الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Неизвестная страница
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Неизвестная страница
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
Неизвестная страница
الجزيرة
الجزيرة
تأليف
أولدس هكسلي
ترجمة
محمود محمود
مقدمة المترجم
بقلم محمود محمود
يسرني أن أقدم إلى قراء العربية هذه القصة التي اقترحت على لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة ترجمتها فتفضلت اللجنة مشكورة بالموافقة.
مؤلف هذه القصة هو الكاتب الإنجليزي المعاصر أولدس هكسلي الذي ولد في عام 1894م ومات في عام 1964م. وقد قضى حياته كلها بين الكتب يقرأ ويكتب في محاولة لإصلاح المجتمع بالنقد البناء ورسم صورة لعالم جديد تتوافر فيه السعادة والحرية للناس أجمعين.
Неизвестная страница
وهو، من ناحية أبيه، حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير، وينتمي من ناحية أمه إلى أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي المعروف في عالم التربية في بلاد الإنجليز. ومن بين أفراد أسرته من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فهو من بيت علم وأدب، تأثر في نشأته بهذا الوسط الثقافي، وتزود بقسط وافر من المعارف وقدر كبير من الألفاظ المعبرة. ولما كان من الأدباء الموهوبين فقد كانت كتاباته دسمة تنطوي على فكر عميق وأسلوب رائع خلاب.
قاسى كثيرا في طفولته من ضعف بصره الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا كفيف البصر، وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر ويتأمل. وكان لهذه الفترة من حياته أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد، بعدما زال عنه خطر العمى الكامل واسترد شيئا من قدرته على الرؤية؛ فهو يميل دائما إلى التفكير المستقل والتأمل الصوفي.
غير أن ما أصابه في عينيه لم يصرفه عن التعلم وإدمان القراءة. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرا محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب من جيله، ولبث شاعرا طوال حياته حتى عندما تحول من التعبير بالكلام المنظوم إلى النثر الفني يكتب به القصص والمقالات. فهو في نثره ينضح من الوجدان أكثر مما يبني على العقل والمنطق، يحلق في الخيال ويستخدم الطريف من التشبيه والاستعارة والكناية.
ولما أتم تعليمه الجامعي في أكسفورد رحل إلى لندن واشتغل بالصحافة، يكتب المقالات والقصص القصيرة.
ثم شرع بعد ذلك يكتب الروايات الطويلة متأثرا بمنهج الكاتب الروائي توماس بيكوك الذي عاش في القرن التاسع عشر، واشتهر بسعة الاطلاع وروح التهكم والخيال الجامح. وأخرج هكسلي العديد من الروايات التي اتخذ منها وسيلة لبث كثير من آرائه التي بشر بها.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه العالم جوليان إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم، ولكنه - على الرغم من عمق ثقافته وغزارة علمه - لم يقصر نفسه على مجرد التفكير، بل كان يمارس كثيرا من الأعمال ويعاشر الكثير من الرجال، وكانت حياته الاجتماعية خصبة تمده بكثير من التجارب والخبرات.
يقول في إحدى قصصه التي كتبها في باكورة حياته الأدبية:
أكثر الناس يقبل على معركة الحياة يخوضها بآراء مسبقة عن كل شيء وله فلسفة جاهزة يحاول أن يخضع لها أمور هذه الدنيا بأسرها. وهذا وضع مقلوب، والصحيح هو أن يمارس المرء حياته أولا، ثم يحاول بعد الخبرة أن يصوغ فلسفته وآراءه التي تتفق مع الحياة كما عرفها.
وعلى هذا النهج سار هكسلي في حياته؛ يمارس العمل ويكتسب الخبرة قبل أن يصوغ الرأي، لا تكبله قيود المبادئ والأصول والتقاليد الموروثة؛ ومن أجل هذا كان ثائرا على المألوف. وكانت له آراء عجيبة لا يسيغها المجتمع، ولكنه وضع حريته في الرأي فوق استرضاء الجماهير.
وشغل نفسه طوال حياته بالعلاقة بين العلم والمجتمع، فكتب روايته الشهيرة «العالم الطريف» التي سبق لي أن نقلتها إلى اللغة العربية. وفي هذه الرواية عبر هكسلي عن خوفه من سيطرة العلم سيطرة كاملة على حياة الناس، وأشفق على المجتمع البشري من المغالاة في تطبيق العلم إلى الحد الذي تنتفي معه في حياته العاطفة والشعر وتقدير الجمال.
Неизвестная страница
في مثل هذا العالم الذي يقوم على قواعد العلم دون غيرها تصبح الحياة آلية يتشابه فيها زيد مع عمرو وتتلاشى المميزات الخاصة لكل فرد.
كان هكسلي في كتابه هذا متشائما في مستقبل البشرية إلى أقصى الحدود. وبعدما مرت السنون أدرك أن هذا التشاؤم لا يؤدي إلى إصلاح أسباب المعاناة والشقاء، فأخرج كتابا آخر أسماه «عود إلى العالم الطريف» راجع فيه آراءه السابقة، وكان أكثر تفاؤلا وأشد ميلا إلى الفكر البناء، ودعا إلى المزيد من الديمقراطية والحرية، وإلى رفع مستوى المعيشة بضبط النسل وتنظيم الأسرة.
ولبث يفكر في تصوير عالم جديد تتوافر للمرء فيه الحرية والسعادة، وأخيرا انتهى إلى رسم صورة خيالية لهذا العالم في قصته «الجزيرة» التي أقدمها اليوم إلى القراء.
ولي مع هذا الكتاب قصة؛ فلقد كنت دائما شغوفا بكل ما كتب هكسلي أقرؤه وأتدبره وأنقل بعضه إلى العربية بنصه الكامل أحيانا وفي صيغة ملخصة أحيانا أخرى. حتى كان صيف عام 1962م حينما أتيحت لي فرصة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وطفت بالعديد من ولاياتها. ولما بلغت سان فرانسسكو بولاية كاليفورنيا وقابلت هناك المسئولين عن تنظيم رحلتي، بادرني أحدهم بقوله إنهم يعلمون عني أني من المولعين بأدب هكسلي. ولما كان الرجل في ذلك الحين يقيم في بركلي على مقربة من مدينة سان فرانسسكو أستاذا زائرا في جامعة كاليفورنيا، يلقي على طلبتها محاضرات في الأدب المعاصر؛ فقد اتصلوا به يخطرونه بقدومي، وتفضل بدعوتي إلى زيارته بمنزله. ولبيت الدعوة بسرور بالغ لأنني وجدت فيها فرصة ألتقي فيها بهذا الكاتب العظيم، وأجري معه حديثا يزيدني علما وبصيرة بفكره ونظراته في الحياة.
