ثمن الكتابة
إهداء
امرأتان في امرأة
ثمن الكتابة
إهداء
امرأتان في امرأة
امرأتان في امرأة
امرأتان في امرأة
تأليف
نوال السعداوي
Неизвестная страница
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
Неизвестная страница
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
Неизвестная страница
22 مارس 2017
إهداء
إلى كل فتى وفتاة في ربيع العمر، لعلهما يدركان قبل فوات الأوان أن طريق الحب ليس مفروشا بالورد، وأن الزهور المغمضة حين تتفتح في ضوء الشمس لأول مرة تسقط فوقها خراطيم النحل تمتص ورقها الناعم، فإذا ما استسلمت الزهور انسحقت، وإذا قاومت واستبدلت الورق الناعم بشوك نافر مدبب، استطاعت أن تحيا وسط النحل الجائع.
نوال السعداوي
مارس 1975
امرأتان في امرأة
كان اليوم هو الرابع، وكان الشهر هو سبتمبر، وكانت تضع قدمها اليمنى على حافة المنضدة الرخامية، وقدمها اليسرى فوق الأرض. وقفة لا تليق على الإطلاق مع كونها امرأة، «لم تكن امرأة بعد في نظر المجتمع»، كانت لا تزال فتاة في الثامنة عشرة. ولم تكن ملابس الفتيات في ذلك الوقت تسمح لهن بأن يقفن هذه الوقفة. كن يرتدين شيئا اسمه «الجيب» يلتف حول الفخذين بشدة ويضيق عند الركبتين، فإذا بالساقين ملتصقتان دائما، أثناء الجلوس وأثناء الوقوف، بل وأثناء السير، لم تكن الساقان تنفصلان أبدا في حركة الخطوات المألوفة للآدميين، وإنما هي حركة دورية غريبة، تنتقل بها قدما الفتاة فوق الأرض وتظل ساقاها ملتصقتين وركبتاها ملتحمتين كأنما تضغط بين فخذيها على شيء تخشى سقوطه.
كانت «رغم كونها فتاة» تندهش، وتود أن تعرف هذا الشيء الذي يمكن أن يسقط من أي فتاة في اللحظة التي تتباعد فيها ساقاها. وباستطلاع طبيعي كانت عيناها دائما تبحثان، وتراقبان تلك الحركة الدودية التي تسير بها الفتيات.
لم يكن مظهرها يختلف كثيرا عن هؤلاء الفتيات، سوى أنها كانت ترتدي البنطلون، وساقاها كانتا طويلتين، عظامهما مستقيمة، وعضلاتهما قوية، تستطيع أن تدب على الأرض وهي تمشي ، وتحرك ساقيها بحرية، وتفصل بينهما بثقة.
دائما كانت تجد نفسها بين البنات، في مدارس البنات، وفي فصول البنات، واسمها في كشوف البنات، بهية شاهين، التاء مربوطة مضافة إلى اسمها، تربطها بقوائم البنات كاللجام الجلدي.
Неизвестная страница
ولأن العقل البشري عاجز عن إدراك حقيقة الأشياء، فقد أصبحت معروفة عند الجميع كبهية شاهين، أما حقيقتها فلم تكن معروفة لأحد.
وكانوا يندهشون حينما تسير، وتصبح هناك مسافة مرئية بين ركبتيها. وتراهم يحملقون في هذه المسافة، فتتظاهر بأنها لا تراهم، وتواصل سيرها، تحرك ساقيها وتفصل بينهما، وتدب بكل قدم على حدة فوق الأرض، بقوة تدرك بها عن يقين أنها ليست بهية شاهين.
ذلك اليوم بلغت الثامنة عشرة. كانت تقف وقفتها الطبيعية «الشاذة في نظر المجتمع» قدمها اليمنى على حافة المنضدة الرخامية، وقدمها اليسرى فوق الأرض. وقفة لا تستطيع أن تقفها أية فتاة في ذلك الوقت، ولا أي فتى أيضا. فهي تحتاج إلى ساقين على قدر كبير من الثقة بمرونة عضلاتهما وقوة عظامهما واستقامتهما. وكانت سيقان الفتيان في معظم الأحوال معوجة «بسبب نقص التغذية في الطفولة» والفتى منهم لا يستطيع أن يرفع قدمه ليضعها على حافة المنضدة الرخامية العالية على أن تظل قدمه الأخرى فوق الأرض. أقصى ما كان يستطيعه الواحد منهم هو أن يرفع إحدى قدميه ويضعها على حافة المقعد الخشبي المنخفض. وكانت ترى معظم الفتيان يقفون هذه الوقفة، فهي عادية ومسموح بها للذكور فحسب.
الوحيد الذي كان يستطيع أن يرفع قدمه أكثر ليضعها على حافة المنضدة هو الدكتور علوي أستاذ التشريح. يمر بين المناضد بمعطفه الأبيض ونظارته البيضاء، وحين يقف عند أي منضدة يخفض الطلبة أقدامهم المرفوعة على المقاعد، ويقفون أمامه فوق ساقين تكادان تلتصقان. أما هو فيرفع قدمه عاليا في الهواء، ويضعها بكل ثقة على حافة المنضدة، وينظر مباشرة في عيون الطلبة، بعينين زرقاوين لا ترمشان.
حين كان يقف عند منضدتها لم تكن تخفض قدمها. وحينما يصوب إليها عينيه الزرقاوين تصوب إليه عينيها السوداوين. كانت تدرك أن اللون الأسود أشد قوة من اللون الأزرق وبالذات في العينين. الأسود هو الأصل، هو الجذر العميق الممدود في بطن الأرض.
بين أصابعه البيضاء المحمرة كان يبرز الملقط المعدني، يمده في بطن الجثة المفتوح، أو الذراع، أو الساق، أو الرأس، أو العنق، ويمسك أي شيء بطرفيه الرفيعين ويصيح بصوته الحاد: ما هذا؟ دائما كان يلتقط أصغر الأشياء وأدقها. وريد صغير يجري تحت عضلة صغيرة، شريان رفيع مختف في ثنية جلد، عصب دقيق كالشعرة لا يكاد يمسك بالملقط.
كن ثماني فتيات حول جثة واحدة. وبينهن واحدة أو أكثر تحفظ أسماء الأوردة والشرايين والأعصاب عن ظهر قلب. فما أن يسأل الدكتور علوي: ما هذا؟ حتى يرن في المشرحة صوت أنثوي حاد ومنخفض في نفس الوقت بالاسم الصحيح.
في كل مرة كان ينظر إليها، متوقعا مرة أن ترد، أن تثبت له أنها تعرف الإجابة لكنها كانت ترفض من حيث لا تدري أن يمتحنها أحد.
ذلك اليوم، الرابع من سبتمبر، كانت تحس أن شيئا خطيرا سيقع في حياتها. كل سنة في مثل هذا اليوم ينتابها هذا الإحساس. تفتح عينيها في الصباح وترى الشمس متوهجة بشكل غير عادي، وعيني أمها أكثر حدة وبريقا، وتهمس لنفسها بصوت خافت: في مثل هذا اليوم حدث لأمي شيء خطير في نظري، فقد ولدتني. وفي كل مرة تحس أن شيئا خطيرا سيحدث في هذا اليوم، أشد خطورة من كونها تولد.
وحينما تهمس في أذن أمها بهذا الخاطر تضحك تلك الضحكة الأنثوية المألوفة في ذلك الوقت، المكتومة على شكل شهيق متقطع وتقول: اعقلي يا بهية.
Неизвестная страница
لم تكن أمها تفهمها. وحين تراها في مكانها المعهود في السرير تزحف بهدوء إلى جوارها وتحتل مكان أبيها. وكما كانت تراه يفعل تلف ذراعيها الصغيرتين حول عنقها الكبير. كانت تدرك بإحساس يقيني أن جسد أمها هو الوحيد الذي يفهمها. وتلتف ذراعا أمها الكبيرتان حولها بقوة غريبة تكاد تسحقها.
ذلك الحين كانت تقرأ قصص الأطفال والأساطير الخرافية. في إحدى تلك الأساطير كان هناك إله رهيب يعبده الناس في مدينة سحرية، هذا الإله كان قادرا على أن يمسك بيده الواحدة أي شيء صلب، ويضغط عليه، ثم يفتح يده، فإذا بها فارغة.
وكانت تنزعج أمام هذه القوة التي تهدد وجودها انزعاجا فطريا لم تفهمه في طفولتها، لكنها أصبحت تفهمه بالتدريج، وأدركت من بعد أنها كانت تفهمه منذ البداية، منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أن لها جسدا خاصا منفصلا عن جسد أمها.
هذه اللحظة لا تغيب عن ذاكرتها، الألم فيها كان كالسكين الذي يمزق اللحم من اللحم، ومع ذلك لم يكن ألما حقيقيا، حين دارت يدها دورة كاملة حول جسدها المستقل قفزت في الهواء قفزة عالية، كعصفور يطير من الفرح، لكنها لم تكن عصفورا، وسقطت على الأرض «بسبب الجاذبية الأرضية»، منذ ذلك السقوط وهي تعرف وزن جسدها الخاص، تعرف أنه أثقل منها، وأن الأرض تشده إليها بقوة أكثر من قوتها، كذراعي أمها تشدانها إليها مرة أخرى، وبكل قوتها تحاول أن تجعل جسديهما شيئا واحدا، بلا جدوى فالانفصال الأبدي حدث في لحظة مضت ولن تعود.
منذ طفولتها وهي تحس المأساة فوق جسدها الخاص، تحملها معها في كل خطوة، داخل كل خلية من خلاياها. رغبة جامحة في العودة من حيث أتت في الخروج من مجال الجاذبية الأرضية، في أن تصبح بغير جسد له ثقل، وله سطح، وله حدود خارجية تفصله عما حوله، رغبة جامحة في الذوبان كذرات الهواء في الكون، والتلاشي الكامل النهائي.
كانت تحملق في صورة الإله الخرافي، وتدقق في أصابعه الكبيرة وهي تسحق الأشياء بضغطة واحدة، وحينما تنهض في اليل مفزوعة تتسلل إلى سرير أمها وأبيها وتدس جسمها الصغير بين جسميهما العاريين، لكن ذراعي أبيها الكبيرتين تشدانها بعيدا عنهما، بكل قوته يبعدها. أما أمها فتنظر إليها بعينين سوداوين تشبهان عينيها وتقول بصوت حان: اذهبي إلى سريرك يا بهية، لقد كبرت.
صوتها كان حانيا، تحس حنانه كالأصابع الناعمة فوق جسدها، تدور برقة وحنان، تدور دورة كاملة وكأنها ترسم خطوط جسدها، تحدده عن الكون الخارجي، وتبكي وحدها في سريرها بسبب ذلك الحنان، الذي يلامسها برقة ويؤكد وجودها المستقل، وكيانها الخاص المنفصل، وتنشج ببكاء مكتوم يرجها ويرج السرير، وتجتاحها الرغبة الجامحة في أن تكف هذه الأصابع عن حنانها الخادع، وأن تضغط عليها بقوة رهيبة، تخلصها إلى الأبد من جسدها وتجعلها هي وأمها شيئا واحدا.
