، من أجل المواهب، وأعز المطالب، قيّض الله ﷾ في كل عصر علماء قاموا بأعباء ذلك الأمر العظيم، وكشفوا عن ساق الجد والاهتمام في التعليم والتفهيم، سيما الأئمة الأعلام من علماء الإسلام، الذين قال فيهم النبي - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) .
فإنهم سباق غايات، وأساطين روايات ودرايات.
فمنهم: من استنبط المسائل من الدلائل، فأصّل وفرَّع.
ومنهم: من جمع، وصنّف، فأبدع.
ومنهم: من هذّب، وحرّر، فأجاد، وحقّق المباحث فوق ما يراد، رحم الله أسلافهم، وأيد أخلافهم.
غير أن أسماء تدويناتهم، لم تدون بعد على: فصل وباب؛ ولم يرو فيه خبر كتاب؛ ولا شك أن تكحيل العيون بغبار أخبار آثارهم، على وجه الاستقصاء؛ لعمري إنه أجدى من تفاريق العضا؛ إذ العلوم والكتب كثيرة، والأعمار عزيزة قصيرة، والوقوف على تفاصيلها متعسر، بل متعذر، وإنما المطلوب: ضبط معاقدها،
1 / 1
والشعور بمقاصدها.
وقد ألهمني الله - تعالى - جمع أشتاتها، وفتح عليَّ أبواب أسبابها، فكتب ما رأيت في خلال تتبع المؤلفات، وتصفح كتب التواريخ والطبقات.
ولما تم تسويده في عنفوان الشباب، بتيسير الفياض الوهاب، أسقطته عن حيز الاعتداد، وأسبلت عليه رداء الإبعاد
غير أني كلما وجدت شيئا، ألحقته إلى أن جاء أجله المقدر في تبييضه، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
فشرعت فيه بسبب من الأسباب، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
ورتبته: على الحروف المعجمة: (كالمغرب)، و(الأساس)، حذرا عن التكرار والالتباس.
وراعيت في حروف الأسماء إلى الثالث والرابع ترتيبا؛ فكل ماله اسم ذكرته في محله، مع: مصنفه، وتاريخه، ومتعلقاته، ووصفه، تفصيلا وتبويبا؛ وربما أشرت إلى ما روي عن الفحول من الرد والقبول، وأوردت أيضا أسماء الشروح والحواشي، لدفع الشبهة ورفع الغواشي، مع التصريح بأنه شرح كتاب فلاني، وأنه سبق أو سيأتي في فصله؛ بناء على أن المتن أصل، والفرع أولى أن يذكر عقيب أصله.
وما لا اسم له، ذكرته باعتبار الإضافة إلى الفن، أو إلى مصنفه في باب التاء، والدال، والراء، والكاف، برعاية الترتيب في حروف المضاف إليه، (كتاريخ ابن الأثير)، و(تفسير ابن جرير)، و(ديوان المتنبي)، و(رسالة ابن زيدون)، و(كتاب سيبويه) .
وأوردت القصائد في: القاف، وشروح الأسماء الحسنى: في الشين؛ وما ذكرته من كتب الفروع، قيدته بمذهب مصنفه على اليقين؛ وما ليس بعربي قيدته بأنه: تركي، أو فارسي، أو مترجم، ليزول به الإبهام؛ أو أشرت إلى ما رأيته من الكتب، بذكر شيء من أوله للعلام؛ وهو أعين على تعيين المجهولات، ودفع الشبهة.
وقد كنت عينت بذلك كثيرا من الكتب المشتبهة؛ وأما أسماء العلوم: فذكرتها باعتبار المضاف إليه؛ فعلم الفقه مثلا في: الفاء، وما يليه كما نبهت عليه، مع سرد أسماء كتبه على الترتيب المعلوم، وتلخيص ما في كتب موضوعات العلوم: (كمفتاح السعادة)، و(رسالة: المولى لطفي الشهيد)، و(الفوائد الخاتمانية)، و(كتاب: شيخ الإسلام الحفيد) .
وربما ألحقت عليها علوما وفوائد، من أمثال تلك الكتب، بالعزو إليها.
وأوردت مباحث الفضلاء وتحريراتهم، بذكر ما لها، وما عليها؛ وسميته بعد أن أتمته - بعون الله وتوفيقه -: (كشف الظنون، عن أسامي الكتب والفنون) .
ورتبته: على مقدمة، وأبواب، وخاتمة.
وأهديته إلى معشر أكابر العلماء، وزمرة الفحول والفضلاء، وما قصدت بذلك سوى نفع الخلف، وإبقاء ذكر آثار السلف.
وقد ورد في الأثر، عن سيد البشر: (من ورخ مؤمنا، فكأنما أحياه) .
والله هو الميسر لكل عسير، نعم الميسر ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 / 2
المقدمة، في: أحوال العلوم؛ وفيها: أبواب، وفصول
الباب الأول: في تعريف العلم، وتقسيمه؛ وفيه: فصول
الفصل الأول: في ماهيته واعلم: أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق، هل هو ضروري أو نظري؟ يعسر تعريفه، أو نظري: غير عسير التعريف. والأول: مذهب الإمام الرازي. والثاني: رأي إمام الحرمين، والغزالي. والثالث: هو الراجح. وله: تعريفات. التعريف الأول: اعتقاد الشيء على ما هو به، وهو مدخول، لدخول التقليد المطابق للواقع فيه، فزيد قيد عن ضرورة أو دليل، لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق، وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل. الثاني: معرفة العلوم على ما هو به، وهو مدخول أيضا، لخروج علم الله - تعالى -، إذ لا يُسمى معرفة، ولذكر المعلوم، وهو مشتق من العلم، فيكون دورا. ولان معنى على ما هو به، هو معنى المعرفة، فيكون زائدا. الثالث: هو الذي يوجب كون من قام به عالما، وهو مدخول أيضا، لذكر العالم في تعريف العلم، وهو دور. الرابع: هو إدراك المعلوم على ما هو به، وهو مدخول أيضا، لما فيه من الدور والحشو، كما مر. ولان الإدراك مجاز عن العلم. الخامس: هو ما يصح ممن قام إتقان الفعل. وفيه: أنه يدخل القدرة، ويخرج علما، إذ لا مدخل له في صحة الإتقان، فإن أفعالنا ليست بإيجادنا. السادس: تبيين المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة المذكورة والدور، مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء، فيخرج عنه علم الله - تعالى -. السابع: إثبات المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة والدور. وأيضا: الإثبات قد يطلق على العلم تجوزا، فيلزم تعريف الشيء بنفسه. الثامن: الثقة بأن المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة والدور، مع أنه لزم كون الباري واثقا بما هو عالم به، وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا. التاسع: اعتقاد جازم مطابق لموجب، إما: ضرورة، أو دليل. وفيه: أنه يخرج عنه التصوير لعدم اندراجه في الاعتقاد، مع أنه علم. ويخرج علم الله - تعالى -، لأن الاعتقاد لا يطلق عليه، ولأنه ليس بضرورة أو دليل. وهذا التعريف: للفخر الرازي، عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا. العاشر: حصول صورة الشيء في العقل، وفيه: أنه يتناول الظن، والجهل المركب، والتقليد، والشك، والوهم. قال ابن صدر الدين: هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء، وبعض المتكلمين. الحادي عشر: تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك، وفيه: ما في العاشر؛ وهذان التعريفان للحكماء، مبنيان على الوجود الذهني، والعلم عندهم عبارة عنه. فالأول: يتناول إدراك الكليات والجزئيات. والثاني: ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات. الثاني عشر: هو صفة توجب لمحلها، تمييزا بين المعاني، لا يحتمل النقيض. وهو: الحد المختار عند المتكلمين، ألا أنه يخرج عنه العلوم العادية، كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى، لم ينقلب الآن ذهبا، فإنها تحتمل النقيض، لجواز خرق العادة، وأجيب عنه في محله. وقد يزاد قيد بين المعاني الكلية، وهذا مع الغنى عنه، يخرج العلم بالجزئيات. وهذا: هو المختار عند من يقول العلم صفة ذات تعلق بالعلوم. الثالث عشر: هو تمييز معنى عند النفس، تمييزا لا يحتمل النقيض. وهو: الحد المختار عند من يقول من المتكلمين أن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم. الرابع عشر: هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به. قال العلامة الشريف: وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم، ومعناه: أنه صفة يكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما، لا اشتباه فيه. والخامس عشر: حصول معنى في النفس، حصولا لا يتطرق عليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه. وهو: للآمدي، قال: ونعني بحصول المعنى في النفس: تميزه في النفس عما سواه، ويدخل فيه العلم بالإثبات، والنفي المفرد، والمركب؛ ويخرج عنه: الاعتقادات، إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه. انتهى.
الباب الأول: في تعريف العلم، وتقسيمه؛ وفيه: فصول
الفصل الأول: في ماهيته واعلم: أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق، هل هو ضروري أو نظري؟ يعسر تعريفه، أو نظري: غير عسير التعريف. والأول: مذهب الإمام الرازي. والثاني: رأي إمام الحرمين، والغزالي. والثالث: هو الراجح. وله: تعريفات. التعريف الأول: اعتقاد الشيء على ما هو به، وهو مدخول، لدخول التقليد المطابق للواقع فيه، فزيد قيد عن ضرورة أو دليل، لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق، وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل. الثاني: معرفة العلوم على ما هو به، وهو مدخول أيضا، لخروج علم الله - تعالى -، إذ لا يُسمى معرفة، ولذكر المعلوم، وهو مشتق من العلم، فيكون دورا. ولان معنى على ما هو به، هو معنى المعرفة، فيكون زائدا. الثالث: هو الذي يوجب كون من قام به عالما، وهو مدخول أيضا، لذكر العالم في تعريف العلم، وهو دور. الرابع: هو إدراك المعلوم على ما هو به، وهو مدخول أيضا، لما فيه من الدور والحشو، كما مر. ولان الإدراك مجاز عن العلم. الخامس: هو ما يصح ممن قام إتقان الفعل. وفيه: أنه يدخل القدرة، ويخرج علما، إذ لا مدخل له في صحة الإتقان، فإن أفعالنا ليست بإيجادنا. السادس: تبيين المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة المذكورة والدور، مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء، فيخرج عنه علم الله - تعالى -. السابع: إثبات المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة والدور. وأيضا: الإثبات قد يطلق على العلم تجوزا، فيلزم تعريف الشيء بنفسه. الثامن: الثقة بأن المعلوم على ما هو به، وفيه: الزيادة والدور، مع أنه لزم كون الباري واثقا بما هو عالم به، وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا. التاسع: اعتقاد جازم مطابق لموجب، إما: ضرورة، أو دليل. وفيه: أنه يخرج عنه التصوير لعدم اندراجه في الاعتقاد، مع أنه علم. ويخرج علم الله - تعالى -، لأن الاعتقاد لا يطلق عليه، ولأنه ليس بضرورة أو دليل. وهذا التعريف: للفخر الرازي، عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا. العاشر: حصول صورة الشيء في العقل، وفيه: أنه يتناول الظن، والجهل المركب، والتقليد، والشك، والوهم. قال ابن صدر الدين: هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء، وبعض المتكلمين. الحادي عشر: تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك، وفيه: ما في العاشر؛ وهذان التعريفان للحكماء، مبنيان على الوجود الذهني، والعلم عندهم عبارة عنه. فالأول: يتناول إدراك الكليات والجزئيات. والثاني: ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات. الثاني عشر: هو صفة توجب لمحلها، تمييزا بين المعاني، لا يحتمل النقيض. وهو: الحد المختار عند المتكلمين، ألا أنه يخرج عنه العلوم العادية، كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى، لم ينقلب الآن ذهبا، فإنها تحتمل النقيض، لجواز خرق العادة، وأجيب عنه في محله. وقد يزاد قيد بين المعاني الكلية، وهذا مع الغنى عنه، يخرج العلم بالجزئيات. وهذا: هو المختار عند من يقول العلم صفة ذات تعلق بالعلوم. الثالث عشر: هو تمييز معنى عند النفس، تمييزا لا يحتمل النقيض. وهو: الحد المختار عند من يقول من المتكلمين أن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم. الرابع عشر: هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به. قال العلامة الشريف: وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم، ومعناه: أنه صفة يكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما، لا اشتباه فيه. والخامس عشر: حصول معنى في النفس، حصولا لا يتطرق عليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه. وهو: للآمدي، قال: ونعني بحصول المعنى في النفس: تميزه في النفس عما سواه، ويدخل فيه العلم بالإثبات، والنفي المفرد، والمركب؛ ويخرج عنه: الاعتقادات، إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه. انتهى.
1 / 4
الفصل الثاني: فيما يتصل بماهية العلم من الاختلاف والأقوال
واعلم: أنه اختلف في أن العلم بالشيء هل يستلزم وجوده في الذهن، كما هو مذهب الفلاسفة وبعض المتكلمين، أو هو تعلق بين العالم والمعلوم في الذهن، كما ذهب إليه جمهور المتكلمين.
ثم إنه على الأول لا نزاع في أنا إذا علمنا شيئا، فقد تحقق أمور ثلاثة: صورة حاصلة في الذهن، وارتسام تلك الصورة فيه، وانفعال النفس عنها بالقبول.
فاختلف في أن العلم، أي: هذه الثلاثة، فذهب إلى كل منها طائفة، ولذلك اختلف في أن العلم هل هو من مقولة الكيف؟ أو الانفعال؟ أو الإضافة؟
والأصح: أنه من مقولة الكيف، على ما بين في محله.
ثم اعلم: أن القائلين بالوجود الذهني، منهم: من قال أن الحاصل في الذهن إنما هو شبح للمعلوم، وظل له، مخالف إياه بالماهية؛ غايته: أنه مبدأ لانكشافه، لكن دليل المبحث لو تم، لدل على أن للمعلوم نحوا آخر من الوجود، لا كشبحه المخالف له بالحقيقة.
ومنهم: من قال الحاصل في الذهن، هو نفس ماهية المعلوم، لكنها موجودة بوجود ظلي غير أصلي، وهي باعتبار هذا الوجود تُسمى: صورة، ولا يترتب عليها الآثار؛ كما أنها باعتبار الوجود الأصلي تُسمى: عينا، ويترتب عليها الآثار؛ فهذه الصورة إذا وجدت في الخارج، كانت عين العين، كما أن العين إذا وجدت في الذهن، كانت عين الصورة، أي: شبح قائم بنفس العلم، به ينكشف المعلوم، وهي: العلم؛ وذو صورة، أي: ماهية موجودة في الذهن، غير قائم به، وهي: المعلوم؛ وهما: متغايران بالذات.
فعلى رأي القائلين بالشبح: يكون العلم من مقولة الكيف بلا إشكال، مع كون المعلوم من مقولة الجوهر، أو مقولة أخرى، لاختلافهما بالماهية.
وأما على رأي القائلين بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن: ففي كونه منها إشكال، مع إشكال اتحاد الجوهر، والعرض بالماهية، وهما: متنافيان.
وأجاب عنه بعض المحققين: بأن العلم من كل مقولة من المقولات، وأن عدَّهم العلم مطلقا، من مقولة الكيف، إنما هو على سبيل التشبيه، ويرد على: أنه يصدق على هذا تعريف الكيف على العلم، فيكون كيفا.
وبعض المدققين: جوز تبدل الماهية، بأن يكون الشيء في الخارج جوهرا، فإذا وجد في الذهن، انقلب كيفا، كالمملحة التي ينقلب الحيوان الواقع فيها ملحا، وهو مبحث مشهور.
وستقف على ما فيه من الرسائل - إن شاء الله تعالى -.
1 / 5
الفصل الثالث: في العلم المدون، وموضوعه، ومباديه، ومسائله، وغايته
واعلم: أن لفظ العلم كما يطلق على ما ذكر، يطلق على ما يرادفه، وهو أسماء العلوم المدونة: كالنحو، والفقه، فيطلق كأسماء العلوم، تارة: على المسائل المخصوصة، كما يقال: فلان يعلم النحو، وتارة: على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها، وتارة: على الملكة الحاصلة من تكرار تلك التصديقات، أي: ملكة استحضارها، وقد يطلق الملكة: على التهيؤ التام، وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد.
والتحقيق: أن المعنى الحقيقي للفظ العلم، هو الإدراك؛ ولهذا المعنى متعلق هو: المعلوم، وله تابع في الحصول، يكون وسيلة إليه في البقاء هو: الملكة؛ فأطلق لفظ العلم على كل منها، إما: حقيقة عرفية، واصطلاحية، أو: مجازا مشهورا.
وقد يطلق على: مجموع المسائل، والمبادي التصورية، والمبادي التصديقية، والموضوعات.
ومن ذلك يقولون: أجزاء العلوم ثلاثة.
وقد يطلق أسماء العلوم: على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه، فإن فصل نفسه، كان حدا اسميا، وإن بين لازمه، كان رسما اسميا.
وأما: حده الحقيقي، فإنما هو بتصور مسائله، أو بتصور التصديقات بها.
وأما المبادي وآنية الموضوعات، فإنما عدت جزءا منها، لشدة احتياجها إليها، وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة:
البيان الأول: في بحث الموضوع واعلم: أن السعادة الإنسانية، لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء، وأحوالها بقدر الطاقة البشرية، وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة، تصدى الأوائل لضبطها، وتسهيل تعليمها، فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد، أو بأشياء متناسبة، ودوَّنوها على حدة، وعدُّوها علما واحدا، وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم، لأن موضوعات مسائله راجعة إليه. فموضوع العلم: ما ينحل إليه موضوعات مسائله، وهو المراد بقولهم في تعريفه: بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع: علما منفردا ممتازا بنفسه، عن طائفة متشاركة في موضوع آخر، فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها، وهو تمايز اعتبروه، مع جواز الامتياز بشيء آخر: كالغاية، والمحمول. وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم، وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم، وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه، ويفرد بالتعليم والتدوين، ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا، يفرد بالتدوين، وإن تشاركت من وجه آخر، ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى، فعلم أن حقيقة كل علم مدون: المسائل المتشاركة في موضوع واحد، وأن لكل علم موضوعا وغاية، كل منهما جهة وحدة، تضبط تلك المسائل المتكثرة، وتعد باعتبارها علما واحدا، إلا أن الأولى جهة وحدة، ذاتية الموضوع. فيقال في تعريف المنطق مثلا: علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات، وتارة باعتبار الغاية، فيقال في تعريفه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء واحد، أو بأشياء متناسبة، تناسبا معتدا به، إما في أمر ذاتي: كالخط، والسطح، والجسم التعليمي، المتشاركة في مطلق المقدار، الذي هو ذاتي لها لعلم الهندسة، أو في أمر عرضي: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية لعلم أصول الفقه، فتكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية، التي تلحق الماهية من حيث هي، لا بواسطة أمر أجنبي. وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها، فهي: إما راجعة إلى نفس الأمر، الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب: العدد إما زوج أو فرد؛ أو إلى: جزئي تحته، كقولنا: الثلاثة فرد، وكقولنا في الطبيعي: الصورة تفسد وتخلف بدلا عنه؛ أو إلى: عرض ذاتي له، كقولنا: المفرد إما أول، أو مركب؛ وإما العرض الغريب، وهو ما يلحق الماهية، بواسطة أمر عجيب، إما: خارج عنها، أعم منها أو أخص. فالعلوم لا تبحث عنه، فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن، أو المستقيم؛ ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده؛ لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه، وهو: المقدار؛ فإنهما يلحقان المقدار، لا لأنه مقدار، بل لوصف أعم منه، كوجوده أو، كعدم وجوده. وكذا الطبيب، لا ينظر في أن الجرح مستدير، أم غير مستدير، لأن الاستدارة لا تلحق الجسم، من حيث هو جريح، بل لأمر أعم منه، كما مر. وإذا قال الطبيب: هذه الجراحة مستديرة، والدوائر أوسع الأشكال، فيكون بطيء البرء، لم يكن ما ذكره من علمه. ثم اعلم: أن موضوع علم، يجوز أن يكون موضوع علم آخر، وأن يكون أخص منه، أو أعم، وأن يكون مباينا عنه، لكن يندرجان تحت أمر ثالث، وأن يكون مباينا له غير له مندرجين تحت ثالث، لكن يشتركان بوجه دون وجه، ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا، فهذه: ستة أقسام.
