حين أصبحت في الشارع الواسع أحست بضربة الهواء البارد على خديها الساخنتين كالصفعة المفاجئة، تقلصت عضلات وجهها وسرى في جسمها ذلك الإحساس الغريب بالقرب من الخطر. رمقت الشرطي الواقف بطرف عين ثم دخلت إلى المحل الصغير. نزعت الورق عن اللوحة، وابتسم الرجل العجوز كعادته حتى يتأمل لوحاتها، ودس يده المعروقة في جيبه وأخرج ثلاثة جنيهات، عدها واحدا واحدا، ثم ناولها لها وهو يعدها مرة أخرى واحدا بعد الآخر.
خرجت إلى الشارع، فأدركت على الفور أن عينين ترقبانها، وأن قدمين تتبعان قدميها. تسللت إلى أنفها رائحة المخبز، فدخلت والتهمت قطعة الكعك التي تحبها. وقفت أمام الخزينة لتدفع فلمحت العينين الضيقتين من خلفها في المرآة المواجهة. خرجت إلى الشارع. حركت يدها لتنادي تاكسيا ورمقت الساعة فوق معصمها. وقف التاكسي أمامها فركبت. عند ثنية الشارع التفتت إلى الخلف فرأت العينين الضيقتين خلفها داخل تاكسي. هبطت في ميدان العتبة. كانت تعرف أن رءوف وفوزي ينتظرانها في ذلك البدروم، لكنها لم تذهب. ظلت تتجول في شارع الموسكي، تراقب النساء والفتيات وهن يسرن بسيقانهن السمينة الملتصقة، يزحمن الشارع بأجسادهن وأردافهن البارزة من تحت الفساتين اللامعة، وعيونهن المكحلة ترمق الفترينات بنظرات مسعورة، ونهم لشراء الملابس، وقمصان النوم العارية، والشباشب المفتوحة، وأدوات الزينة، والعطور ودهانات البشرة، وأصواتهن الحادة ترن من الدكاكين، وطرقعات اللبان، وشهقات الإعجاب بالمودلات الجديدة، وقعقعات الكعوب العالية المدببة تحت الأجساد المحملة بلفائف المشتريات من كل لون وصنف.
تزم بهية شفتيها في غضب، فالرغبة النهمة للاستهلاك تعويض عن الحرمان الأبدي، والعيون المتأججة بالشبق من تحتها برود كالصقيع، والشعور المتموجة كالحرير من تحتها مخ أملس كمخ الأرنب لا يعرف من الحياة إلا الأكل والتناسل.
خرجت إلى الشارع الواسع حين بدأت الشمس تغرب. واكتست السماء والأرض والبيوت والأشجار بحمرة شاحبة يزداد شحوبها لحظة بعد لحظة كوجه يضيع منه الدم في احتضار طويل بطيء، ثم أضاءت مصابيح الشارع، وانعكست مئات من دوائر الضوء الأبيض على الأسفلت وفاترينات المحلات وزجاج العربات ووجوه الناس، وتألق كل شيء في النور الأبيض، وسمعت صوت ضحكة ناعمة ورأت فتاة تتأبط ذراع شاب، وذراعه الأخرى تحوطها. ابتسمت لهما وسرى في جسدها المرهق إحساس مفاجئ بالنشاط. ملأت صدرها بهواء الليل الرطب، ولمعت عيناها السوداوان كفصين من الماس، تراقبان في سرور الأطفال كور النور المعلقة فوق المحلات كالبالونات الملونة، والعربات تجري فوق الأسفلت اللامع، وزجاج النوافذ يبرق كالمرايا، والناس بملابسهم الزاهية يتحركون في الضوء الأبيض كأسراب من الغزلان، وأطلق طفل صاروخا صغيرا تطاير في الجو كملايين الذرات اللامعة الملونة.