أغمضت عينيها لتنام لكنها لم تنم، تملكها الفزع لفكرة غريبة خطرت لها، ذلك أنها ستفني حياتها كلها بحثا عن هذه اللحظة أو هربا منها، وخبأت رأسها تحت اللحاف من شدة الرعب، وامتلأت حجرة نومها بأشباح الأساطير والآلهة الخرافية، يضغطون على جسدها ليسحقوها وهي تقاوم بكل قوتها، ترفسهم بقدمها، وتعضهم بأسنانها، وتصرخ مستنجدة بأبيها وأمها.
صراخها لم يكن خوفا حقيقيا، كان خدعة، تخدع بها أمها. كانت تتعلم الخداع منها، كانت أمها تكذب عليها، تنام معها في سريرها وتقول لها إنها لن تتركها، وفي منتصف الليل تحس بها وهي تتسلل خارج سريرها وتذهب إلى سرير أبيها، وكانت تفعل مثلها تماما، تعرف كيف تصرخ بصوت مرتعش مثير للشفقة، وتأتي أمها إليها وتنام في سريرها.
لم تكن أمها تفهم رغبتها، كانت تملأ فمها بالطعام، وحين تستدير تبصق الطعام في الصحن، وتعجب كيف أن أمها لا تعرف مع أنها كانت مثلها. سألتها مرة فقالت إنها لا تذكر شيئا، وأدركت أن الناس تنسى عن قصد الذكريات الحقيقية، ثم تملأ ذاكرتها بأشياء لم تحدث.
Неизвестная страница
قالت لها ببراءة الأطفال إنها اكتشفت أنها فتاة وليست ذكرا، وكشفت عن ملابسها لتثبت لها الحقيقة، لكنها ضربتها على يدها وصاحت: تحرمي! ولم ترد، فضربتها مرة أخرى وهي تقول: قولي حرمت! ولم ترد، فرفعت يدها في الهواء وصفعتها على وجهها، ولم ينفتح فمها لتقول حرمت؛ لأن ذهنها هو الذي انفتح على حقيقة غريبة، وأدركت وهي تزم شفتيها وتطرق برأسها إلى الأرض أن الناس لا تحرم إلا الرغبات الحقيقية؛ لأنها قوية، أما الرغبات غير الحقيقية فهي ضعيفة ولا تحتاج إلى قوانين تحريم، وبدأت تبحث في كل المحرمات من حولها لتكشف رغبات الإنسان الحقيقية.
إنه البحث من أجل معرفة الحقيقة، ولا شيء أكثر من هذا، لم تكن تريد شيئا أكثر من هذا ، وحينما يمر الدكتور علوي بعربته الطويلة من خلال نافذة المشرحة تلمع عيون زميلاتها السبع وتتحرك سبع ننيات «جمع نني» في اتجاه واحد محدد. لكن النني الأسود الراسخ في عينيها يظل مشدودا إلى ذلك الإحساس الغريب الذي ينبهها بأن كل شيء مباح غير حقيقي. وتلكزها إحدى الزميلات بأصبع مدبب في كتفها قائلة: انظري! وترفع رأسها ناحية النافذة، وترى العربة الطويلة، يطل منها رأس له عينان زرقاوان جاحظتان بعض الشيء ويلكزها الأصبع المدبب في كتفها مرة أخرى: ما رأيك يا بهية؟ - نظرته غير حقيقية.
وتضربها بكفها البضة على ظهرها وتقول بصوت ساخر: يا خيبتك القوية!
وتنفتح الأفواه السبعة في ضحكة أنثوية، مكتومة ومتقطعة، كأنفاس تلهث بحرمان عاجز عن الارتواء إلى الأبد.
غضبت من حرمانهن أكثر مما غضبت من ضحكهن، وصعد الدم إلى وجهها، فلمت مشارطها وأدوات تشريحها ووضعتها في محفظتها الجلدية، وغادرت المشرحة. حين سارت في الهواء الطلق، وتلاشت من أنفها رائحة الفورمالين والجثث الميتة أدركت أنها لم تكن غاضبة من حرمانهن ولا من ضحكهن، وإنما هي تريد أن تهمس في أذن أحد بذلك الإحساس الغريب الذي يتكون في جوفها كالجنين طوال السنة، يتراكم يوما بعد يوم، ويعلو ويشتد ليبلغ الذروة في اليوم الرابع من كل سبتمبر، يؤكد لها عن يقين أنها ليست بهية شاهين.
خرجت من الكلية وسارت في شارع القصر العيني، تحملق في الوجوه كأنما تبحث بينها عن وجهها الحقيقي. وعند محطة الترام وقفت، وأدركت أنها لم تكن تبحث عن شيء، وأنها مرهقة وجائعة.
جلست في الترام، ظهرها في ظهر رجل، ووجهها في وجه رجل، وعلى يمينها رجل وعن يسارها رجل، وأمامها صفوف من الرجال الجالسين متلاصقين في صمت، أنصافهم السفلى ثابتة متحجرة فوق المقاعد، وأنصافهم العليا تهتز بحركة بطيئة منتظمة كحركة الترام. وحين يقف الترام تتراجع رءوسهم إلى الخلف بقوة، فإذا بهم يفتحون عيونهم في ذعر، وحين يطمئنون إلى أن رءوسهم لا تزال في موضعها يغمضون عيونهم وينامون.
موظفون كلهم؛ لأن شارع القصر العيني مكتظ بالوزارات ودواوين الحكومة. أجسامهم لها شكل واحد وملامحهم وبدلهم وأصابعهم وأحذيتهم كلها اتخذت شكلا واحدا كأنما الحكومة تصكهم كما تصك النقود في قطع مخروطية متشابهة. أكتافهم متلاصقة، متهدلة بعض الشيء «رغم حشو البدلة السميك» كأنما يحملون فوق أكتافهم عبئا أبديا لا يرى بالعين وإنما هو قائم وموجود، والدليل على ذلك أنهم من حين إلى حين يحركون أكتافهم بطريقة توحي بأنهم يزحزحون العبء من كتف إلى كتف.
ورغم أنهم نائمون إلا أن حركة عيونهم من تحت الجفن تكشف لها أن نومهم ليس حقيقيا، وحين يفتحون عيونهم وينظرون إليها تدرك أن يقظتهم أيضا غير حقيقية، ويصبح كل شيء فيهم ومن حولهم غير حقيقي. إذا انفرجت شفاههم وظهرت أسنانهم لا تعرف إذا ما كانوا يبتسمون أم يكشرون، وإذا حركوا أصابعهم وهم يصعدون الترام أو يهبطون منه لا تعرف إذا ما كانوا يتبادلون التحيات أم التهديدات ويصبح كل شيء مختلطا، والشيء ونقيضه يتماثلان، فالابتسامة كالتكشيرة، والتحية كالتهديد، والصدق كالكذب، والفضيلة كالرذيلة، والحب كالكراهية. وتتشابه الحركات والملامح والمعاني إلى حد الشعور بالاختناق، وتمد عنقها خارج الترام لتجذب نفسا عميقا من هواء الشارع، وحين يعود تنفسها الهادئ تدرك التشويه الذي تصنعه الحكومات بالبشر، فيصبح الرجل البالغ في حجم الطفل، لكن عظام جمجمته تفضح عمره الحقيقي، وتدل البدلة والكرافتة على أنه من الطبقة الحاكمة، لكن مشيته تكشف عن حقيقة كونه من المحكومين.
في كل مكان كانت تراهم، يملئون الشوارع، وتكتظ بهم الترامات، يدخلون ويخرجون من الأبواب، والردهات والأبنية، بأجسامهم الصغيرة، وأكتافهم المحشوة العريضة وجماجمهم الكبيرة، وظهروهم المحنية، وشفاههم المنفرجة دائما عن ابتسامة كالتكشيرة أو تكشيرة كالابتسامة. مخلوقات آدمية مسخت بقدرة قادرة، بقوة هائلة غير بشرية، تحول البشر إلى مخلوقات أخرى غير بشرية.
Неизвестная страница
هبطت من الترام وسارت نحو بيتها، رأت على بعد رجلا يشبه الرجال الآخرين ذا كتفين عريضتين وجمجمة كبيرة وظهر محني، تفادت النظر إليه وأسرعت الخطى لتدخل بيتها، لكنه ناداها باسمها فالتفتت إليه، ورأت وجه أبيها. لا بد أنه رأى ذعرا شديدا على وجهها لأن عينيه اتسعتا في دهشة وقال : ما لك يا بهية؟
وأخفت عينيها بكفها وجرت من أمامه إلى البيت.
كان وجهها لا يزال شاحبا حين فتحت أمها الباب، لكنها لم تلحظ شحوبها. كانت شاحبة دائما، ومن الصعب على امرأة مثلها أن تقدر على تمييز درجات الشحوب، فهي قدرة نادرة تحتاج إلى قدرة على التحديق الطويل، ولم تكن أمها تقدر على التحديق في وجهها. كانت عيناها لا تقويان على الثبات في عينيها، واتخذت من ذلك دليلا على أنها كانت تخدعها منذ الطفولة، وأبوها أيضا خدعها، كان يظهر أمامها في البيت بجسد طويل ضخم، وظهر مشدود وكف كبيرة قوية قادرة على صفعها، مع أنه ليس إلا واحدا من آلاف الموظفين في الحكومة. •••
ثماني عشرة شمعة مضاءة فوق المائدة البيضاء، وأمها تملأ فمها بالحلوى، وحين تستدير تبصقها في الصحن وأبوها يبتسم في وجهها، ولكنها تشك في ابتسامته، أبوها كله أصبح حقيقة مشكوكا فيها، الشك كالشمعة له ضوء أحمر وله لسعة حادة كالإبرة. لا زالت تذكر اللسعة فوق أصبعها، والمائدة هي المائدة، ولكن كان عليها شمعة واحدة، كان عمرها عاما واحدا، الضوء الأحمر كانت تراه في عينها كجزء منها، وجسمها الصغير الناعم زاحف فوق الأرض ملتصق كقطعة منها، لم تكن قد انفصلت بعد عن الكون، ولم تكن يدها تستطيع أن تدور حول جسمها دورة كاملة، كانت يدها صغيرة وجسمها كبيرا ضخما يشغل المساحة الضخمة بين السقف والأرض، وحينما كانت تمد يدها وتتفقد ساقيها لم تكن تعرف أهما ساقاها أم ساقا الكرسي؟ وحينما رأت الضوء الأحمر في عينيها لم تعرف أهو ضوء الشمعة أم ضوء عينيها، وغاظها الشك فأرادت أن تتأكد، ومدت أصبعها فلسعتها النار، وعرفت الفرق بين اللهب وعينيها، ومن خلال الشك والألم أصبحت حدود جسمها تتشكل وأعضاؤها تأخذ شكلها الخاص.