الأول: أن يكون موضوع علم عين موضوع آخر، فيشترط أن يكون كل منهما مقيدا بقيد، غير قيد الآخر، وذلك كأجرام العالم، فإنها من حيث الشكل: موضوع الهيئة، ومن حيث الطبيعة: موضوع لعلم السماء، والعالم الطبيعي، فافترقا بالحيثيتين. ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول، فلا بأس به، إذ يختلف بالبراهين، كقولهم بأن الأرض مستديرة، وهي وسط السماء في الصور والمعاني، لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة، غير البرهان من جهة الطبيعي.
الثاني، والثالث: أن يكون موضوع علم، أخص من علم آخر، أو أعم منه، فالعموم والخصوص بينهما، إما على وجه التحقيق، بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له، مثل كون العام جنسا للخاص، أو أمر عرضي. فالأول: كالمقدار والجسم التعليمي، فإن الجسم التعليمي أخص، والمقدار جنس له، وهو موضوع: الهندسة، والجسم التعليمي: موضوع المجسمات، وكموضوع الطب، وهو بدن الإنسان، فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي، وهو الجسم المطلق. والثاني: كالموجود والمقدار، فإن الموجود: موضوع العلم الإلهي، والمقدار: موضوع الهندسة، وهو أخص من الموجود، لا لأنه جنسه، بل لكونه عرضا عاما له.
الرابع: أن يكون الموضوعان متباينين، لكن يندرجان تحت أمر ثالث، كموضوع الهندسة والحساب، فإنهما داخلان تحت الكم، فيسميان متساويين.
الخامس: أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه، مثل موضوعي: الطب والأخلاق، فإن لموضوعيهما اشتراكا في القوى الإنسانية.
السادس: أن يكون بينهما تباين، كموضوع الحساب والطب، فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك، ولا مساواة. (تنبيه) اعلم أن الموضوع في علم، لا يطلب بالبرهان، لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية الموضوعة، والشيء لا يكون عرضا ذاتيا لنفسه، بل يكون إما بينا، أو مبرهنا عليه في علم آخر فوقه، بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضا ذاتيا لموضوعه، إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى، الذي موضوعه موجود، لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم، والتصديق بأهليته بوجه ما، فكون علم فوق علم أو تحته، مرجعه إلى ما ذكرنا، فافهم.
البيان الأول: في بحث الموضوع واعلم: أن السعادة الإنسانية، لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء، وأحوالها بقدر الطاقة البشرية، وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة، تصدى الأوائل لضبطها، وتسهيل تعليمها، فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد، أو بأشياء متناسبة، ودوَّنوها على حدة، وعدُّوها علما واحدا، وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم، لأن موضوعات مسائله راجعة إليه. فموضوع العلم: ما ينحل إليه موضوعات مسائله، وهو المراد بقولهم في تعريفه: بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع: علما منفردا ممتازا بنفسه، عن طائفة متشاركة في موضوع آخر، فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها، وهو تمايز اعتبروه، مع جواز الامتياز بشيء آخر: كالغاية، والمحمول. وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم، وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم، وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه، ويفرد بالتعليم والتدوين، ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا، يفرد بالتدوين، وإن تشاركت من وجه آخر، ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى، فعلم أن حقيقة كل علم مدون: المسائل المتشاركة في موضوع واحد، وأن لكل علم موضوعا وغاية، كل منهما جهة وحدة، تضبط تلك المسائل المتكثرة، وتعد باعتبارها علما واحدا، إلا أن الأولى جهة وحدة، ذاتية الموضوع. فيقال في تعريف المنطق مثلا: علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات، وتارة باعتبار الغاية، فيقال في تعريفه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء واحد، أو بأشياء متناسبة، تناسبا معتدا به، إما في أمر ذاتي: كالخط، والسطح، والجسم التعليمي، المتشاركة في مطلق المقدار، الذي هو ذاتي لها لعلم الهندسة، أو في أمر عرضي: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية لعلم أصول الفقه، فتكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية، التي تلحق الماهية من حيث هي، لا بواسطة أمر أجنبي. وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها، فهي: إما راجعة إلى نفس الأمر، الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب: العدد إما زوج أو فرد؛ أو إلى: جزئي تحته، كقولنا: الثلاثة فرد، وكقولنا في الطبيعي: الصورة تفسد وتخلف بدلا عنه؛ أو إلى: عرض ذاتي له، كقولنا: المفرد إما أول، أو مركب؛ وإما العرض الغريب، وهو ما يلحق الماهية، بواسطة أمر عجيب، إما: خارج عنها، أعم منها أو أخص. فالعلوم لا تبحث عنه، فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن، أو المستقيم؛ ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده؛ لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه، وهو: المقدار؛ فإنهما يلحقان المقدار، لا لأنه مقدار، بل لوصف أعم منه، كوجوده أو، كعدم وجوده. وكذا الطبيب، لا ينظر في أن الجرح مستدير، أم غير مستدير، لأن الاستدارة لا تلحق الجسم، من حيث هو جريح، بل لأمر أعم منه، كما مر. وإذا قال الطبيب: هذه الجراحة مستديرة، والدوائر أوسع الأشكال، فيكون بطيء البرء، لم يكن ما ذكره من علمه. ثم اعلم: أن موضوع علم، يجوز أن يكون موضوع علم آخر، وأن يكون أخص منه، أو أعم، وأن يكون مباينا عنه، لكن يندرجان تحت أمر ثالث، وأن يكون مباينا له غير له مندرجين تحت ثالث، لكن يشتركان بوجه دون وجه، ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا، فهذه: ستة أقسام.
الأول: أن يكون موضوع علم عين موضوع آخر، فيشترط أن يكون كل منهما مقيدا بقيد، غير قيد الآخر، وذلك كأجرام العالم، فإنها من حيث الشكل: موضوع الهيئة، ومن حيث الطبيعة: موضوع لعلم السماء، والعالم الطبيعي، فافترقا بالحيثيتين. ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول، فلا بأس به، إذ يختلف بالبراهين، كقولهم بأن الأرض مستديرة، وهي وسط السماء في الصور والمعاني، لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة، غير البرهان من جهة الطبيعي.
الثاني، والثالث: أن يكون موضوع علم، أخص من علم آخر، أو أعم منه، فالعموم والخصوص بينهما، إما على وجه التحقيق، بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له، مثل كون العام جنسا للخاص، أو أمر عرضي. فالأول: كالمقدار والجسم التعليمي، فإن الجسم التعليمي أخص، والمقدار جنس له، وهو موضوع: الهندسة، والجسم التعليمي: موضوع المجسمات، وكموضوع الطب، وهو بدن الإنسان، فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي، وهو الجسم المطلق. والثاني: كالموجود والمقدار، فإن الموجود: موضوع العلم الإلهي، والمقدار: موضوع الهندسة، وهو أخص من الموجود، لا لأنه جنسه، بل لكونه عرضا عاما له.
الرابع: أن يكون الموضوعان متباينين، لكن يندرجان تحت أمر ثالث، كموضوع الهندسة والحساب، فإنهما داخلان تحت الكم، فيسميان متساويين.
الخامس: أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه، مثل موضوعي: الطب والأخلاق، فإن لموضوعيهما اشتراكا في القوى الإنسانية.
السادس: أن يكون بينهما تباين، كموضوع الحساب والطب، فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك، ولا مساواة. (تنبيه) اعلم أن الموضوع في علم، لا يطلب بالبرهان، لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية الموضوعة، والشيء لا يكون عرضا ذاتيا لنفسه، بل يكون إما بينا، أو مبرهنا عليه في علم آخر فوقه، بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضا ذاتيا لموضوعه، إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى، الذي موضوعه موجود، لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم، والتصديق بأهليته بوجه ما، فكون علم فوق علم أو تحته، مرجعه إلى ما ذكرنا، فافهم.
1 / 8
البيان الثاني: في المبادي
وهي: المعلومات المستعملة في العلوم، لبناء مطالبها المكتسبة عليها، وهي إما: تصويرية، كحدود موضوعه، وحدود أجزائه، وجزئياته، ومحمولاته، إذ لا بد من تصور هذه الأمور بالحد المشهور، وإما: تصديقه، وهي القضايا المتألفة عنها قياساتها، وهي على قسمين:
الأول: أن تكون بينة بنفسها، وتسمى (المتعارفة)، وهي: إما مباد لكل علم، كقولنا: النفي والإثبات لا يجتمعان، ولا يرتفعان، أو لبعض العلوم، كقول إقليدس: إذا أخذ من المتساويين قدران متساويان، بقي الباقيان متساويين.
الثاني: أن تكون غير بينة بنفسها، لكن يجب تسليمها، ومن شأنها أن تبين في علم آخر، وهي مسائل بالنسبة إلى ذلك العلم الآخر، والتسليم: إن كان على سبيل حسن الظن بالعلم، تسمى: (أصولا موضوعة)، كقول الفقيه: هذا حرام بالإجماع، فكون الإجماع حجة من الأمور المسلمة في الفقه، لأنها من مسائل الأصول، وإن كان على استنكار، تسمى: (مصادرات من المصادرات)، ويجوز أن تكون المقدمة الواحدة عند شخص من المصادرات، وعند آخر من الأصول الموضوعة، وقد تسمى الحدود والمقدمات المسلمة: (أوضاعا)، وكل واحد منها: يكون مسائل في علم آخر فوقه إلى الأعلى، لكن يجوز أن يكون بعض مسائل العلم السافل موضوعا، وأصولا للعلم العالي، بشرط أن لا تكون مبينة بنفسها، أو بغيرها، من الأصول التي بنيت على تلك المسائل، بل بمقدمات بينة بنفسها، أو بغيرها من الأصول، ولا يلزم الدور، وأيضا لا يجوز أن يثبت شيء من المقدمات الغير البينة، من الأصول الموضوعة، والمصادرات، بالدليل: أن توقف عليها جميع مقاصد العلوم للدور، فإن توقف عليها بعض مقاصدها، فيمكن بيانها في ذلك العلم، والأول: يسمى: (المبادي العامة)، ككون النظر مفيدا للعين؛ والثاني: (المبادي الخاصة)، كإبطال الحسن والقبح العقليين.
البيان الثالث: في مسائل العلوم وهي: القضايا التي تطلب في كل علم نسبة محمولاتها بالدليل إلى موضوعاتها، وكل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد كما مر، فيكون المسائل موضوع العلم، أعني أهليته البسيطة وهي آنيتها. وموضوع المسألة قد يكون بنفسه موضوعا لذلك العلم، كقول النحوي: كل كلام مركب من: اسمين، أو اسم وفعل، فإن الكلام هو موضوع النحو أيضا. وقد يكون موضوع المسألة موضوع ذلك العلم، مع عرض ذاتي له، كقولنا في الهندسة: المقدار المباين لشيء، مباين لكل مقدار يشاركه، فالموضوع في المسألة: المقدار المباين، والمباين عرض ذاتي له. وقد يكون موضوع المسألة: نوع موضوع العلم، كقولنا في الصرف: الاسم: إما ثلاثي، وإما زائد على الثلاثي، فإن موضوع العلم: الكلمة، والاسم نوعه؛ وقد يكون موضوع المسألة: نوع موضوع مع عرض ذاتي له، كقولنا في الهندسة: كل خط مستقيم، وقع على مستقيم، فالزاويتان الحادثتان: إما قائمتان، أو معادلتان لهما، فالخط: نوع للمقدار، والمستقيم: عرض ذاتي له؛ وقد يكون موضوع المسألة: عرضا ذاتيا لموضوع العلم، كقولنا في الهندسة: كل مثلث، زواياه مساوية لقائمتين، فالمثلث من الأعراض الذاتية للمقدار.
البيان الثالث: في مسائل العلوم وهي: القضايا التي تطلب في كل علم نسبة محمولاتها بالدليل إلى موضوعاتها، وكل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد كما مر، فيكون المسائل موضوع العلم، أعني أهليته البسيطة وهي آنيتها. وموضوع المسألة قد يكون بنفسه موضوعا لذلك العلم، كقول النحوي: كل كلام مركب من: اسمين، أو اسم وفعل، فإن الكلام هو موضوع النحو أيضا. وقد يكون موضوع المسألة موضوع ذلك العلم، مع عرض ذاتي له، كقولنا في الهندسة: المقدار المباين لشيء، مباين لكل مقدار يشاركه، فالموضوع في المسألة: المقدار المباين، والمباين عرض ذاتي له. وقد يكون موضوع المسألة: نوع موضوع العلم، كقولنا في الصرف: الاسم: إما ثلاثي، وإما زائد على الثلاثي، فإن موضوع العلم: الكلمة، والاسم نوعه؛ وقد يكون موضوع المسألة: نوع موضوع مع عرض ذاتي له، كقولنا في الهندسة: كل خط مستقيم، وقع على مستقيم، فالزاويتان الحادثتان: إما قائمتان، أو معادلتان لهما، فالخط: نوع للمقدار، والمستقيم: عرض ذاتي له؛ وقد يكون موضوع المسألة: عرضا ذاتيا لموضوع العلم، كقولنا في الهندسة: كل مثلث، زواياه مساوية لقائمتين، فالمثلث من الأعراض الذاتية للمقدار.
1 / 9
خاتمة الفصل: في غاية العلوم
واعلم: أنه إذا ترتب على فعل أثر، فذلك الأثر من حيث أنه نتيجة لذلك الفعل.
وثمرته: يسمى: (فائدة)، ومن حيث أنه على طرف الفعل.
ونهايته يسمى: (غاية)، ففائدة الفعل وغايته: متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار.
ثم ذلك الأثر المسمى بهذين الأمرين، إن كان سببا لإقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى بالقياس إلى الفاعل: غرضا ومقصودا، ويسمى بالقياس إلى فعله: علة غائية؛ والغرض والعلة الغائية: متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار، وإن لم يكن سببا للإقدام كان فائدة وغاية فقط.
فالغاية: أعم من: العلة الغائية، كذا أفاده العلامة الشريف، فظهر أن غاية العلم: ما يطلب ذلك العلم لأجله، ثم إن غاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها، لأنها في حد ذاتها مقصود بذواتها، وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخر، والتغاير الاعتباري كاف فيه، فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه، أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي، ولا محذور فيه.
وأما غاية العلوم الآلية: فهو حصول العمل، سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات، أو لأمر آخر، يكون غاية أخيرة لتلك العلوم.
1 / 10
الفصل الرابع: في تقسيم العلوم، بتقسيمات معتبرة، وبيان أقسامها إجمالا
اعلم: أن العلم وإن كان معنى واحدا، وحقيقة واحدة، إلا أنه ينقسم إلى أقسام كثيرة من جهات مختلفة.
فينقسم من جهة: إلى قديم ومحدث.
ومن جهة: متعلقة إلى تصور وتصديق.
ومن جهة طرقه: إلى ثلاثة أقسام.
قسم: يثبت في النفس.
وقسم: يدرك بالحس.
وقسم: يعلم بالقياس.
وينقسم من جهة اختلاف موضوعاته: إلى أقسام كثيرة.
يسمى بعضها: (علوما) .
وبعضها: (صنائع) .
وقد أوردنا ما ذكره أصحاب الموضوعات في حصر أقسامها.
التقسيم الأول للعلامة الحفيد. وهو: أن العلوم المدونة على: نوعين. الأول: ما دونه المتشرعة، لبيان ألفاظ القرآن، أو السنة النبوية، لفظا وإسنادا، أو لإظهار ما قصد القرآن من التفسير والتأويل، أو لإثبات ما يستفاد منهما، أعني: الأحكام الأصلية الاعتقادية، أو الأحكام الفرعية العملية، أو تعيين ما يتوصل به من الأصول في استنباط تلك الفروع، أما ما دُوِّن لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة، أعني: الفنون الأدبية. النوع الثاني: ما دوَّنه الفلاسفة لتحقيق الأشياء كما هي، وكيفية العمل على وفق عقولهم. انتهى. وذكر في علوم المتشرعة: علم القراءة، وعلم الحديث، وعلم أصوله، وعلم التفسير، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصوله، وعلم الأدب. وقال: هذا هو المشهور عند الجمهور، ولكن للخواص من الصوفية علم، يسمى: (بعلم التصوف) . بقي: علم المناظرة، وعلم الخلاف والجدل، لم يظهر إدراجها في علوم المتشرعة، ولا في علوم الفلاسفة. لا يقال الظاهر أن الخلاف والجدل، باب من أبواب المناظرة، تسمى باسم كالفرائض، بالنسبة إلى الفقه. لأنا نقول الغرض في المناظرة: إظهار الصواب، والغرض من الجدل والخلاف: الإلزام، ثم إن المتشرعة صنفوا في الخلاف، وبنوا عليه مسائل الفقه، ولم يعلم تدوين الحكماء فيه، فالمناسب عدُّه من الشرعيات، والحكماء: بنوا مباحثهم على المناظرة فيما بينهم. انتهى.
التقسيم الثاني ما ذكره في (الفوائد الخاقانية) اعلم أن هاهنا تقسيمين مشهورين: أحدهما: أن العلوم: إما نظرية: أي غير متعلقة بكيفية عمل، وإما عملية: أي متعلقة بها. وثانيهما: أن العلوم: إما أن لا تكون في نفسها ة آلة لتحصيل شيء آخر، بل كانت مقصودة بذواتها، وتسمى: (غير آلية) . وإما أن تكون آلة له، غير مقصودة في نفسها، وتسمى: (آلية) . ومؤداها واحد، فأما ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره، فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي، وكذا ما لا يكون آلة له، كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل، وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره، فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد. ثم إن النظري والعملي، يستعملان في معان ثلاثة: أحدهما: في تقسيم مطلق العلوم كما ذكرنا. فالمنطق، والحكمة العملية، والطب العملي، وعلم الخياطة، كلها: داخلة في العملي المذكور، لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل، إما ذهني: كالمنطق، أو: خارجي: كالطب، مثلا. وثانيها: في تقسيم الحكمة، فإنهم بعد ما عرفوا الحكمة: بأنه علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر، بقدر الطاقة البشرية، قالوا: تلك الأعيان، أما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أو لا، فالعلم بأحوال الأول: من حيث يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، يسمى: (حكمة عملية) . والعلم بأحوال الثاني: يسمى: (حكمة نظرية) . وثالثها: ما ذكر في تقسيم الصناعة، أي: العلم المتعلق بكيفية العمل من أنها إما: عملية، أي: يتوقف حصولها على ممارسة العمل، أو نظرية: لا يتوقف حصولها عليها، فالفقه والنحو، والمنطق، والحكمة العملية، والطب العملي، خارجة عن العملية بهذا المعنى، إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال، بخلاف: علم الخياطة، والحياكة، والحجامة، لتوقفها على الممارسة والمزاولة.
التقسيم الأول للعلامة الحفيد. وهو: أن العلوم المدونة على: نوعين. الأول: ما دونه المتشرعة، لبيان ألفاظ القرآن، أو السنة النبوية، لفظا وإسنادا، أو لإظهار ما قصد القرآن من التفسير والتأويل، أو لإثبات ما يستفاد منهما، أعني: الأحكام الأصلية الاعتقادية، أو الأحكام الفرعية العملية، أو تعيين ما يتوصل به من الأصول في استنباط تلك الفروع، أما ما دُوِّن لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة، أعني: الفنون الأدبية. النوع الثاني: ما دوَّنه الفلاسفة لتحقيق الأشياء كما هي، وكيفية العمل على وفق عقولهم. انتهى. وذكر في علوم المتشرعة: علم القراءة، وعلم الحديث، وعلم أصوله، وعلم التفسير، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصوله، وعلم الأدب. وقال: هذا هو المشهور عند الجمهور، ولكن للخواص من الصوفية علم، يسمى: (بعلم التصوف) . بقي: علم المناظرة، وعلم الخلاف والجدل، لم يظهر إدراجها في علوم المتشرعة، ولا في علوم الفلاسفة. لا يقال الظاهر أن الخلاف والجدل، باب من أبواب المناظرة، تسمى باسم كالفرائض، بالنسبة إلى الفقه. لأنا نقول الغرض في المناظرة: إظهار الصواب، والغرض من الجدل والخلاف: الإلزام، ثم إن المتشرعة صنفوا في الخلاف، وبنوا عليه مسائل الفقه، ولم يعلم تدوين الحكماء فيه، فالمناسب عدُّه من الشرعيات، والحكماء: بنوا مباحثهم على المناظرة فيما بينهم. انتهى.