ودهشت لبساطة المنزل، وتواضع الرجل، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث زهاء ساعتين، وأذهلني منه عمق ثقافته واتساعها وشمولها؛ فهو على دراية تامة بتقدم العلوم الطبيعية، وبالتاريخ السياسي وتاريخ الأديان، وبكثير من اللغات الحية واللغات البائدة، وآداب الشعوب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، ونظريات التطور وعلم النفس الحديث، والفنون القديمة والحديثة بضروبها كافة، وعلوم الفلسفة والتربية ... ماذا أقول! إنني لا أكون مغاليا إذا قلت إن الرجل موسوعة علمية كاملة، امتزجت في شخصه مختلف المعارف والثقافات، وكون لنفسه من هذا المزيج فلسفته الخاصة التي أخرجها في كتب أدبية رائعة تتسم بروعة الأسلوب والأداء.
وراعني من الرجل خاصة وعيه لمشكلات هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، منطقة الشرق الأوسط، مهبط الوحي والديانات، وعطفه على العروبة وآمالها، وميله إلى التصوف وتقديره له، وإيثاره التصوف الإسلامي على التصوف البوذي الهندي؛ لأن النوع الأول من التصوف منشئ بناء، في حين أن التصوف البوذي سلبي هدام، لا يحث على عمل، ولا يدفع إلى خلق أو ابتكار. وأخذ يروي لي أبياتا من الشعر بالإنجليزية هي ترجمة لشعر جلال الدين الرومي الذي أبدى إعجابا شديدا به. كما عبر عن أسفه الشديد لأنه لا يعرف اللغة العربية لكي يتمكن من أن ينهل من الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصيلة.
وأردت أن أظفر من الرجل في نهاية الزيارة بحديث عن أحدث آرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وتقدم العلوم والحضارة البشرية عامة، أنشره بعد عودتي لبلادي، فقال: خير من حديث مطول ربما لا يلم بكل أطراف الموضوع أن أهدي إليك آخر مؤلفاتي؛ لعلك واجد فيه بغيتك. ونهض إلى مكتبته وعاد منها بكتاب أمهره بعبارة إهداء لطيفة، فقبلته منه شاكرا، ثم انصرفت.
والكتاب الذي أهداني إياه هو قصة «الجزيرة» التي أشرت إليها من قبل في هذه المقدمة، ولعل هذه القصة هي آخر ما كتب قبل وفاته. وعكفت على الكتاب أقرؤه، وعزمت على أن أنقله إلى اللغة العربية، ومضت السنون دون أن أحقق ما اعتزمت حتى كانت هذه الفرصة الطيبة التي أتاحها لي المجلس الأعلى للثقافة.
والكتاب عبارة عن قصة حول جزيرة خيالية اسمها بالا تقع في بقعة نائية بالمحيط الهادي بعيدة عن حضارات الشرق والغرب، عاش أهلها مائة وعشرين عاما في مجتمع مثالي توافرت فيه كل أسباب الحرية والسعادة، لا يتقيد بما ألفنا من نظم، فلا هو بالمجتمع الرأسمالي، ولا هو بالمجتمع الشيوعي. أهله متصوفون يؤمنون بالعلم الحديث وإمكاناته، العلم الذي يتحرر به الإنسان، وليس العلم الذي يستعبد الإنسان. وإن كان العلم في قصة «العالم الطريف» قد جعل الحياة على الأرض جحيما؛ فالعلم ذاته في هذا العالم الجديد قد أقام على الأرض نعيما.
وقد تم هذا اللقاء بين الشرق والغرب، وهذا التزاوج بين العلم والإيمان عندما وفد إلى جزيرة بالا طبيب من أهل الغرب يمثل العلم الحديث استدعاه حاكم الجزيرة لمعالجته من مرض عضال ألم به وكاد أن يودي بحياته، وهذا الحاكم رجل بوذي مغرق في تصوفه، وأفلح الطبيب في علاج الرجل فنشأت بينهما صداقة قوية ترمز للجمع بين العلم والدين، واتخذ الحاكم طبيبه وزيرا له، وتعاهدا على إصلاح الأمور في مملكة بالا على هذا الأساس. وسرعان ما أخذ الناس جميعا بهذا الأسلوب الجديد من العيش الذي يجمع بين العلم والإيمان.
Неизвестная страница
وبهذه الجزيرة ثروات طائلة من البترول والمعادن أثارت حسد العالم المحيط بها ومطامع المستعمرين وشركات الاستثمار في أوروبا وأمريكا. فرأى أحد مديري هذه الشركات الذي يملك كذلك الكثير من الصحف أن يبعث إلى بالا وكيلا عنه - هو ويل فارنبي - أحد المحررين في صحفه، ليستطلع مجالات الاستثمار في الجزيرة، ويلتقي بالمسئولين فيها يدرس معهم إمكان إبرام اتفاق مشترك شبيه بما يحدث عادة في بلاد الثروة البترولية.
ويصل ويل فارنبي بعد مشقة إلى الجزيرة ويجوس خلالها ويتعرف على أهلها وأمورها فيرى العجب الذي يستنكره أولا، ولكنه لا يلبث أن يقتنع به ويعتقد فيه.
ماذا رأى ويل فارنبي في جزيرة بالا؟
رأى قوما يأخذون بالصوفية البوذية مسلكا في حياتهم وبالعلم الحديث طريقا إلى التقدم والتطور.
والصوفية فوق هذه الجزيرة سبيل لتحرير النفوس من سلطان المادة، وطريق إلى بلوغ الاستنارة الكاملة والوعي الشامل بالتأمل العميق في الحياة ومغزاها.
وقد أفاض الكاتب في مواضع عدة من الكتاب في تفصيل الكلام عن البوذية وأشار إلى كثير من معالمها وأعلامها. وقد أوضحت في هوامش من عندي بنبذ قصيرة ما يشير إليه الكاتب من أسرار هذه العقيدة الدينية، كما حاولت في الهوامش كذلك أن أفسر ما قد يغمض على القارئ من الإشارات والأعلام التاريخية الكثيرة التي يوردها في سياق القصة بفرض أن القارئ على علم مسبق بها.
