فقال بلا وجل: أهلا وسهلا.
وأردف سعد بسرعة: ودي يا سيدي الآنسة فوزية سكرتيرة لجنة المدرسات للمقاومة الشعبية.
وتغيرت نظرات حمزة في الحال وصافحها مرة أخرى، وهذه المرة بيده التي كان قد نظفها.
وأضاف سعد: دول لهم كفاح مدهش، زي ما انت عارف كنا بنلم تبرعات، ورحت أجمع من المدرسة بتاعتهم في المنيرة فتعرفت بيها، ولقيت أن المسألة أكثر من كده، وأصرت على أنها توصل للجنة حالا، قلت أجيبها لك، مش كويس، هنيني بقى.
وكان حمزة ينظر إليه وهو لا يدري أيثني عليه أم يوبخه؛ فقد كان من الضروري أن يحدثه بهذا قبل أن يفاجئه بها على تلك الصورة، وقبل أن يقرر ماذا يفعله، كان الشاي قد أعد وصبه الشاب الضخم في ثلاث كوبات من الزجاج الرخيص الأزرق ذي القاعدة السميكة، وصب البقية في كوز صفيح كان يغطي فوهة الإبريق، وقال لفوزية بصوته الغليظ وهو يمد لها يده بكوب: خدي، لحسن دا انتي نازلة رجف الأرا...
ورغم هذا فقد تناولتها منه فوزية وأحاطت الكوب بيديها، وأصر سعد على أن يشرب هو الشاي الذي في الكوز، ولم تفلح المحاولات التي بذلت ليقلع عن إصراره.
وحفلت الخيمة بأصوات رشف الشاي الذي كان يتصاعد بخاره من الكوبات ومن أفواههم، ويشيع فيهم نشوة دفء طارئة في يوم له برودة الرصاص.
وكان حمزة طول الوقت يختلس نظرات خفية إلى فوزية، كانت تلك تكاد تكون أول مرة يجمعه العمل مع فتاة، وفي أعماق نفسه لم يكن يثق بالفتيات ولا بما يمكن أن يقمن به، وإن كان يردد دائما أن لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن لها مثل ما له من حقوق، وصحيح كيف يمكن لفتاة ترتجف من البرد هي ومعطفها هكذا، ولها رفع كهذا أن تخوض معركة مثل التي يخوضونها وتقف معه جنبا إلى جنب؟
وقال سعد: كويس خالص مجهودكو، حاجة عظيمة، انتو عملتو الخشب اللي بره ده إمتى؟! - إمبارح. - كويس جدا عظيم خالص، وحيبتدي التدريب إمتى؟ - بكرة. - دا شيء غريب! دا شيء عظيم! مدهش! بكرة بكرة! - أيوه. - عال جدا، دي حاجة تستاهل التهنئة، دي عايزة حفلة، وإن شاء الله كده حتبدو بميت واحد، لازم على الأقل مية. - حنبتدي بعشرة. - شوية جدا، قليل قوي، شوية خالص، إيه ده؟ - كويسين، إنت اتأخرت ليه؟ مش كان معادك اتنين؟ - أبدا أبدا أبدا، كان اتنين ونص، أقسم بشرفي كان اتنين ونص، لا لا لا أنا في مسألة المواعيد دي دقيق، دقيق جدا، اتنين ونص يعني اتنين ونص، أقسم بشرفي كان اتنين ونص، أنا دقيق في مسألة المواعيد دي بالذات. - كان معادك اتنين، وبلاش حكاية شرفك دي، فاهمني ازاي، ياللا بينا.
قالها حمزة وهو يقوم، وخرج الجميع والشاي يشيع فيهم الثقة لمواجهة البرد، الفضاء ساكن سكونا مذهلا، والبقعة جرداء، والسماء ملبدة بالسحب وكأنها توشك أن تمطر، وهناك على مرمى البصر القاهرة في سمائها غبرة رمادية، ومنازلها تبدو مكدسة لا تشذ منها سوى عمارات قليلة ومآذن تظهر من بعيد وكأنها مداخن مصنع مهجور كبير، والأرض الواقفون فوقها رخوة تكاد تنوء بالأرجل، وهواء خفيف أصفر يهب في حدة ويداعب القش الكثير الذي يغطي وجه الأرض فتطير له قشاشات وتخرفش له الباقيات ، وسألت فوزية: هو ده المعسكر؟
Неизвестная страница