لقد انتهت هذه الخطوات بصاحبها إلى المعتقل، ومن وراء القضبان كانت أفكار أحمد شوكت ومبادئه تتسلل إلى الخارج، لتنضم إلى أمواج المد التطورية في نضالها الزاحف. وعلى أصداء تلك الأفكار والمبادئ استيقظ ماضي الجيل المأزوم ممثلا في كمال، وبدأ يرتبط بالحاضر ويتفاءل بالمستقبل؛ ويقول كمال لصديقه رياض قلدس، بعد أن هزت ضميره قوى الدفع الجديدة: «إن من المستحسن دائما أن يتأمل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام، وعلى ذلك فالتصرف هروب، كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب، وإذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانا جديرا بالحياة؛ دعني أخبرك بما قال لي أحمد شوكت، عندما زرته في سجن القسم قبل نقله إلى المعتقل، لقد قال لي إن الحياة عمل وزواج وواجب إنساني عام، وليست هذه المناسبة للحديث عن واجب الفرد نحو مهنته أو زوجه. أما الواجب الإنساني العام فهو الثورة الأبدية، وما ذلك إلا العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ، ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى؛ أتدري ماذا قال أيضا؟ قال إني أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب؛ كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم، متى ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة. وهذا هو معنى الثورة الأبدية!»
لقد بدأ كمال يفيق من الإغماءة النفسية الطويلة، بدأ يستعيد إيمانه بنفسه، وبالشعب وبالحياة؛ لقد انتفض مع الانتفاضة الجديدة؛ وحين التقى القطب السالب بالقطب الموجب، اندلعت الشرارة المقدسة التي أضاءت للجموع الزاحفة معالم الطريق!
4
المضمون الاجتماعي والاتجاهي - كما عرضناه في نقدنا لهذه الملحمة الروائية - ينحصر حتى الآن في نطاق القطاع الطولي لمجرى الأحداث والمواقف. أما القطاعات العرضية فيستخدمها الكاتب - كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة - كروافد فنية، تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، هذه القطاعات أو هذه الروافد تمثل الأطراف المتقابلة على جوانب الحيز الامتدادي لخط التطور، كما رسمه الواقع التاريخي للمجتمع المصري، وكما لونه الالتزام الموقفي لنجيب محفوظ.
إن الأطراف المتقابلة تواجهنا مرة من داخل الإطار السلوكي للشخصية، وتواجهنا مرة أخرى من داخل الإطار الاتجاهي للثقافة، وتواجهنا مرة ثالثة من داخل الإطار المذهبي للعقيدة السياسية والدينية؛ هناك تقابل من ناحية المفهوم الثقافي والسياسي بين كمال وأحمد شوكت، وتقابل من ناحية المفهوم القومي والديني بين كمال ورياض قلدس، وتقابل من ناحية العقيدة المذهبية بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم، وتقابل من ناحية الوضع الاجتماعي بين أمينة وسوسن حماد. فبينما نجد مفهوم الثقافة عند الجيل الذي يمثله كمال، هو مفهوم القراءة والاطلاع لمجرد الترف العقلي والمتعة الذهنية، نرى هذا المفهوم يتطور عند الجيل الذي يليه والذي يمثله أحمد شوكت، بحيث تتحول الكلمة المقروءة من عملية إضاءة بالنسبة إلى الفرد، إلى عملية قيادة بالنسبة إلى المجموع؛ إلى تحقيق مصير عادل بالنسبة إلى قضية الإنسان. وبينما نرى كمال يؤمن بالوفد كحزب، يمثل الأغلبية الشعبية وأمانيها في الاستقلال، ويقف بإيمانه عند هذا الحد كنقطة نهائية لهدفه الاتجاهي ، نرى أحمد شوكت وهو يتخطى بتفكيره هذه النقطة، وينظر إلى الوفد على أنه مرحلة انتقالية، يجب أن تعقبها مراحل أخرى من البناء الهادف إلى إسعاد الجماهير. وكمال وعايدة يقابلهما - داخل الإطار السلوكي للشخصية - أحمد شوكت وعلوية صبري، نفس الصراع الطبقي الذي ينتهي هنا كما انتهى هناك، بهزيمة الطرف الممثل للطبقة الوسطى من الشعب! ولكن حين يتأزم كمال وتترك الأزمة رواسبها العميقة في نظرته إلى الحياة والناس، يتماسك أحمد شوكت ويرتفع بطموحه فوق مستوى الموقف، ويرتبط بفتاة من طبقته ويحول الهزيمة إلى انتصار؛ لقد بقي كمال مأزوما حائرا، حتى بعد أن أحب بدور أخت عايدة، ولم يستطع أن ينتصر على نفسه ليرتبط بهذه الفتاة، التي أرغمها الزمن على أن تهبط من عليائها، إلى المستوى الطبقي الذي ينتمي إليه!