وأهل بالا يفيدون من قوة الإيحاء والتنويم المغناطيسي في تعليم الأطفال وعلاج المرضى، ويمكنهم بتأثير عقار يتعاطونه اسمه «الموكشا» أن يعيشوا في أحلام حلوة عذبة يتصلون فيها بالواحد الأحد ويتأملون في خلق السموات والأرض، ويتحدون مع الكون بمظاهره كافة؛ وذلك هدف من أهداف التصوف السامية.
ولأهل بالا فلسفتهم الخاصة في التربية وتنظيم الأسرة، وفي الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقات الإنسانية، والفنون والثقافة، ونظرة الإنسان إلى الموت، والتكنولوجيا الحديثة، وكل شأن من شئون الحياة، متحررين تماما من العقد وقيود الماضي ومن الاستعمار البغيض.
وفي رواية «الجزيرة» مجال فسيح لعرض هذه الآراء وأمثالها في حوار ممتع؛ لأنها ليست قصة بالمعنى المألوف، فهي تكاد أن تخلو من العقدة، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، إنما هي قصة لعرض الآراء والأفكار.
ولست أريد أن أسترسل في مقدمة الكتاب في بسط كل ما جاء به من طريف هذه الآراء والأفكار، وأوثر على ذلك أن أضع الكتاب بين يدي القارئ يستغرق فيه مع خيال الكاتب الذي آمل أن يجد فيه متعة ذهنية ولذة روحية.
Неизвестная страница
ولم يكن هكسلي في كتابه هذا متفائلا كل التفاؤل بسيادة النظام الجديد؛ لأن العالم ما تزال به كثير من الشرور التي تفتك بمحاولات التقدم وبما تحرزه الشعوب من نعمة الحرية والاستقرار والاستقلال.
وفي قمة هذه الشرور نقمة المطامع المادية والاستعمار؛ ولذلك نرى هكسلي يتخيل في نهاية القصة بأن الطامعين من أهل الغرب يحيكون مع أحد الحكام المستبدين في بلد مجاور لبالا مؤامرة للاستيلاء عليها، فيدخل هذا الحاكم المستبد الجزيرة غازيا ليحكمها حكما مطلقا ويمنح المستثمر الأجنبي امتيازات يستولي بها على ثروة البلاد. وبهذا تنتهي القصة وتخضع أرض الأحلام إلى الواقع المرير.
ومما شجعني على القيام بترجمة هذا الكتاب هو تلك الدعوة التي ينطوي عليها إلى الأخذ بالعلم والإيمان، وإلى الجمع بين فلسفة الشرق الروحية وفلسفة الغرب المادية في كيان واحد، وهو ما نهدف إليه في نهضتنا الجديدة، وما يتطلع إليه المفكرون والمصلحون في العالم الحديث.
عندما نضع مثلا أعلى، لنا أن نفترض ما نشاء على أن نتجنب المستحيلات.
أرسطو
الفصل الأول
- انتباه!
بهذه الكلمة صاح المنادي، وكأن مزمارا قد نطق فجأة بصوت واضح. - انتباه، انتباه!
هكذا أخذ الصوت يكرر النداء بنفس النغمة العالية الرتيبة التي تخرج من الأنف.
وكان ويل فارنبي مستلقيا بين أوراق الأشجار الذابلة وكأنه جثة هامدة، شعره مشعث، ووجهه ملطخ بصورة بشعة، به كدمات ورضوض، وثيابه رثة ملوثة بالوحل، عندما تيقظ من غفوته مذعورا.
Неизвестная страница
وكأن مولي قد نادته صائحة: لقد آن أن تنهض وترتدي ثيابك لكي لا تتأخر على موعدك بالمكتب.
فاعتدل قائما وقال لها: شكرا لك يا عزيزتي.
وأحس ألما حادا بركبته اليمنى، وبصنوف أخرى من الألم في ظهره، وذراعيه، وجبهته. - انتباه!
أخذ الصوت يردد هذه الكلمة دون أدنى اختلاف في النغم. فاتكأ فارنبي على أحد مرفقيه، وتلفت حواليه، ولشد ما كانت حيرته عندما لم تقع عينه على الحائط المكسو بالورق الرمادي، وعلى السجف الصفراء التي تغطي غرفة نومه في لندن، وإنما وقعت على أرض فضاء وسط الأشجار، وعلى الظلال المستطيلة والأضواء المائلة التي تظهر في الغابة في الصباح الباكر. - انتباه!
لماذا قالت: انتباه؟
ولكن الصوت أخذ يردد القول: انتباه، انتباه! بشكل يدعو إلى العجب ويخلو من المعنى!
وتساءل: مولي؟ مولي؟
وكأن هذا الاسم قد فتح في داخل رأسه نافذة. وفجأة وبذلك الشعور الرهيب بالذنب الذي يحسه المرء في أعماقه شم رائحة «الفورمالدهايد»، ووقعت عينه على تلك الممرضة النحيلة خفيفة الحركة وهي تخب في السير أمامه على طول الدهليز الأخضر، وطرقت أذنه خشخشة ردائها المنشى، وكانت تكرر قولها: رقم 55. ثم توقفت، وفتحت بابا أبيض اللون، فولجه، ورأى مولي فوق سرير مرتفع أبيض، مولي بالضمائد تغطي نصف وجهها، فاغرة فاها.
وناداها: مولي، مولي ...
وتهدج صوته، وأخذ يبكي ، ويناشدها: حبيبتي! وليس من مجيب. ومن فمها المفتوح صعدت زفرات خافتة متلاحقة بغير معنى، وهو يكرر النداء: حبيبتي، حبيبتي ...
Неизвестная страница
وعندئذ دبت الحياة فجأة وللحظة قصيرة في اليد التي كان يمسك بها، ثم عادت إلى السكون.
وقال: هذا أنا، أنا ويل.
ومرة أخرى اهتزت أصابعها. وفي بطء زائد وبجهد باد أطبقت على يده، وضغطت عليها لحظة، ثم أرخت أصابعها ثانية ولا حراك فيها.
وصاح ذلك الصوت غير الإنساني: انتباه، انتباه!
