قالت هذا وشبت على أطراف أصابعها وقبلته فوق شفتيه، واحمر وجهها وتلاحقت أضلعها صاعدة هابطة، وتوقفت كلماتها، وعادت تنظر إليه بتدله وعاد هو يحتل عينيها.
وبلغت العصبية بحمزة حدا لا يوصف، أخذ منها الخطاب ووضعه في جيبه وضحك وأسرف في الضحك، ونظر إلى قدميها وأحس بالبرد يلسع أقدامه، وصعبت عليه فوزية وأحس بها ضعيفة صغيرة، وخجل وابتسم ونظر إليها، ولم يستطع الاحتمال فأحاطها بذراعيه وجذبها ناحيته بقوة، ولم تنتظر فوزية فقد شبت مرة أخرى على أطراف أصابعها وقبلته، وضمها بقوة أكثر وأحس بجسده يتفصد أنهارا وبملايين من قطرات سعادة وافدة تسبح مع دمه، وكان وجهه لصق وجهها ورقبته ترقد في منحدر جيدها وشريان رقبتها ينتفض ويحس به يضغط على جلد وجهه ضغطات مقشعرة وسريعة ومملوءة بالانفعال. ورفع رأسه حتى واجهها وأصبح لا يرى عينيها؛ فقد كانتا لصق عينيه، وشفتاها في ارتعاش دائم كارتعاش الخائف، ولمعة عرق تكسو شفتها العليا، وأنفها الدقيق ترتجف فتحته وتتسع وتضيق كلما مرت به أنفاسها اللاهثة، وهبط بفمه على فمها واحتوت شفتاه الغليظتان فمها الصغير الذي كان لا يزال يرتجف، وضم شفتيه وأحس بفمها يستكين إلى فمه وتذهب عنه قشعريرته وينعم باطمئنان دافئ.
ولم يكن لحظتها غائبا عن الوعي، كان في أتم وعيه، لم يكن ينظر إلى نفسه وكأنه لا يزال قطرة في محيطها ولا كانت هي القبس المتجسد ولا المعنى المجرد الذي له قدسية لا يجرؤ على الدنو منها، كانت صغيرة دقيقة بين ذراعيه، وكان الفم الذي يطبق عليه هو فم فوزية الثائرة الزميلة، والقلب الذي يدق بعنف في حضنه هو قلب امرأة ناضلت وتناضل، والرأس الذي بين راحتيه هو ما يدور فيه القلق الدائم الشريف على مصير شعبه، والأصابع التي تضغط على ذراعيه وتسترفقه هي نفسها الأصابع التي حملت حقيبة الديناميت وحملت إليه الجنيهات، والتي من يدري ماذا تحمل غدا، لم تكن هناك أنثى في ناحية وزميلة كفاح في ناحية، ولم يكن نصفه حمزة الثائر ونصفه الآخر حمزة الرجل، بل لم يكن هناك فوزية وحمزة، كان هناك لقاء ضخم رائع، نبضات قلبها تحرك قلبه، وأنفاسها تصب في أنفاسه، وصدرها ملء صدره، وفم واحد أصبح لهما، وأذرع تحيطهما، والتحام لا ينتهي يؤلف بينهما ويضم شتات إنسانين وفرحتين وتاريخين، وحياتين طويلتين بكل ما فيهما من عناد وبسمات، ويأس وأمل، وماض وحاضر، ومدرس وعامل دريسة، وأم ماتت وأم على قيد الحياة، ورجال ونساء وعائلات وذكريات.
وفارت القهوة وسالت غزيرة على جوانب الكنكة، وأغرقت شعلة الغاز وتصاعد طليقا يملأ المطبخ، وتنبهت فوزية وكأنما تفيق من حلم طويل غريب ومدت يدها تقفله وهي لا تزال تحيا في روعة الحلم ولم تكن تعرف كيف يقفل، وكاد حمزة في ارتباكه أن ينسى هو الآخر أي مفتاح يدير.
وعادا إلى الحجرة ذراعا في ذراع، وعينين تنهلان من عينين، وأحلاما في أحلام، وسعادة تكمل سعادة، وبلا قهوة.
وبالتأكيد لم يكونا هما الشخصان اللذان غادرا نفس الحجرة من وقت قليل، كان قد حدث في كل منهما حادث سريع خاطف غير مجرى حياته، وكأن أحدهما كان موجبا فلامس السالب وسرت كهرباء، أو كأن حرفا لا معنى له لاقى حرفا آخر فصارا كلمة لها وقع وثقل ومعان.
وجلست فوزية على الفوتيل وجلس حمزة على ذراعه العريضة وكأنه لم يعد يحتمل أن يبتعد عنها لحظه، وفتح فمه يقول: تعرفي؟
فأغلقت فمه بأصابعها الرقيقة قائلة: استني شوية، خلينا ساكتين؛ أحيانا بيكون للسكون معنى، وسكوتنا حيدي معنى للسكون.
وإن كان حمزة لم ينطق بحرف إلا أنه لم يسكت، بل راح يتأملها بعينيه وأصابعه ولمسات شفتيه ويخاطبها بكل ما يملك من لغة السكون، وما أبلغ لغة السكون! وكان حديثه مع شعرها فيه كلام وكلام، وقد راح يجوب بأنفه ويوسده خصلاتها السوداء الكثة وتنفذ إليه تلك الرائحة التي تتدغدغ لها أعصاب أنفه وتسكر. خليط من عرقها وزيت شعرها والنظافة التي كانت تشع منها كانت لها رائحة هي الأخرى كرائحة قلب جوزة الهند الأبيض، أو مكنون الوردة إذا فرقت عنه أوراقها وشممته.
وقال حمزة وهو مغمض العينين مفتح الحواس: أنا كان حبك بالنسبة لي ترف، دلوقتي أصبح ضرورة.
Неизвестная страница