سمعت صوت أمها يأتيها من فوق المائدة البيضاء، مجتازا ثمانية عشر لسانا رفيعا من اللهب: كل سنة وأنت طيبة يا بهية. دهشت ولم تصدق أنها بلغت ثمانية عشر عاما، هل دار الكون حول نفسه ثماني عشرة سنة؟ لم تعرف كيف سألت السؤال، لكن خيطا حريريا غير مرئي يربط دورتها بدورة الكون. حين كانت تحملق في قرص القمر تمتد بينها وبينه الخيوط الحريرية كالأسلاك تشدها إليه وتشده إليها، لكن جاذبية الأرض أشد، وهي بينهما تبدو ساكنة من فوق السطح، لكن أعماقها كدوامة البحر تغلي، تقاوم الشد من كل جانب، وينفجر في داخلها شيء صغير مستدير كالبالونة المنتفخة، وتخرج البيضة الدقيقة بحجم رأس الدبوس، وفي رأسها عين واحدة تحملق، تسبح إلى الأمام وتحملق باحثة عن لحظة الاتصال الأبدية، لتنسحق في الكون وتتبدد تماما.
أصبح وجهها أحمر في ضوء الشموع وظن أبوها أنها تخجل كفتيات الثامنة عشرة، لكنها لم تكن في الثامنة عشرة، ولم تكن فتاة، فما معنى فتاة؟ سألت السؤال لأبيها وأمها وزميلاتها في المشرحة، وحينما سمع الدكتور علوي السؤال دب ملقطه المعدني في بطن المرأة المفتوح وأمسك الرحم. مثلث صغير من اللحم بحجم ثمرة الكمثرى الصغيرة، أملس من السطح، ومجعد من الداخل وقاعدته إلى أعلى ورأسه إلى أسفل.
ثبت عينيه الزرقاوين في عينيها السوداوين وابتسم لكنها لم تبتسم. وشدها من يدها إلى المنضدة المجاورة وقال بلهجة الأستاذ: أما الرجل فهذا. وأمسك بطرفي الملقط عضو الذكر، ورأت قطعة جلد سوداء مجعدة كقطعة براز قديم. •••
حين عادت إلى البيت جلست أمام أمها وطلبت منها أن تحدق في وجهها طويلا ثم سألتها: هل أنا بهية؟ وتشهق أمها شهقتها الأنثوية المكبوتة إلى الأبد، وتقول: اعقلي يا بنتي! لم تكن أمها تفهمها، لكن كانت تفهم أمها، وحين تحدق في عينيها طويلا كانت تستطيع أن ترى رحمها، مكورا وقابعا في قاع بطنها، وتلمح عضلاته وهي تنقبض وتنبسط، وتنقبض وتنبسط، في نبض سريع متصل، كنبض الكون في سكون الليل، وبحركة لا مرئية ولا محسوسة كحركة الأرض. تود أن تضغط بكل قوتها على هذا الرحم لتبطل حركته السرية المجنونة، وليسكن إلى الأبد، لكن أمها تطرق بعينيها إلى الأرض، لا تقوى على النظر طويلا في عينيها. في أعماقها شيء تخفيه عنها، تدفنه في طيات نفسها، وتلف عليه أحشاءها طبقة فوق طبقة، ليصبح غير مرئي، وحركته مخفية لا نهائية، سرية إلى الأبد.
الأبد كلمة لا تعرف معناها؛ فاليوم يمر وراء اليوم، ودورة القمر تتعاقب مع دورة الدم في عروقها، والخلية المنتفخة في أعماقها تنفجر في اللحظة نفسها، وتدور البيضة الدقيقة حول نفسها دورانا سريعا مجنونا كدورة الأرض حول نفسها، وبعينها الواحدة تحملق في الكون باحثة عن فناء ذاتها، بلا جدوى يتكرر الإحباط كل مرة، مع دورة القمر اللامجدية، ويتراكم الغضب في أعماقها كسخونة الدم، يتجمع ويتراكم ويدور مع دورة الزمن داخل مجال جسدها، تحسه على يقين في خلاياها، إحساسا ملحا شديد الإلحاح، ينبئها بأن شيئا خطيرا سيحدث لها في يوم من الأيام، يوم معين محدد.
لم يكن من عادتها أن تحمل مفكرة بالأيام، ولم تكن تنظر إلى النتيجة المعلقة في حجرة أبيها والتي تراه يشد منها كل يوم ورقة، يشدها بالطريقة نفسها وفي اللحظة نفسها كل صباح، يشدها ويكورها بين أصابعه، وتشدها بعيدا وتصرخ في وجهه: اتركها! قبل أن يرفع أبوها يده الكبيرة عن الورقة تتوقع أنها أخطأت، وأن الشمس لم تتوهج بدرجة غير عادية، وأن عيني أمها هما عيناها ككل يوم، وأن ذلك الإحساس الغريب الذي انتابها ليس إلا وهما من أوهامها الكثيرة المتنوعة. وتستدير وتترك أباها ليشد الورقة كما يشدها كل يوم، لكنه لا يشدها، وتسمع صوته من خلف ظهرها يقول: كل سنة وأنت طيبة يا بهية، ويلتوي عنقها في حركة سريعة عنيفة، وتصطدم عيناها بالرقم 4 «أربعة» فوق الورقة البيضاء كخط زجاجي أسود، ويهرب الدم من وجهها ويصبح شاحبا.
Неизвестная страница
تتلفت حولها وهي تسير في الشارع، وحين تسمع صوتا من خلفها تتوقف وتستدير كأن أحدا يناديها، وتدرك بعد لحظة أنه ينادي اسما آخر على وزن بهية، كوفية أو نجية أو علية أو زكية.
وحين تركب الترام يخيل إليها أن أحدا ركب وراءها، أنه يتبعها، وحين تهبط في شارع القصر العيني تكاد تسمع خطواته من خلفها، وحين تدخل من باب الكلية يدخل.
في فناء الكلية الواسع المزدحم تفقده، تختلط الأصوات والملامح ، وتحس أنها تغرق في بحر وحدها، دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، وأن وجهها أصبح كوجه زميلاتها لا فرق بين بهية أو علية أو سعاد أو إيفون، وفي هذه اللحظة تدرك المعنى الحقيقي للموت، كانت تبحث عن الموت في جثث المشرحة، لكن الموت كالحياة لا يعيش في الجثث.
الموت لا يعيش إلا في ذهن حي، شديد الحياة، قادر على التقاط أدنى الأحاسيس وأكثرها اختفاء وسرية، كذلك الإحساس بالضياع الذي تحسه ذرة هواء سابحة في الكون تقاوم الضياع بين ملايين الذرات، أو كتلك الرغبة المحيطة التي تحسها قطرة ماء تقاوم الذوبان في ماء البحر. المقاومة المجنونة اليائسة في قمة الإحباط، تصنع الاستسلام الكامل كالسكون الأبدي. من ينظر إلى وجهها في تلك اللحظة يظن أنها عمياء وخرساء، وأن جسدها ساكن لا يتحرك، مع أن قدميها تنتقلان على الأرض، القدم وراء القدم والأشياء أما عينيها بلون واحد وشكل واحد، والأجسام كلها متشابهة، والحركات والأصوات متشابهة. تجد نفسها تجري بغير وعي، هاربة من فناء الكلية، هاربة من التشابه المميت، داخلها وخارجها، في جسدها وفي العالم الخارجي.
كان لها ركن صغير منفصل، منعزل، بحذاء سور الكلية، وراء المبنى الضخم، تجلس. فيه مقعد خشبي بغير ظهر، تجلس محنية إلى الأمام، تحملق في قطعة صغيرة من الأرض بحجم كف اليد لم ينبت عليها العشب الأخضر، ودون بقية الأرض من حولها ظلت طينية اللون، مشققة، ومن بين الشقوق الرفيعة تدخل وتخرج ملايين الكائنات الدقيقة بحجم النمل. - بهية!
يرن الاسم في أذنها غريبا كاسم واحدة غيرها، وتنتفض من فوق المقعد، وفي انتفاضة جسدها تدرك أن لها جسدا خاصا، يمكن أن تحركه وتهزه فلا تهتز معه الأجسام الأخرى، وأن له اسما خاصا، حينما يرن في الجو ترفع رأسها وتندهش، وقد تسأل: من يناديني؟ في كل مرة تسمع النداء تندهش، وتدرك بإحساس خفي أن أحدا يناديها باسمها من دون الأسماء الأخرى، ويتعرف على جسدها من ملايين الأجساد، ويستطيع أن يميزها من بين المخلوقات السابحة في الكون بالبلايين.
يهرب الدم من وجهها في شحوب غير بشري، كشحوب التماثيل المنحوتة من الصخر، أو كوجوه الجثث المرصوصة على المناضد الرخامية في المشرحة. ورأت لون وجهها حين نظرت في مرآة حجرة الطالبات، وأصابعها حين لمست بشرتها كانت باردة مثلجة. وتعرف عن يقين أنها ترتعد وأنها تريد أن تهرب من ذلك الصوت الذي ناداها، من ذلك النداء الذي يقصدها هي بالذات، من تلك القدرة الخارقة التي استطاعت أن تميزها هي دون الآخرين، أرادت أن تهرب. بسرعة لم تألفها قدماها دست نفسها بين الطالبات وجعلت جسدها يتوه بين أجسادهن، ورأسها يختفي بين رءوسهن. وحينما تتحرك الرءوس تحرك رأسها معها، إلى اليمين أو إلى اليسار أو إلى الأمام أو إلى الخلف، تحتمي فيها كدرع، وتظل كذلك بينهن مختفية، لا تقوى على أن تطل برأسها إلى الخارج، فهناك في الخارج قوة خارقة للطبيعة تستطيع أن تلتقطها من وسط الزحام، وتميز جسدها من بين الأجساد. قوة قادرة رهيبة، ما إن تطل برأسها حتى تشدها إليها بمغنطة أشد من جاذبية الأرض، وما إن تشدها حتى تدخل مجالها الكهربي، وتدور في فلكها كنحلة مجنونة نزعوا عنها قرنها فراحت تدور حول نفسها حتى يسحقها الدوران.
كانت تشعر بذلك الخطر ينمو داخلها ويكبر، ذلك الخطر الذي يهددها بأنها منسحقة لا محالة، وأن جرثومة ما تعيش في جسدها، تنهشه في حذر وهدوء لتسحقه بالتدريج دون أن تدري، أو أنه سينسحق فجأة وفي لحظة خاطفة تحت قضبان الترام، أو بين عجلات الأتوبيس، وأن أحدا لن ينقذها، وحينما تسمع صراخا وتطل برأسها من الترام وترى الجسد الممزق فوق القضبان تحس أنه جسدها، وهذا الوجه الشاحب هو وجهها، وهذا الدم الأحمر فوق الأسفلت هو دمها. ثم يتحرك الترام مرة أخرى وتجد جسدها قابعا في مكانه فوق المقعد سليما صحيحا، ودمها لا زال داخل عروقها لم يخرج، وتدرك بإحساس خفي، ولكنه يقيني، أن اليوم لم يأت بعد، وأنها لا زالت بهية شاهين، طالبة الطب المجدة حسنة السير والسلوك، ابنه محمد شاهين المدير بوزارة الصحة.