وسارع إلى إقناع نفسه بأنها لم تكن سوى حادثة؛ فلقد كان الطريق مبتلا، وانزلقت العربة عبر الخط الأبيض، وهو أمر يتكرر حدوثه، والصحف مليئة بأمثاله، وما أكثر ما أبلغ عن أشباهها، فروي مثلا «أن أما وأطفالها الثلاثة قد لاقوا حتفهم في تصادم عنيف ...»
ولكن هذا لا يهم الآن، وإنما المهم هو أنها عندما سألته إن كانت تلك هي النهاية حقا، رد عليها بالإيجاب. المهم أنه في أقل من ساعة زمن بعدما خرجت تحت المطر من تلك المقابلة الأخيرة المخجلة كانت «مولي» في عربة الإسعاف تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ولم يكن قد أعارها التفاتا عندما أولته ظهرها لكي تنصرف. بل ولم يجرؤ على ذلك؛ فإن نظرة أخرى إلى ذلك الوجه الشاحب الذي يعاني الألم قد تفوق قدرته على الاحتمال وكانت قد نهضت من مقعدها وتحركت ببطء شديد تذرع الغرفة من جانب إلى جانب، بل تحركت ببطء لتختفي من حياته. فهل يسترجعها، ويطلب عفوها، ويقول لها إنه ما زال يحبها؟
وللمرة المائة ناداه المزمار بصوت واضح إلى الانتباه!
وهل أحبها فعلا في أي وقت مضى؟
وعادت به ذاكرته إلى همستها وهي تتلفت خلفها عند عتبة الباب قائلة: تصحبك السلامة يا ويل. ولقد كانت «هي» التي قالت: إنني ما زلت أحبك يا ويل، على الرغم من كل ما حدث. بصوت هامس يخرج من أعماق القلب.
Неизвестная страница
وبعد هنيهة انغلق باب الغرفة خلفها دون أن يحدث صوتا مسموعا، ثم كانت طقطقة المزلاج التي توارت بعدها عن الأنظار.
وقفز من مكانه وانطلق نحو الباب الخارجي وفتحه واستمع إلى خطوات تراجعها على الدرج، وكأنها شبح عند منبلج الصباح خلف وراءه عطرا خفيف الرائحة مألوفا أخذ يتلاشى في الهواء. وأغلق الباب مرة أخرى وأخذ يجول في غرفة النوم الرمادية والصفراء وتطلع من النافذة. وبعد بضع ثوان رآها وهي تعبر الطريق وتركب السيارة. واستمع إلى صوت مفتاح التحريك وهو يدور بصوت عال، دفعة أولى، ثم دفعة ثانية. وبعدئذ استمع إلى طنين المحرك، فهل يفتح النافذة؟ وأصغى إلى نفسه وهو يصيح في خياله: مهلا يا مولي، مهلا!
وظلت النافذة مغلقة، وبدأت السيارة في التحرك، ودارت عند الناصية، وأصبح الطريق خاليا. وفات الأوان، واستمع إلى صوت ساخر أجش وهو يكرر القول: الحمد لله، لقد فات الأوان! ومع ذلك فقد كان الإحساس بالذنب في صميم الفؤاد، وتأنيب الضمير يجز في نفسه، ولكنه استطاع برغم هذا التأنيب أن يشعر بشيء من السرور؛ فلقد كان هناك شخص وضيع فاسق همجي، شخص غريب بغيض - ولكنه يعبر في الواقع عما في نفسه - تساوره الفرحة بأنه لم يعد أمامه الآن ما يعوقه عن الظفر بما يريد، وما يريد هو عطر آخر؛ هو الدفء والمرونة ينبعثان عن جسم أكثر نضارة وشبابا.
ثم نادى المزمار: انتباه!
نعم، انتباه! انتباه إلى مخدع بابز الذي يفوح بالمسك، والذي يتوارى في فجوة قرنفلية اللون كالفراولة، لها نافذتان تطلان على شارع تشارنج كروس يتسرب من خلالهما طوال الليل وميض خاطف يصدر عن لوحة مرتفعة عالية تعلن عن «بورترجين» وتقع على الجانب الآخر من الطريق. وكلمة «جين» قرمزية اللون؛ وقد أمست الفجوة لعشر ثوان قلبا مقدسا، ولعشر ثوان معجزة. تلألأ الوجه المتورد - الذي كان يلاصقه - وكأنه وجه صاروفيم. وقد صاغته نار الحب الدفينة في صورة أخرى. ثم حدث بعد ذلك تحول أشد عمقا في ظلام الليل. ودقت الساعة دقة أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة ... ربي اجعلها تدق أبد الآبدين! وعندما دقت الساعة الكهربائية دقتها العاشرة تبدت له رؤية أخرى؛ رؤية الموت والفزع الأكبر؛ ذلك أن الأضواء هذه المرة كانت خضراء وتحولت فجوة بابز الوردية لعشر ثوان مقيتة إلى بؤرة من الوحل، واستحالت بابز إلى ما يشبه الجثة التي أصابها صرع بعد الموت. وعندما اتخذ إعلان «الجين» اللون الأخضر تعذر نسيان ما حدث وحقيقة الإنسان الذي كان. ولم يعد بوسعه إلا أن يغمض عينيه ويغوص - إن استطاع - بدرجة أشد عمقا في العالم الآخر، عالم الشهوات الحسية، وأن يغوص بعنف، وعن عمد، في تلك النوبات التي تطير بصوابك، وهي نوبات كانت مولي المسكينة غريبة عنها تماما؛ انتباه! مولي التي هي الآن في ضمائدها. وفي مثواها الرطب في هايجيت.
ولقد كانت هايجيت - بطبيعة الحال - هي السبب الذي يجعله يغمض العين كلما سقط الضوء الأخضر على بابز وهي عارية فيحيلها إلى لون الجثة. ولم تكن مولي وحدها هي ما جال بخاطره؛ فلقد رأى ويل من خلف جفنيه المطبقين أمه شاحبة اللون كالكاميو (حجر كريم) روحانية الوجه مستسلمة للألم، يداها في صورة بشعة وقد أصابهما التهاب المفاصل فهبط بهما إلى مستوى دون مستوى البشر، كما رأى أخته مود واقفة خلف كرسي المقعدين الذي كانت تعتليه الأم وقد كساها الشحم واهتز جسمها كما يهتز الهلام واستولت عليها المشاعر التي لم تعبر عنها قط تعبيرا صحيحا بالحب الذي يبلغ ذروته. - كيف تستطيع ذلك يا ويل؟
ورددت مود العبارة قائلة: نعم، كيف تستطيع؟ بصوتها الرنان المرتعش والدمع يساقط من عينيها.
