Истишрак
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Жанры
يرى مؤلف كتاب «المستشرقون والإسلام» في مستهل الفصل الأول من كتابه، أن تأثر الغرب بالإسلام وتشبه أوروبا بالعرب أيام ازدهارهم، وخاصة في الأندلس، هو أمر جدير بالثناء. وهو ينقل عن «دوزي» وصفا لموقف المثقفين الإسبان الذين «سحرهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللاتينية وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها.» ويعلق على ذلك بقوله: «نعم، لقد كانت الحضارة الغربية كلها قبسا من حضارة العرب، لا سيما في أيام ازدهار الأندلس.» (ص17)، وفي الصفحة التالية يصف المتأثرين بالحضارة العربية والمعجبين بها بأنهم «عقلاء الإسبان».
إن من المستحيل من الناحية المنهجية، أن نضع معيارين متناقضين في حالة تأثر حضارة بحضارة أخرى متفوقة. فمن حقنا أن نعتبر هذا التأثر خيرا، أو أن نعتبره شرا. ولكن ليس من حقنا أن نعتبره خيرا في حالة وشرا في حالة أخرى. فأي منهج هذا الذي يسمح لنا بأن نفخر بتأثر الغرب بالثقافة العربية، ونراه خيرا على أوروبا، وننقد في الوقت ذاته تأثير الأفكار الغربية في أبحاث العرب المعاصرين وننظر إلى الاستشراق على أنه مؤامرة استعمارية؟ ألم يكن في استطاعة راهب إسباني من الأندلس أن يصف التأثير الفكري للعرب بأنه غزو ثقافي، ويتهم «عقلاء الإسبان» بأنهم عملاء وقعوا في فخ «الاستعمار العربي» وفقدوا هويتهم وانسحقت شخصيتهم في الحضارة العربية المتفوقة؟ إنني لا أقول بالطبع بأن هذا هو ما كان ينبغي أن يحدث، وإنما أقول فقط إن من التناقض أن نكيل في موضوع التأثر الثقافي بكيلين، فيصبح التأثير خيرا وبركة حين يأتي من العرب، ويصبح مؤامرة وفخا حين يأتي من الغرب. والمنهج السليم - بغض النظر عن ميولنا الذاتية - يحتم علينا أن نأخذ بمعيار واحد في كلتا الحالتين. (ب)
وإذا كان هؤلاء النقاد الإسلاميون يجعلون من اقتراب المستشرق من احترام تعاليم الإسلام معيارا لمكانة هذا المستشرق، فلا بد أن نذكر أن هذا المعيار ذاته ينطوي على تناقض واضح؛ إذ إنه يدعونا ضمنا إلى خروج الباحث عن عقيدته الخاصة لكي يصبح باحثا أفضل. وهكذا فإن المؤمن المدافع عن عقيدته يدعو الآخرين إلى مهاجمة عقائدهم كيما يصبحوا مقبولين. والمثل الصارخ على ذلك نجده في كتاب «أضواء على الاستشراق»: فالمؤلف يمتدح مستشرقا اعتنق الإسلام، اسمه «إسحق رينيه»؛ لأنه تشكك في مسائل معينة في العقيدة المسيحية، مثل عصمة البابا، وبنوة المسيح لله، وصلب المسيح، كما وجد في الإنجيل «أشياء لا تتفق مع العقل في شيء» (ص76). ولكننا لو أجزنا لأنفسنا أن ننظر إلى المسيحي الذي يتخلى عن دينه ويجده غير متفق مع العقل على أنه «منصف»، لكان من الواجب لكي نكون متسقين منهجيا أن ننظر بصدر رحب إلى المسيحي الذي يبحث في عقيدتنا نحن بنفس الطريقة العقلانية النقدية، ولا نراه متآمرا دساسا مفتريا على الإسلام. هذا ما يقضي به المنطق السليم، ولكننا نرفض الاتساق ونطبق معايير مزدوجة، فنؤكد بذلك الطابع الذاتي المحض لنقد الاستشراق من منطلق إسلامي.
ولكي تكتمل الصورة، فلا بد أن نشير إلى أن بعض المستشرقين من ذوي النزعات الدينية يرتكبون هذا الخطأ نفسه في بحثهم للإسلام، فهم يطبقون على هذا البحث أحدث المعايير العلمية النقدية، ولكنهم يستبعدون هذه المعايير حين يكون الأمر متعلقا بعقيدتهم الخاصة، مسيحية كانت أم يهودية؛ إنهم في الحالة الأولى عقلانيون ناقدون، وفي الحالة الثانية إيمانيون مذعنون، وهو موقف يستحق أن ينقد بكل قوة بوصفه مثلا مؤسفا من أمثلة ازدواجية المعايير. (ج)
أما المثل الثالث لهذه الازدواجية، فإنه يبدو أشد خفاء من المثلين السابقين، ولكنه في الواقع لا يقل عنهما خطورة؛ ذلك لأن هؤلاء النقاد الإسلاميين يحكمون دائما على الحضارة الغربية بالسعي إلى السيطرة والتآمر، فضلا عن صفات الانحلال والتمزق والاغتراب والإغراق في المادية ... إلخ. وفي مقابل ذلك فإنهم يصفون الحضارة الإسلامية بأنها هي المتكاملة وهي التي تجمع بين الروح والجسد في توافق سليم، وهي التي لا تعرف أزمات القلق والتمزق ... إلخ.