تدخل الكلية بحركة تشبه حركتها كل يوم، وتتجه إلى مدرج علي باشا إبراهيم، وتجلس في المقعد الذي تجلس فيه كل يوم، آخر مقعد في آخر صف من ناحية اليسار، من يراها يظن أنها نائمة في مقعدها، مع أنها يقظة شديدة اليقظة، ترى الطلبة بوضوح أشد من أي وضوح سبق، تراهم وهم يندفعون من الباب، يدوسون على أقدام بعضهم البعض، الحقائب المنتفخة بكتب التشريح مضغوطة تحت الإبط، والنظارة البيضاء السميكة تهتز فوق الأنف تسندها اليد اليسرى من السقوط، والذراع اليمنى ممدودة إلى الأمام تزيح الأجسام الأخرى من الطريق يتسارعون إلى احتلال الصفوف الأمامية من المدرج، ويجلس الواحد منهم في مقعد وهو يلهث، ويفتح كشكول المحاضرات بأصابع حمراء متورمة «بسبب التسلق على الترام» يدلكها بحركة سريعة ثم يضعها في جيبه، وقد يضع رأسه داخل الكشكول ليراجع المحاضرات السابقة، أو يمد عنقه إلى اليمين أو إلى اليسار ويهمس في أذن زميله بنكتة «في معظم الأحيان نابية»، وحين يدخل الأستاذ يدب الصمت في المدرج، ويصبح الواحد منهم قادرا على سماع الأصوات المنبعثة من معدة الآخر «بسبب عدم تناول الإفطار قبل الحضور»، يتحرك الأستاذ أمامهم من فوق المنصة، بخطوات بطيئة هادئة، وصوته هادئ وجسده هادئ وأعضاؤه مستريحة وخلاياه مطمئنة، كذلك الاطمئنان الذي تشعر به خلايا المعدة بعد غذاء دسم، أو خلايا الألية بعد الاسترخاء في مقعد وثير، ويغمض الطلبة عيونهم ويحلمون بالاسترخاء، ويدركون أنه حلم قديم منذ الطفولة، منذ لمحوا البريق في عيون آبائهم وأمهاتهم حين يرن في الجو اسم دكتور.
كانت تجلس في مقعدها الخلفي لا ترى عيونهم وإنما ظهورهم، وكلها محنية إلى الأمام فوق كشاكيل المحاضرات، ويخيل إليها أنهم سيظلون إلى الأبد محنيين ومنكفئين فوق وجوههم، وتندهش حين تراهم «بعد انتهاء المحاضرة» يتحركون، وأنهم ينهضون بسرعة ويندفعون نحو الباب، يدوسون على أقدام بعضهم البعض، ويتدافعون بالأذرع وعظام الكوع المدببة، وحينما يندس كوع الواحد منهم في ثدي طالبة تنفرج شفتاها في حركة غير مرئية، لا تكاد الشفة ترتفع عن الشفة، وبصوت مكتوم غير مسموع تقول: آه! وتضع حقيبة الكتب المنتفخة فوق صدرها. في ذلك الوقت يكون ملمس الثدي الطري قد سرى كالترياق من كوع الواحد منهم إلى كتفه إلى عنقه، وتتقلص العضلات وتصبح الأعناق مشدودة، والملامح مشدودة، وتبدو العيون من شدة التوتر كنقطة الوسط في حبل مشدود من طرفيه، ساكنة من السطح، لكن خلاياها العميقة تموج بحركة لا مرئية، حركة عنيفة مجنونة تقاوم الشد، وتلتوي عضلات العين ناحية كل شيء فيه طراوة اللحم، لا تفرق بين الأثداء أو الأرداف أو الحقائب الجلدية، ويضغط الواحد منهم بأسنانه، من غير وعي، على حقيبة كتبه الجلدية يقطع منها قطعة يمضغها، وحين يكتشف أنها قطعة جلد يخجل من نفسه، ويخفي بكفيه الثقوب المنتشرة في حقيبته. وفي الترام يصبح كل شيء فوق طاقته، ويجد نفسه مدسوسا، عن غير قصد، بين ثديي امرأة. وفي منتصف الليل يغلق كتب التشريح وينام على السرير، لكن جسده يأبى النوم فقد تجمع الترياق في بؤرة محددة، وتكون برأس مدبب كرأس الدمل، وما هي إلا ضغطة واحدة باليد حتى ينفقئ.
Неизвестная страница
كانت تدرك بوضوح أنها لا تحب هؤلاء الطلبة، لا تحب اندفاعهم من الباب، بنظارتهم السميكة وعيونهم المشدودة، وكيعانهم المدببة، واحتلالهم المقاعد الأمامية، وظهورهم المحنية تصبح في وجهها، وتحملق في أعناقهم من الخلف وترى من فوق حافة الياقة البيضاء البشرة السمراء واضحة المسام، ومنابت الشعر المقصوص وفتافيت كالدمامل الصغيرة.
وتهمس في أذن زميلتها بشيء، فتشهق الزميلة بالضحكة الأنثوية المكبوتة وتقول: اعقلي يا بهية، وفكري في مستقبلك.
إحساس خفي، لكنه قوي، ينبئها بأن مستقبلها ليس في هذه المحاضرات الطويلة المملة، وليس في الحصول على شهادة الطب، وتركيب اليافطة الطويلة في الميدان «دكتورة بهية شاهين»، واسترخاء الأليتين في مقعد السيارة الوثير. كل هذا يبدو لها، بإحساس خفي، بلا معنى، كالصفحة البيضاء الخالية تماما من الكتابة، كالليل الأسود الخالي من نجم واحد، كالكون الضخم، وقد أصبح كله أسود أو أبيض لا فرق، فهو كله بلون واحد.
حينئذ تدرك العبث، عبث الكون من حولها، وعبث الحياة، وعبث هذا الأستاذ الذي رشق السيجارة في زاوية فمه، وعبث هذه المحاضرة، وعبث هذه الظهور المحنية إلى الأمام والأعناق المرشوقة من الخلف بالفتافيت.
تضع كتبها وكشاكيلها داخل حقيبتها، وبحركة جانبية يصبح جسدها منفصلا عن المقعد، وبحركة إلى الخلف تخرج من الباب الخلفي للمدرج، وفي أقل من لحظة تصبح وحدها في فناء الكلية الواسع.
تسأل نفسها وهي تحرك ساقيها في مشيتها العادية ماذا تريد بحياتها، وتترك السؤال بغير جواب معلقا أمامها في الفضاء، يحركه الهواء أمام عينيها كبندول الساعة.
وتخبط الأرض بقدم واحدة بخبطة قوية واحدة، وتدرك عن يقين أنها تريد بحياتها شيئا معينا، شيئا يمكن تحديده بنقطة محددة، تستطيع أن تصنعها بسن الريشة فوق صفحة بيضاء، وتستطيع أن تلمسها بطرف أصبعها، تماما وباليقين نفسه الذي تلمس به جسدها وتحس حدوده الخارجية من تحت ملابسها، وتستطيع أن تميزه من كل الأجساد، وتفصله عن الأرض، بحركة من قدمها.
فوق سريرها في حجرتها الصغيرة، تحملق في السقف، ترى نفسها وهي جالسة على كرسيها الأحمر الصغير، وأمامها منضدتها الحمراء، فوقها الكراريس وكتاب المطالعة الرشيدة، غلافه أزرق، تتوسطه التكت البيضاء، الاسم: بهية شاهين، الفصل: أول ابتدائي، وتشد الورقة البيضاء من الكراسة، وبحركة من يدها الصغيرة تصنع بسن الريشة خطا واضحا، تدرك من شكله أنه خطها، وأن اليد يدها، والأصابع من حول الريشة أصابعها، تحركها بإرادتها، وتصنع فوق الصفحة البيضاء خطوطها المميزة، تصنع الدائرة الكبيرة ومن داخلها دائرتين صغيرتين، فيصبح أمامها وجه وعينان تنظران إليها من فوق الورقة البيضاء، سوداوان وواسعتان كعينيها تطلان من خلال المرآة، تتأمل خطوطها فوق الورقة كما تتأمل ملامحها، تعرفها كما تعرف وجهها لا تخلط بينه وبين الوجوه الأخرى، وتستطيع أن تميزه، وتلمس خطوطها فوق الورقة بأصبعها تماما، وباليقين نفسه الذي تلمس به جسدها، وتحس حدوده الخارجية من تحت ملابسها.
فتح أبوها الباب، فأخفت الورقة تحت كتاب المطالعة، لكن أصابعه الكبيرة رفعت الكتاب وشدت الورقة ومن فوقها الخطوط. ضربها على يدها الصغيرة بكفه الكبيرة وهو يقول: تضيعين وقت المذاكرة في الشخبطة! وكور الورقة في كفه الكبيرة وألقى بها في سلة المهملات.
حين تخرج، ترمق خطوطها المميزة مكورة إلى جوار قمامة البيت، وتظل تحملق بها كما تحملق في وجهها في المرآة، وتشد ورقة جديدة، وبحركة يدها الإرادية تصنع خطوطها، وتدرك رغم طفولتها أن شيئا ما يربط بينها وبين هذه الخطوط، كالأسلاك الكهربية غير المرئية أو الخيوط الحريرية الرفيعة بلون الهواء، تمتد مشدودة بينها وبين خطوطها فوق الصفحة البيضاء، تؤكد قدرتها على تمييز حركة يدها، وشكل أصابعها، وارتفاعة أنفها، وسواد عينيها.
Неизвестная страница
وتسمع صوت أبيها وهو جالس في الصالة، قابع في مقعده الأسيوطي، فتخفي الورقة تحت كتاب المطالعة، وتقرأ من الكتاب بصوت عال، يرن في أذنها كصوت واحدة غيرها، واسمها فوق الغلاف يبدو تحت عينيها غريبا، كاسم تلميذة أخرى، مطيعة ومؤدبة، تسمع الكلام وتعمل الواجب، وتدفن حقيقة نفسها في طيات الورقة المختفية.
منذ وعت الحياة وهي تسأل نفسها السؤال: لماذا كل الأشياء التي تحبها محرمة؟ حتى الطعام يفرضون عليها أنواعا منه لا تحبها، تدسها أمها في فمها، وحين تستدير تبصقها في الصحن. وأبوها بينه وبين خطوطها عداء، ما إن يراها فوق ورقة حتى يمزقها أو يكورها ويلقي بها بعيدا مع القمامة ونفايات البيت.