ولم يحر جوابا، أي جواب في ألفاظ يستطيع أن يتفوه بها في حضورهما، وإن استطاع فإن هاتين الشهيدتين - الأم التي استشهدت في زواج غير سعيد، والأخت التي استشهدت في برها بأمها - لا يمكن أن يفقها قوله. لا جواب، اللهم إلا أن كان في لفظ أشد ما يكون موضوعية علمية فاحشة، وفي صراحة مرفوضة، يسألانه كيف استطاع أن يفعل ذلك؟ لقد استطاع، بل لعله أرغم عمليا على ذلك؛ لأن لبابز خصائص بدنية معينة لم تكن من صفات مولي، كما كانت في بعض اللحظات تسلك سلوكا لا يمكن أن يتطرق إليه ذهن مولي.
وسادت فترة طويلة من الصمت، ثم - وعلى غير انتظار - عاد الصوت الغريب يردد قوله : انتباه، انتباه!
انتباه إلى مولي، وانتباه إلى مود وإلى أمه، وانتباه إلى بابز، وفجأة برزت من ضباب الغموض والاضطراب ذكرى ثانية؛ فلقد أوى إلى ركن بابز القرنفلي ضيف آخر، وارتعش جسمها نشوة من عناقه، فشعر - بالإضافة إلى الإحساس بالذنب - بهم في قلبه وغصة في حلقه. - انتباه!
Неизвестная страница
اقترب الصوت، ونادى من مكان ما جهة اليمين، وأدار ويل رأسه، وحاول أن ينهض حتى يشهد المنظر بصورة أوضح. غير أن الذراع التي كان يستند إليها بدأت ترتعش، ثم هوت وسقط بين أوراق الشجر. ولما كان مجهدا إلى حد لا يستطيع معه استرجاع الماضي فقد استلقى مكانه لفترة طويلة محدقا إلى أعلى من خلال جفنين نصف مغمضين نحو عالم من حوله لم يدرك له كنها. أين هو؟ وكيف وصل إلى هذا المكان؟ ولم يكن ذلك مهما في حد ذاته، إذ لم يكن يهمه في تلك اللحظة سوى ما يحس من ألم ومن ضعف قاتل، ومع ذلك فقد دفعه اهتمامه العلمي إلى ...
هذه الشجرة - مثلا - التي ألفى نفسه (لسبب ليس يعرفه) ملقى تحتها، وهذا الجذع المرتفع بقشرته الرمادية، وبأعلاه عقدان متقاطعان من الأغصان المرقشة بضوء الشمس؛ هذه الشجرة على هذه الصورة لا بد أن تكون من أشجار الزان، ولكنها إن كانت كذلك فإن أوراقها لا يصح أن تكون دائمة الخضرة كما بدت؛ وهنا أعجب ويل بنفسه لوضوح منطقه. ولماذا ترفع شجرة الزان جذورها كالأكواع فوق سطح الأرض على هذا النحو؟ وهذه الدعامات الخشبية العجيبة التي تستند إليها الشجرة الشبيهة بشجرة الزان ما مكانها من الصورة؟
وما أعجب هذه الفراشات التي تنقض هناك في ضوء الشمس الشديد. لماذا هي في هذا الحجم الكبير، لازوردية بشكل غير مألوف أو سوداء كالمخمل، واسعة العينين بها كلف غير معهود؟ والأرجوان يطل من الكستناء، والفضة منثورة فوق الزمرد، وفوق التوباز (حجر كريم)، وفوق الياقوت الأزرق! - انتباه!
وصاح ويل فارنبي بصوت ظنه عاليا مزعجا: من هناك؟ في حين أن كل ما خرج من فيه لم يكن سوى صوت منخفض رفيع مرتعش .
ثم ساد سكون طويل ومخيف للغاية فيما بدا. وبرزت من الفجوة التي تقع بين دعامتين خشبيتين من دعامات الشجرة حشرة لها أربع وأربعون رجلا، ضخمة سوداء اللون، وظهرت للعيان لحظة، ثم أسرعت مبتعدة وهي تجري بأرجلها العديدة القرمزية واختفت في فجوة أخرى.
وبصوته الخفيض صاح مرة أخرى: من هناك؟
وسمع خشخشة في الأشجار التي كانت على يساره، وفجأة ظهر طائر أسود ضخم في حجم الغراب - وليست بي حاجة إلى القول بأنه لم يكن غرابا - وكأنه وقواق قد أطل من ساعة حائط، وصفق بجناحين أطرافهما بيضاء، ثم اندفع في الفضاء الذي يفصله عن ويل، واستقر فوق أدنى أغصان شجرة صغيرة ذابلة تبعد أقل من عشرين قدما عن المكان الذي كان يرقد فيه. ولاحظ ويل أن منقار الطائر برتقالي اللون، وتحت كل عين بقعة صفراء جرداء، وأن له ألغادا صفراء فاتحة تغطي رأسه ومؤخرته، مع لمة كثيفة من اللحم العاري. وهز الطائر رأسه في خيلاء وحدق فيه بعينه اليمنى أولا ثم بعينه اليسرى بعد ذلك، وبعدئذ فتح منقاره البرتقالي، وصفر عشر مرات أو اثنتي عشرة مرة بنغم منخفض على المستوى الخماسي من السلم الموسيقي، وصدر عنه صوت شبيه بالغواق، وفي كلمات غنائية بنغمة «دو دو سول دو» صاح قائلا: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وكأن هذه الكلمات قد ضغطت على زناد، وفجأة تذكر كل شيء. هنا بالا؛ الأرض المحرمة، المكان الذي لم يزره صحافي قبل اليوم. ولا بد أن يكون هذا الوقت هو الصباح الذي تلا ذلك المساء الذي فقد فيه رشده فأبحر وحده خارج ميناء راندنج لوبو. تذكر كل شيء: الشراع الأبيض الذي انتفخ بالريح فاتخذ شكل ورقة المنغوليا، والماء يتدفق عند مقدم السفينة، وبريق الماس على قمم الأمواج، والقنوات التي تشبه اليشم المجعد، وعبر المضيق شرقا تلك السحب، وعجائب ذلك اللون الأبيض المنحوت الذي يعلو براكين بالا. وفي جلسته عند ذراع الدفة تنبه إلى نفسه فإذا به يغني ويشعر بسعادة لا تشوبها شائبة وبدرجة لا يتصورها العقل.
