Новые и старые: исследования, критика и обсуждения
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Жанры
يا حبذاه! تلك عبارتنا الإقليمية عند الحسرة الممزوجة بالألم، فهي بنت قرية من قرانا المتواضعة، وهي ما برحت تحتفظ بلحن عذب تحدث به لبنانيا عتيقا لا يتمطق ولا يلوك لسانه، قابلته ماري زيادة بالمثل، وهي بنت الجبل مثله، لا تعرف مضغ الكلام ولا صبغ الأحاجيب كبدويات المتنبي.
كم كنت غليظ القلب في إلحاحي عليها، فوا عجباه ثم وا عجبا! كيف لم أفهم أن هذه الهاء هي هاء السكت والندبة، كيف لم أدرك ما احتوت عليه «يا حبذاه» من تفجع يعتلج في صدر تلك المسكينة، فرحت أزيد الطين بلة ولا أحس، كانت مي تلك الساعة:
كعصفورة في كف طفل يهينها
تقاسي عذاب الموت والطفل يلعب
قد - والله - كنت أقل من طفل، وإني لأذكر ذلك وضميري يؤنبني، فمغفرة يا روح بنتنا العزيزة.
كنت أتأمل مي وأنا في حضرتها، كأنني غيلان أطوف بربعها الخرب، كانت تحدثنا بصوت في قرارته حسرة تحاول إخفاءها فلا تختفي، رأيتها تأبى الجلوس بين الصديق الشيخ فؤاد حبيش والسيدة عقيلته، عملا بتقليدنا اللبناني الذي تلقته في مدرسة البيت، لم تبدر منها بادرة لا عهد لي بها، فباتت في عيني مثال المرأة اللبنانية، لا تجود بأكثر من ابتسامة لما كان نقهقه من نكات شاردة حضرتنا في تلك الساعة، أسمعت بقولهم: بنت مقهورة، لقد رأيتها تلك الليلة بشخص مي فاستغنيت عن البحث والتفتيش.
قرأت أن الدكتور فهمي ختم خطبته، وموضوعها «نزعات مي في حياتها»، بهذه الكلمات التي يقال أنها كتبتها قبل موتها: «هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، لقد عاشت وأحبت، وتعذبت وجاهدت ثم قضت.»
من نكد الحظ أن تبتدئ حياة مي بالمقلوب، فبعد ما أمست الكاتبة الأولى أحبت الكاتب الأول فمضى لسبيله، وكان الكبت وكان الانفجار، ولم تفز مي بالتصعيد الفرويدي المزعوم لتتسامى بفنها وتستولي على الأمد، فلو أحبت في فجر طلعتها الأدبية لظلت أمامها رقعة الأمل واسعة، ولكنها ابتدأت حيث ينتهي الناس فلم تتحول غريزتها الجنسية إلى أسمى من الهوى، إلى حب الجمال والموسيقى فذهبت ضحية «الفكرة الثابتة». «الفكرة الثابتة» شر من التنين الذي رآه يوحنا، فإذا احتلت ساحة الشعور سيطرت عليها واستعمرتها، وكيف لا تفترس حملا وديعا لا حاجب على حظيرته ولا بواب، مات الأب ولحقت به الأم، وأمست البنت وحدها، وجهها والحيط كما يقولون، وجبرانها أمسى عريس البلى.
قد يقال ما هذا الحب وبينهما بحور أقل أمواجها جبل؟ فنجيب أن بشار بن برد قد انبرى لحل هذه العقدة فاستفتوا شعره، وإذا كان علم النفس يعلل الحب العياني زاعما أن المرء لا يحب شخصا حقيقيا، بل يعشق شخصا خياليا فينتزع من نفسه أشياء يسبغها على معشوقه، حتى يخال أنه اكتشف بذلك أسرار النهاية وحقيقة الوجود، فكيف بمي المفتونة بسحر جبران حتى ترى فيه شخصا أسمى من البشر؟
إن التقاليد التي شن عليها جبران ألف غارة، هي التي ختمت مأساة من أحبته حبا جما هذا الختام الفاجع، أبت الفتاة أن تخفف رأسها وتذهب إلى لقاء الشاب، فعلى الشاب أن يسعى، وقبل أن يلهما حلا ملائما مات جبران وعاشت مي بعده كراحيل لا تريد أن تتعزى، استبدت بها «الفكرة الثابتة» فأبغضت الناس وتحامتهم؛ لأنهم سعدوا دونها، حتى أبت أن تستقبل الدكتور طه حسين الذي سعى إليها، بل أنبأته - كما روي - بأن ليس بينها وبين غيرها من الناس اتصال، ولا خطاب ولا حديث إلا من طريق الكتابة، فإن كانت لك كتب لم أقرأها فأرسلها إلي، وأما شخصك فلا أراه ولا يراني.
Неизвестная страница