كالحاجز الطويل الضخم كان أبوها يقف بينها وبين نفسها الحقيقية، يحول بينهما بضخامة جسمه، وصوته القوي الخشن، وكفه الكبيرة وعينيه الكبيرتين القابعتين في مدخل البيت. حين يرن صوته: بهية! تدرك أنه ينادي واحدة غيرها، لكنها ترد وتقول: نعم، ويسألها: عملت الواجب؟ وترد بصوت مطيع مؤدب: نعم. ويتصل صوتها إلى أذنها بكلمة نعم، فتعلم عن يقين أنه ليس صوتها.
حين يختفي أبوها من الصالة، وتصبح في حجرتها وحدها تستطيع أن تسمع صوتها الحقيقي، وتستطيع أن تحدد ملامحه ونبرته الخاصة، كما تحدد ملامح وجهها، وبأصابعها الرفيعة تخلع التكت البيضاء بالاسم المستعار من فوق الغلاف الأزرق، وبسن الريشة فوق الصفحة البيضاء تحدد كل الأشياء كما تراها على حقيقتها، وحين ترسم أباها تصنع له عينين حمراوين وشاربا طويلا أسود وكفا كبيرة وأصابع تلتف حول عصا طويلة.
لم يكن لأبيها شارب طويل أسود، لكنها في ذهابها وعودتها من المدرسة كل يوم كانت ترى الشرطي قابعا في كشكه الخشبي على ناصية الشارع. لم تكن ترى من وجهه إلا شاربا طويلا أسود، وحين تقترب من مكانه تسرع الخطى وأحيانا تجري، وتظل تجري حتى تصل البيت.
أما العصا الطويلة فكانت تهتز أمام عينيها كل صباح وهي جالسة وراء درجها الخشبي في الفصل، وصوت المدرسة يرن في أذنيها بنبرة حادة كنبرة أبيها: بهية شاهين! عملت الواجب؟ في اللحظة الأولى تظن أن المدرسة تنادي واحدة غيرها، وتطبق شفتيها في صمت، لكن الصوت الحاد يرن مرة أخرى: بهية شاهين. فتنتفض واقفة وترد بالصوت المؤدب المطيع: نعم.
اليوم الوحيد الذي كانت تحبه هو يوم الجمعة، فهي لا تذهب إلى المدرسة، ومن السرير الصغير تنزلق بخفة إلى كرسيها الأحمر، ومن وسط الكراسة تشد ورقة بيضاء، وتلتف أصابعها الصغيرة حول الريشة، وتحرك يدها فوق الورقة وتصنع خطوطها، وأحيانا تخرج من طيات حقيبتها قلما أحمر، أو أزرق، أو أخضر، اشترته بمصروفها من الدكان المجاور للمدرسة، أو استعارته من زميلة، وتلون الخطوط، وتصنع للشجرة أوراقا خضراء، وللبحر ماء أزرق، وللدم لونا أحمر، كيف عرفت أن الدم لونه أحمر؟
أول بقعة دم حمراء رأتها في حياتها كانت فوق سروالها الصغير الأبيض، ترسمها كالدائرة الحمراء القانية وسط الصفحة البيضاء، وعينا الطفلة الصغيرة دائرتان واسعتان مذعورتان، وجسمها صغير ورفيع كجسم العصفور يرتجف وراء الجدار، وعيون كثيرة كالدوائر الواسعة تحملق، وتدفن سروالها بأصابعها المتورمة الصغيرة في حفرة وراء الجدار، وتسير في الشارع بغير سروال، تنفذ الريح الباردة بين ساقيها تحاول أن ترفع فستانها عن فخذيها، لكنها تشد الفستان بيديها الاثنتين وتقاوم الريح، وتسير فوق الشارع الأسفلت تتدلى من بين أصابعها الصغيرة الحمراء حقيبة جلدية منتفخة بالكراريس وكتب الحساب والمطالعة.
وحين تقترب من الكشك الخشبي تسقط من بين ساقيها فوق الأسفلت نقطة حمراء قانية، تفترش الأرض على شكل دائرة حمراء، تتسع وتكبر وتصبح في حجم قرص الشمس، يحملق فيها الشرطي بشاربه الطويل الأسود، ويمد أنفه من وراء الكشك متشمما رائحة الدم، وتلقي حقيبتها على الأرض وتجري لاهثة إلى البيت. •••
حركت رأسها الثقيل فوق الوسادة ورأت الحقيبة الجلدية المنتفخة بكتب التشريح فوق مكتبها الصغير، وفوق المكتب جمجمة، وكشاكيل، وكوب ماء فيه وردة حمراء. نهضت وقربت أنفها من الوردة، لمحت بطرف عينها النتيجة معلقة على الجدار، فتذكرت موعد الامتحان. رصت الكشاكيل والكتب أمامها وجلست تحملق في الجمجمة، جمجمة إنسان مات منذ سنين، اشترتها من فراش المشرحة بثلاثة جنيهات. كانت في العام الماضي بجنيه واحد، لكن الأسعار ارتفعت والجثث شحت وأصبح لها سوق سوداء، يشترك الحانوتي مع فراش المشرحة، مع خفير المقابر، وحين يدهس الترام الجسد المجهول الذي عاش ومات دون أن يعرف لنفسه أبا أو أما «يسمونه العديم الأهلية» يبرز على الفور الحانوتي وفي يده الأب، أي أب، يؤجره بالساعة، ويلقي الأب برأسه فوق الجسد الميت ويبكي بدموع مزيفة، كدموع الآباء الحقيقيين، ويتسلم الجثة ويوقع عليها باسمه وتصبح ملكه الخاص، يصنع بها ما يشاء، تماما كما يمتلك الأب ابنه ويصنع به ما يشاء.
Неизвестная страница
ويبيع الأب جثة ابنه لخفير المقابر، الذي يبيعها للحانوتي، الذي يبيعها لفراش المشرحة، وهذا بدوره يبيعها لعميد كلية الطب، أو للطلبة الأثرياء الذين يذاكرون في البيت ويحتقرون الذهاب اليومي إلى المشرحة.
تأملت بهية الجمجمة، ورأت الشقوق الطويلة بين العظام كالجروح الغائر العميقة وعظام الخدين بارزة، والعينان حفرتان غائرتان في الجبهة، والفكان مدببان من فوقهما فجوات الأسنان العميقة.
كوجه الطفل الذي يتسلق على الترام بجلبابه الممزق، وفوق يده علبة الدبابيس وعلب الكبريت وأمشاط الشعر، ينادي بصوته الممزق المبحوح، ويقفز من ترام إلى ترام، بساقه الوحيدة، وينظر إلى الناس بعينيه الغائرتين، يبحث في الوجوه عن وجه له ملامح الأب والأم، يدس يده في جيبه ويخرج قرشا أو قرشين ويشتري منه مشطا أو علبة دبابيس.
لكن الوجوه الجالسة في الترام ليس فيها آباء ولا أمهات، وإنما تلك الوجوه المتشابهة بقدرة قادر، المصكوكة بمطرقة الحكومة كالنقود، جالسين متلاصقين في صمت، أنصافهم السفلى ثابتة متحجرة فوق المقاعد، وأنصافهم العليا تهتز بحركة بطيئة منتظمة كحركة الترام، جماجمهم الكبيرة تتذبذب كبندول الساعة، وأكتافهم العريضة «بسبب حشو البدلة السميك» متلاصقة، والكرافتة ملتفة حول أعناقهم كالمشنقة، وحين يقف الترام فجأة تتراجع رءوسهم إلى الخلف بقوة وترتطم بالترام فينتفضون في مقاعدهم، قابضين بأيديهم على رءوسهم ومحملقين حولهم بعيون واسعة صفراء مليئة بالذعر، وترن في الجو صرخة طفل.
تسقط العيون كالدوائر فوق الجسد الممزق تحت عجلات الترام، ومن حوله تناثرت الدبابيس وعلب الكبريت والأمشاط، وفوق الأسفلت البقعة الحمراء تفترش الأرض وتتسع الدائرة الحمراء كقرص الشمس، والعينان الغائرتان تطلان من تحت العجلات الحديدية كحفرتين عميقتين في بطن الأرض.
يتحسس كل واحد رأسه وعنقه وذراعيه وفخذيه، وحين يطمئن إلى أن رأسه لا يزال فوق عنقه، وجسده لا زال في مقعده، ودمه لا زال في عروقه، تنفرج الشفاه عن تنهيدة طويلة عميقة، وتلمع العيون بفرحة خفية، وقد يصافح بعضهم البعض مهنئين حامدين الله شاكرين فضله لأنه مزق تحت العجلات جسدا آخر غير جسدهم، ويرفعون كفوفهم إلى السماء متمتمين بآيات الحمد، متوهمين أنهم يرشون الله بهذه التمتمة فلا يبطش بهم في أي وقت، وتظل رءوسهم فوق أعناقهم إلى الأبد.
مدت بهية يدها وحركت الجمجمة، فأصبحت العينان الغائرتان ناحية الحائط، وأغلقت كتاب التشريح، ومدت يدها وراء السرير وشدت اللوحة البيضاء، أسندتها على الجدار وجلست على الشلتة الصغيرة فوق الأرض وإلى جوارها الفرش والألوان.
حجرتها مظلمة تماما إلا من دائرة ضوء بيضاء مسلطة فوق اللوحة من لمبة صغيرة، والسماء من خلال نافذة سوداء، والليل صامت وأبوها نائم، ولا صوت يسمع ولا حركة، إلا حفيف الفرشاة تروح وتجيء فوق السطح الأملس، بتلك الحركة الخفيفة بأصابعها، تحرك يدها بإرادتها في أي اتجاه، وترفع جفنيها بكل قوتها من فوق عينيها لتقاوم النوم، وتظل شاخصة إلى خطوطها، وبقع الألوان، لا تكف عن الحملقة، ومن حين إلى حين تمتد يدها بتلك الحركة الإرادية تصفع الوجوه المتشابهة بضربات الفرشاة، وتنزع بأصابعها قناع اللحم المشدود، وتسحب الجسد الممزق من تحت العجلات، وتكسو الجمجمة النحيلة باللحم وتصبح الحفرتان الغائرتان عينين سوداوين تشبهان عينيها.