وحملت الرياح فوق موج البحر الصاخب نشيده الذي تغنى فيه بوحدته الموحشة.
وليست بنا حاجة إلى القول بأن ما حذر منه كل الملاحين الحذرين المجربين قد حدث؛ العاصفة الهوجاء تهب من أين لا يدري، والريح العاتية والمطر والموج تثور فجأة مسعورة مجنونة ...
Неизвестная страница
وتغنى الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وخطر له أنه من العجيب حقا أن يكون هنا تحت الأشجار ولا يكون هناك في قاع مضيق بالا، بل - وهو أسوأ من ذلك - ألا يكون حطاما عند سفح الجبل؛ لأنه حتى بعد أن استطاع بمحض المعجزة أن يقود سفينته الغارقة خلال الموج ويرسيها على الشاطئ الرملي الوحيد بين تلك الأميال من سواحل بالا الصخرية؛ حتى مع ذلك لم تكن النهاية. فلقد كانت التلال شامخة؛ ولكن في أعلى مكانه المنخفض كان هناك واد ضيق يجري فيه تيار من الماء تقطعه مساقط شفافة متتابعة. وكانت هناك أعشاب وأشجار تنمو بين جدران من الجير الرمادي؛ ستمائة أو سبعمائة قدم من الصخر عليه أن يتسلقها، في حذاء حفيف كحذاء لعبة التنس. وكل مواقع الأقدام زلقة تغمرها المياه. وفوق ذلك تلك الأفاعي، وإحداها سوداء تلتف فوق الغصن الذي كان يتشبث به. وبعد خمس دقائق تكورت الأفعى الخضراء الضخمة هناك فوق صخرة ناتئة في المكان الذي كان يتأهب ليخطو عليه. فزع يتلوه فزع أشد. وقد انخلع قلبه لمرأى الأفعى وسحب قدمه بشدة. وأفقدته توازنه هذه الحركة المفاجئة التي لم يحسب لها حسابا. ومرت به برهة طويلة من الغثيان وهو موقن في جزع شديد أن هذه هي نهايته. وترنح عند الحافة ثم هوى، الموت، الموت، الموت! وبعدئذ ألفى نفسه - وفي أذنيه صوت الخشب يتطاير شظايا - معلقا في أغصان شجرة صغيرة، وجهه مخدوش، وركبته اليمنى مجروحة تسيل منها الدماء، ولكنه ما برح على قيد الحياة. فتابع تسلقه في عناء شديد. وقد آلمته ركبته وأوجعته، ولكنه واصل التسلق، ولم يكن له عن ذلك بديل. ثم أخذ النور يتلاشى. وفي النهاية كان يتسلق في شبه الظلام، يدفعه الإيمان واليأس القاتل.
وصاح الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
غير أن ويل فارنبي لم يكن في هذه الآونة ولا هذا المكان. بل كان هناك فوق الصخور وفي لحظة السقوط المفزعة، وخشخشت الأوراق الجافة تحت قدميه وأخذته الرعشة، فكان يرتجف في عنف شديد وعلى غير إرادته من قمة رأسه إلى أسفل قدميه.
الفصل الثاني
وفجأة لم يعد الطائر واضح العبارة، وبدأ يصيح، وطرق أذنيه صوت بشري حاد يقول: المينة (طائر آسيوي). وأضاف بعد ذلك شيئا في لغة لم يفهمها ويل. ثم استمع إلى صوت خطى فوق أوراق الشجر الجافة، أعقبتها صيحة ذعر. وساد الصمت بعد ذلك. وفتح ويل عينيه فرأى طفلين رائعين يتفرسانه وعيونهما تحملق في دهشة وفزع مريع، أصغرهما صبي نحيل الجسم ربما كان في الخامسة أو السادسة من عمره لا يستره سوى إزار أخضر اللون. وإلى جواره تقف فتاة صغيرة تكبره بأربع أو خمس سنوات تحمل فوق رأسها سلة من الفاكهة. وكانت ترتدي ثوبا قرمزي اللون يكسوها من خصرها حتى عقبيها. أما ما فوق الخصر فقد كان عاريا. بشرتها تتلألأ في ضوء الشمس فتتخذ لون النحاس الباهت المطلي بلون وردي، ووجه ويل نظرته من طفل إلى آخر. ما أجملهما! وما أكملهما! وما أشد ما هما عليه من أناقة! وما أشبههما بالسلالة الأصيلة! أما الصبي فهو مخلوق رائع الحسن قوي متكور وجهه كالملاك، والفتاة مخلوقة أخرى رائعة الجمال، دقيقة الملامح، وجهها صغير الحجم مستطيل جاد النظرات تحوطه ضفيرتان من الشعر الأسود.
ثم كانت صيحة أخرى مباغتة، والطائر في مجثمه فوق الشجرة الذابلة يتلفت في عصبية يمنة ويسرة، وبعد صيحة أخيرة من الذعر انطلق في الفضاء. ومدت الفتاة يدها لمصافحة ويل دون أن ترخي نظرتها إلى وجهه. أما الطائر فرفرف جناحيه، ثم استقر، واهتز هزة كبرى، اتزن بعدها، وبعدئذ طوى جناحيه وشرع فورا في فواق متواصل. وشخص إليه ويل بغير دهشة؛ فأي شيء كان حينذاك ممكن الوقوع، حتى الطيور الناطقة التي تجثم فوق إصبع طفل صغير. وحاول ويل أن يبسم لهما، غير أن شفتيه كانتا لا تزالان ترتعشان. وقد قصد بابتسامته أن يتودد إليهما ولكنها بدت كأنها حركة في الوجه تدعو إلى الخوف. واختفى الصبي خلف أخته.
وكف الطائر عن الفواق وبدأ يكرر لفظة لم يفهم ويل لها معنى. هل كانت هذه اللفظة «رونا»؟ كلا. كانت «كارونا» بالتأكيد.
ورفع يدا مرتجفة وأشار إلى الفاكهة في السلة المستديرة: المنجة والموز ... وسال اللعاب من فمه الجاف.
وقال: أنا جائع. ثم أحس أن الطفل في مثل هذه الظروف الغريبة قد يكون أكثر تفهما له إذا هو اصطنع اللهجة التي يتحدث بها رجل صيني يلعب دورا في ملهاة موسيقية، فغير من عبارته وجعلها كحديث الأجنبي عن اللغة.