التقسيم الثاني ما ذكره في (الفوائد الخاقانية) اعلم أن هاهنا تقسيمين مشهورين: أحدهما: أن العلوم: إما نظرية: أي غير متعلقة بكيفية عمل، وإما عملية: أي متعلقة بها. وثانيهما: أن العلوم: إما أن لا تكون في نفسها ة آلة لتحصيل شيء آخر، بل كانت مقصودة بذواتها، وتسمى: (غير آلية) . وإما أن تكون آلة له، غير مقصودة في نفسها، وتسمى: (آلية) . ومؤداها واحد، فأما ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره، فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي، وكذا ما لا يكون آلة له، كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل، وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره، فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد. ثم إن النظري والعملي، يستعملان في معان ثلاثة: أحدهما: في تقسيم مطلق العلوم كما ذكرنا. فالمنطق، والحكمة العملية، والطب العملي، وعلم الخياطة، كلها: داخلة في العملي المذكور، لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل، إما ذهني: كالمنطق، أو: خارجي: كالطب، مثلا. وثانيها: في تقسيم الحكمة، فإنهم بعد ما عرفوا الحكمة: بأنه علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر، بقدر الطاقة البشرية، قالوا: تلك الأعيان، أما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أو لا، فالعلم بأحوال الأول: من حيث يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، يسمى: (حكمة عملية) . والعلم بأحوال الثاني: يسمى: (حكمة نظرية) . وثالثها: ما ذكر في تقسيم الصناعة، أي: العلم المتعلق بكيفية العمل من أنها إما: عملية، أي: يتوقف حصولها على ممارسة العمل، أو نظرية: لا يتوقف حصولها عليها، فالفقه والنحو، والمنطق، والحكمة العملية، والطب العملي، خارجة عن العملية بهذا المعنى، إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال، بخلاف: علم الخياطة، والحياكة، والحجامة، لتوقفها على الممارسة والمزاولة.
1 / 11
التقسيم الثالث
وهو: مذكور فيه أيضا.
اعلم: أن العلم ينقسم إلى: حكمي، وغير حكمي، والأخير: ينقسم إلى ديني، وغير ديني، والديني إلى: محمود، ومذموم، ومباح.
ووجه الضبط: أنه إما أن لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمان، ولا يتبدل بتبديل الدول والأديان، كالعلم بهيئة الأفلاك أو لا.
فالأول: العلوم الحكمية، ويقال له: (العلوم الحقيقة) أيضا، أي الثابتة على مر الدهور والأعوام.
والثاني: إما أن يكون منتميا إلى الوحي، ومستفادا من الأنبياء ﵈، من غير أن يتوقف إلى تجربة، وسماع، وغيرهما، أو لا.
فالأول: العلوم الدينية، ويقال لها: الشرعية أيضا.
والثاني: العلوم الغير الدينية، كالطب: لكونه ضروريا في بقاء الأبدان، والحساب: لكونه ضروريا في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث، وغيرها فمحمودة، وإلا فإن لم يكن له عاقبة حميدة فمذموم، كعلم: السحر، والطلسمات، والشعبذة، والتلبيسات، وإلا فمباح، كعلم: الأشعار التي لا سخف فيها، وكتواريخ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وما يجري مجراها.
وهذا التفاوت بالنسبة إلى الغايات، وإلا فالعلم من حيث أنه علم فضيلة لا تنكر ولا تذم، فالعلم بكل شيء أولى من جهله، فإياك أن تكون من الجاهلين.
1 / 12
التقسيم الرابع
ما ذكره صاحب (شفاء المتألم)، وهو أن كل علم إما أن يكون مقصودا لذاته، أو لا.
والأول: العلوم الحكمية، وهي: إما أن تكون مما يعلم لتعتقد، فالحكمة النظرية، أو: مما يعلم ليعمل بها، فالحكمة العملية.
والأول: ينقسم إلى أعلى، وهو: العلم الإلهي، وأدنى: وهو الطبيعي، وأوسط: وهو الرياضي. لأن النظر إما في أمور مجردة عن المادة، أو في أمور مادية في الذهن، والخارج: فهو الطبيعي، أو في أمور يصح تجردها عن المواد في الذهن فقط، فهو: الرياضي، وهو أربعة أقسام، لأن نظر الرياضي إما أن يكون فيما يمكن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقى على حد مشترك بينهما أو لا.
وكل منهما إما قار الذات أو لا.
والأول: الهندسة، والثاني: الهيئة، والثالث: العدد، والرابع: الموسيقا.
والحكمة العملية قسمان: علم السياسة، وعلم الأخلاق، لأن النظر إما مختص بحال الإنسان أو لا.
الثاني: هو الأول، وأيضا النظر إما في إصلاح كافة الخلق في أمور المعاش والمعاد، فذلك يرجع إلى علم الشريعة، وعلومها معلومة، وإما من حيث اجتماع الكلمة الإجماعية، وقيام أمر الخلق، فهو الأحكام السلطانية، أي: السياسة، فإن اختص بجماعة معينة، فهو تدبير المنزل.
والثاني: وهو ما لا يكون مقصودا لذاته، بل آلة يطلب بها العصمة من الخطأ في غيرها، فهو: إما ما تطلب عن الخطأ فيه من المعاني، أو ما يتوصل به إلى إدراكها من لفظ، أو كتابة.
والأول: علم المنطق.
والثاني: علم الأدب، وهو ما يبحث فيه عن الدلالات اللسانية، أو الدلالات البنانية، فالثاني: علم الخط، والأول: يختص بالدلالات الإفرادية، أو التركيبية، أو يكون مشتركا بينهما، والأول: إن كان البحث فيه عن المفردات، فهو: علم اللغة، وإن كان البحث فيه عنها من صيغها، فعلم الصرف.
والثاني: إما أن يختص بالموزون أو لا.
والأول: إن اختص بمقاطع الأبيات، فعلم القافية، وإلا فالعروض.
والثاني: إن كانت العصمة به عن الخطأ في تأدية أصل المعنى، فهو: النحو، وإلا فهو: علم البلاغة.
والثالث: علم الفصاحة.
ثم علم البلاغة: إن كان ما يطلب به العصمة عن الخطأ في تطبيق الكلام، لمقتضى الحال، فعلم المعاني؛ وإن كان في أنواع الدلالة، ومعرفة كونها خفية وجلية، فعلم البيان.
وأما علم الفصاحة: فإن اختص بالعصمة عن الخطأ في تركيب المفردات، من حيث التحسين، فعلم البديع.
1 / 13
التقسيم الخامس
ما ذكره صاحب (مفتاح السعادة)، وهو أحسن من الجميع حيث قال: اعلم: أن للأشياء وجودا في أربع مراتب في، الكتابة، والعبارة، والأذهان والأعيان، وكل سابق منها وسيلة إلى اللاحق، لأن الخط دال على الألفاظ، وهذه على ما في الأذهان، وهذا على من في الأعيان، والوجود العيني: هو الوجود الحقيقي الأصيل، وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي، أو مجازي.
وأما الأولان: فمجازيان قطعا.
ثم العلم المتعلق بالأعيان: فإما عملي: لا يقصد به حصول نفسه، بل غيره أو: نظري: يقصد به حصول نفسه.
ثم إن كلا منهما: إما أن يبحث فيه من حيث أنه مأخوذ من الشرع، فهو: العلم الشرعي، أو: من حيث أنه مقتضى العقل فقط، فهو: العلم الحكمي.
فهذه: هي الأصول السبعة.
ولكل منها: أنواع، ولأنواعها فروع، يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص، والتنقير عنه، بحسب موضوعاته وأساميه، وتتبع ما فيه من المصنفات إلى: مائة وخمسين نوعا.
ولعلي سأزيد بعد هذا. انتهى.
فرتب كتابه على: سبع دوحات، لكل أصل: دوحة، وجعل لكل دوحة: شعبا لبيان الفروع.
فما أورده في الأولى من العلوم الخطية: علم أدوات الخط، ثم علم قوانين الكتابة، علم تحسين الحروف، علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها، علم ترتيب حروف التهجي، علم تركيب أشكال بسائط الحروف، علم إملاء الخط العربي، علم خط المصحف، علم خط العروض.
وذكر في الثانية: العلوم المتعلقة بالألفاظ، وهي: علم مخارج الحروف، علم اللغة، علم الوضع، علم الاشتقاق، علم التصريف، علم النحو، علم المعاني، علم البيان، علم البديع، علم العروض، علم القوافي، علم قرض الشعر، علم مبادي الشعر، علم الإنشاء، علم مبادي الإنشا وأدواته، علم المحاضرة، علم الدواوين، علم التواريخ.
وجعل من فروع العلوم العربية: علم الأمثال، وعلم وقايع الأمم ورسمهم، علم استعمالات الألفاظ، علم الترسل، علم الشروط والسجلات، علم الأحاجي والأغلوطات، علم الألغاز، علم المعمى، علم التصحيف، علم المقلوب، علم الجناس، علم مسامرة الملوك، علم حكايات الصالحين، علم أخبار الأنبياء ﵈، علم المغازي والسير، علم تاريخ الخلفاء، علم طبقات القراء، علم طبقات المفسرين، علم طبقات المحدثين، علم سير الصحابة، علم طبقات الشافعية، علم طبقات الحنفية، علم طبقات المالكية، علم طبقات الحنابلة، علم طبقات النحاة، علم طبقات الأطباء.
وذكر في الثالثة: العلوم الباحثة عما في الأذهان من المعقولات الثانية، وهي: علم المنطق، علم آداب الدرس، علم النظر، علم الجدل، علم الخلاف.
وذكر في الرابعة: العلوم المتعلقة بالأعيان، وهي: العلم الإلهي، والعلم الطبيعي، والعلوم الرياضية، وهي أربعة: علم العدد، علم الهندسة، علم الهيئة، علم الموسيقى.
وجعل من فروع العلم الإلهي: علم معرفة النفس الإنسانية، علم معرفة النفس الملكية، علم معرفة المعاد، علم أمارات النبوة، علم مقالات الفرق.
وجعل من فروع العلم الطبيعي: علم الطب، علم البيطرة، علم البيزرة، علم النبات، علم الحيوان، علم الفلاحة، علم المعادن، علم الجواهر، علم الكون والفساد، علم قوس قزح، علم الفراسة، علم تعبير الرؤيا، علم أحكام (١/ ١٥) النجوم، علم السحر، علم الطلسمات، علم السيميا، علم الكيميا.
وجعل من فروع الطب: علم التشريح، علم الكحالة، علم الأطعمة، علم الصيدلة، علم طبخ الأشربة والمعاجين، علم قلع الآثار من الثياب، علم تركيب أنواع المداد، علم الجراحة، علم الفصد، علم الحجامة، علم المقادير والأوزان، علم الباه.
وجعل من فروع الفراسة: علم الشامات والخيلان، علم الأسارير، علم الأكتاف، علم عيافة الأثر، علم قيافة البشر، علم الاهتداء بالبراري والأقفار، علم الريافة، علم الاستنباط، علم نزول الغيث، علم العرافة، علم الاختلاج.
وجعل من فروع علم أحكام النجوم: علم الاختيارات، علم الرمل، علم الفال، علم القرعة، علم الطيرة.
وجعل من فروع السحر: علم الكهانة، علم النيرنجات، علم الخواص، علم الرُّقى، علم العزائم، علم الاستحضار، علم دعوة الكواكب، علم الفلقطيرات، علم الخفاء، علم الحيل الساسانية، علم كشف الدك، علم الشعبذة، علم تعلق القلب، علم الاستعانة بخواص الأدوية.
وجعل من فروع الهندسة: علم عقود الأبنية، علم المناظر، علم المرايا المحرقة، علم مراكز الأثقال، علم جر الأثقال، علم المساحة، علم استنباط المياه، علم الآلات الحربية، علم الرمي، علم التعديل، علم البنكامات، علم الملاحة، علم السباحة، علم الأوزان والموازين، علم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء.
وجعل من فروع الهيئة: علم الزيجات والتقويم، علم حساب النجوم، علم كتاب التقاويم، علم كيفية الأرصاد، علم الآلات الرصدية، علم المواقيت، علم الآلات الظلية، علم الأكر، علم الأكر المتحركة، علم تسطيح الكرة، علم صورة الكواكب، علم مقادير العلويات، علم منازل القمر، علم جغرافيا، علم مسالك البلدان، علم البرد ومسافاتها، علم خواص الأقاليم، علم الأدوار والأكوار، علم القرانات، علم الملاحم، علم المواسم، علم مواقيت الصلاة، علم وضع الأسطرلاب، علم عمل الأسطرلاب، علم وضع الربع المجيب والمقنطرات، علم عمل ربع الدائرة، علم آلات الساعة.
وجعل من فروع علم العدد: علم حساب التخت والميل، علم الجبر والمقابلة، علم حساب الخطائين، علم حساب الدور والوصايا، علم حساب الدراهم والدنانير، علم حساب الفرائض، علم حساب الهواء، علم حساب العقود بالأصابع، علم أعداد الوفق، علم خواص الأعداد، علم التعابي العددية.
وجعل من فروع الموسيقى: علم الآلات العجيبة، علم الرقص، علم الغنج.
وذكر في الخامسة: العلوم الحكمية العملية، وهي: علم الأخلاق، علم تدبير المنزل، علم السياسة.
وجعل من فروع الحكمة العملية: علم آداب الملوك، علم آداب الوزارة، علم الاحتساب، علم قود العساكر والجيوش.
وذكر في السادسة: العلوم الشرعية، وهي: علم القراءة، علم تفسير القرآن، علم رواية الحديث، علم دراية الحديث، علم أصول الدين، المسمى: (بالكلام)، علم أصول الفقه، علم الفقه.
وجعل من فروع القراءة: علم الشواذ، علم مخارج الحروف، علم مخارج الألفاظ، علم الوقوف على علل القراءات، علم رسم كتابة القرآن، علم آداب كتابة المصحف.
وجعل من فروع الحديث: علم شرح الحديث، علم أسباب ورود الحديث وأزمنته، علم ناسخ الحديث ومنسوخه، علم تأويل أقوال النبي ﵊، علم رموز (١/ ١٦) الحديث وإشاراته، علم غرائب لغات الحديث، علم دفع الطعن عن الحديث، علم تلفيق الأحاديث، علم أحوال رواة الأحاديث، علم طب النبي ﵊.
وجعل من فروع التفسير: علم المكي والمدني، علم
الحضري والسفري، علم النهاري والليل، علم الصيفي والشتائي، علم الفراشي والنومى، علم الأرضي والسمائي، علم أول ما نزل وآخر ما نزل، علم سبب النزول، علم ما نزل على لسان بعض الصحابة ﵃، علم ما تكرر نزوله، علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه، علم ما نزل مفرقا وما نزل جمعا، علم ما نزل مشيعا وما نزل مفردا، علم ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل، علم كيفية إنزال القرآن، علم أسماء القرآن وأسماء سوره، علم جمعه وترتيبه، علم عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه، علم حفاظه ورواته، علم العالي والنازل من أسانيده، علم المتواتر والمشهور، علم بيان الموصول لفظا والمفصول معنى، علم الإمالة والفتح، علم الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب، علم المد والقصر، علم تخفيف الهمزة، علم كيفية تحمل القرآن، علم آداب تلاوته وتاليه، علم جواز الاقتباس، علم غريب القرآن، علم ما وقع فيه بغير لغة الحجاز، علم ما وقع فيه من غير لغة العرب، علم الوجوه والنظائر، علم معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسر، علم المحكم والمتشابه، علم مقدم القرآن ومؤخره، علم عام القرآن وخاصه، علم ناسخ القرآن ومنسوخه، علم مشكل القرآن، علم مطلق القرآن ومقيده، علم منطوق القرآن ومفهومه، علم وجوه مخاطباته، علم حقيقة ألفاظ القرآن ومجازها، علم تشبيه القرآن واستعاراته، علم كنايات القرآن وتعريضاته، علم الحصر والاختصاص، علم الإيجاز والإطناب، علم الخبر والإنشاء، علم بدائع القرآن، علم فواصل الآي، علم خواتم السورة، علم مناسبة الآيات والسور، علم الآيات المتشابهات، علم إعجاز القرآن، علم العلوم المستنبطة من القرآن، علم أقسام القرآن، علم جدل القرآن، علم ما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب، علم مبهمات القرآن، علم فضائل القرآن، علم أفضل القرآن وفاضله، علم مفردات القرآن، علم خواص القرآن، علم مرسوم الخط وآداب كتابته، علم تفسيره وتأويله وبيان شرفه، علم شروط المفسر وآدابه، علم غرائب التفسير، علم طبقات المفسرين، علم خواص الحروف، علم الخواص الروحانية من الأوفاق، علم التصريف بالحروف والأسماء، علم الحروف النورانية والظلمانية، علم التصرف بالاسم الأعظم، علم الكسر والبسط، علم الزايرجه، علم الجفر والجامعة، علم دفع مطاعن القرآن.
وجعل من فروع الحديث: علم المواعظ، علم الأدعية، علم الآثار، علم الزهد والورع، علم صلاة الحاجات، علم المغازي.
وجعل من فروع أصول الفقه: علم النظر، علم المناظرة، علم الجدل.
وجعل من فروع الفقه: علم الفرائض، علم الشروط والسجلات، علم القضاء، علم حكم الشرايع، علم الفتاوى.
فيكون جميع ما ذكره من العلوم المتعلقة بطريق النظر: ثلاثمائة وخمسة علوم.
ثم إنه جعل الطرف الثاني من كتابه في: بيان العلوم المتعلقة بالتصفية، التي هي ثمرة العمل بالعلم، فلخص فيه كتاب: (الإحياء) للإمام الغزالي، ولم (١/ ١٧) يذكر علم التصوف.
فلله دره في الغوص على بحار العلوم، وإبراز دررها.
فإن قيل: إنه قصد تكثير أنواع العلوم، فأورد في فروعها ما أورد، كذكره في فروع علم التفسير، ما ذكره السيوطي في (الإتقان) من الأنواع، وهلا يرد عليه أنه إن أراد بالفروع: المقاصد للعلم، فعلم الطب مثلا، يصل إلى ألوف من العلوم، وإن أراد ما أفرد بالتدوين، فلم يستوعب الأقسام في كثير من المباحث التي أفردت بالتدوين، وقد أخل بذكرها، على أنه أدخل في فروع علم ما ليس منه.
قلت: نعم يرد، لكن الجواد قد يكبو، والفتى قد يصبو، ولا يعد إلا هفوات العارف، ويدخل الزيوف على أعلى الصيارف، ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب، لا سيما الطويلة، سهل بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها، كما يشاهد في الأبنية العظيمة، والهياكل القديمة، حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر، بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر.
هذا جوابي عما يرد على كتابي أيضا.
وقد كتب أستاذ البلغاء، القاضي، الفاضل: عبد الرحيم البيساني، إلى العماد الأصفهاني، معتذرا عن كلام استدركه عليه: إنه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به، وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابه في يومه، إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جلة البشر. انتهى.
هذا اعتذار قليل المقدار عن جميع الإيرادات والأنظار إجمالا.
وأما التفصيل، فسيأتي في موضع كل علم، مع توجيهه بإنصاف وحلم.
وربما زيد على ما ذكره من العلوم على طريق الاستدراك، بتمكين مانح القريحة والذهن الدرّاك.
1 / 14
الفصل الخامس: في مراتب العلم، وشرفه، وما يلحق به، وفيه: إعلامات
الإعلام الأول: في شرفه وفضله. واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل، لشهرته وقوة الدليل.
قال الله - تعالى -: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ...) الآية.
وقال: (قل هل يستوي الذين يعلمون، والذين لا يعلمون ...) الآية.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله - تعالى - خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاِّء، يرفع الله - تعالى - به أقواما، فيجعلهم في الخير قادة، وأئمة تُقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه) .
لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى، في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام به، توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، هو إمام، والعمل تابعه، ويلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء.
أورده ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم) بإسناده، وقال هو حديث حسن جدا، وفي إسناده ضعف.
وروي أيضا من طرق شتى موقوفا، على معاذ.
وقد يقال: الموقوف في مثل هذا كالمرفوع، لأن مثله لا يقال بالرأي.
وقال الشافعي: من شرف العلم أن كل ما نسب إليه ولو في شيء حقير فرح، ومن رفع عنه حزن.
وقال الأحنف: كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره.
ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه.
