سأل ويل: وما سر ذلك؟ - الأمر في غاية البساطة بالنسبة لأمثال بيتر بان. إننا لا نتيح لهم فرصة لاستثارة شهوة السلطة عندهم. نحن نعالج انحرافهم قبل أن يستفحل. ولكن الأمر على خلاف ذلك مع أصحاب العضلات. إنهم عندنا مثلما هم عندكم ذوو عضلات لا ينطوون على أنفسهم، ويريدون أن يدوسوا غيرهم بالأقدام؛ لذلك يتحولون إلى أمثال استالين وديبا، أو على الأقل إلى مستبدين في أوطانهم. أولا: نظمنا الاجتماعية لا تتيح لهم إلا قليلا من الفرص لكي يتنمروا على أفراد أسرهم، كما أن نظمنا السياسية تجعل من المستحيل عليهم أن يتسلطوا على نطاق واسع. ثانيا: نحن ندرب أصحاب العضلات على أن يكونوا حساسين وعلى وعي، ونعلمهم أن يستمتعوا بالأمور العادية في الحياة اليومية. ومعنى ذلك أن البدائل تتوافر لهم دائما؛ بدائل عن حبهم للرياسة. وأخيرا نحن نعالج أصحاب هذا التكوين البدني بكل صنوفه تقريبا؛ علاجا مباشرا. نشق لحب السلطة هذا قناة يتسرب منها ونغير اتجاهه، نحوله من التسلط على البشر إلى التسلط على الأشياء . نعطيهم كل صنوف العمل لكي يؤدوه؛ العمل الشاق والعمل العنيف الذي يدرب عضلاتهم ويشبع رغبتهم في التسلط؛ لا يشبعها على حساب غيره، وإنما بطرق إما لا تضر وإما تفيد فائدة إيجابية. - ومن ثم كان هؤلاء الرجال الذين يستدعون الإعجاب يسقطون الأشجار بدلا من أن يسقطوا البشر؛ أليس كذلك؟ - تماما، وبعدما يستكفون من الغابات يتوجهون إلى البحر، أو يشغلون أيديهم بالتعدين، أو يسترخون نسبيا بالعمل في حقول الأرز.
وفجأة ضحك ويل فارنبي. - ما الذي يضحكك؟ - تذكرت أبي. ربما كان القليل من قطع الأشجار يجعل منه شخصا آخر وينقذ أسرته البائسة. ولكن لسوء الحظ أنه كان من الإنجليز المهذبين الذين يستبعدون من حياتهم قطع الأخشاب بتاتا. - أولم تكن لديه مخارج بدنية يصرف فيها طاقاته؟
هز ويل رأسه قائلا: كان والدي إنجليزيا مهذبا، ويظن فوق ذلك أنه من المثقفين. والمثقف لا يشغله صيد ولا قنص ولا يلعب الجولف. إنه يكتفي بالتفكير والشراب. وكانت متعة أبي إلى جانب شرب البراندي أن يتنمر على غيره وأن يلعب البريدج، ويهتم بالنظريات السياسية. كان يتصور نفسه صورة في القرن العشرين للورد آكتون
6
آخر الفلاسفة الليبراليين. كم كان يسرك أن تسمعه وهو يتحدث عن مظالم الدولة الحديثة القادرة على كل شيء! كان يقول: السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد فسادا مطلقا. نعم مطلقا. وبعدما يردد هذه العبارة يشرب كأسا أخرى من البراندي ثم يعود بحماسة شديدة إلى ملهاته المحببة إلى نفسه؛ الاستبداد بزوجته وأطفاله.
قال الدكتور روبرت: وإذا كان آكتون نفسه لم يسلك هذا المسلك فإنما كان ذلك لأنه كان بالصدفة رجلا فاضلا وذكيا. لم يكن في نظرياته ما يحد من انحراف صاحب العضلات أو ما يمنع بيتر بان - قبل أن يعالج - من أن يدوس أي فرد يقع في متناول قدميه. تلك كانت نقطة الضعف عند آكتون. كان - ككاتب في النظريات السياسية - يدعو إلى الإعجاب. أما كعالم نفساني عملي فقد كان لا يفقه شيئا. يبدو أنه كان يظن أن مشكلة السلطة يمكن أن تحل بالنظم الاجتماعية الجيدة التي تكملها - بطبيعة الحال - قواعد الأخلاق السليمة، وشيء من الديانات المنزلة. في حين أن مشكلة السلطة تمتد جذورها إلى تشريح الجسم وإلى كيميائه الحيوية ومزاجه. لا بد من كبح السلطة على المستويين القضائي والسياسي. هذا أمر واضح. ولكن من الواضح أيضا أنه لا بد من الوقاية على المستوى الفردي، وعلى مستوى الغريزة والعاطفة، وعلى مستوى الغدد والأمعاء، والعضلات والدماء. لو توافر لدي الوقت لكتبت رسالة عن وظائف أعضاء الإنسان وعلاقتها بالأخلاق والدين والسياسة والقانون.
وردد بعده ويل كلمة «القانون» وقال: كنت على وشك أن أسألك عن القانون. هل أنتم في غنى مطلق عن السلاح وعن العقوبة؟ أم لا زلتم في حاجة إلى القضاة ورجال الشرطة؟
قال الدكتور روبرت: لا زلنا في حاجة إليهم، ولكنا لسنا بحاجة مثلكم إلى الكثيرين منهم. فأولا نحن بفضل الطب الوقائي والتربية الوقائية لا نرتكب كثيرا من الجرائم. ثم إن معظم الجرائم التي ترتكب نعالجها في «نوادي التبني المتبادل». علاج جماعي في مجتمع يأخذ بنظام المسئولية المشتركة عن المنحرفين. وفي الحالات المستعصية نستكمل العلاج الجماعي بالعلاج الطبي وبفترة محددة من تعاطي عقار الموكشا، بتوجيه من رجل على درجة نادرة من نفاذ البصيرة. - وما دور القضاة؟ - يستمع القاضي إلى الأدلة ويقرر إن كان المتهم بريئا أو مذنبا، فإن كان مذنبا أمر بحجره احتياطيا في «نادي التبني المتبادل» الذي ينتمي إليه. وإذا لزم الأمر يتم حجزه لدى لجنة الخبراء الطبيين والمتصوفين العارفين بأثر الفطريات. وفي فترات متفق عليها يرسل الخبراء كما يرسل نادي التبني المتبادل تقاريرهم إلى القاضي، حتى إذا ما كانت التقارير مرضية انتهت القضية. - وإذا لم تكن مرضية أبدا؟
قال الدكتور روبرت: إنها دائما ترضي في النهاية.
ثم سادت فترة من الصمت.
Неизвестная страница