فلنسلم إذن بأن هذه الصورة صحيحة - وإن كانت في كلتا الحالتين تحتاج إلى قدر كبير من المناقشة - ولنتساءل: هل المعيار المطبق واحد في الحالتين؟ الواقع أن هؤلاء النقاد يطبقون على الحضارة الغربية معيار «الواقع»، وعلى الحضارة الإسلامية معيار «المثل الأعلى»؛ فالأوصاف التي ينسبونها إلى الغرب تصف واقع هذا الغرب كما يراه هؤلاء، ولكن أوصافهم للعالم الإسلامي لا تصف واقعه، وإنما تصف نموذجا مثاليا هو ذلك الذي يرسمه لنا الكتاب والسنة والسلف الصالح في صدر الإسلام. وهم يعترفون، بلا تردد، بأن هذا المثل الأعلى بعيد كل البعد عن واقع المسلمين الراهن، ومع ذلك فإنهم لا يرون أي تناقض في المقارنة بين الغرب «الموجود فعلا» وبين إسلام «المثل الأعلى» في الآيات والأحاديث والسنن الأولى. وهم لا يقيمون أي وزن لواقع العالم الإسلامي؛ لأن هذا الواقع في نظرهم لا يمثل «الإسلام». ولو اقترب أحدهم من الواقع الفعلي للإسلام - كما يقترب من الواقع الفعلي للغرب - لوجد فيه أبشع صور المادية والأنانية، وأفدح الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وأسوأ أنواع الممارسة السياسية. وإذن، فحين نوحد المعيار، فنجعله هو «الواقع»، سيفقد العالم الإسلامي تميزه بغير شك. أما لو طبقنا المعيار المثالي على الحالتين، فلا جدال في أننا سنجد في كتابات فلاسفة الغرب وشعرائه وحكمائه وأعمال فنانيه قدرا من المثالية يجعله يصمد على الأقل في المقارنة مع الإسلام المثالي.
ولكن الذي يحدث هو أن هؤلاء النقاد يطبقون المنهج المثالي، الملائم لنا، عند الحديث عن حضارتنا، ويطبقون المنهج الواقعي، فهو الملائم للغرب (وإن كان ملائما لأوهامنا) عند الحديث عن حضارته. (4)
أما الخطأ المنهجي الرابع لنقاد الاستشراق من المنظور الإسلامي، فهو إصرارهم على رفض كل ما يخرج عن نطاق «الإسلام الرسمي» في معالجة الحضارة الإسلامية . وقد لخص أنور الجندي هذا الموقف حين أكد أن «الاستشراق، بوصفه أداة التغريب والتبشير، يركز على موضوعين: (1) التصوف ووحدة الوجود. (2) الثورات المضادة للإسلام، كالقرامطة والزنج، مع وصفها بأنها إسلامية.»
9
وبطبيعة الحال، فإن الاستشراق لم يترك بقية الموضوعات دون بحث، ولكن مجرد خوضه في هذه الموضوعات الخارجة عن نطاق الإسلام الرسمي، إسلام الخلفاء وفقهائهم، يعرضهم لنقد شديد. وواقع الأمر أن ما يهدف هؤلاء النقاد إلى تجنبه هو تصوير تاريخ الحضارة الإسلامية على أنه تاريخ بشري، له نقاط قوته ونقاط ضعفه، أعني تاريخا تحدث فيه ثورات ويتمرد فيه الناس على الحكام إذا أحسوا أنهم مظلومون، ويرتكب الحكام أنفسهم، في بعض الأحيان، أخطاء قاتلة. فالتاريخ الذي يريدونه تاريخ للقداسة، ولأن هذا التاريخ «إسلامي»، فلا بد أن يصبح بدوره فوق مستوى البشر الفانين ولا بد أن تمحى منه تلك المظالم التي جعلت الناس من آن لآخر يثورون أو يتمردون. كذلك فإن التصوف بدوره خروج على الخط الرسمي، وفيه تجاوز للتفسيرات المباشرة، ومن ثم كان من الضروري استبعاده. ولو ترك الأمر بيد هؤلاء المفكرين لاستأصلوا من التاريخ بأسره كل إشارة إلى ما يخرج عن ذلك التيار الرئيسي الذي تمثله المؤسسة الرسمية للخلافة.
Неизвестная страница