في الصباح تفتح عينيها على صوت أبيها الحاد كصوت المنبه، وترتدي البنطلون الأسود والبلوزة البيضاء، وتحمل الحقيبة الجلدية المنتفخة وتسير نحو الترام. تدب على الأرض بقدميها وتفصل بين ساقيها في خطوتها، وحين ترى الوجوه المتشابهة في الترام تزم شفتيها في غضب، وحين ترى زميلاتها يسرن بسيقانهن الملتصقة بتلك الحركة الدورية الغريبة تدرك أنهن من فصيلة وهي من فصيلة. وتقف في المشرحة ترفع قدما فوق حافة المنضدة الرخامية، وتنتصب ساقها الثانية فوق الأرض طويلة، عظامها مستقيمة وعضلاتها مشدودة، ترمق بطرف عينها سيقان الطلبة المعوجة، ونظاراتهم السميكة داخل كتب التشريح، وأنوفهم الحمراء المتورمة، وظهورهم المحنية المنكفئة فوق الجثث، تتلفت حولها في دهشة كالذي ضل الطريق. لكن المشرط بين أصابعها وكتاب التشريح غلافه أزرق، ومن فوق التكت البيضاء الاسم: «بهية شاهين»، الفصل: أولى مشرحة، تندهش، وتحرك المشرط من أعلى إلى أسفل في كتلة اللحم الغارقة في الفورمالين، ويصطك المشرط بشيء صلب، أخرجته من التجويف بطرف المشرط، فسقط فوق المنضدة الرخامية محدثا صوتا كقطعة زلط، شقها المشرط نصفين، فإذا بها جلطة دم تجمدت، واسودت. ضحكت زميلة من زميلاتها ضحكتها الأنثوية المكبوتة وهي تقول: يا خبر! ظننت أنها رصاصة! مدت زميلة أخرى عنقها ونظرت إلى القلب المشطور وتساءلت بدهشة: في القلب رصاصة؟ وأخفت واحدة فمها بكفها وشهقت: يا عيني! وتنهدت أخرى بصوت مسموع: يا ريتني أنا.
إن شيئا من هذه المعاني المألوفة عن الموت لا يمكن أن يوجد في المشرحة، فالموت هنا ليس موتا، والجثة ليست شخصا ميتا، وجلطة الدم متجمدة كقطعة رصاص في جوف القلب قد تكون شيئا مثيرا لرغبة مكبوتة مدفونة في أغوار النفس، كأن ينشطر القلب، أو يكف الدم عن دورانه العبثي ويتجمد في العروق، أنه الموت الذي يرغبه الإنسان ويرهبه، ويبحث عنه ويهرب منه، ويتصوره في كل مكان ولا يجده في أي مكان ولا في المشرحة.
Неизвестная страница
التفتت بهية إلى زميلتها التي قالت «يا ريتني أنا» وسألتها: ترغبين في الموت؟ فشهقت الزميلة بدهشة واستنكار: الموت؟ بعيد الشر عني يا أختي. وأدركت بهية المأساة ، وعرفت لماذا يخفي الإنسان رغباته الحقيقية؛ لأنها الرغبات العنيفة الساحقة في عنفها، ولأن الإنسان لا يريد أن ينسحق، فهو يفضل الحياة الفاترة بغير رغبات حقيقية.
وأمسكت بهية بهذا الطرف من الخيط، وبدأت تسير نحو الطرف الآخر، وهي تدرك أنه ليس هناك طرف آخر، وإنما هي الهاوية السحيقة بعينها. لمت مشارطها وأدوات تشريحها في الحقيبة الجلدية وخرجت من المشرحة. سارت في الفناء بخطواتها الواسعة السريعة، وفي كل خطوة يتزايد إحساسها بالقرب من الخطر، ودت لو تستدير وتعود إلى المشرحة لكنها مشدودة، بإحساس خفي، إلى هذا الخطر بعينه، إلى هذه الحافة على شفا الهاوية.
بهية! رن الاسم في أذنها فانتفضت، وفي انتفاضة جسدها أدركت أن لها جسدا خاصا يمكن أن تحركه وتهزه فلا يهتز معه الكون، وأن لها اسما خاصا، حين يرن في الجو تنتفض. في كل مرة تسمع النداء تندهش. أية قوة خارقة استطاعت أن تميز اسمها من بين الأسماء الأخرى، وأية معجزة تلك التي التقطت جسمها من بين ملايين الأجساد السابحة في الكون.
حين توقفت وجدت أنها لا تزال في فناء الكلية، وأنها أمام لوحة كبيرة معلقة فوق باب صغير أخضر داكن. هذه الوقفة لم تزد عن نصف دقيقة، وكانت على وشك أن تستدير وتتجه إلى باب المشرحة وتعود إلى ما كانت فيه وتظل فيه إلى الأبد، لكن نصف دقيقة قد تغير مجرى حياة الإنسان، قد تنفجر قنبلة في نصف دقيقة، ويتغير شكل المدينة والأرض، الأحداث الخطيرة في الحياة تحدث دائما بسرعة شديدة في ثوان، وأحيانا في غمضة عين، أما الأحداث التافهة فتحدث ببطء، وفي وقت طويل قد يمتد طول العمر.
حين رفعت عينيها من فوق اللوحة أدركت أن أحدا أمامها، ليس أي أحد، وإنما هو هذا النوع من البشر، الذي لا يمكن أن تمر عليه عيوننا دون أن تتوقف وربما لا تتوقف إلا بضع ثوان أو ثانية واحدة، بسبب ضيق الوقت أو التحرج من الحملقة الطويلة، لكنها تكفي لأن تجعل هذه الملامح أمام عيوننا إلى الأبد. استطاعت بعد أن مرت الدقيقة الأولى أن تتغلب على المفاجأة وأن تقوى على الحملقة. وباستطلاع غريزي بحثت في الملامح غير العادية عن السبب الذي جعلها غير عادية، ورأت الجبهة عادية والعينين عاديتين، والأنف عاديا والفم عاديا، ودهشت كيف يتكون من مجموع هذه الملامح العادية ذلك الوجه الغريب غير العادي.
في تلك اللحظة كان قد أصبح أمامها تماما، يضع قدمه اليمنى على عتبة باب المعرض، وكاد يصطدم بها لولا أنه رفع رأسه ورآها، وحينما التقت عيناها بعينيه أدركت أن سر غرابة الوجه هو في حركة العينين حين تنظران، فهي حركة غريبة، تختلف عن حركة عيون الطلبة حين ينظرون. عيونهم تبدو وكأنها لا تنظر، وكأنها لا تفعل شيئا، وإنما هي مفتوحة فحسب، كمرآة تنعكس على صفحتها الأشياء. وبمعنى آخر عيون الطلبة لا تمارس النظر الحقيقي، وبالتالي فهي لا ترى الأشياء، أو لا تراها على حقيقتها.
حينما تحركت عيناه أمام عينيها أحست أنه يراها، وأنها لأول مرة تصبح مرئية بعينين أخريين غير عينيها، أمام المرآة فقط كانت تدرك أنها مرئية بعينين سوداوين هما عيناها، وفي الشارع أو في الترام أو في الكلية ترى العيون عاجزة عن رؤيتها، عاجزة عن تمييزها من بين الآلاف، وأنها تضيع وسط الأجساد المتشابهة، ولا شيء ينتشلها من الضياع إلا يدها حيت تلامس جسدها، وتعرف عن يقين أن لها جسدها الخاص، وعيناها حين تلوذان بخطوطها فوق اللوحة البيضاء، وتصبح حركة يدها مرئية، وخطوطها واضحة، منفصلة عن الكون بحدودها الخارجية، واستدارتها الخاصة بحركتها الإرادية القوية، تحطم بها الإرادات الأخرى، وتنزع الغطاء عن الجسد وتشد القناع عن الملامح، وتخلع «التكت» البيضاء بالاسم المستعار من فوق الغلاف الأزرق.
رأت عينيه الغريبتين تفصحان وجهها كما تفصحه هي في المرآة، وتنفذان من خلال عينيها إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها. إن لحظة أخرى واحدة كافية لأن يصل إلى النهاية، لكنها حركت رأسها إلى الناحية الأخرى. كانت تخاف من الوصول إلى النهايات، تستشعر خطر الوصول، وتدرك استحالة العودة إلى حيث كانت، وأنها بطريقة سحرية ستصبح إنسانة أخرى غير «بهية شاهين»، أي أنها ستصبح نفسها الحقيقية.
لم تكن تعرف بدقة ما هي نفسها الحقيقية، لكنها كانت تعرف عن يقين أنها ليست «بهية شاهين»، طالبة الطب المجدة حسنة السير والسلوك، هذه الفتاة السمراء الشاحبة التي تقف مترددة أمام الباب.
إن كلمة مترددة هنا غير دقيقة، وغير صحيحة أيضا، فالحقيقة أنها لم تتردد لحظة، كانت مشدودة برغبتها المبهمة في السير إلى الأمام وعدم التوقف، والوصول إلى النهاية الخطرة، تدرك أنها ذاهبة إليها لا محالة، فهي مصيرها، وأنها ليست ذاهبة ذهابا عاديا، وإنما هي مدفوعة دفعا بشدة رغبتها في معرفة مصيرها، وبشدة الخوف من هذه المعرفة إلى حد الاندفاع في الاتجاه المضاد.
Неизвестная страница
لو كانت بهية شاهين حقيقة لاستدارت وسارت خطوة إلى الوراء ودخلت المشرحة وأصبح اليوم كالأمس، كالغد، ولسقطت في دوامة الأيام العادية، والحياة العادية، والوجوه العادية، لكنها لم تكن بهية شاهين، كانت إنسانة أخرى شيطانية لم تلدها أمها ولا أبوها، ملامحها تشبه الملامح التي تطالعها في المرآة، ولكنها أكثر حدة، والعينان سوادهما أكثر سوادا، والأنف ارتفاعه أشد ارتفاعا، والبشرة سمراء ليست شاحبة، وإنما هي متقدة حمراء بلون الدم.
لم تكن بهية شاهين تعجبها، كانت ترى عيوبها بسهولة، وتكره ذلك الصوت المطيع المؤدب، وتضيق بتلك النظرة الهادئة الوادعة التي لا تنظر إلى الأشياء، وإنما تترك الأشياء تنعكس عليها كصفحة ماء، وتكره ذلك الأنف الذي لم يرتفع بدرجة كافية، وتزدري ذلك الشحوب الذي تعرف سببه الحقيقي، فهو شحوب البشرة حين يهرب منها الدم بسبب الخوف الذي يحاول الإنسان أن يخفيه.
كانت بهية شاهين تخفي خوفها بتلك البشرة الشاحبة، لكن بشرة بهية شاهين لم تكن تخدعها، كانت تعرف أعماقها الحقيقية، وتدرك كيف تخاف ومن أي شيء تخاف.
بهية شاهين كانت تخاف من نفسها الحقيقية، من هذه الإنسانة الأخرى التي تعيش داخلها، تلك الشيطانة التي تتحرك وتنظر إلى الأشياء بكل قدرتها على الرؤية، ولأنفها ارتفاعة حادة غريبة، كحد السيف، تشق به الكون نصفين وتمشي إلى الأمام، إلى الأمام بغير رفق، ولا تردد، لتصل إلى النهاية ، نهاية النهاية، وإن كانت هي الهاوية السحيقة ذاتها.
لكن بهية شاهين كانت تتردد، تتوقف في المنتصف، تخاف من النهايات، فالنهاية في نظرها هي النهاية، هي الذروة الشاهقة المخيفة، هي النقطة المعلقة في الفضاء لا شيء أمامها ولا شيء خلفها، القمة الساحقة ومن بعدها الفناء.