فمنها: ما هو بحسب الموضوع، كالطب: فإن موضوعه بدن الإنسان، والتفسير: فإن موضوعه كلام الله ﷾، ولا خفاء في شرفهما.
ومنها: ما هو بحسب الغاية، كعلم الأخلاق: فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية.
ومنها: ما هو بحسب الحاجة إليه، كالفقه، فإن الحاجة إليه ماسة.
ومنها: ما هو بحسب وثاقة الحجة، كالعلوم الرياضية: فإنها برهانية.
ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه الاعتبارات فيه، أو أكثرها، كالعلم الإلهي: فإن موضوعه شريف، وغايته فاضلة، والحاجة إليه ماسة.
وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر، باعتبار ثمرته، أو وثاقة دلائله، أو غايته.
ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة، فأشرف العلوم: ثمرة العلم بالله ﷾، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية. (١/ ٢١)
الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء، وأنفعها وفيه: تعليمان.
1 / 18
التعليم الأول: في لذته
اعلم أن شرف الشيء، إما لذاته، أو لغيره.
والعلم حائز للشرفين جميعا، لأنه لذيذ في نفسه، فيطلب لذاته، ولذيذ لغيره، فيطلب لأجله.
أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها، لأنها لذة روحانية، وهي اللذة المحضة، وأما اللذة الجسمانية، فهي دفع الألم في الحقيقة، كما إن لذة الأكل دفع ألم الجوع، ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء، بخلاف اللذة الروحانية، فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية.
ولهذا كان الإمام الثاني: محمد بن الحسن الشيباني، يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة؟
سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت، وأسرار اللاهوت.
ومن لذته التابعة لعزته: أنه لا يقبل العزل والنصب، ومع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد، لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء، ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنى أن يكون عزه كعز أهل العلم، ألا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره، إما في الأخرى، فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية، والسعادة الأبدية، وإما في الدنيا، فالعز، والوقار، ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع، فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب، يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم، لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة، بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها، لشعورها بتميز الإنسان، بكمال مجاوز لدرجتها، حتى إنها تنزجر بزجره، وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان.
التعلم الثاني: في نفعه واعلم أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع، ودفع المضار، وكل منهما: دنيوي وديني. فالأقسام أربعة.
الأول: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو: حقي، وخلقي. أشار إلى نفعه الأول: قوله ﵊ في الحديث السابق: (فإن تعلمه لله خشية ... الخ) . وإلى نفعه الثاني: قوله ﵊: (وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة) .
الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو: وجداني، وذوقي، وجاهي رتبي. والوجداني: إما راحة أو استيلاء، والراحة: إما من مشقة وجود ظاهر للنفس، أو من فقد سار لها بالأنس، وكل منها: إما خارجي، وإما ذاتي. فالراحة: أربعة أقسام. وقوله ﵊: (وهو الأنيس في الوحشة..)، إشارة إلى الأول، لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب. وقوله ﵊: (والصاحب في الغربة..)، إشارة إلى الثاني، لأنه يقر من الغريب عينه، ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها، لفقد سرور الأهل والوطن. وقوله ﵊: (والمحدث في الخلوة ...) إشارة إلى الثالث، لأن العلم يريح المنفرد عن الناس، بتحديثه من انقباض الفهم وخموده، وهو ألم ذاتي لأهل الكمال، وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة. وقوله ﵊: (والدليل على السراء والضراء ...) أي: في الماضي والآتي، إشارة إلى الرابع، الذي هو فقد سار ذاتي، أي: أن العلوم تقوم مقام ذي الرأي السديد إذا استثير، إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها، وعلى الضراء وموجباتها، فالحيرة وجهل عواقب الأمور: مؤلم للنفس، ومضيق للصدر، لفقد نور البصيرة، فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان. والاستيلاء: قسمان. أحدهما: استيلاء يمحق الشر، ويدفع الضر، وإليه أشار قوله ﵊: (والسلاح على الأعداء..)، فبالعلم يزهق الباطل، وتندفع الشبهة والجهالة. قيل لبعض المناظرين: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر إيضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا. وثانيهما: استيلاء يجلب الخير، ويذهب الضير، وإليه أشار قوله ﵊: (والزين عن الأخلاَّء..)، أي: أن العلم جمال، وحسن، وكمال، يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل: العلم زين، وكنز لا نفاذ له * نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله ﷾، وإما عند الملأ الأعلى، أو عند الملأ الأسفل. الأول: أشار إليه قوله ﵊: (يرفع الله به أقواما..)، أي: يعلي مقامهم ورتبتهم، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، أي: شرفاء الناس وسادتهم. والقادة: جمع قائد، وهو: الذي يجذب إلى الخير مع الإلزام كالقاضي والوالي، الذين إلزامهما على الظاهر؛ وكالخطيب، والواعظ: الذين إلزامهما على الباطن؛ وكالأئمة: الذين بعلمهم يهتدى، وبحالهم يقتدى. والثاني: أشار إليه قوله ﵊: (يرغب الملائكة في خلتهم..)، أي: لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم، ما استولى على غيوب بواطنهم، فرغبوا في محبتهم، وأنسوا بملازمتهم، وما استولى على ظواهرهم، فيتبركون بمسحهم. والثالث: أشار إليه قوله ﵊: (يستغفر لهم كل رطب ويابس ...)، فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء، رجوع أحكامهم إليهم في: صيدهم، وقتلهم، وحلهم، وحرمتهم.
القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدينية وهو نوعان: فعل النواهي، وترك الأوامر. فالأول: اتباع الشهوات المضرة، وأشار إليه قوله ﵊: (التفكر فيه يعدل الصيام..)، أي: في كسره الشهوتين. والثاني: الغفلة، والميل إلى الكسل، وأشار إليه قوله ﵊: (ومدارسته تعدل القيام..)، أي: في نفي ما عرض في ذلك، لحصول التنبيه، والنشاط، والتذكرة، والانبساط.
القسم الرابع: هو ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا: نوعان. الأول: دفع المصالح والمقاصد، وجلب المعايب والمفاسد، وإليه أشار قوله ﵊: (به توصل الأرحام ...)، أي: بالعلم توصل الأرحام بين الأنام، وتدفع مضرة القطيعة، وحقدهم وحسدهم، ومحاربتهم. والثاني: مضرة اجتلاب المفاسد، برفض القانون الشرعي، العاصم من كل ضلال، وإليه أشار قوله ﵊: (وبه يعرف الحلال والحرام..)، أي: بالعلم تبين أحدهما من الآخر، وهو أساس جميع الخيرات. فتأمل: في بيان منافع العلم، وكيفية جوامع الكلم، وأكثر الصلاة على صاحبه ﵊. (١/ ٢٢) الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم، وسبب كونه مذموما اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع، لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد، أو المعاش، أو الكمال الإنساني، وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار، أو غير نافع، لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء، فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه. فمن الوجوه المغلطة: أن يظن بالعلم فوق غايته، كما يظن بالطب: أنه يبرئ من جميع الأمراض، وليس كذلك، فإن منها ما لا يبرأ بالمعالجة. ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف، كما يظن بالفقه: أنه أشرف العلوم على الإطلاق، وليس كذلك، فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا. ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته، كمن يتعلم علما للمال، أو الجاه، فالعلوم ليس الغرض منها: الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أنه من تعلم علما للاحتراف، لم يأت عالما، إنما جاء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به، لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، أقاموا مأتم العلم، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية، والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخِسَّاء، وأرباب الكسل، فيكون سببا لارتفاعه، ومن ها هنا هجرت علوم الحكمة، وإن كانت شريفة لذاتها. ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله، كما اتفق في علم الطب، فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة، فصار مهانا لما تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا به، بل رذل العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة، كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل: الحال في علم أحكام النجوم، فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به، للملوك ونحوهم، فرذل حتى صار لا يتعاطاه غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه. ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال، رفيع المرقى، قلما يتحصل غايته، ويتعاطاه من ليس من أهله، لينال بتمويهه غرضا، كما اتفق في علوم الكيميا، والسيميا، والسحر، والطلسمات، والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم، فالفطرة قاضية بأن من يطلع على ذنابة من أسرار هذه العلوم، يكتمها عن والده وولده. ومنها: ذم جاهل، متعالم لجهله إياه، فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه، كما قيل: المرء عدو لما جهله، أو ذم عالم متجاهل، لتعصبه على أهله، بسبب من الأسباب، فإنك تسمعهم يقولون: تحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم، وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء، وليس فيها ما ينافي الشرع المبين، والدين المتين، غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب (التهافت)، كما سيأتي. وليس في كتب الحنفية القول تحريم المنطق، غير الأشباه، فإن كان صاحبه رآه، كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به، فمن قبيل سد الذرائع، وصرف الطبائع، إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه، تخليص أصحاب العقول القاصرة، من تضييع العمر، وتعذيبهم بلا فائدة، فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة، وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه - على زعمهم -، لا يخلو تحصيله عن فائدة، أقلها: رد القائلين بها. (١/ ٢٣) الإعلام الرابع: في مراتب العلوم في التعليم ولا يخفى أنه يقدم الأهم، فالأهم فيه، والوسيلة مقدمة على المقصد، كما أن المباحث اللفظية، مقدمة على المباحث المعنوية، لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني، ويقدم الأدب على المنطق، ثم هما على أصول الفقه، ثم هو على الخلاف. والتحقيق: أن تقدم العلم على العلم، لثلاثة. أمور: إما لكونه أهم منه، كتقديم فرض العين على فرض الكفاية، وهو على المندوب إليه، وهو على المباح. وإما لكونه وسيلة إليه، كما سبق، فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر، والجزء مقدم على الكل، فيقدم التصريف على النحو، وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها، بل لغرض التمرين على إدراك المعقولات، كما إن طائفة من القدماء، قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون. ولذا، قدم المصنفون في كتبهم النحو على التصريف، ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمسّ. ثم إنه: تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه، بحسب خلو الأعصار والأمصار من العلماء، فرب مصر، لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان، ويوجد فيه عشرون فقيها، فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه. واعلم: أن الواجب علمه، هو: (فرض عين)، وهو: كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه، وأما ما أوجبه على المجموع ليعملوا به، لو قام به واحد لسقط عن الباقين، ويسمى: (فرض كفاية) . والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور: كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا، وقانون الشرع، كفهم الكتاب والسنة، وحفظهما من التحريفات، ومعرفة الاعتقاد، بإقامة البرهان عليه، وإزالة الشبهة، ومعرفة الآفات، والفرائض، والأحكام الفرعية، وحفظ الأبدان، والأخلاق، والسياسة، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه: كاللغة، والتصريف، والنحو، والطب، والمعاني، والبيان، وكالمنطق، وتسيير الكواكب، ومعرفة الأنساب، والحساب، ... إلى غير ذلك من العلوم، التي هي وسائل إلى هذه المقاصد، وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها.
التعلم الثاني: في نفعه واعلم أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع، ودفع المضار، وكل منهما: دنيوي وديني. فالأقسام أربعة.
الأول: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو: حقي، وخلقي. أشار إلى نفعه الأول: قوله ﵊ في الحديث السابق: (فإن تعلمه لله خشية ... الخ) . وإلى نفعه الثاني: قوله ﵊: (وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة) .
الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو: وجداني، وذوقي، وجاهي رتبي. والوجداني: إما راحة أو استيلاء، والراحة: إما من مشقة وجود ظاهر للنفس، أو من فقد سار لها بالأنس، وكل منها: إما خارجي، وإما ذاتي. فالراحة: أربعة أقسام. وقوله ﵊: (وهو الأنيس في الوحشة..)، إشارة إلى الأول، لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب. وقوله ﵊: (والصاحب في الغربة..)، إشارة إلى الثاني، لأنه يقر من الغريب عينه، ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها، لفقد سرور الأهل والوطن. وقوله ﵊: (والمحدث في الخلوة ...) إشارة إلى الثالث، لأن العلم يريح المنفرد عن الناس، بتحديثه من انقباض الفهم وخموده، وهو ألم ذاتي لأهل الكمال، وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة. وقوله ﵊: (والدليل على السراء والضراء ...) أي: في الماضي والآتي، إشارة إلى الرابع، الذي هو فقد سار ذاتي، أي: أن العلوم تقوم مقام ذي الرأي السديد إذا استثير، إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها، وعلى الضراء وموجباتها، فالحيرة وجهل عواقب الأمور: مؤلم للنفس، ومضيق للصدر، لفقد نور البصيرة، فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان. والاستيلاء: قسمان. أحدهما: استيلاء يمحق الشر، ويدفع الضر، وإليه أشار قوله ﵊: (والسلاح على الأعداء..)، فبالعلم يزهق الباطل، وتندفع الشبهة والجهالة. قيل لبعض المناظرين: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر إيضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا. وثانيهما: استيلاء يجلب الخير، ويذهب الضير، وإليه أشار قوله ﵊: (والزين عن الأخلاَّء..)، أي: أن العلم جمال، وحسن، وكمال، يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل: العلم زين، وكنز لا نفاذ له * نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله ﷾، وإما عند الملأ الأعلى، أو عند الملأ الأسفل. الأول: أشار إليه قوله ﵊: (يرفع الله به أقواما..)، أي: يعلي مقامهم ورتبتهم، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، أي: شرفاء الناس وسادتهم. والقادة: جمع قائد، وهو: الذي يجذب إلى الخير مع الإلزام كالقاضي والوالي، الذين إلزامهما على الظاهر؛ وكالخطيب، والواعظ: الذين إلزامهما على الباطن؛ وكالأئمة: الذين بعلمهم يهتدى، وبحالهم يقتدى. والثاني: أشار إليه قوله ﵊: (يرغب الملائكة في خلتهم..)، أي: لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم، ما استولى على غيوب بواطنهم، فرغبوا في محبتهم، وأنسوا بملازمتهم، وما استولى على ظواهرهم، فيتبركون بمسحهم. والثالث: أشار إليه قوله ﵊: (يستغفر لهم كل رطب ويابس ...)، فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء، رجوع أحكامهم إليهم في: صيدهم، وقتلهم، وحلهم، وحرمتهم.
القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدينية وهو نوعان: فعل النواهي، وترك الأوامر. فالأول: اتباع الشهوات المضرة، وأشار إليه قوله ﵊: (التفكر فيه يعدل الصيام..)، أي: في كسره الشهوتين. والثاني: الغفلة، والميل إلى الكسل، وأشار إليه قوله ﵊: (ومدارسته تعدل القيام..)، أي: في نفي ما عرض في ذلك، لحصول التنبيه، والنشاط، والتذكرة، والانبساط.
القسم الرابع: هو ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا: نوعان. الأول: دفع المصالح والمقاصد، وجلب المعايب والمفاسد، وإليه أشار قوله ﵊: (به توصل الأرحام ...)، أي: بالعلم توصل الأرحام بين الأنام، وتدفع مضرة القطيعة، وحقدهم وحسدهم، ومحاربتهم. والثاني: مضرة اجتلاب المفاسد، برفض القانون الشرعي، العاصم من كل ضلال، وإليه أشار قوله ﵊: (وبه يعرف الحلال والحرام..)، أي: بالعلم تبين أحدهما من الآخر، وهو أساس جميع الخيرات. فتأمل: في بيان منافع العلم، وكيفية جوامع الكلم، وأكثر الصلاة على صاحبه ﵊. (١/ ٢٢) الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم، وسبب كونه مذموما اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع، لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد، أو المعاش، أو الكمال الإنساني، وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار، أو غير نافع، لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء، فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه. فمن الوجوه المغلطة: أن يظن بالعلم فوق غايته، كما يظن بالطب: أنه يبرئ من جميع الأمراض، وليس كذلك، فإن منها ما لا يبرأ بالمعالجة. ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف، كما يظن بالفقه: أنه أشرف العلوم على الإطلاق، وليس كذلك، فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا. ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته، كمن يتعلم علما للمال، أو الجاه، فالعلوم ليس الغرض منها: الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أنه من تعلم علما للاحتراف، لم يأت عالما، إنما جاء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به، لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، أقاموا مأتم العلم، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية، والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخِسَّاء، وأرباب الكسل، فيكون سببا لارتفاعه، ومن ها هنا هجرت علوم الحكمة، وإن كانت شريفة لذاتها. ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله، كما اتفق في علم الطب، فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة، فصار مهانا لما تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا به، بل رذل العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة، كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل: الحال في علم أحكام النجوم، فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به، للملوك ونحوهم، فرذل حتى صار لا يتعاطاه غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه. ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال، رفيع المرقى، قلما يتحصل غايته، ويتعاطاه من ليس من أهله، لينال بتمويهه غرضا، كما اتفق في علوم الكيميا، والسيميا، والسحر، والطلسمات، والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم، فالفطرة قاضية بأن من يطلع على ذنابة من أسرار هذه العلوم، يكتمها عن والده وولده. ومنها: ذم جاهل، متعالم لجهله إياه، فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه، كما قيل: المرء عدو لما جهله، أو ذم عالم متجاهل، لتعصبه على أهله، بسبب من الأسباب، فإنك تسمعهم يقولون: تحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم، وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء، وليس فيها ما ينافي الشرع المبين، والدين المتين، غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب (التهافت)، كما سيأتي. وليس في كتب الحنفية القول تحريم المنطق، غير الأشباه، فإن كان صاحبه رآه، كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به، فمن قبيل سد الذرائع، وصرف الطبائع، إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه، تخليص أصحاب العقول القاصرة، من تضييع العمر، وتعذيبهم بلا فائدة، فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة، وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه - على زعمهم -، لا يخلو تحصيله عن فائدة، أقلها: رد القائلين بها. (١/ ٢٣) الإعلام الرابع: في مراتب العلوم في التعليم ولا يخفى أنه يقدم الأهم، فالأهم فيه، والوسيلة مقدمة على المقصد، كما أن المباحث اللفظية، مقدمة على المباحث المعنوية، لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني، ويقدم الأدب على المنطق، ثم هما على أصول الفقه، ثم هو على الخلاف. والتحقيق: أن تقدم العلم على العلم، لثلاثة. أمور: إما لكونه أهم منه، كتقديم فرض العين على فرض الكفاية، وهو على المندوب إليه، وهو على المباح. وإما لكونه وسيلة إليه، كما سبق، فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر، والجزء مقدم على الكل، فيقدم التصريف على النحو، وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها، بل لغرض التمرين على إدراك المعقولات، كما إن طائفة من القدماء، قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون. ولذا، قدم المصنفون في كتبهم النحو على التصريف، ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمسّ. ثم إنه: تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه، بحسب خلو الأعصار والأمصار من العلماء، فرب مصر، لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان، ويوجد فيه عشرون فقيها، فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه. واعلم: أن الواجب علمه، هو: (فرض عين)، وهو: كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه، وأما ما أوجبه على المجموع ليعملوا به، لو قام به واحد لسقط عن الباقين، ويسمى: (فرض كفاية) . والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور: كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا، وقانون الشرع، كفهم الكتاب والسنة، وحفظهما من التحريفات، ومعرفة الاعتقاد، بإقامة البرهان عليه، وإزالة الشبهة، ومعرفة الآفات، والفرائض، والأحكام الفرعية، وحفظ الأبدان، والأخلاق، والسياسة، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه: كاللغة، والتصريف، والنحو، والطب، والمعاني، والبيان، وكالمنطق، وتسيير الكواكب، ومعرفة الأنساب، والحساب، ... إلى غير ذلك من العلوم، التي هي وسائل إلى هذه المقاصد، وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها.
1 / 21
الباب الثاني: في منشأ العلوم والكتب
وفيه: فصول أيضا
الفصل الأول: في سببها وفيه: إفهامات.