Неизвестная страница
وفي لغة إنجليزية سليمة قال الطفل: هل تريد أن تأكل؟
فرد علي بقوله: نعم، آكل، آكل.
فهزت الطفلة رأسها وقالت للمينة: ابتعدي. وصدر عن الطائر صوت احتجاج وعاد إلى مجثمه فوق الشجرة الذابلة، ورفعت الطفلة ذراعيها الصغيرتين النحيلتين بحركة كحركة الراقصة ورفعت السلة من فوق رأسها ووضعتها فوق الأرض، وانتقت إصبع موز وقشرته، وبمزيج من الإحساس بالخوف والشفقة تقدمت نحو الرجل الغريب، وبلغة غير مفهومة صاح الطفل منذرا وتشبث برداء أخته. ونطقت الطفلة كلمة تدل على الاطمئنان، ثم وقفت على مبعدة من المخاطر ورفعت إصبع الموز وسألت الرجل: هل تريده؟
ومد ويل فارنبي يده وهي ما تزال ترتعش، وبحذر شديد تقدمت الفتاة ثم وقفت، ثم قبعت، وتطلعت إليه في إمعان شديد.
وقال وقد نفد صبره: أسرعي.
ولكن الفتاة الصغيرة لم تتعجل، وظلت تحدق في يده تحاول أن تتبين إن كانت بها أدنى إشارة إلى حركة مريبة، ثم انحنت إلى الأمام، ومدت ذراعها في حذر شديد.
وتوسل إليها قائلا: لله!
وباهتمام مباغت كررت الفتاة قوله: الله؟!
وسألته: أي إله، فهناك آلهة كثيرة؟
وأجابها وقد نفد صبره: من تشائين منهم.
Неизвестная страница
وأجابته: إنني في الواقع لا أحب أيا منهم، إنما أنا أحب الواحد الرحيم.
وتوسل إليها قائلا: إذن فكوني رحيمة بي وأعطيني هذا الإصبع من الموز.
وتغير تعبيرها، وقالت معتذرة: آسفة.
ونهضت منتصبة القامة وخطت إلى الأمام خطوة سريعة وأسقطت الفاكهة في يده المرتعشة.
وقالت: هاكها. ثم قفزت إلى الخلف بعيدا عن مناله كالحيوان الصغير الذي يتفادى المصيدة.
وصفق الصبي الصغير بيديه وضحك ضحكة عالية. فالتفتت وقالت له شيئا ما، وأومأ برأسه المستدير قائلا: ليكن ذلك يا سيدتي. وهرول بعيدا متسللا وقد شق طريقه خلال جسر من الفراشات الزرقاء والكبريتية، وتوغل بين ظلال الغابة في الجانب البعيد من الوادي.
وفسرت موقفها للرجل قائلة: قلت لتوم كريشنا: اذهب وعد ومعك شخص ما.
وأكل ويل إصبع الموز وطلب إصبعا ثانية وثالثة. ولما تخفف من ألم الجوع أحس الحاجة إلى إشباع رغبته في الاستطلاع.
وتساءل: كيف تتحدثين الإنجليزية بهذه الفصاحة؟
قالت: لأن كل إنسان يتحدث الإنجليزية. - كل إنسان؟
Неизвестная страница
قالت: أقصد عندما لا يتحدثون لغة أهل بالا.
ولما كان الموضوع لا يشوقها أدارت وجهها ولوحت بيد صغيرة سمراء، وأخذت تصفر.
ومرة أخرى أخذ الطائر يردد: الآن، وفي هذا المكان يا قوم. ثم هبط من مجثمه فوق الشجرة الذابلة واستقر فوق كتف الفتاة التي أخذت تقشر موزة أخرى أعطت ويل ثلثيها وقدمت ما تبقى للمينة.
وسألها ويل: هل هذا طائرك؟
وهزت رأسها.
وقالت: المينات كالضوء الكهربائي لا تخص أحدا دون الآخر. - ولماذا يتفوه بهذا الكلام؟
وأجابته صابرة: إنه تعلمها. وكأنها بنغمة حديثها تقول له: يا حمار! - ولماذا علموه هذا الكلام: «انتباه، والآن، وفي هذا المكان»؟
وأخذت تفكر في اللفظ الصحيح الذي تعبر به لهذا الأبله العجيب عن الأمر الواضح فقالت: لأن ذلك ما ينساه المرء. أليس كذلك؟ أقصد أنك تنسى أن تتنبه إلى ما هو حادث، وهو ما يعني أنك لست هنا ولا في هذا الزمان. - والمينات تطير هنا وهناك لتذكركم؛ أليس كذلك؟
فأومأت برأسها بالإيجاب؛ لأن تلك بطبيعة الأمر هي الحال، ثم ساد الصمت.
وسألته: ما اسمك؟
Неизвестная страница
وعرفها ويل بنفسه. - واسمي ماري ساروجيني ماك فيل. - ماك فيل؟ غير معقول!
وأكدت له أن اسمها ماك فيل. - وأخوك الصغير اسمه توم كريشنا؟
وأومأت بالموافقة. - يا للعجب! - وهل أتيت إلى بالا بالطائرة؟ - جئت من البحر. - من البحر؟ وهل لديك سفينة؟ - كانت لي سفينة. وتمثلت في ذهن ويل الأمواج وهي تتكسر فوق حطام السفينة التي جنحت إلى الشاطئ، واستمع في أذنه الباطنية إلى صوت اصطدامها؛ وأخذت توجه إليه الأسئلة فيروي لها ما حدث: العاصفة، والتجاء السفينة إلى الساحل، ومخاطر التسلق المزعجة، والأفاعي، وفزعه من السقوط ... ثم أخذ يرتعش مرة أخرى بدرجة أشد من أي وقت مضى.
وأصغت إليه ماري ساروجيني باهتمام وبغير تعليق.
ولما خفت صوته ثم سكت بعد ذلك تقدمت نحوه والطائر ما يزال جاثما فوق كتفها، وركعت إلى جواره.
وقالت وهي تضع يدها فوق جبهته: اسمع يا ويل، علينا أن نتخلص من هذا الفزع. وكانت تتكلم بنغمة الخبير وهدوء الواثق من أمره.
واصطكت أسنانه وقال: خبريني، كيف يكون ذلك.
فقالت: كيف؟ بالطريقة المألوفة طبعا. اذكر لي ثانية قصة الأفاعي وكيف سقطت.