سمعت صوت ضحكتها ترن في أذنيها كضحكتها وهي طفلة، وكادت تقفز فوق الأرض قفزات الأطفال، لكنها رأت العينين الضيقتين أمامها. استدارت فرأت عينين أخريين تراقبانها، انحرفت إلى الشارع الجانبي عن يمينها فإذا بالعينين تسدان عليها الطريق، اتجهت بسرعة إلى الحارة ناحية اليسار فبرز لها من الظلمة جسد الشرطي السمين بأزراره اللامعة والسلاح المدبب يتدلى من حزامه الجلدي.
توقفت. تلفتت حولها بحركة سريعة. تلك الحركة حين يصبح الإنسان مهددا، وقوى معلومة ومجهولة تتربص به، تنتهز الفرص لتقضي عليه. هذه الحركة السريعة في العينين، في كل الاتجاهات، تبحث عن اليد التي ستطعن من الخلف أو من الأمام أو من الجانب الأيسر أو الأيمن، وهذه الحركة الدائبة في الرأس، كل خلية في الرأس تتحرك، تفكر، كيف ينجو الإنسان من الخطر المتربص، كيف يحمي جسده من الطعنات، ويحمله بعيدا في حذر، هذه الانقباضة الحذرة في العضلات، هذه الدقة القلقة في الصدر، دقة الدم الصاعد الهابط، تلك الحركة السريعة المنتظمة أبدا، دقة القلق، ومعها دقة الإحساس بالحياة وأصابعها الطويلة الرفيعة ترتعش رعشة سريعة غير مرئية، وقدماها ثابتتان فوق الأرض، وخطوط جسدها ثابتة، ذلك الثبات القوي، ثبات الأرض تحت قدميها، لكن تحت هذا الثبات حركة سريعة محسوسة، كذبذبات الهواء في الأذن، وذبذبات الدم تحت جدران الشرايين، ذبذبة سريعة تبدو من الخارج ساكنة، ولكن تحت هذا السكون تختفي الحركة العنيفة المروعة، حركة الصراع بين المقاومة والاستسلام، الحركة الوحيدة التي يدرك بها الإنسان الفرق بين حياته وموته . لحظة رهيبة، وبقدر ما ترهبها تعشقها، وبقدر ما تهرب منها تسعى إليها، فهي اللحظة الوحيدة التي تدرك فيها أنها حية حقيقية، والإحساس بالحياة لا يحدث إلا في مواجهة الموت، كالأبيض لا يكون أبيض إلا في مواجهة الأسود.
انفرجت شفتاها عن ابتسامة، ولمعت عيناها بالبريق، فهذه اللحظة هي هدفها، كانت تريدها من البداية، وتسير نحوها بثبات وإصرار، تدرك أنها لا تسير إلا إلى الخطر، حافة الخطر تلك المساحة الصغيرة التي لا تتسع إلا لقدة واحدة، معلقة في الفضاء، من فوقها السماء ومن تحتها الهاوية السحيقة، ويصبح الإنسان مشدودا بين قوتين رهيبتين، قوة تشده للسقوط في القاع وقوة تشده للانطلاق في السماء.
عن يقين كانت تعرف أنها لن تسقط في القاع. لن تستسلم. لن تكون بهية شاهين، ولن تعود إلى الوجوه العادية، ولن تغرق في بحر الأجساد المتشابهة أو تسقط في قبر الأيام العادية.
رفعت عينيها السوداوين إلى أعلى، وشدت عضلات ظهرها وساقيها، وتقدمت نحوهم بخطوتها الواسعة، تدب كل قدم على حدة فوق الأرض، وتفصل بين ساقيها بثقة وحرية. حين أصبحت أمامهم وجها لوجه قالت بصوتها الهادئ الواثق: هيا بنا.
تقدم نحوها أحدهم، ووضع الحديد حول معصميها وقفله بمفتاح وضعه في جيبه. سارت أمامهم بخطوات سريعة، عيناها تسبقان قدميها تبحثان بين الوجوه عن الوجه النحيل والملامح المرهقة المحملة بهموم البشر، والعينين القادرتين على التقاط وجهها من بين الوجوه وانتشال جسدها من بين ملايين الأجساد السابحة في الكون.
Неизвестная страница