الإفهام الأول: في أن العلم طبيعي للبشر، وأنه محتاج إليه اعلم أن الإنسان قد شاركه جميع الحيوان في حيوانيته من: الحس، والحركة، والغذاء،.. وغير ذلك من اللوازم. وإنما يمتاز عنه: بالفكر، وإدراك الكليات، الذي يهتدى به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، وقبول ما جاءت به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، عن الله ﷾، والعمل، واتباع صلاح أخراه، فهو مفكر في ذلك دائما، لا يفتر عنه، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع، ثم لأجله، ولما جبل عليه الإنسان، بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع، يكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى ما استفاد عنه، إما من الأفواه، أو من الدوالِّ عليه. فهذا ميل طبيعي من البشر، إلى الأخذ، والاستفادة. فمنهم: من ساعده فهمه. ومنهم: من لم يساعده، مع ميله إليه. وأما عدم الميل، فلأمر عارضي، كفساد المزاج، وبعد المكان عن الاعتدال، فلا اعتداد به.
الإفهام الثاني: في أن العلم والكتابة: من لوازم التمدن واعلم: أن نوع الإنسان، لما كان مدنيا بالطبع، وكان محتاجا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره، وفهم ما في ضمير الغير، اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دوالَّ، يخف عليه إيرادها، ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبيعية، فقاده الإلهام الإلهي، إلى استعمال الصوت، وتقطيع النفس الضروري بالآلة الذاتية، إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض، باعتبار مخارجها، وصفاتها، حتى يحصل منها بالتركيب، كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير، فيتيسر لهم فائدة التخاطب، والمحاورات، والمقاصد التي لا بد منها في معاشهم. ثم إن تركيبات تلك الحروف، لما أمكنت على وجوه مختلفة، وأنحاء متنوعة، حصل لهم السنة مختلفة، ولغات متباينة، وعلوم متنوعة. ثم إن أرباب الهمم، من بين الأمم، لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة هذه النعم، لاختصاصها الحاضرين، سمت همتهم السامية، إلى إطلاع الغائبين، ومن بعدهم، على ما استنبطوه من المعارف والعلوم، وأتعبوا نفوسهم في تحصيلها، لينتفع بها أهل الأقطار، ولتزداد العلوم بتلاحق الأفكار، وضعوا قواعد الكتابة الثابتة نقوشها، على وجه كل زمان، وبحثوا عن أحوالها من الحركات، والسكنات، والضوابط، والنقاط، وعن تركيبها، وتسطيرها، لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف، ومنها إلى المعاني، فنشأ من ذلك الوضع: جملة العلوم، والكتب.
الإفهام الثالث: في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب واعلم: أنه يقال: إن آدم ﵇ كان عالما بجميع اللغات، لقوله ﷾: (وعلم آدم الأسماء كلها ... الآية) . قال الإمام الرازي: المراد: أسماء كل ما خلق الله - تعالى - من أجناس المخلوقات، بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم، وعلم أيضا معانيها، وأنزل عليه كتابا، وهو كما ورد في حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم ﵇؟ قال: كتاب المعجم، قلت: أي كتاب المعجم؟ قال: أب ت ث ج، قلت: يا رسول الله، كم حرفا؟ قال: تسعة وعشرون حرفا ...) الحديث. وذكروا: أنه عشر صحف، فيها سورة مقطعة الحروف، وفيها الفرائض، والوعد، والوعيد، وأخبار الدنيا والآخرة. وقد بين أهل كل زمان، وصورهم، وسيرهم، مع أنبيائهم، وملوكهم، وما يحدث في الأرض من الفتن والملاحم. ولا يخفى أنه مستبعد عند أصحاب العقول القاصرة، وأما من أمعن النظر في الجفر، ولاحظ شموله على غرائب الأمور، فعنده ليس ببعيد، سيما في الكتب المنزلة. وروي أن آدم ﵇ وضع كتابا بأنواع الألسن والأقلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين، ثم طبخه، فلما أصاب الأرض الغرق، وجد كل قوم كتابا، فكتبوه من خطه، فأصاب إسماعيل ﵇ الكتاب العربي، وكان ذلك من معجزات آدم ﵇، ذكره السيوطي في (المزهر) . وفي رواية: أن آدم ﵇ كان يرسم الخطوط بالبنان، وكان أولاده تتلقاها، بوصية منه، وبعضهم بالقوة القدسية القلبية، وكان أقرب عهد إليه، إدريس ﵇، فكتب بالقلم، واشتهر عنه من العلوم ما لم يشتهر عن غيره، ولقب: بهرمس الهرامسة، والمثلث بالنعمة، لأنه كان نبيا، ملكا، حكيما. وجميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان، إنما صدرت عنه في قول كثير من العلماء، وهو: هرمس الأول، أعني: إدريس بن برد مهلايل بن أنوش بن شيث بن آدم ﵇، المتمكن بصعيد مصر الأعلى. وقالوا: إنه أول من تكلم في الأجرام العلوية، والحركات النجومية، وأول من بنى الهياكل، وعبد الله - تعالى - فيها، وأول من نظر في الطب، وألف لأهل زمانه قصائد في: البسائط، والمركبات، وأنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض، فخاف ذهاب العلم، فبنى الأهرام التي في صعيد مصر الأعلى، وصور فيها جميع الصناعات والآلات، ورسم صفات العلوم والكمالات، حرصا على تخليدها، ثم كان الطوفان، وانقرض الناس، فلم يبق علم ولا أثر، سوى من في السفينة من البشر، وذلك مذهب جميع الناس، إلا المجوس، فإنهم لا يقولون بعموم الطوفان، ثم أخذ يتدرج الاستئناف والإعادة، فعاد ما اندرس من العلم إلى ما كان عليه من الفضل والزيادة، فأصبح مؤسس البنيان، مشيد الأركان، لا زال مؤيدا بالملة الإسلامية، إلى يوم الحشر والميزان.
الفصل الأول: في سببها وفيه: إفهامات.
الإفهام الأول: في أن العلم طبيعي للبشر، وأنه محتاج إليه اعلم أن الإنسان قد شاركه جميع الحيوان في حيوانيته من: الحس، والحركة، والغذاء،.. وغير ذلك من اللوازم. وإنما يمتاز عنه: بالفكر، وإدراك الكليات، الذي يهتدى به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، وقبول ما جاءت به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، عن الله ﷾، والعمل، واتباع صلاح أخراه، فهو مفكر في ذلك دائما، لا يفتر عنه، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع، ثم لأجله، ولما جبل عليه الإنسان، بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع، يكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى ما استفاد عنه، إما من الأفواه، أو من الدوالِّ عليه. فهذا ميل طبيعي من البشر، إلى الأخذ، والاستفادة. فمنهم: من ساعده فهمه. ومنهم: من لم يساعده، مع ميله إليه. وأما عدم الميل، فلأمر عارضي، كفساد المزاج، وبعد المكان عن الاعتدال، فلا اعتداد به.
الإفهام الثاني: في أن العلم والكتابة: من لوازم التمدن واعلم: أن نوع الإنسان، لما كان مدنيا بالطبع، وكان محتاجا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره، وفهم ما في ضمير الغير، اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دوالَّ، يخف عليه إيرادها، ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبيعية، فقاده الإلهام الإلهي، إلى استعمال الصوت، وتقطيع النفس الضروري بالآلة الذاتية، إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض، باعتبار مخارجها، وصفاتها، حتى يحصل منها بالتركيب، كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير، فيتيسر لهم فائدة التخاطب، والمحاورات، والمقاصد التي لا بد منها في معاشهم. ثم إن تركيبات تلك الحروف، لما أمكنت على وجوه مختلفة، وأنحاء متنوعة، حصل لهم السنة مختلفة، ولغات متباينة، وعلوم متنوعة. ثم إن أرباب الهمم، من بين الأمم، لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة هذه النعم، لاختصاصها الحاضرين، سمت همتهم السامية، إلى إطلاع الغائبين، ومن بعدهم، على ما استنبطوه من المعارف والعلوم، وأتعبوا نفوسهم في تحصيلها، لينتفع بها أهل الأقطار، ولتزداد العلوم بتلاحق الأفكار، وضعوا قواعد الكتابة الثابتة نقوشها، على وجه كل زمان، وبحثوا عن أحوالها من الحركات، والسكنات، والضوابط، والنقاط، وعن تركيبها، وتسطيرها، لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف، ومنها إلى المعاني، فنشأ من ذلك الوضع: جملة العلوم، والكتب.
الإفهام الثالث: في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب واعلم: أنه يقال: إن آدم ﵇ كان عالما بجميع اللغات، لقوله ﷾: (وعلم آدم الأسماء كلها ... الآية) . قال الإمام الرازي: المراد: أسماء كل ما خلق الله - تعالى - من أجناس المخلوقات، بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم، وعلم أيضا معانيها، وأنزل عليه كتابا، وهو كما ورد في حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم ﵇؟ قال: كتاب المعجم، قلت: أي كتاب المعجم؟ قال: أب ت ث ج، قلت: يا رسول الله، كم حرفا؟ قال: تسعة وعشرون حرفا ...) الحديث. وذكروا: أنه عشر صحف، فيها سورة مقطعة الحروف، وفيها الفرائض، والوعد، والوعيد، وأخبار الدنيا والآخرة. وقد بين أهل كل زمان، وصورهم، وسيرهم، مع أنبيائهم، وملوكهم، وما يحدث في الأرض من الفتن والملاحم. ولا يخفى أنه مستبعد عند أصحاب العقول القاصرة، وأما من أمعن النظر في الجفر، ولاحظ شموله على غرائب الأمور، فعنده ليس ببعيد، سيما في الكتب المنزلة. وروي أن آدم ﵇ وضع كتابا بأنواع الألسن والأقلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين، ثم طبخه، فلما أصاب الأرض الغرق، وجد كل قوم كتابا، فكتبوه من خطه، فأصاب إسماعيل ﵇ الكتاب العربي، وكان ذلك من معجزات آدم ﵇، ذكره السيوطي في (المزهر) . وفي رواية: أن آدم ﵇ كان يرسم الخطوط بالبنان، وكان أولاده تتلقاها، بوصية منه، وبعضهم بالقوة القدسية القلبية، وكان أقرب عهد إليه، إدريس ﵇، فكتب بالقلم، واشتهر عنه من العلوم ما لم يشتهر عن غيره، ولقب: بهرمس الهرامسة، والمثلث بالنعمة، لأنه كان نبيا، ملكا، حكيما. وجميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان، إنما صدرت عنه في قول كثير من العلماء، وهو: هرمس الأول، أعني: إدريس بن برد مهلايل بن أنوش بن شيث بن آدم ﵇، المتمكن بصعيد مصر الأعلى. وقالوا: إنه أول من تكلم في الأجرام العلوية، والحركات النجومية، وأول من بنى الهياكل، وعبد الله - تعالى - فيها، وأول من نظر في الطب، وألف لأهل زمانه قصائد في: البسائط، والمركبات، وأنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض، فخاف ذهاب العلم، فبنى الأهرام التي في صعيد مصر الأعلى، وصور فيها جميع الصناعات والآلات، ورسم صفات العلوم والكمالات، حرصا على تخليدها، ثم كان الطوفان، وانقرض الناس، فلم يبق علم ولا أثر، سوى من في السفينة من البشر، وذلك مذهب جميع الناس، إلا المجوس، فإنهم لا يقولون بعموم الطوفان، ثم أخذ يتدرج الاستئناف والإعادة، فعاد ما اندرس من العلم إلى ما كان عليه من الفضل والزيادة، فأصبح مؤسس البنيان، مشيد الأركان، لا زال مؤيدا بالملة الإسلامية، إلى يوم الحشر والميزان.
1 / 25
الفصل الثاني: في منشأ إنزال الكتب، واختلاف الناس، وانقسامهم، وفيه: إفصاحات
الإفصاح الأول: في حكمة إنزال الكتب واعلم أن الإنسان، لما كان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من بني نوعه، في إقامة معاشه، والاستعداد لمعاده، وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون، حتى يحفظ بالتمانع: ما هو له، ويحصل بالتعاون: ما ليس له من الأمور الدنيوية والأخروية، وكان في كثير منها ما لا طريق للعقل إليه، وإن كان فيه، فبأنظار دقيقة، لا يتيسر إلا لواحد بعد واحد، اقتضت الحكمة الإلهية إرسال الرسل، وإنزال الكتب، للتبشير والإنذار، وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي: الملة، والطريق الخاص الذي يصل إلى هذه الهيئة هو: المنهاج، والشرعة. فالشريعة: ابتدأت من نوح ﵇، والحدود والأحكام: ابتدأت من آدم ﵇، وشيث، وإدريس - عليهما لسلام -، وختمت بأتمها، وأكملها، فمن الناس: من آمن بهم واهتدى؛ ومنهم: من اختار الضلالة على الهدى، فظهر اختلاف الآراء والمذاهب من: الكفار، والفرق الإسلامية، وكل حزب بما لديهم فرحون.
الإفصاح الثاني: في أقسام الناس، بحسب المذاهب والديانات اعلم: أن التقسيم الضابط: أن يقال: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول، وهم: السوفسطائية، فإنهم أنكروا حقائق الأشياء؛ ومنهم: من يقول بالمحسوس، ولا يقول بالمعقول، وهم: الطبيعية؛ وكل منهم: معطل، لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد، ولا يرشده ذهنه إلى معاد، قد ألف المحسوس، وركن إليه، وظن أنه لا عالم وراء العلم المحسوس، ويقال لهم: الدهريون أيضا، لأنهم لا يثبتون معقولا؛ ومنهم: من يقول بالمحسوس والمعقول، ولا يقول بحدود والأحكام وهم: الفلاسفة، فكل منهم: قد ترقى عن المحسوس، وأثبت المعقول، ولكنه لا يقول بحدود، وأحكام، وشريعة، وإسلام، ويظن أنه إذا حصل له المعقول، وأثبت العالم مبدأ ومعادا، وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه، فيكون سعادته على قدر إحاطته، وعلمه، وشقاوته، بقدر جهله، وسفاهته؛ وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة. وهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأولى: دهرية، وطبيعية، وإلهية، لا الذين اتخذوا علومهم عن مشكاة النبوة. ومنهم: من يقول بالمحسوس، والمعقول، والحدود، والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم: الصابئة، فهم قوم يقرب من الفلاسفة، ويقولون بحدود، وأحكام عقلية، ربما أخذوا أصولها، وقوانينها، من مؤيد بالوحي، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم، وما تعدوا إلى الآخر، وهؤلاء هم: الصابئة الأولى، الذين قالوا بغاذيمون، وهرمس، وهما: شيث، وإدريس ﵉، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. ومنهم: من يقول بهذه كلها، وشريعة، وإسلام، ولا يقول بشريعة محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهم: المجوس، واليهود، والنصارى. ومنهم: من يقول بهذه كلها، وهم: المسلمون، وكانوا عند وفاة النبي ﷺ على عقيدة واحدة، إلا من كان يبطن النفاق. ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولا في: أمور اجتهادية، وكان غرضهم منها: إقامة مراسم الدين، كاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة، وفي موته ﷺ، وفي موضع دفنه، وفي الإمامة، وفي ثبوت الإرث عنه ﷺ، وفي قتال مانعي الزكاة، وفي خلافة علي، ومعاوية، وكاختلافهم في بعض الأحكام الفرعية، ثم يتدرج، ويترقى، إلى آخر أيام الصحابة ﵃، فظهر قوم خالفوا في القدر، ولم يزل الخلاف يتشعب، حتى تفرق أهل الإسلام إلى: ثلاث وسبعين فرقة، كما أشار إليه الرسول ﵊، وكان من معجزاته. ولكن كبار الفرق الإسلامية: ثمانية، وهم: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية، ويقال لهم: أهل السنة والجماعة. هذا ما ذكره في كتب الفرق.
الإفصاح الثالث: في أقسام الناس، بحسب العلوم اعلم: أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان: قسم: اعتنى بالعلم، فظهرت منهم ضروب المعارف، فهم صفوة الله - تعالى - من خلقه. وفرقة: لم تعتن بالعلم عناية تستحق بها اسمه. فالأولى: أمم، منهم: أهل مصر، والروم، (١/ ٢٩) والهند، والفرس، والكلدانيون، واليونانيون، والعرب، والعبرانيون. والثانية: بقية الأمم، لكن الأنبه منهم: الصين، والترك. وفي (الملل والنحل) كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند. ثم إن العرب والهند: يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والعجم، والروم: يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية. انتهى. وفي بيان هذه الأمم تلويحات:
الإفصاح الأول: في حكمة إنزال الكتب واعلم أن الإنسان، لما كان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من بني نوعه، في إقامة معاشه، والاستعداد لمعاده، وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون، حتى يحفظ بالتمانع: ما هو له، ويحصل بالتعاون: ما ليس له من الأمور الدنيوية والأخروية، وكان في كثير منها ما لا طريق للعقل إليه، وإن كان فيه، فبأنظار دقيقة، لا يتيسر إلا لواحد بعد واحد، اقتضت الحكمة الإلهية إرسال الرسل، وإنزال الكتب، للتبشير والإنذار، وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي: الملة، والطريق الخاص الذي يصل إلى هذه الهيئة هو: المنهاج، والشرعة. فالشريعة: ابتدأت من نوح ﵇، والحدود والأحكام: ابتدأت من آدم ﵇، وشيث، وإدريس - عليهما لسلام -، وختمت بأتمها، وأكملها، فمن الناس: من آمن بهم واهتدى؛ ومنهم: من اختار الضلالة على الهدى، فظهر اختلاف الآراء والمذاهب من: الكفار، والفرق الإسلامية، وكل حزب بما لديهم فرحون.
الإفصاح الثاني: في أقسام الناس، بحسب المذاهب والديانات اعلم: أن التقسيم الضابط: أن يقال: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول، وهم: السوفسطائية، فإنهم أنكروا حقائق الأشياء؛ ومنهم: من يقول بالمحسوس، ولا يقول بالمعقول، وهم: الطبيعية؛ وكل منهم: معطل، لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد، ولا يرشده ذهنه إلى معاد، قد ألف المحسوس، وركن إليه، وظن أنه لا عالم وراء العلم المحسوس، ويقال لهم: الدهريون أيضا، لأنهم لا يثبتون معقولا؛ ومنهم: من يقول بالمحسوس والمعقول، ولا يقول بحدود والأحكام وهم: الفلاسفة، فكل منهم: قد ترقى عن المحسوس، وأثبت المعقول، ولكنه لا يقول بحدود، وأحكام، وشريعة، وإسلام، ويظن أنه إذا حصل له المعقول، وأثبت العالم مبدأ ومعادا، وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه، فيكون سعادته على قدر إحاطته، وعلمه، وشقاوته، بقدر جهله، وسفاهته؛ وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة. وهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأولى: دهرية، وطبيعية، وإلهية، لا الذين اتخذوا علومهم عن مشكاة النبوة. ومنهم: من يقول بالمحسوس، والمعقول، والحدود، والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم: الصابئة، فهم قوم يقرب من الفلاسفة، ويقولون بحدود، وأحكام عقلية، ربما أخذوا أصولها، وقوانينها، من مؤيد بالوحي، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم، وما تعدوا إلى الآخر، وهؤلاء هم: الصابئة الأولى، الذين قالوا بغاذيمون، وهرمس، وهما: شيث، وإدريس ﵉، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. ومنهم: من يقول بهذه كلها، وشريعة، وإسلام، ولا يقول بشريعة محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهم: المجوس، واليهود، والنصارى. ومنهم: من يقول بهذه كلها، وهم: المسلمون، وكانوا عند وفاة النبي ﷺ على عقيدة واحدة، إلا من كان يبطن النفاق. ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولا في: أمور اجتهادية، وكان غرضهم منها: إقامة مراسم الدين، كاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة، وفي موته ﷺ، وفي موضع دفنه، وفي الإمامة، وفي ثبوت الإرث عنه ﷺ، وفي قتال مانعي الزكاة، وفي خلافة علي، ومعاوية، وكاختلافهم في بعض الأحكام الفرعية، ثم يتدرج، ويترقى، إلى آخر أيام الصحابة ﵃، فظهر قوم خالفوا في القدر، ولم يزل الخلاف يتشعب، حتى تفرق أهل الإسلام إلى: ثلاث وسبعين فرقة، كما أشار إليه الرسول ﵊، وكان من معجزاته. ولكن كبار الفرق الإسلامية: ثمانية، وهم: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية، ويقال لهم: أهل السنة والجماعة. هذا ما ذكره في كتب الفرق.