يقول له صديقه رياض: «أمن المعقول أن تحبها وأن يكون في وسعك أن تتزوجها؛ ثم تمتنع عن زواجها؟!» فيجيبه بأنه يحبها ولكنه لا يحب الزواج! فيقول له محتجا: «إن الحب هو الذي يسلمنا للزواج، فما دمت لا تحب الزواج كما تقول، فأنت لا تحب الفتاة!» فيجيب بإصرار: «بل أحبها وأكره الزواج!» فيقول له: «لعلك تخاف المسئولية»، فيجيبه محتدا: «إني أحمل من أعباء المسئولية في بيتي وفي عملي ما لا تحمل بعضه!» ويعقب رياض: «لعلك أناني أكثر مما أتصور!» فيقول ساخرا: «وهل يتزوج الفرد إلا مدفوعا بأنانيته الظاهرة والخفية؟!» ويقول له: «لعلك مريض؛ فاذهب إلى طبيب نفساني لعله يحللك!» فيجيب: «من الطريف أن مقالتي القادمة في مجلة الفكر عن «كيف تحلل نفسك»!» فيقول له: «أشهد لقد حيرتني»، فيكون جوابه: «أنا الحائر إلى الأبد!»
كان مصابا بانقسام الشخصية من ناحية، وبدا له الحب من ناحية أخرى «ديكتاتورا»، وقد علمته الحياة السياسية في مصر، أن يمقت الديكتاتور من صميم قلبه، «ففي بيت العالمة جليلة كان يحب «عطية» بجسده، ثم سرعان ما يسترده، وكأن ما كان لم يكن! أما هذه الفتاة المستكنة في حيائها، فلن تقنع بما دون روحه وجسده جميعا إلى الأبد!»
إننا مرة أخرى أمام لحظة تفجير لأحد المنبعين الرئيسيين لأزمة كمال، أمام هزيمة الشعب في صراعه السياسي ضد الديكتاتورية! لقد مرت بنا لحظة تفجير أخرى للمنبع الآخر، حين أثار رياض في نقاشه مشكلة الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، فأثار بها في نفسه مرارة الذكرى المترسبة في مشكلته مع عايدة؛ لقد كره الدكتاتور الطبقي في شخص عايدة، كما كره الدكتاتور السياسي في شخص صدقي ومحمد محمود؛ وعلى طول المدى الانفعالي بهذه الديكتاتورية السياسية والطبقية، تعذب كل ما فيه حتى الحب!
وإذا ما انتقلنا إلى القطاع العرضي الذي نرى من خلاله كمال كرمز للأكثرية المسلمة، ورياض قلدس كرمز مقابل للأقلية المسيحية في المجتمع المصري - رأينا نجيب محفوظ يطالعنا بوجهة نظر موقفية لمشكلة الوضع الديني والقومي لهذه الأقلية، مع التزامية الصدق التاريخي في عرض جوانب المشكلة. يقول رياض لصديقه كمال: «إن الأقباط جميعا وفديون، ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة؛ القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين، على اختلاف عناصرهم وأديانهم. أعداء الشعب يعلمون ذلك؛ ولهذا كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم!» ويقول له كمال في دعابة: «ها أنت تتحدث أنت الذي لا تؤمن إلا بالعلم!» ويعقب رياض في حماسة: «إني حر وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت ... ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي! شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة، كما أرادها سعد زغلول!» ويقول كمال وصدره يجيش بالعواطف: «لا تؤاخذني، فقد عشت حتى اليوم دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية؛ فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع، ثم شببت في جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.» ثم يسأله: «وكيف نستأصل مشكلة كهذه من الجذور؟» ويجيب رياض: «من حسن الحظ أنها ذابت في مشكلة الشعب كله، مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب؛ إذا اضطهد اضطهدنا، وإذا تحرر تحررنا!»
إن التزامية الصدق التاريخي هنا، تبدو لنا من خلال الواقع الاجتماعي الذي يصوره نجيب محفوظ بأمانة؛ ذلك لأن اضطهاد الأقباط في تلك الفترة بواسطة الدكتاتورية الحاكمة، وأشياعها من أبناء الرجعية الشعبية، كان بسبب الاتجاه السياسي، ولم يكن بسبب العقيدة الدينية، ولعل نجيب محفوظ يرمز إلى الوحدة الشعورية كرباط قومي بين الأكثرية المسلمة والأقباط، بتلك الصداقة الخالصة من التعصب بين كمال ورياض قلدس. وكل خلاف طائفي يمكن النظر إليه على ضوء الجانب الموقفي للكاتب، وهو جانب الدعوة إلى الفناء في القومية المصرية. ولقد اتسع الأفق المذهبي اليوم لهذه الدعوة، حتى شمل المفهوم الإنساني العام لمعنى «الفناء»، بالنسبة إلى القومية العربية!
Неизвестная страница