في منتصف الطريق كانت تقف، تعرف أنها واقفة، لكنها آمنة في تلك النقطة المتوسطة، نقطة الوسط في الحبل المشدود حيث تتعادل قوتا الشد، نقطة الصفر. قوتها تساوي صفرا ومقاومتها تساوي صفرا. هي نقطة السكون الكامل والأمن الكامل الذي لا يهدده شيء، بمعنى آخر هي نقطة الموت.
لم تكن بهية شاهين تعرف أنها تقف في جوف الموت ذاته، وأنها ميتة لا محال. عقلها كان عاجزا عن إدراك هذه الحقيقة. كانت تظن بطريقة ساذجة مضحكة أنها ستنجو أو أن في استطاعتها أن تنجو بالابتعاد عن الخطر، بالامتناع عن الحركة نحو الحياة الخطرة. لم يكن عقلها قادرا على إدراك أنها في قلب الخطر، وأن أي حركة إنما هي حركة نحو النجاة، نحو الحياة، لكنها لم تكن تعرف كيف تنقذ نفسها، ولماذا تنقذ نفسها، وبمعنى آخر لم تكن تعرف ما الهدف من حياتها.
حين حركت رأسها إلى الناحية الأخرى ابتسم تلك الابتسامة الغريبة، لم ترها في تلك اللحظة. همس بصوت خافت: بهية شاهين؟
فاجأها السؤال، فتلعثمت لكنها تداركت الخطأ بسرعة، ورأت الاسم فوق اللوحة البيضاء، فردت بصوت متردد: نعم.
ومد يده إليها وصافحها قائلا: سليم إبراهيم.
Неизвестная страница
أول يد تلتف حول يدها، كفه بحجم كفها وأصابعه طويلة رفيعة كأصابعها، يد حقيقية بلحمها ودمها، تسري حرارتها في كفها وتؤكد حقيقتها لأنها من نفس الحرارة يدها، وحركة الدم في عروقها لها تحت الجلد ذبذبة، كذبذبة النبض فوق معصمها، وكذبذبة الأرض تحت قدميها، والهواء من حولها.
حملق في عينيها السوداوين المتسعتين بذعر لا يحدث إلا عند الإحساس بالخطر، فاتسعت عيناه بذعر مشابه، لكنه تدارك الخطأ بسرعة، فعادت عيناه إلى حجمهما المألوف، واجتازا في نصف دقيقة ما يجتازه الرجل والمرأة للتعارف في نصف قرن.
قال لها: أهنئك على المعرض.
احمر وجهها بخجل مفاجئ، وتلعثمت: لا زلت في البداية.
لم يكن بالمعرض إلا ثلاثة أو أربعة طلبة. كانوا في الكلية بالآلاف، ولكن ماذا يهم طلبة الطب في معرض للرسم؟ بماذا تفيدهم لوحة أو قصة أو قطعة موسيقى؟ لا شيء يهم إلا المشرحة والمحاضرات التي تحفظ وتدون في ورقة الامتحان، ثم تتسرب من الذاكرة من بعد.
وقفا أمام لوحة واحدة متجاورين. قامته طول قامتها، وكتفه بحذاء كتفها، وذراعه بحذاء ذراعها، وساقه بطول ساقها. لم يكن يفصل بينهما إلا مسافة صغيرة. مسافة من الهواء لا تزال تمر بينهما وتفصل جسديهما. مسافة طويلة بطول قامتها لكنها رفيعة كالشعرة. شعرة من الهواء، ورغم كونها هواء، بل لأنها هواء، فهي مسافة عازلة من مادة أخرى غير مادة جسديهما، ورغم كونها رفيعة جدا، بل لأنها رفيعة جدا، فهي حادة جدا كحد السيف تفصل الجسد عن الجسد وتقطع اللحم.
دهشت الدهشة نفسها التي تحدث في الأحلام، حين تحدث أكبر الأحداث في ثوان ويقابل الإنسان الغرباء فيعرفهم، والأموات فيصافحهم، ويطير في الجو بذراعيه وساقيه، ويغوص إلى قاع البحر دون أن يغرق، ويمشي على الحبل الرفيع دون أن يسقط، وتنهدم البيوت في ثانية، وتنبني البيوت في ثانية، ويصبح أي شيء ممكنا وفي غمضة عين.
تعودت على هذه الدهشة في أحلامها، ولكنها الآن يقظة، عن يقين. حاولت أن تتأكد من يقظتها اليقينية ولكنها عجزت، فليست هناك وسيلة مضمونة للتأكد أكثر من أن تلمس جسدها، ولكنها تفعل ذلك في الأحلام أيضا حين تتشكك في نومها. وهذا العجز يرعبها، فهي غير قادرة بحال من الأحوال على التأكد من شيء في حياتها، إن محاولة التأكد لا تفعل شيئا سوى أن تزيد شكوكها.
عيناه السوداوان كانتا ثابتتين فوق اللوحة، واللوحة سوداء كالليل الدامس، فيه نقط بيضاء تبدو كالنجوم، لكنها ليست نجوما، وإنما هي فصوص صغيرة من الماس، ولكنها ليست فصوصا، وإنما هي عيون صغيرة تلمع بدموع شفافة، ليست عيونا، وإنما هما عينان صغيرتان في وجه الطفل النحيل الشاحب، يسير في الشارع وحده، أصابعه الصغيرة حمراء متورمة من طرف المسطرة الحاد، عشرون مرة فوق كل أصبع، بسبب الحقيبة المفقودة. الرجل الكبير ذو الشارب الطويل شده من ذراعه في ثنية الشارع فوقعت الحقيبة على الأرض، وبذراعيه الصغيرتين وساقيه كان يضرب الساقين الكبيرتين، لكنهما كانتا قويتين مفتوحتين كفكي القدر، وهو بينهما منكفئ بوجهه فوق الأسفلت بجوار الجدار، ومن فتحتي أنفه يسيل خيط رفيع من الدم تجلط بعد فترة قبل أن يراه أبوه. لكن أباه نظر في عينيه وأدرك من الشحوب أن الدم لا زال ينزف، ففتش عن الجرح بين ذراعيه، وبين ساقيه، وحين رأى الدائرة الحمراء واضحة كقرص الشمس رفع كفه الكبيرة في الهواء وصفعه على وجهه.
لمحت اللمعة السريعة فوق عينيه، وعضلة صغيرة تحت عينه اليسرى ترتجف. فأشارت إلى اللوحة الأخرى، لكنه سألها بصوت خافت: كنت تبكين وأنت طفلة؟
Неизвестная страница
دهشت وتلعثمت. تذكرت أحلامها الطفولية، والإله الخرافي وأباها، والشرطي، والمدرسة، وحافة المسطرة فوق أصابعها الصغيرة. وقالت: كانوا يضربونني من أجل واحدة أخرى اسمها بهية شاهين، مطيعة ومؤدبة.
ضحك ضحكة قصيرة، ونظر إلى اللوحة الأخرى. طلبة الطب بنظاراتهم السميكة وكيعانهم المدببة يتزاحمون حول أستاذ يجر عربة وينادي كالبائع المتجول على محاضراته المطبوعة بالبلوظة. وعلى باب الكلية نسوة بالجلاليب السوداء والطرح السوداء يشددنها حول أعناقهن من وراء جثة خارجة من المشرحة. وعلى محطة الترام رجل أعمى تجره امرأة كسيحة ومن خلفها أطفال أردافهم عارية. ومن داخل عربات الترام تطل رءوس كبيرة متلاصقة متشابهة كعملات النقد المصكوكة، وعلى ناصية الشارع ربض الشرطي ذو الشارب الأسود الطويل.
همس وهو واقف إلى جوارها دون أن يتحرك: بهية.
انتفضت لصوته حين لامس أذنها، واسم بهية أصبح شديد الخصوصية، ليس كاسم بهية، أية بهية، ولكنها هي بالتحديد، هي دون الآخرين، دون الملايين، بكيانها الخاص هذا الواقف إلى جواره، وبحدود جسمها الواضحة المنفصلة عن الفضاء الخارجي، وخطوط يدها فوق اللوحة، تصنع معالمها وحركتها الخاصة، حركتها الإرادية تنتزعها من بين فكي الإرادات الأخرى.
تلفتت حولها، كان المعرض قد أصبح خاليا إلا منهما ، واقفين متجاورين، غير متلامسين، تفصل بينهما تلك الشعرة الرقيقة من الهواء. رفيعة جدا وشفافة جدا كالهواء، وهزة يد تكفي لتمزيقها، أية حركة خفيفة تكفي لتبديدها. لكن أحدا منهما لا يتحرك، إنهما واقفان جامدين كتمثالين من الحجر، عيناهما ثابتة كأنما في ذعر، وبشرتهما شاحبة كأنما هرب منها الدم.
كالخوف الذي نحسه في الأحلام، لكنه خوف حقيقي. تدرك حقيقته من رعشة جسدها المنتصب في وضع رأسي، وبضع قطرات عرق ملموسة في كفها. وبحذر حقيقي حركت قدمها فوق الأرض، ثم حركت القدم الثانية، وبدأت تحمل جسدها نحو الباب. لكن صوته جاء من خلفها: بهية.
توقفت، تسمرت في الأرض لحظة، وردت بصوت خافت: نعم. - إلى أين تذهبين؟ - لا أدري. - تعالي معي. - إلى أين؟ •••
بإحساس ليس كامل الوضوح أدركت أن هذا الصوت المنتظم المتتابع لقدمين تنتقلان فوق أسفلت الشارع إنما هو صوت حذائها، صوت مألوف لأذنها، كاسمها حين يرن في الجو. لكن عقلها لا يطمئن كل الاطمئنان لأذنها، وما يبدو مألوفا لأذنها يصبح أمام عقلها غريبا شديد الغرابة. فما الذي أتى بقدميها فوق أسفلت هذا الشارع؟ الشارع لم نره من قبل، فليس هو أحد شوارع القاهرة العادية، تلك الشوارع المنبسطة في استواء ترى نهايتها أمامها في وضع أفقي، لكن هذا الشارع ليس أفقيا، إنه صاعد إلى أعلى كطريق فوق جبل شاهق.
تساءلت في دهشة: هل تركنا القاهرة؟ وحينما سمعت صوته إلى جوارها أدركت أنها ليست وحدها، وأنهما وصلا نهاية شارع القصر العيني واجتازا فم الخليج واتجها إلى جبل المقطم. لم تكن أتت إلى هذا المكان من قبل، ولم تكن مشت فوق شارع يصعد فوق جبل كما تمشي الآن، كانت حياتها تسير في خط أفقي مستو، بيتها في الدور الأرضي تدخله بصعود أربع درجات، والترام تركبه بصعود درجة أو درجتين، والمشرحة في الدور الأرضي، والمدرج يرتفع عن فناء الكلية بثلاث درجات، وأقصى ما تصعده هو ست درجات لتصعد إلى المعمل.