الإفصاح الثالث: في أقسام الناس، بحسب العلوم اعلم: أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان: قسم: اعتنى بالعلم، فظهرت منهم ضروب المعارف، فهم صفوة الله - تعالى - من خلقه. وفرقة: لم تعتن بالعلم عناية تستحق بها اسمه. فالأولى: أمم، منهم: أهل مصر، والروم، (١/ ٢٩) والهند، والفرس، والكلدانيون، واليونانيون، والعرب، والعبرانيون. والثانية: بقية الأمم، لكن الأنبه منهم: الصين، والترك. وفي (الملل والنحل) كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند. ثم إن العرب والهند: يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والعجم، والروم: يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية. انتهى. وفي بيان هذه الأمم تلويحات:
1 / 27
التلويح الأول: في أهل الهند
اعلم أن لون الهندي، وإن كان في أول مراتب السودان، فصار بذلك من جملتهم، إلا أنه ﷾ جبنهم سوء أخلاق السودان، ودناءة شيمهم، وسفاهة أحلامهم، وفضلهم على كثير من السمر والبيض، وعلل ذلك بعض أهل التخييم، بأن زحل وعطارد يتوليان بالقسمة، لطبيعة الهند، فلولاية زحل اسودت ألوانهم، ولولاية عطارد خلصت عقولهم، ولطفت أذهانهم، فهم: أهل الآراء الفاضلة، والأحلام الراجحة، لهم التحقق: بعلم العدد، والهندسة، والطب، والنجوم، والعلم الطبيعي، والإلهي.
فمنهم: براهمة، وهي: فرقة قليلة العدد، ومذهبهم إبطال النبوات، وتحريم ذبح الحيوان.
ومنهم: صابئة، وهم جمهور الهند، ولهم في تعظيم الكواكب وأدوارها آراء ومذاهب، والمشهور في كتبهم: مذهب السند هند، أي دهر الداهر، ومذهب الأرجهير، ومذهب الأركند، ولهم في الحساب والأخلاق والموسيقى: تأليفات.
التلويح الثاني: في الفرس وهم أعند الأمم، وأوسطهم دارا، وكانوا في أول أمرهم موحدين على دين نوح ﵇، إلى أن تمذهب طهمورث بمذهب الصابئين، وقسر الفرس على التشريع به، فاعتقدوه نحو ألف سنة، إلى أن تمجسوا جميعا، بسبب زرادشت، ولم يزالوا على دينه قريبا من ألف سنة، إلى أن انقرضوا، ولخواصهم عناية: بالطب، وأحكام النجوم، ولهم أرصاد ومذاهب في حركاتها. واتفقوا على أن: أصح المذاهب في الأدوار مذهب الفرس، ويسمى: سني أهل فارس، وذلك في أن مدة العلم عندهم جزء من اثني عشر من مدة السند هند، وهي أن السيارات وأوجاتها، وجوزهراتها، تجتمع كلها في رأس الحمل، في كل ستة وثلاثين مرة: مائة ألف سنة شمسية، ولهم في ذلك: كتب جليلة. وفي كتاب (الفهرس) يقال: إن أول من تكلم بالفارسية: كيومرث، وتسمية الفرس: (كل شاه)، أي: ملك الطين، وهو: عندهم آدم أبو البشر - عليه الصلاة السلام -. وأول من كتب بالفارسية: بيوراسب، المعروف: بالضحاك؛ وقيل: فريدون. قال ابن عبدوس، في (كتاب الوزراء): كانت الكتب والرسائل قبل ملك كشتاسب قليلة، ولم يكن لهم اقتدار على بسط الكلام، وإخراج المعاني من النفوس، ولما ملك ظهر زرادشت صاحب شريعة المجوس، وأظهر كتاب: (القحيب) (العجيب) بجميع اللغات، وأخذ الناس يتعلم الخط، والكتاب، فزادوا ومهروا. وقال ابن المقفع: لغات الفارسية: الفهلوية، والدرية، والفارسية، والخوزية، والسريانية. أما الفهلوية: فمنسوبة إلى فهلة: اسم يقع على خمسة بلدان، وهي: أصبهان، والري، وهمذان، وماء نهاوند، وأذربيجان. وأما الدرية: فلغة المداين، وبها كان يتكلم من بباب الملك، وهي: منسوبة إلى الباب، والغالب عليها من لغة أهل خراسان، والمشرق: لغة أهل بلخ. وأما الفارسية: فيتكلم بها الموابذة، والعلماء، وهي: لغة أهل فارس. وأما الخوزية: فبها كان يتكلم الملوك، والأشراف، في الخلوة مع حاشيتهم. وأما السريانية: فكان يتكلم بها أهل السواد والمكاتبة في نوع من اللغة بالسرياني فارسي. وللفرس: ستة أنواع من الخطوط، وحروفهم مركبة من: أبجد، هوزي، كلمن سف رش ثخذ غ، فالتاء المثناة، والحاء المهملة، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والعين، والقاف، سواقط.
التلويح الثالث: في الكلدانيين وهم: أمة قديمة، مسكنهم أرض العراق، وجزيرة العرب، ومنهم: النماردة ملوك الأرض بعد الطوفان، وبختنصر منهم، ولسانهم: سرياني، ولم يبرحوا إلى أن ظهر عليهم الفرس، وغلبوا مملكتهم، وكان منهم: علماء وحكماء متوسعون في الفنون، ولهم عناية بأرصاد الكواكب، وإثبات الأحكام والخواص، ولهم هياكل، وطرائق لاستجلاب قوى الكواكب، وإظهار طبايعها بأنواع القرابين، فظهرت منهم الأفاعيل الغربية من إنشاء الطلسمات، وغيرها، ولهم مذاهب نقل منها بطلميوس في (المجسطي) . ومن أشهر علمائهم: أبرخس، واصطفن. وفي الفهرس: أن النبطي أفصح من السرياني، وبه كان يتكلم أهل بابل. وأما النبطي: الذي يتكلم به أهل القرى، فهو سرياني غير فصيح، وقيل: اللسان الذي يستعمل في الكتب الفصيحة لسان أهل سوريا، وحران. وللسريانيين: ثلاثة أقلام، أقدم الأقلام، ولا فرق بينه وبين العربي في الهجاء، إلا أن الثاء المثلثة، والخاء، والذال، والضاد، والظاء، والغين: كلها معجمات سواقط، وكذا لام ألف، وتركب حروفها من اليمين إلى اليسار.
التلويح الرابع: في أهل اليونان هم أمة عظيمة القدر، بلادهم بلاد (١/ ٣١) روم إيلي، وآناطولي، وقرامان، وكانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام، وكان الإسكندر من ملوكهم، وهو الذي أجمع ملوك الأرض على الطاعة لسلطانه، وبعده البطالسة، إلى أن غلب عليهم الروم، وكان علماؤهم يسمون: فلاسفة إلهيين، أعظمهم خمسة: بندقليس: كان في عصر داود ﵇، ثم فيثاغورس، ثم سقراط، ثم أفلاطون، ثم أرسطاليس. ولهم تصانيف في أنواع الفنون، وهم من أرفع الناس طبقة، واجل أهل العلم منزلة، لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة، من العلوم الرياضية، والمنطقية، والمعارف الطبيعية، والإلهية، والسياسات المنزلية، والمدنية؛ وجميع العلوم العقلية: مأخوذة عنهم. ولغة قدمائهم تسمى: الإغريقية، وهي من أوسع اللغات، ولغة المتأخرين تسمى: اللطيني، لأنهم فرقتان: الإغريقيونس، واللطينيون.
التلويح الثاني: في الفرس وهم أعند الأمم، وأوسطهم دارا، وكانوا في أول أمرهم موحدين على دين نوح ﵇، إلى أن تمذهب طهمورث بمذهب الصابئين، وقسر الفرس على التشريع به، فاعتقدوه نحو ألف سنة، إلى أن تمجسوا جميعا، بسبب زرادشت، ولم يزالوا على دينه قريبا من ألف سنة، إلى أن انقرضوا، ولخواصهم عناية: بالطب، وأحكام النجوم، ولهم أرصاد ومذاهب في حركاتها. واتفقوا على أن: أصح المذاهب في الأدوار مذهب الفرس، ويسمى: سني أهل فارس، وذلك في أن مدة العلم عندهم جزء من اثني عشر من مدة السند هند، وهي أن السيارات وأوجاتها، وجوزهراتها، تجتمع كلها في رأس الحمل، في كل ستة وثلاثين مرة: مائة ألف سنة شمسية، ولهم في ذلك: كتب جليلة. وفي كتاب (الفهرس) يقال: إن أول من تكلم بالفارسية: كيومرث، وتسمية الفرس: (كل شاه)، أي: ملك الطين، وهو: عندهم آدم أبو البشر - عليه الصلاة السلام -. وأول من كتب بالفارسية: بيوراسب، المعروف: بالضحاك؛ وقيل: فريدون. قال ابن عبدوس، في (كتاب الوزراء): كانت الكتب والرسائل قبل ملك كشتاسب قليلة، ولم يكن لهم اقتدار على بسط الكلام، وإخراج المعاني من النفوس، ولما ملك ظهر زرادشت صاحب شريعة المجوس، وأظهر كتاب: (القحيب) (العجيب) بجميع اللغات، وأخذ الناس يتعلم الخط، والكتاب، فزادوا ومهروا. وقال ابن المقفع: لغات الفارسية: الفهلوية، والدرية، والفارسية، والخوزية، والسريانية. أما الفهلوية: فمنسوبة إلى فهلة: اسم يقع على خمسة بلدان، وهي: أصبهان، والري، وهمذان، وماء نهاوند، وأذربيجان. وأما الدرية: فلغة المداين، وبها كان يتكلم من بباب الملك، وهي: منسوبة إلى الباب، والغالب عليها من لغة أهل خراسان، والمشرق: لغة أهل بلخ. وأما الفارسية: فيتكلم بها الموابذة، والعلماء، وهي: لغة أهل فارس. وأما الخوزية: فبها كان يتكلم الملوك، والأشراف، في الخلوة مع حاشيتهم. وأما السريانية: فكان يتكلم بها أهل السواد والمكاتبة في نوع من اللغة بالسرياني فارسي. وللفرس: ستة أنواع من الخطوط، وحروفهم مركبة من: أبجد، هوزي، كلمن سف رش ثخذ غ، فالتاء المثناة، والحاء المهملة، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والعين، والقاف، سواقط.
التلويح الثالث: في الكلدانيين وهم: أمة قديمة، مسكنهم أرض العراق، وجزيرة العرب، ومنهم: النماردة ملوك الأرض بعد الطوفان، وبختنصر منهم، ولسانهم: سرياني، ولم يبرحوا إلى أن ظهر عليهم الفرس، وغلبوا مملكتهم، وكان منهم: علماء وحكماء متوسعون في الفنون، ولهم عناية بأرصاد الكواكب، وإثبات الأحكام والخواص، ولهم هياكل، وطرائق لاستجلاب قوى الكواكب، وإظهار طبايعها بأنواع القرابين، فظهرت منهم الأفاعيل الغربية من إنشاء الطلسمات، وغيرها، ولهم مذاهب نقل منها بطلميوس في (المجسطي) . ومن أشهر علمائهم: أبرخس، واصطفن. وفي الفهرس: أن النبطي أفصح من السرياني، وبه كان يتكلم أهل بابل. وأما النبطي: الذي يتكلم به أهل القرى، فهو سرياني غير فصيح، وقيل: اللسان الذي يستعمل في الكتب الفصيحة لسان أهل سوريا، وحران. وللسريانيين: ثلاثة أقلام، أقدم الأقلام، ولا فرق بينه وبين العربي في الهجاء، إلا أن الثاء المثلثة، والخاء، والذال، والضاد، والظاء، والغين: كلها معجمات سواقط، وكذا لام ألف، وتركب حروفها من اليمين إلى اليسار.
التلويح الرابع: في أهل اليونان هم أمة عظيمة القدر، بلادهم بلاد (١/ ٣١) روم إيلي، وآناطولي، وقرامان، وكانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام، وكان الإسكندر من ملوكهم، وهو الذي أجمع ملوك الأرض على الطاعة لسلطانه، وبعده البطالسة، إلى أن غلب عليهم الروم، وكان علماؤهم يسمون: فلاسفة إلهيين، أعظمهم خمسة: بندقليس: كان في عصر داود ﵇، ثم فيثاغورس، ثم سقراط، ثم أفلاطون، ثم أرسطاليس. ولهم تصانيف في أنواع الفنون، وهم من أرفع الناس طبقة، واجل أهل العلم منزلة، لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة، من العلوم الرياضية، والمنطقية، والمعارف الطبيعية، والإلهية، والسياسات المنزلية، والمدنية؛ وجميع العلوم العقلية: مأخوذة عنهم. ولغة قدمائهم تسمى: الإغريقية، وهي من أوسع اللغات، ولغة المتأخرين تسمى: اللطيني، لأنهم فرقتان: الإغريقيونس، واللطينيون.
1 / 29
التلويح الخامس: في الروم
وهم أيضا: صابئة، إلى أن قام قسطنطين بدين المسيح، وقسرهم على التشرع به، فأطاعوه، ولم يزل دين النصرانية يقوى، إلى أن دخل فيه أكثر الأمم المجاورة للروم، وجميع أهل مصر، وكان لهم حكماء وعلماء بأنواع الفلسفة.
وكثير من الناس يقول: إن الفلاسفة المشهورين روميون، والصحيح أنهم يونانيون، ولتجاور الأمتين دخل بعضهم في بعض، واختلط خبرهم، وكلتا الأمتين مشهور العناية بالفلسفة، إلا أن لليونان من المزية والتفضيل ما لا ينكر، وقاعدة مملكتهم: رومية الكبرى، ولغتهم: مخالفة للغة اليونان.
وقيل: لغة اليونان: الإغريقية، ولغة الروم: اللطينية، وقلم اليونان والروم: من اليسار إلى اليمين، مرتب على ترتيب أبجد، وحروفهم: أبج وزطي كلمن سعفص قرشت ثخ ظغ، فالدال، والهاء، والحاء، والذال، والضاد، ولام ألف سواقط.
ولهم: قلم يعرف (بالساميا)، ولا نظير له عندنا، فإن الحرف الواحد منه يحيط بالمعاني الكثيرة، ويجمع عدة كلمات.
قال جالينوس في بعض كتبه: كنت في مجلس عام، فتكلمت في التشريح كلاما عاما، فلما كان بعد أيام، لقيني صديق لي، فقال: إن فلانا يحفظ عليك في مجلسك، أنك تكلمت بكلمة كذا، وأعاد علي ألفاظي، فقلت من أين لك هذا؟ فقال: إني لقيت بكاتب ماهر بالساميا، فكان يسبقك بالكتابة في كلامك، وهذا العلم يتعلمه الملوك، وجلة الكتاب، ويمنع منه سائر الناس لجلالته، كذا قال ابن النديم في (، الفهرس) .
وذكر أيضا: أن رجلا متطببا، جاء إليه من بعلبك، سنة ثمان وأربعين، وزعم انه يكتب بالساميا، قال: فجربنا عليه، فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغى إليها، ثم كتب كلمة، فاستعدناها، فأعادها بألفاظها. انتهى.
تبصرة:
ذكر في السبب الذي من أجله يكتب الروم من اليسار إلى اليمين بلا تركيب، أنهم يعتقدون أن سبيل الجالس أن يستقبل المشرق في كل حالاته، فإنه إذا توجه إلى المشرق، يكون الشمال على يساره، فإن كان كذلك، فاليسار يعطى اليمين، فسبيل الكاتب أن يبتدئ من الشمال إلى الجنوب، وعلل بعضهم: بكون الاستمداد عن حركة الكبد على القلب.
التلويح السادس: في أهل مصر وهم أخلاط من الأمم، إلا أن جمهرتهم: قبط، وإنما اختلطوا لكثرة من تداول ملك مصر من الأمم، كالعمالقة، واليونانيون، والروم، فخفي أنسابهم، فانتسبوا إلى موضعهم، وكانوا في السلف صابئة، ثم تنصروا، إلى الفتح الإسلامي، وكان لقدمائهم عناية بأنواع العلوم، ومنهم: هرمس الهرامسة، قبل الطوفان، وكان بعده علماء بضروب الفلسفة، خاصة: بعلم الطلسمات والنيرنجات، والمرايا المحرقة، والكيميا. وكانت دار العلم بها: مدينة منف، فلما بنى الإسكندر مدينة رغب الناس في عمارتها، فكانت دار العلم والحكمة إلى الفتح الإسلامي، فمنهم: الإسكندرانيون، الذين اختصروا كتب جالينوس وقيل أن القبط اكتسب العلم الرياضي من الكلدانيين.
التلويح السابع: في العبرانيين وهم بنو إسرائيل، وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع، وسير الأنبياء، فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء، وبدء الخليقة، وعنهم أخذ ذلك علماء الإسلام، لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة، ولغتهم تنسب إلى عابر بن شالخ، والقلم العبراني من اليمين إلى اليسار، وهو من أبجد إلى آخر قرشت، وما بعده سواقط، وهو مشتق من السرياني.
التلويح الثامن: في العرب وهم فرقتان: بائدة، وباقية. والبائدة: كانت أمما كعاد وثمود، انقرضوا، وانقطع عنا أخبارهم. والباقية: متفرعة من: قحطان وعدنان، ولهم حال الجاهلية، وحال الإسلام. فالأولى: منهم: التبابعة، والجبابرة، ولهم مذهب في أحكام النجوم، لكن لم يكن لهم عناية بأرصاد الكواكب، وبحث عن شيء من الفلسفة. وأما سائر العرب بعد الملوك، فكانوا أهل مدر ووبر، فلم يكن فيهم عالم مذكور، ولا حكيم معروف، وكانت أديانهم مختلفة، وعلمهم الذي كانوا يفتخرون فيه به: علم لسانهم، ونظم الأشعار، وتأليف الخطب، وعلم الأخبار، ومعرفة السير والأعصار. قال الهمداني: ليس يوصل إلى حد خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب. وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة، وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات، فيعرفون أخبار الناس. وكذلك من سكن الحيرة، وجاور الأعاجم، علم أخبارهم، وأيام حمير، ومسيرها في البلاد. وكذلك من سكن الشام: خبر بأخبار الروم، وبني إسرائيل، واليونان. ومن وقع في البحرين وعمان: فعنه أتت أخبار السند، والهند، وفارس. ومن سكن اليمن: علم أخبار الأمم جميعا، لأنه كان في ظل الملوك السيارة. والعرب: أصحاب حفظ ورواية، ولهم معرفة بأوقات المطالع والمغارب، وأنواء الكواكب وأمطارها، لاحتياجهم إليه في المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق، والتدرب في العلوم. وأما علم الفلسفة، فلم يمنحهم الله ﷾ شيئا منه، ولا هيأ طباعهم للعناية به، إلا نادرا.
التلويح السادس: في أهل مصر وهم أخلاط من الأمم، إلا أن جمهرتهم: قبط، وإنما اختلطوا لكثرة من تداول ملك مصر من الأمم، كالعمالقة، واليونانيون، والروم، فخفي أنسابهم، فانتسبوا إلى موضعهم، وكانوا في السلف صابئة، ثم تنصروا، إلى الفتح الإسلامي، وكان لقدمائهم عناية بأنواع العلوم، ومنهم: هرمس الهرامسة، قبل الطوفان، وكان بعده علماء بضروب الفلسفة، خاصة: بعلم الطلسمات والنيرنجات، والمرايا المحرقة، والكيميا. وكانت دار العلم بها: مدينة منف، فلما بنى الإسكندر مدينة رغب الناس في عمارتها، فكانت دار العلم والحكمة إلى الفتح الإسلامي، فمنهم: الإسكندرانيون، الذين اختصروا كتب جالينوس وقيل أن القبط اكتسب العلم الرياضي من الكلدانيين.
التلويح السابع: في العبرانيين وهم بنو إسرائيل، وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع، وسير الأنبياء، فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء، وبدء الخليقة، وعنهم أخذ ذلك علماء الإسلام، لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة، ولغتهم تنسب إلى عابر بن شالخ، والقلم العبراني من اليمين إلى اليسار، وهو من أبجد إلى آخر قرشت، وما بعده سواقط، وهو مشتق من السرياني.