وهز رأسه قائلا: لا أحب ذلك.
قالت: بالتأكيد أنت لا تحب. ولكن عليك أن تفعل. أصغ إلى ما تقوله المينة.
Неизвестная страница
وكان الطائر ما فتئ ينصح بقوله: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم.
واستطردت قائلة: إنك لا تستطيع أن تكون هنا وفي هذه الآونة إلا أن تخلصت من هذه الأفاعي، قص علي قصتها.
وكادت عيناه أن تدمعا وهو يقول: لا أريد، لا أريد.
فأضافت ماري ساروجيني قولها جادة: إذن لن تتخلص منها أبدا. وستظل تزحف داخل رأسك دائما. وأنت تستحق هذا الجزاء.
وحاول أن يتحكم في رعشته، ولكن جسمه لم يعد ملكا له. وكأن شخصا آخر كان صاحب الأمر، وقد عقد العزم على إذلاله بنية سيئة بغية إيقاع الأذى به.
وقالت ماري ساروجيني: تذكر ما حدث لك وأنت طفل صغير. ماذا صنعت أمك عندما ألحقت بنفسك أذى؟
وكانت أمه عند ذاك قد احتضنته وقالت له: ولدي العزيز، طفلي العزيز.
وفي نغمة تنم عن الدهشة والذهول قالت ماري: هل فعلت ذلك؟! يا للفظاعة! إنها بذلك تضاعف الإيذاء. وكررت القول في شيء من السخرية: ولدي العزيز، لست أحب إلا أن الإيذاء قد لازمك ساعات متواصلات، وأنك لن تنساه.
ولم يعلق على ذلك ويل فارنبي بشيء، بل استلقى مكانه في صمت، وهو يرتعد في رجفة لا يستطيع كبتها. - إذا أنت لم تفعل، فلا بد لي من أن أفعل ذلك أنا بنفسي. اسمع يا ويل: كانت هناك أفعى كبيرة لونها أخضر. كدت أن تدوسها، فأصابتك بذعر أفقدك توازنك فسقطت، والآن قل هذا الكلام بنفسك؛ هيا.
وفي صوت خافت طائع قال: كدت أن أدوسها، ثم ... ولم يستطع أن يكمل العبارة. وأخيرا استطاع أن يخرج من بين شفتيه قوله: «ثم سقطت»، بصوت يكاد لا يسمع.
Неизвестная страница
وعندئذ استرجع حالة الفزع؛ غثيان الخوف، وهزة الذعر التي أفقدته توازنه، ثم ازدياد المخاوف، والثقة المروعة بأن تلك هي نهايته. - قلها مرة أخرى. - كدت أن أدوسها، ثم ...
واستمع إلى نفسه وهو ينشج. - حسن يا ويل، اصرخ! اصرخ!
وتحول النشيج إلى أنين. ولما شعر بالخجل ضغط على أسنانه وكف عن الأنين.
وصاحت به: لا تفعل ذلك. أخرج أنتك إن كانت تريد أن تنطلق. واذكر تلك الحية يا ويل، وتذكر كيف سقطت.
وخرج الأنين من فيه مرة أخرى وبدأ يرتعش بصورة لم يعهدها من قبل. - والآن اذكر لي ما حدث. - إنني أستطيع أن أرى عينيها، وأستطيع أن أرى لسانها وهي تخرجه وتدخله. - نعم إنك تستطيع أن ترى لسانها، وماذا حدث بعد ذلك. - فقدت توازني وسقطت. - قل ذلك مرة أخرى يا ويل. وكان يتنهد باكيا.
وأصرت على أمرها: قل ذلك مرة أخرى. - سقطت. - مرة ثانية.
فقال: سقطت. وهو يكاد يتمزق إربا إربا. - مرة ثانية يا ويل، مرة ثانية. وقالت ذلك في عناد شديد. - لقد سقطت، سقطت، سقطت ...
وكف عن النحيب شيئا فشيئا، وخرج اللفظ من فيه في يسر، وخفت آلام الذكرى التي أثارتها الكلمات.
وكرر قوله: لقد سقطت. للمرة المائة.
وهنا قالت له ماري ساروجيني: ولكنك لم تسقط سقطة كبرى. - نعم، لم أسقط سقطة كبرى.
Неизвестная страница
وقالت الفتاة: ففيم إذن هذه الضجة؟
ولم يكن في نغمتها حقد أو سخرية، ولا أقل إشارة إلى ملامة، إنما كانت توجه إليه سؤالا سهلا صريحا يتطلب ردا سهلا صريحا، أجل، فيم كانت كل هذه الضجة؟ إن الحية لم تلدغه، وعنقه لم يندق. ومهما يكن من أمر فكل ما حدث قد وقع بالأمس. أما اليوم فهناك هذه الفراشات، وهذا الطائر الذي يدعو إلى الانتباه، وهذه الفتاة التي تحدثت إليه مؤنبة ناقدة، وبدت كالملاك مما جاء ذكره في الأساطير العجيبة وعلى بعد خمس درجات من خط الاستواء، واسمها - صدقت أم لم تصدق - ماك فيل.
وضحك فارنبي بصوت عال.
وصفقت الفتاة بيديها وضحكت هي الأخرى. وبعد لحظة شارك الطائر القابع فوق كتفها في الضحك وكأنه شيطان ملأ الوادي بجلجلة صوته الذي رددت صداه الأشجار وكأن العالم بأسره قد انشطر نصفين من هذه المهزلة الكبرى؛ مهزلة الوجود.
الفصل الثالث
وفجأة سمع ويل فارنبي صوتا عميقا يعلق على ما حدث ويقول: يسرني أن كل ما وقع إنما يدعو إلى الضحك.
وتلفت ويل خلفه ورأى رجلا صغير الحجم نحيلا في زي أوروبي ويحمل حقيبة سوداء، وابتسم الرجل لويل. وقدر ويل أن الرجل في أواخر خمسينياته. وكانت فوق رأسه قبعة من القش تخفي تحتها شعرا أبيض غزيرا، وأنفه عجيب الشكل يشبه المنقار، وعيناه زرقاوان لا تتفقان مع وجهه الأسمر.
ونادته ماري ساروجيني صائحة: جدي!
وتلفت الرجل الغريب من ويل إلى هذه الطفلة.
وسألها: مم تتعجبين؟
Неизвестная страница