التلويح الثامن: في العرب وهم فرقتان: بائدة، وباقية. والبائدة: كانت أمما كعاد وثمود، انقرضوا، وانقطع عنا أخبارهم. والباقية: متفرعة من: قحطان وعدنان، ولهم حال الجاهلية، وحال الإسلام. فالأولى: منهم: التبابعة، والجبابرة، ولهم مذهب في أحكام النجوم، لكن لم يكن لهم عناية بأرصاد الكواكب، وبحث عن شيء من الفلسفة. وأما سائر العرب بعد الملوك، فكانوا أهل مدر ووبر، فلم يكن فيهم عالم مذكور، ولا حكيم معروف، وكانت أديانهم مختلفة، وعلمهم الذي كانوا يفتخرون فيه به: علم لسانهم، ونظم الأشعار، وتأليف الخطب، وعلم الأخبار، ومعرفة السير والأعصار. قال الهمداني: ليس يوصل إلى حد خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب. وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة، وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات، فيعرفون أخبار الناس. وكذلك من سكن الحيرة، وجاور الأعاجم، علم أخبارهم، وأيام حمير، ومسيرها في البلاد. وكذلك من سكن الشام: خبر بأخبار الروم، وبني إسرائيل، واليونان. ومن وقع في البحرين وعمان: فعنه أتت أخبار السند، والهند، وفارس. ومن سكن اليمن: علم أخبار الأمم جميعا، لأنه كان في ظل الملوك السيارة. والعرب: أصحاب حفظ ورواية، ولهم معرفة بأوقات المطالع والمغارب، وأنواء الكواكب وأمطارها، لاحتياجهم إليه في المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق، والتدرب في العلوم. وأما علم الفلسفة، فلم يمنحهم الله ﷾ شيئا منه، ولا هيأ طباعهم للعناية به، إلا نادرا.
1 / 31
الفصل الرابع: في أهل الإسلام، وعلومهم، وفيه: إشارات
الإشارة الأولى: في صدر الإسلام واعلم: أن العرب في آخر عصر الجاهلية، حين بعث النبي ﷺ قد تفرق ملكها، وتشتت أمرها، فضم الله ﷾ به شاردها، وجمع عليه جماعة من قحطان وعدنان، فآمنوا به، ورفضوا جميع ما كانوا عليه، والتزموا شريعة الإسلام من الاعتقاد والعمل. ثم لم يلبث رسول الله ﷺ إلا قليلا حتى توفي، وخلفه أصحابه - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -، فغلبوا الملوك، وبلغت مملكة الإسلام في أيام عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - من الجلالة والسعة، إلى حيث نبه عليه النبي ﵊ في قوله: (زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) . فأباد الله ﷾ بدولة الإسلام: دولة الفرس بالعراق وخراسان، ودولة الروم بالشام، ودولة القبط بمصر، فكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلوم، إلا بِلُغَتِها، ومعرفة أحكام شريعتها، وبصناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، لحاجة الناس طرا إليها، وذلك منهم صونا لقواعد الإسلام، وعقائد أهله، من تطرق الخلل من علوم الأوائل، قبل الرسوخ والإحكام، حتى يرى أنهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد. وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل، لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله - تعالى -، وسنة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين، ثم حدث اختلاف الآراء، وانتشار المذاهب، فآل الأمر إلى التدوين والتحصين.
الإشارة الثانية: في الاحتياج إلى التدوين واعلم: أن الصحابة والتابعين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وقرب العهد إليه، ولقلة الاختلاف والواقعات، وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات، كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام، حتى إن بعضهم كره كتابة العلم، واستدل بما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه -: أنه استأذن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في كتابة العلم، فلم يأذن له. وروي عن ابن عباس: أنه نهى عن الكتابة، وقال: إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة. وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فقال: إني كتبت كتابا، أريد أن أعرض عليك، فلما عرض عليه، أخذ منه، ومحا بالماء، وقيل له: لماذا فعلت؟ قال: لأنهم إذا كتبوا، اعتمدوا على الكتابة، وتركوا الحفظ، فيعرض الكتاب عارض، فيفوت علمهم. واستدل أيضا: بأن الكتاب مما يزيد فيه، وينقص، ويغير، والذي حفظ لا يمكن تغييره، لأن الحافظ يتكلم بالعلم، والذي يخبر عن الكتابة يخبر بالظن والنظر. ولما انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلاف الآراء، وكثرت الفتاوى، والرجوع إلى الكبراء، أخذوا في تدوين الحديث، والفقه، وعلوم القرآن، واشتغلوا بالنظر، والاستدلال، والاجتهاد، والاستنباط، وتمهيد القواعد، والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها، وإيراد الشبهة بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات، وكان ذلك مصلحة عظيمة، وفكرة في الصواب مستقيمة، فرأوا ذلك مستحبا، بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور، مع قوله ﵊: (العلم صيد، والكتابة قيد، قيدوا - رحمكم الله تعالى - علومكم بالكتابة ...) . الحديث.
الإشارة الثالثة: في أول من صنف في الإسلام اعلم واعلم: أنه اختلف في أول من صنف. فقيل: الإمام: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري. المتوفى: سنة خمس وخمسين ومائة. وقيل: أبو النضر: سعيد بن أبي عروبة. المتوفى: سنة ست وخمسين ومائة. ذكرهما: الخطيب البغدادي. وقيل: ربيع بن صبيح. المتوفى: سنة ستين ومائة. قاله: أبو محمد الرامهرمزي. ثم صنف: سفيان بن عيينة، ومالك بن أنس بالمدينة. وعبد الله بن وهب بمصر. ومعمر، وعبد الرزاق باليمن. وسفيان الثوري، ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة. وحماد بن سلمة، وروح بن عبادة بالبصرة. وهشيم بواسط. وعبد الله بن المبارك بخراسان. وكان مطمح نظرهم في التدوين: ضبط معاقد القرآن والحديث، ومعانيهما، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما.
الإشارة الرابعة: في اختلاط علوم الأوائل، والإسلام اعلم واعلم: أن علوم الأوائل، كانت مهجورة في عصر الأموية، ولما ظهر آل عباس، كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني: أبو جعفر المنصور. وكان - رحمه الله تعالى - مع براعته في الفقه، مقدما في علم الفلسفة، وخاصة في النجوم، محبا لأهلها. ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع: عبد الله المأمون ابن الرشيد، تمم ملا بدأ به جده، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخراجه من معادنه، بقوة نفسه الشريفة، وعلو همته المنيفة، فداخل ملوك الروم، وسألهم: وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطو، وبقراط، وجالينوس، وإقليدس، وبطلميوس، وغيرهم؛ وأحضر لها مهرة المترجمين، فترجموا له على غاية ما أمكن، ثم كلف الناس قراءتها، ورغبهم في تعلمها، إذ المقصود من المنع: هو إحكام قواعد الإسلام، ورسوخ عقائد الأنام، وقد حصل وانقضى على أن أكثرها، مما لا تعلق له بالديانات، فنفقت له سوق العلم، وقامت دولة الحكمة في عصره، وكذلك سائر الفنون، فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة، ومهدوا أصول الأدب، وبينوا منهاج الطلب. ثم أخذ الناس يزهدون في العلم، ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة، وبجمع الشمل أخرى، إلى أن كاد يرتفع جملة، وكذا شأن سائر الصنائع والدول، فإنها تبتدئ قليلا قليلا، ولا تزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه، ثم يعود إلى النقصان، فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاوي النسيان. والحق: أن أعظم الأسباب في رواج العلم وكساده، هو رغبة الملوك في كل عصر، وعدم رغبتهم. - فإنا لله، وإنا إليه راجعون -.
الإشارة الأولى: في صدر الإسلام واعلم: أن العرب في آخر عصر الجاهلية، حين بعث النبي ﷺ قد تفرق ملكها، وتشتت أمرها، فضم الله ﷾ به شاردها، وجمع عليه جماعة من قحطان وعدنان، فآمنوا به، ورفضوا جميع ما كانوا عليه، والتزموا شريعة الإسلام من الاعتقاد والعمل. ثم لم يلبث رسول الله ﷺ إلا قليلا حتى توفي، وخلفه أصحابه - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -، فغلبوا الملوك، وبلغت مملكة الإسلام في أيام عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - من الجلالة والسعة، إلى حيث نبه عليه النبي ﵊ في قوله: (زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) . فأباد الله ﷾ بدولة الإسلام: دولة الفرس بالعراق وخراسان، ودولة الروم بالشام، ودولة القبط بمصر، فكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلوم، إلا بِلُغَتِها، ومعرفة أحكام شريعتها، وبصناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، لحاجة الناس طرا إليها، وذلك منهم صونا لقواعد الإسلام، وعقائد أهله، من تطرق الخلل من علوم الأوائل، قبل الرسوخ والإحكام، حتى يرى أنهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد. وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل، لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله - تعالى -، وسنة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين، ثم حدث اختلاف الآراء، وانتشار المذاهب، فآل الأمر إلى التدوين والتحصين.
الإشارة الثانية: في الاحتياج إلى التدوين واعلم: أن الصحابة والتابعين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وقرب العهد إليه، ولقلة الاختلاف والواقعات، وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات، كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام، حتى إن بعضهم كره كتابة العلم، واستدل بما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه -: أنه استأذن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في كتابة العلم، فلم يأذن له. وروي عن ابن عباس: أنه نهى عن الكتابة، وقال: إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة. وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فقال: إني كتبت كتابا، أريد أن أعرض عليك، فلما عرض عليه، أخذ منه، ومحا بالماء، وقيل له: لماذا فعلت؟ قال: لأنهم إذا كتبوا، اعتمدوا على الكتابة، وتركوا الحفظ، فيعرض الكتاب عارض، فيفوت علمهم. واستدل أيضا: بأن الكتاب مما يزيد فيه، وينقص، ويغير، والذي حفظ لا يمكن تغييره، لأن الحافظ يتكلم بالعلم، والذي يخبر عن الكتابة يخبر بالظن والنظر. ولما انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلاف الآراء، وكثرت الفتاوى، والرجوع إلى الكبراء، أخذوا في تدوين الحديث، والفقه، وعلوم القرآن، واشتغلوا بالنظر، والاستدلال، والاجتهاد، والاستنباط، وتمهيد القواعد، والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها، وإيراد الشبهة بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات، وكان ذلك مصلحة عظيمة، وفكرة في الصواب مستقيمة، فرأوا ذلك مستحبا، بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور، مع قوله ﵊: (العلم صيد، والكتابة قيد، قيدوا - رحمكم الله تعالى - علومكم بالكتابة ...) . الحديث.
الإشارة الثالثة: في أول من صنف في الإسلام اعلم واعلم: أنه اختلف في أول من صنف. فقيل: الإمام: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري. المتوفى: سنة خمس وخمسين ومائة. وقيل: أبو النضر: سعيد بن أبي عروبة. المتوفى: سنة ست وخمسين ومائة. ذكرهما: الخطيب البغدادي. وقيل: ربيع بن صبيح. المتوفى: سنة ستين ومائة. قاله: أبو محمد الرامهرمزي. ثم صنف: سفيان بن عيينة، ومالك بن أنس بالمدينة. وعبد الله بن وهب بمصر. ومعمر، وعبد الرزاق باليمن. وسفيان الثوري، ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة. وحماد بن سلمة، وروح بن عبادة بالبصرة. وهشيم بواسط. وعبد الله بن المبارك بخراسان. وكان مطمح نظرهم في التدوين: ضبط معاقد القرآن والحديث، ومعانيهما، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما.
الإشارة الرابعة: في اختلاط علوم الأوائل، والإسلام اعلم واعلم: أن علوم الأوائل، كانت مهجورة في عصر الأموية، ولما ظهر آل عباس، كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني: أبو جعفر المنصور. وكان - رحمه الله تعالى - مع براعته في الفقه، مقدما في علم الفلسفة، وخاصة في النجوم، محبا لأهلها. ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع: عبد الله المأمون ابن الرشيد، تمم ملا بدأ به جده، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخراجه من معادنه، بقوة نفسه الشريفة، وعلو همته المنيفة، فداخل ملوك الروم، وسألهم: وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطو، وبقراط، وجالينوس، وإقليدس، وبطلميوس، وغيرهم؛ وأحضر لها مهرة المترجمين، فترجموا له على غاية ما أمكن، ثم كلف الناس قراءتها، ورغبهم في تعلمها، إذ المقصود من المنع: هو إحكام قواعد الإسلام، ورسوخ عقائد الأنام، وقد حصل وانقضى على أن أكثرها، مما لا تعلق له بالديانات، فنفقت له سوق العلم، وقامت دولة الحكمة في عصره، وكذلك سائر الفنون، فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة، ومهدوا أصول الأدب، وبينوا منهاج الطلب. ثم أخذ الناس يزهدون في العلم، ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة، وبجمع الشمل أخرى، إلى أن كاد يرتفع جملة، وكذا شأن سائر الصنائع والدول، فإنها تبتدئ قليلا قليلا، ولا تزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه، ثم يعود إلى النقصان، فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاوي النسيان. والحق: أن أعظم الأسباب في رواج العلم وكساده، هو رغبة الملوك في كل عصر، وعدم رغبتهم. - فإنا لله، وإنا إليه راجعون -.
1 / 34
الباب الثالث: في المؤلفين، والمؤلفات، وفيه: ترشيحات
الترشيح الأول: في أقسام التدوين، وأصناف المدونات واعلم: أن كتب العلوم كثيرة، لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف، ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين. الأول: إما أخبار مرسلة، وهي: كتب التواريخ. وإما: أوصاف وأمثال ونحوها، قيدها النظم، وهي: دواوين الشعر. والثاني: قواعد علوم، وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف. الأول: مختصرات، تجعل تذكرة لرؤوس المسائل، ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء، لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة. والثاني: مبسوطات، تقابل المختصر، وهذه ينتفع بها للمطالعة. والثالث: متوسطات، وهذه نفعها عام. ثم إن التأليف على: سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها. وهي: إما شيء لم يسبق إليه، فيخترعه. أو: شيء ناقص يتممه. أو: شيء مغلق يشرحه. أو: شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه. أو: شيء متفرق يجمعه. أو: شيء مختلط يرتبه. أو: شيء أخطأ فيه مصنفه، فيصلحه. وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه: أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد. استنباط شيء كان معضلا. أو: جمعه إن كان مفرقا. أو: شرحه إن كان غامضا. أو حسن نظم وتأليف. وإسقاط حشو وتطويل. وشرط في التأليف: إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله، من غير زيادة ولا نقص، وهجر اللفظ الغريب، وأنواع المجاز، اللهم إلا في الرمز، والاحتراز عن إدخال علم في آخر، وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه، لئلا يلزم الدور. وزاد المتأخرون: اشتراط حسن الترتيب، ووجازة اللفظ، ووضوح الدلالة، وينبغي أن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان، وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة، فمتى كانت الخواطر ثاقبة، والإفهام للمراد من الكتب متناولة، قام الاختصار لها مقام الإكثار، وأغنت بالتلويح عن التصريح، وإلا: فلا بد من كشف، وبيان، وإيضاح، وبرهان، ينبه الذاهل، ويوقظ الغافل. وقد جرت عادة المصنفين: بأن يذكروا في صدر كل كتاب، تراجم تعرب عنه، سموها: (الرؤوس)، وهي: ثمانية. الغرض: وهو الغاية السابقة في الوهم، المتأخرة في الفعل. والمنفعة: ليتشوق الطبع. والعنوان: الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله، وهو قد يكون بالتسمية، وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى: (ببراعة الاستهلال) . والواضع: ليعلم قدره. ونوع العلم: وهو الموضوع، ليعلم مرتبته، وقد يكون جزءا من أجزائه، وقد يكون مدخلا، كما سبق في بحث الموضوع. ومرتبة ذلك الكتاب: أي: متى يجب أن يقرأ؟ وترتيبه. ونحو التعليم: المستعمل فيه، وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية. وأنحاء التعليم خمسة: الأول: التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم، قسمة العام إلى الخاص، وقسمة الكل إلى الجزء، أو الكلي إلى الجزئيات، وقسمة الجنس إلى الأنواع، وقسمة النوع إلى الأشخاص، وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي. وقد يقسم الكلي إلى الذاتي، والعرضي والذاتي إلى العرضي، والعرضي إلى الذاتي، والعرضي إلى العرضي، والتقسيم الحاصر: هو المردد بين النفي والإثبات. والثاني: التركيب، وهو: جعل القضايا مقدمات، تؤدي إلى المعلوم. والثالث: التحليل، وهو: إعادة تلك المقدمات. والرابع: التحديث، وهو: ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية. والخامس: البرهان، وهو: قياس صحيح عن مقدمات صادقة، وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية، وأما ما عداها، فيكتفي بالإقناع.
الترشيح الثاني: في الشرح، وبيان الحاجة إليه، والأدب فيه واعلم: أن كل من وضع كتابا، إنما وضعه ليفهم بذاته، من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة. الأمر الأول: كمال مهارة المصنف، فإنه لجودة ذهنه، وحسن عبارته، يتكلم على معان دقيقة، بكلام وجيز، كافيا في الدلالة على المطلوب، وغيره ليس في مرتبته، فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر، فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة، لتظهر تلك المعاني الخفية، ومن ها هنا شرح بعض العلماء تصنيفه. الأمر الثاني: حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة، فأغفل علل بعض القضايا، فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة، ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم، ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات، ويرتب القياسات، ويعطي علل ما لم يعط المصنف. الأمر الثالث: احتمال اللفظ لمعان تأويلية، أو لطافة المعنى، عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه، أو للألفاظ المجازية، واستعمال الدلالة الالتزامية، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو، والغلط، والحذف لبعض المهمات، وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة، إلى غير ذلك، فيحتاج أن ينبه عليه. ثم إن أساليب الشرح على: ثلاثة أقسام. الأول: الشرح: بقال أقول، (كشرح المقاصد)، و(شرح الطوالع) للأصفهاني، و(شرح العضد) . وأما المتن: فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه، وقد لا يكتب، لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز. والثاني: الشرح: بقوله، (كشرح البخاري) لابن حجر، والكرماني، ونحوهما. وفي أمثاله: لا يلتزم المتن، وإنما المقصود: ذكر المواضع المشروحة، ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما، إما: في الهامش، وإما: في المسطر، فلا ينكر نفعه. والثالث: الشرح مزجا، ويقال له: شرح ممزوج، يمزج فيه عبارة المتن والشرح، ثم يمتاز إما بالميم والشين، وإما بخط يخط فوق المتن، وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين، وغيرهم، لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط. ثم إن من آداب الشارح وشرطه: أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه، بقدر الاستطاعة، ويذب عما قد تكفل إيضاحه، بما يذب به صاحب تلك الصناعة، ليكون شارحا، غير ناقض وجارح، ومفسرا غير معترض، اللهم إلا إذا عثر على شيء، لا يمكن حمله على وجه صحيح، فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح، متمسكا بذيل العدل والإنصاف، متجنبا عن الغي والاعتساف، لأن الإنسان محل النسيان، والقلم ليس بمعصوم من الطغيان، فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة؟ وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه، سالما من العيب، محفوظا له عن ظهر الغيب، حتى يلام في خطئه، فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا، ويكني بمثل: قيل، وظن، ووهم، واعترض، وأجيب، وبعض الشراح، والمحشى، أو بعض الشروح والحواشي، ونحو ذلك، من غير تعيين، كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين، فإنهم تأنفوا في أسلوب التحرير، وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين، بأمثال ما ذكر، تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم، وتعظيما لحقهم، وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين، لا من الراسخين، وإن لم يمكن ذلك، قالوا: لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة، لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة، وأجابوا عن لمز بعضهم، بأن ألفاظ كذا وكذا، ألفاظ فلان بعبارته، بقولهم: إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك، فإن تصانيف المتأخرين، بل المتقدمين، لا تخلو عن مثل ذلك، لا لعدم الاقتدار على التغيير، بل حذرا عن تضييع الزمان فيه، وعن مثالبهم: بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم، بأنه إن اتفق، فهو من توارد الخواطر، كما في تعاقب الحوافر على الحوافر.
الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين، وأحوالهم اعلم: أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان. الأول: من له في العلم ملكة تامة، ودربة كافية، وتجارب وثيقة، وحدس صائب، وفهم ثاقب، فتصانيفهم: عن قوة تبصرة، ونفاذ فكر، وسداد رأي، كالنصير، والعضد، والسند، والسعد، والجلال، وأمثالهم، فإن كلا منهم: يجمع إلى تحرير المعاني، تهذيب الألفاظ، وهؤلاء أحسنوا إلى الناس، كما أحسن الله ﷾ إليهم، وهذه لا يستغني عنها أحد. والثاني: من له ذهن ثاقب، وعبارة طلقة، طالع الكتب فاستخرج دررها، وأحسن نظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون والمتوسطون، ومنهم: من جمع وصنف للاستفادة، لا للإفادة، فلا حجر عليه، بل يرغب إليه إذا تأهل، فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه، إذا احتاج الناس إليه، بتوضيح عبارته، غير مائل عن المصطلح، مبينا مشكله، مظهرا ملتبسه، كي يكتسبه جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر، فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله، إذا شرع، ويصرف إليه كل شغله، قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف، ثم إذا تم، لا يخرج ما صنفه إلى الناس، ولا يدعه عن يده، إلا بعد تهذيبه، وتنقيحه، وتحريره، وإعادة مطالعته، فإنه قد قيل: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه جنسه، ما لم يضع كتابا، أو لم يقل شعرا. وقد قيل: من صنف كتابا، فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن، فقد استهدف من الحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف. قالت الحكماء: من أراد أن يصنف كتابا، أو يقول شعرا، فلا يَدْعُوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله، ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل، أو أشعار، فإن رأى الأسماع تصغي إليه، ورأى من يطلبه انتحله وادعاه، فليأخذ في غير تلك الصناعة. تذنيب: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا، ولا وجه لإنكاره من أهله، وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار، ولله در القائل في نظمه (شعر) قل لمن لا يرى المعاصر شيئا * ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان حديثا * وسيبقى هذا الحديث قديما واعلم: أن نتائج الأفكار، لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه، لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية، ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر، بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخر، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته، لا لقدمه وحدوثه. ويقال: ليس بكلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئا، لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظواهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها. كما قال ﵊: (أمتي أمة مباركة، لا يدرى أولها خير، أو آخرها) . وقال ابن عبد ربه في (العقد): إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا، وأسهل نقة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة، من الأول، لأنه نافض متعقب، والأول: باد متقدم. انتهى. وروي: أن المولى: خواجة زاده كان يقول: ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد، الشريف: الجرجاني، بنية الاستفادة. وذكر صاحب (الشقائق) في ترجمة: المولى: شمس الدين الفناري: أن الطلبة إلى زمانه، كانوا يعطلون يوم الجمعة، ويوم الثلاثاء، فأضاف المولى المذكور إليهما يوم الإثنين، للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني، وتحصيلها. انتهى.
الترشيح الأول: في أقسام التدوين، وأصناف المدونات واعلم: أن كتب العلوم كثيرة، لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف، ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين. الأول: إما أخبار مرسلة، وهي: كتب التواريخ. وإما: أوصاف وأمثال ونحوها، قيدها النظم، وهي: دواوين الشعر. والثاني: قواعد علوم، وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف. الأول: مختصرات، تجعل تذكرة لرؤوس المسائل، ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء، لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة. والثاني: مبسوطات، تقابل المختصر، وهذه ينتفع بها للمطالعة. والثالث: متوسطات، وهذه نفعها عام. ثم إن التأليف على: سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها. وهي: إما شيء لم يسبق إليه، فيخترعه. أو: شيء ناقص يتممه. أو: شيء مغلق يشرحه. أو: شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه. أو: شيء متفرق يجمعه. أو: شيء مختلط يرتبه. أو: شيء أخطأ فيه مصنفه، فيصلحه. وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه: أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد. استنباط شيء كان معضلا. أو: جمعه إن كان مفرقا. أو: شرحه إن كان غامضا. أو حسن نظم وتأليف. وإسقاط حشو وتطويل. وشرط في التأليف: إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله، من غير زيادة ولا نقص، وهجر اللفظ الغريب، وأنواع المجاز، اللهم إلا في الرمز، والاحتراز عن إدخال علم في آخر، وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه، لئلا يلزم الدور. وزاد المتأخرون: اشتراط حسن الترتيب، ووجازة اللفظ، ووضوح الدلالة، وينبغي أن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان، وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة، فمتى كانت الخواطر ثاقبة، والإفهام للمراد من الكتب متناولة، قام الاختصار لها مقام الإكثار، وأغنت بالتلويح عن التصريح، وإلا: فلا بد من كشف، وبيان، وإيضاح، وبرهان، ينبه الذاهل، ويوقظ الغافل. وقد جرت عادة المصنفين: بأن يذكروا في صدر كل كتاب، تراجم تعرب عنه، سموها: (الرؤوس)، وهي: ثمانية. الغرض: وهو الغاية السابقة في الوهم، المتأخرة في الفعل. والمنفعة: ليتشوق الطبع. والعنوان: الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله، وهو قد يكون بالتسمية، وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى: (ببراعة الاستهلال) . والواضع: ليعلم قدره. ونوع العلم: وهو الموضوع، ليعلم مرتبته، وقد يكون جزءا من أجزائه، وقد يكون مدخلا، كما سبق في بحث الموضوع. ومرتبة ذلك الكتاب: أي: متى يجب أن يقرأ؟ وترتيبه. ونحو التعليم: المستعمل فيه، وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية. وأنحاء التعليم خمسة: الأول: التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم، قسمة العام إلى الخاص، وقسمة الكل إلى الجزء، أو الكلي إلى الجزئيات، وقسمة الجنس إلى الأنواع، وقسمة النوع إلى الأشخاص، وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي. وقد يقسم الكلي إلى الذاتي، والعرضي والذاتي إلى العرضي، والعرضي إلى الذاتي، والعرضي إلى العرضي، والتقسيم الحاصر: هو المردد بين النفي والإثبات. والثاني: التركيب، وهو: جعل القضايا مقدمات، تؤدي إلى المعلوم. والثالث: التحليل، وهو: إعادة تلك المقدمات. والرابع: التحديث، وهو: ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية. والخامس: البرهان، وهو: قياس صحيح عن مقدمات صادقة، وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية، وأما ما عداها، فيكتفي بالإقناع.
الترشيح الثاني: في الشرح، وبيان الحاجة إليه، والأدب فيه واعلم: أن كل من وضع كتابا، إنما وضعه ليفهم بذاته، من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة. الأمر الأول: كمال مهارة المصنف، فإنه لجودة ذهنه، وحسن عبارته، يتكلم على معان دقيقة، بكلام وجيز، كافيا في الدلالة على المطلوب، وغيره ليس في مرتبته، فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر، فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة، لتظهر تلك المعاني الخفية، ومن ها هنا شرح بعض العلماء تصنيفه. الأمر الثاني: حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة، فأغفل علل بعض القضايا، فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة، ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم، ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات، ويرتب القياسات، ويعطي علل ما لم يعط المصنف. الأمر الثالث: احتمال اللفظ لمعان تأويلية، أو لطافة المعنى، عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه، أو للألفاظ المجازية، واستعمال الدلالة الالتزامية، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو، والغلط، والحذف لبعض المهمات، وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة، إلى غير ذلك، فيحتاج أن ينبه عليه. ثم إن أساليب الشرح على: ثلاثة أقسام. الأول: الشرح: بقال أقول، (كشرح المقاصد)، و(شرح الطوالع) للأصفهاني، و(شرح العضد) . وأما المتن: فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه، وقد لا يكتب، لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز. والثاني: الشرح: بقوله، (كشرح البخاري) لابن حجر، والكرماني، ونحوهما. وفي أمثاله: لا يلتزم المتن، وإنما المقصود: ذكر المواضع المشروحة، ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما، إما: في الهامش، وإما: في المسطر، فلا ينكر نفعه. والثالث: الشرح مزجا، ويقال له: شرح ممزوج، يمزج فيه عبارة المتن والشرح، ثم يمتاز إما بالميم والشين، وإما بخط يخط فوق المتن، وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين، وغيرهم، لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط. ثم إن من آداب الشارح وشرطه: أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه، بقدر الاستطاعة، ويذب عما قد تكفل إيضاحه، بما يذب به صاحب تلك الصناعة، ليكون شارحا، غير ناقض وجارح، ومفسرا غير معترض، اللهم إلا إذا عثر على شيء، لا يمكن حمله على وجه صحيح، فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح، متمسكا بذيل العدل والإنصاف، متجنبا عن الغي والاعتساف، لأن الإنسان محل النسيان، والقلم ليس بمعصوم من الطغيان، فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة؟ وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه، سالما من العيب، محفوظا له عن ظهر الغيب، حتى يلام في خطئه، فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا، ويكني بمثل: قيل، وظن، ووهم، واعترض، وأجيب، وبعض الشراح، والمحشى، أو بعض الشروح والحواشي، ونحو ذلك، من غير تعيين، كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين، فإنهم تأنفوا في أسلوب التحرير، وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين، بأمثال ما ذكر، تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم، وتعظيما لحقهم، وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين، لا من الراسخين، وإن لم يمكن ذلك، قالوا: لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة، لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة، وأجابوا عن لمز بعضهم، بأن ألفاظ كذا وكذا، ألفاظ فلان بعبارته، بقولهم: إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك، فإن تصانيف المتأخرين، بل المتقدمين، لا تخلو عن مثل ذلك، لا لعدم الاقتدار على التغيير، بل حذرا عن تضييع الزمان فيه، وعن مثالبهم: بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم، بأنه إن اتفق، فهو من توارد الخواطر، كما في تعاقب الحوافر على الحوافر.
الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين، وأحوالهم اعلم: أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان. الأول: من له في العلم ملكة تامة، ودربة كافية، وتجارب وثيقة، وحدس صائب، وفهم ثاقب، فتصانيفهم: عن قوة تبصرة، ونفاذ فكر، وسداد رأي، كالنصير، والعضد، والسند، والسعد، والجلال، وأمثالهم، فإن كلا منهم: يجمع إلى تحرير المعاني، تهذيب الألفاظ، وهؤلاء أحسنوا إلى الناس، كما أحسن الله ﷾ إليهم، وهذه لا يستغني عنها أحد. والثاني: من له ذهن ثاقب، وعبارة طلقة، طالع الكتب فاستخرج دررها، وأحسن نظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون والمتوسطون، ومنهم: من جمع وصنف للاستفادة، لا للإفادة، فلا حجر عليه، بل يرغب إليه إذا تأهل، فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه، إذا احتاج الناس إليه، بتوضيح عبارته، غير مائل عن المصطلح، مبينا مشكله، مظهرا ملتبسه، كي يكتسبه جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر، فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله، إذا شرع، ويصرف إليه كل شغله، قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف، ثم إذا تم، لا يخرج ما صنفه إلى الناس، ولا يدعه عن يده، إلا بعد تهذيبه، وتنقيحه، وتحريره، وإعادة مطالعته، فإنه قد قيل: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه جنسه، ما لم يضع كتابا، أو لم يقل شعرا. وقد قيل: من صنف كتابا، فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن، فقد استهدف من الحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف. قالت الحكماء: من أراد أن يصنف كتابا، أو يقول شعرا، فلا يَدْعُوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله، ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل، أو أشعار، فإن رأى الأسماع تصغي إليه، ورأى من يطلبه انتحله وادعاه، فليأخذ في غير تلك الصناعة. تذنيب: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا، ولا وجه لإنكاره من أهله، وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار، ولله در القائل في نظمه (شعر) قل لمن لا يرى المعاصر شيئا * ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان حديثا * وسيبقى هذا الحديث قديما واعلم: أن نتائج الأفكار، لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه، لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية، ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر، بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخر، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته، لا لقدمه وحدوثه. ويقال: ليس بكلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئا، لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظواهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها. كما قال ﵊: (أمتي أمة مباركة، لا يدرى أولها خير، أو آخرها) . وقال ابن عبد ربه في (العقد): إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا، وأسهل نقة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة، من الأول، لأنه نافض متعقب، والأول: باد متقدم. انتهى. وروي: أن المولى: خواجة زاده كان يقول: ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد، الشريف: الجرجاني، بنية الاستفادة. وذكر صاحب (الشقائق) في ترجمة: المولى: شمس الدين الفناري: أن الطلبة إلى زمانه، كانوا يعطلون يوم الجمعة، ويوم الثلاثاء، فأضاف المولى المذكور إليهما يوم الإثنين، للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني، وتحصيلها. انتهى.
1 / 38
الباب الرابع: في فوائد منثورة، من أبواب العلم، وفيه: مناظر، وفتوحات
المنظر الأول: في العلوم الإسلامية واعلم: أن العلوم المتداولة في الأعصار على صنفين: صنف طبيعي: للإنسان، يهتدي إليه بفكره، وهي: العلوم الحكمية. وصنف نقلي: يأخذه عمن وضعه، وهي: العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الوضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، لأن الخبريات الحادثة المتعاقبة، لا تندرج تحت النقل الكلي، بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي، الذي هو لسان الملة، وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام الله ﷾ المفروضة عليه، وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص، أو بالإجماع، أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذا هو: علم التفسير. ثم بإسناد نقله، وروايته، إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الذي جاء به من عند الله ﷾، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهو: علم القراءات. ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم، وعدالتهم، ليقع الوثوق بأخبارهم، وهذه هي: علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني، يفيدنا العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو: أصول الفقه. وبعد هذا يحصل الثمرة، بمعرفة أحكام الله ﷾ في أفعال المكلفين، وهو: الفقه. ثم إن التكاليف، منها: بدني، ومنها: قلبي، وهو المختص بالإيمان، وما يجب أن يعتقد، وهذه هي: العقائد بالذات، والصفات، والنبوات، والأخرويات، والقدر؛ والاحتجاج عن هذه الأدلة العقلية هو: علم الكلام. ثم النظر في القرآن، والحديث، لا بد أن يتقدمه العلوم العربية، لأنه متوقف عليها، وهي: علم اللغة، والنحو، والبيان، ونحو ذلك. وهذه العلوم النقلية، كلها مختصة بالملة الإسلامية، وإن كانت كل ملة لا بد فيها من مثل ذلك، فهي مشاركة لها من حيث: أنها علوم الشريعة، وأما على الخصوص، فمباينة لجميع الملل، لأنها ناسخة لها، وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة، والنظر فيها محظور، وإن كان في الكتب المنزلة غير القرآن، كما ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل. ثم إن هذه العلوم الشرعية، قد نفقت أسواقها في هذه الملة، بما لا يزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى التي لا فوقها، وهذبت الاصطلاحات، ورتبت الفنون، وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه، وأوضاع يستفاد منها التعليم، واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها.
المنظر الثاني: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم وذلك من الغريب الواقع، لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية، أكثرهم العجم، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو أعجمي في لغته. والسبب في ذلك: أن الملة في أولها، لم يكن فيها علم، ولا صناعة، لمقتضى أحوال البداوة، وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مآخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع، وأصحابه، والقوم يومئذ عرب، لم يعرفوا أمر التعليم، والتدوين، ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر التابعين - كما سبق -، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله: القراء. فهم قراء لكتاب الله ﷾، والسنة المأثورة، التي هي في غالب موارده تفسير له وشرح؛ فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد، احتيج إلى: وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث، مخافة ضياعه، ثم احتيج إلى: معرفة الأسانيد، وتعديل الرواة؛ ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في: الاستنباط، والتنظير، والقياس؛ واحتاجت إلى علوم أخرى، هي وسائل لها، كقوانين العربية، وقوانين: الاستنباط، والقياس، والذب عن العقائد بالأدلة؛ فصارت هذه الأمور كلها علوما (١/ ٤٢) محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع؛ والعرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، والحضر: هم العجم، أو من في معناهم، لأن أهل الحواضر تبع للعجم في الحضارة وأحوالها، من الصنائع والحرف، لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان صاحب صناعة النحو: سيبويه، والفارسي، والزجاج، كلهم عجم في أنسابهم، اكتسبوا اللسان العربي بمخالطة العرب، وصيروه قوانين لمن بعدهم، وكذلك حملة الحديث، وحفاظه، أكثرهم: عجم، أو مستعجمون باللغة، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما، وكذا جملة أهل الكلام، وأكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة، وخرجوا إليها عن البداوة، فشغلهم الرياسة في الدولة العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم، لكونه من جملة الصنائع، والرؤساء يستنكفون عن الصنائع. وأما العلوم العقلية: فلم تظهر في الملة، إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه، واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم، وتركها العرب، فلم يحملها إلا المعربون من العجم.
المنظر الأول: في العلوم الإسلامية واعلم: أن العلوم المتداولة في الأعصار على صنفين: صنف طبيعي: للإنسان، يهتدي إليه بفكره، وهي: العلوم الحكمية. وصنف نقلي: يأخذه عمن وضعه، وهي: العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الوضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، لأن الخبريات الحادثة المتعاقبة، لا تندرج تحت النقل الكلي، بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي، الذي هو لسان الملة، وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام الله ﷾ المفروضة عليه، وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص، أو بالإجماع، أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذا هو: علم التفسير. ثم بإسناد نقله، وروايته، إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الذي جاء به من عند الله ﷾، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهو: علم القراءات. ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم، وعدالتهم، ليقع الوثوق بأخبارهم، وهذه هي: علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني، يفيدنا العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو: أصول الفقه. وبعد هذا يحصل الثمرة، بمعرفة أحكام الله ﷾ في أفعال المكلفين، وهو: الفقه. ثم إن التكاليف، منها: بدني، ومنها: قلبي، وهو المختص بالإيمان، وما يجب أن يعتقد، وهذه هي: العقائد بالذات، والصفات، والنبوات، والأخرويات، والقدر؛ والاحتجاج عن هذه الأدلة العقلية هو: علم الكلام. ثم النظر في القرآن، والحديث، لا بد أن يتقدمه العلوم العربية، لأنه متوقف عليها، وهي: علم اللغة، والنحو، والبيان، ونحو ذلك. وهذه العلوم النقلية، كلها مختصة بالملة الإسلامية، وإن كانت كل ملة لا بد فيها من مثل ذلك، فهي مشاركة لها من حيث: أنها علوم الشريعة، وأما على الخصوص، فمباينة لجميع الملل، لأنها ناسخة لها، وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة، والنظر فيها محظور، وإن كان في الكتب المنزلة غير القرآن، كما ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل. ثم إن هذه العلوم الشرعية، قد نفقت أسواقها في هذه الملة، بما لا يزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى التي لا فوقها، وهذبت الاصطلاحات، ورتبت الفنون، وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه، وأوضاع يستفاد منها التعليم، واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها.
المنظر الثاني: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم وذلك من الغريب الواقع، لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية، أكثرهم العجم، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو أعجمي في لغته. والسبب في ذلك: أن الملة في أولها، لم يكن فيها علم، ولا صناعة، لمقتضى أحوال البداوة، وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مآخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع، وأصحابه، والقوم يومئذ عرب، لم يعرفوا أمر التعليم، والتدوين، ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر التابعين - كما سبق -، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله: القراء. فهم قراء لكتاب الله ﷾، والسنة المأثورة، التي هي في غالب موارده تفسير له وشرح؛ فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد، احتيج إلى: وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث، مخافة ضياعه، ثم احتيج إلى: معرفة الأسانيد، وتعديل الرواة؛ ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في: الاستنباط، والتنظير، والقياس؛ واحتاجت إلى علوم أخرى، هي وسائل لها، كقوانين العربية، وقوانين: الاستنباط، والقياس، والذب عن العقائد بالأدلة؛ فصارت هذه الأمور كلها علوما (١/ ٤٢) محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع؛ والعرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، والحضر: هم العجم، أو من في معناهم، لأن أهل الحواضر تبع للعجم في الحضارة وأحوالها، من الصنائع والحرف، لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان صاحب صناعة النحو: سيبويه، والفارسي، والزجاج، كلهم عجم في أنسابهم، اكتسبوا اللسان العربي بمخالطة العرب، وصيروه قوانين لمن بعدهم، وكذلك حملة الحديث، وحفاظه، أكثرهم: عجم، أو مستعجمون باللغة، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما، وكذا جملة أهل الكلام، وأكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة، وخرجوا إليها عن البداوة، فشغلهم الرياسة في الدولة العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم، لكونه من جملة الصنائع، والرؤساء يستنكفون عن الصنائع. وأما العلوم العقلية: فلم تظهر في الملة، إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه، واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم، وتركها العرب، فلم يحملها إلا المعربون من العجم.
1 / 40