الآن، شيء غريب يحدث لجسدها وهي تبتعد عن الأرض. إنه يصبح أقل ثقلا. كأنها تتخفف في كل خطوة من أثقال غير مرئية، تلتف كالخلخال الحديدي حول رسغيها. وصوت حذائها فوق الأسفلت أصبح أقل حدة، وقدماها تتحركان وحدهما بخفة، كأنما لم يعودا يحملان جسدها، أو أن جسدها أصبح بغير ثقل، والهواء من حولها بغير صوت.
Неизвестная страница
صفقت بيديها وهي تجري بمرح: «أول مرة أصعد المقطم!» وسمعت صدى صوتها يتردد مرة أخرى من سفح الجبل. توقفت ونظرت تحتها، رأت المدينة الكبيرة مستوية كالبساط الأخضر والبيوت كالمربعات الصغيرة، وقدماها داخل حذائها المألوف على حافة الجبل، وإلى جوارهما قدمان أخريان داخل حذاء أسود غير مألوف.
رفعت رأسها مندهشة، فالتقت عيناها بعينيه، عينان سوداوان لهما نظرة ثاقبة غريبة، تنزع عن وجهها القناع، وتشد الأغطية عن جسدها وتصبح بهما مرئية. حركت رأسها إلى الناحية الأخرى فلم تجد إلا السماء ومن تحتها الهاوية السحيقة. انتابها الإحساس الغامض الملح بأن شيئا خطيرا سيحدث لها. قطعة الطوب تحت قدمها ستنفصل فجأة عن الجبل ويسقط جسدها تشده الأرض بقوتها الرهيبة ويتناثر في الهواء أشلاء صغيرة كالذرات. وكما يحدث في الأحلام خيل إليها أنها لو قفزت فسوف تنجو بجسدها من قبضة الأرض وتطير منطلقة في السماء. ومدت قدما واحدة وكادت تتبعها القدم الثانية وتقفز، لكن قوة غريبة شدتها إلى الخلف. ظنت أنها يده، لكنه كان بعيدا عنها واقفا جامدا كتمثال، ذراعاه إلى جواره، وعيناه السوداوان ثابتتان في عينيها، تنفذان إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها، تريان أعماقها العميقة الخفية، وذلك النبض السريع المتصل، كنبض الكون في سكون الليل، تلك الحركة السريعة المجنونة تدفنها في طيات نفسها، وتلف عليها أحشاءها طبقة طبقة، لتصبح غير مرئية وحركتها إلى الأبد سرية.
هرب الدم من وجهها فأصبح شاحبا، وأصابعها أصبحت باردة مثلجة، وأغمضت عينيها بتلك الحركة المخادعة التي تعلمتها في أحلامها، ثم فتحتهما، وأدركت أنها لا تحلم، والعينان السوداوان لا تزالان في عينيها، والسواد ليس أسود تماما، وإنما تشويه زرقة، زرقة عميقة بعيدة القاع، مجهولة الأغوار، كزرقة السماء حين نحملق فيها بعيوننا المفتوحة، ونرى كأنها غير موجودة، وتسري فوق الجسد قشعريرة غير مفهومة، ندرك بها أننا أمام ضخامة الكون، ضخامة رهيبة مخيفة، ضخامة صامتة ساكنة سكونا مفزعا، لأنه ليس سكونا حقيقيا، وإنما هناك حركة من تحته، حركة خفية عنيفة تخطف بسرعتها البصر.
وأخفت وجهها بكفيها وصرخت بشهقة غير مسموعة: سليم.
رد بصوته الخافت: نعم. - أنا خائفة. - من أي شيء؟ - من الموت. - الموت غير موجود. - ولكنني خائفة. - من الحياة؟ - نعم.
من يراها في تلك اللحظة يلحظ أنها ترتعد. لم يكن خوفها كالخوف الذي يبعدها عن الخطر، ولكنه خوف آخر يقربنا من الخطر أكثر مما يبعدنا عنه. رغبة جارفة عنيفة في استشعار الخطر حتى ذروته، حتى نهايته، نهايته الأخيرة التي تخلصنا منه إلى الأبد. كالعبء الثقيل كانت تحسه فوق جسدها منذ أن أصبح لها جسد. منذ أن انفصلت عن الكون وانسلخت عن جسد أمها في كتلة صغيرة محددة، تشدها الأرض إلى تحت، وتشدها السماء إلى فوق ويضغط عليها الهواء من كل جانب، وجسدها الصغير دائما في قبضة الكون، بين فكي الأسد، وعن يقين تدرك أن الفك الأعلى سيهبط فوق الأسفل في لحظة قادمة لا محالة. لو تشككت لحظة في هذا اليقين ربما فكرت في الهرب بطريقة أو بأخرى. لكنها كانت تحمل اليقين فوق جسدها في كل خلية تنبض وتعرف أن اللحظة ستأتي، وأن هذا النبض سيتوقف، ومن شدة اليقين كانت ترغب في أن تأتي اللحظة ويتوقف النبض وينتهي العبء.
قالت بصوت خافت: ضمني بكل قوتك حتى ...
توقفت ولم تكمل، كانت تريد أن تقول حتى يتوقف النبض، لكن رغبتها الخفية في الموت بدت في العلانية كرغبة محرمة، وأدركت بوضوح أكثر لماذا يحرم الناس الرغبات الحقيقية ويشرعون الرغبات غير الحقيقة.
إن حركة واحدة منه كانت كافية لأن تصل بها إلى النهاية، لكنها كانت تخاف من الوصول إلى النهايات، تستشعر خطر الوصول، وتدرك استحالة العودة إلى حيث كانت، وأنها بطريقة سحرية ستصبح إنسانة أخرى غير بهية شاهين، أي أنها ستصبح نفسها الحقيقية.
أصبحت بعيدة عنه، تسير بخطوتها السريعة الواسعة، عيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى، سوادهما ليس أسود بما فيه الكفاية، وذلك الأنف الذي لم يرتفع بدرجة كافية، والبشرة الشاحبة بسبب الخوف الذي يحاول الإنسان أن يخفيه.
Неизвестная страница
جاءها صوته من الخلف: بهية.
لم تتوقف ولم ترد. صاح بصوت أعلى تردد صداه في جنبات الجبل: بهية.
بدأت تجري مبتعدة عن الصوت، لكنه أحاطها من كل جانب، فسدت أذنيها بيديها، لكنه نزع يديها عن أذنيها وصاح بصوت غاضب: لماذا تذهبين؟
حاولت أن تتحرك، لكنه سد الطريق بذراعه، دفعته بكل قوتها فشدها إليه بكل قوته، رفع وجهها بيده، وأصبحت عيناه في عينيها، عينان غاضبتان، سوادهما تشويه زرقة داكنة مخيفة كزرقة بحر بغير قاع، وحاولت أن تحرك رأسها إلى الناحية الأخرى، لكنه ثبت رأسها بيده وقال بصوت غاضب: بهية شاهين ستجعلك دائما عاجزة عن بلوغ أية قمة، وتعيشين دائما في منتصف الطريق وتسقطين في قبر الأيام العادية ككل الملايين.
صوته كان يرتعد، وتركت يده رأسها فسقط فوق صدرها يهتز، وعيناها تهتزان، وكل شيء في حياتها أصبح مهزوزا. هذا الصوت المرتعد سمعته من قبل مرة، بل مرتين، بل مرات كثيرة، بل كل يوم حين كانت تجلس في الترام وترى قطع البشر المصكوكة، وحين ترى الطلبة بنظاراتهم السميكة ورءوسهم المنكفئة فوق الكشاكيل، وحين ترى الطالبات بعيونهن المنكسرة وسيقانهن الملتصقة، وحين تسمع المحاضرات وهي تتلى بذلك الصوت المتكرر المتشابه، وحين يرن جرس المنبه في أذنها كل صباح الرنين نفسه، وصوت أبيها يناديها النداء نفسه، ولا شيء لا شيء يقطع هذه الرتابة المستمرة إلى الأبد.
رغبة جارفة طاغية كانت تتملكها لقطع هذه الرتابة، رغبة في الصراخ بلا سبب لتقطع الصرخة الرتابة، في القفز من النافذة وانكسار ذراعيها أو ساقها، في إغماد سكين المطبخ في صدرها لتصرخ من الألم ولتسمع صرختها بأذنها وتدرك عن يقين أنها حية وليست ميتة، رغبة جارفة وملحة للإحساس بالحياة إلى حد اقتراف جريمة قتل، في أن تقتل جسدها بكامل وعيها وإرادتها. كانت تدرك أنها ليست جريمة، وإنما الجريمة هي أن يقتل جسدها بغير إرادتها. وعن يقين كانت تعرف أن هناك إرادة أخرى تتربص بها، وتنتهز الفرص أي فرص لسحقها، كانزلاقة قدمها على سلم الترام، أو شرودها لحظة وهي تعبر الشارع، أو انطلاق رصاصة في الجو تصيبها خطأ.
إن موتها بهذا الشكل، بالصدفة وبغير إرادتها، يصبح جريمة غير مشروعة. إن الذي يجعل الموت مشروعا هو أن تكون هدفه المحدد، أن تكون اختياره ويكون اختيارها.
حين رفعت رأسها من فوق صدرها لم تجده، التفتت بسرعة فرأت ظهره يكاد يختفي في ثنية الشارع الملتوي الصاعد، هتفت بصوت عال: سليم.
لكنه لم يرد، رفعت صوتها أكثر ونادت: سليم.
تردد صدى صوتها في جنبات الجبل عدة مرات، لكن أحدا لم يرد. •••
Неизвестная страница
في حجرتها الصغيرة فوق سريرها أصبح جسدها ممدودا، وعيناها السوداوان تلمعان في الظلام كفصين من الماس، يمتصان السواد ثم يفرزانه شعاعا أبيض كشعاع الضوء، وملايين الذرات الدقيقة تسبح في الشعاع وتدور في حركة دائرية منتظمة كحركة الكون الأبدية، كالدق المنتظم في أذنيها يهبط إلى عنقها وصدرها ويسرى في ساقيها تنميلا خفيفا كسريان الدم، ويصب في كفيها وقدميها ويتجمع في أطراف أصابعها العشرين كرءوس الدبابيس، كأرجل النمل الدقيقة تمشي تحت جلدها وفوق عظامها، وتكاد تسمع دبيبها كالأزيز الخافت المتصل، كملايين الأصوات الخافتة المتصلة التي تصنع صمت الليل.
رفعت جسدها من فوق السرير، ولامست قدماها العاريتان الأرض الباردة فترنحت وكادت تسقط لولا قدرة ساقيها الطويلتين المستقيمتين وعضلاتهما القوية المشدودة، ترفعان جسدها منتصبا إلى فوق، بتلك السيطرة العجيبة على التوازن، والسير فوق الأرض بتلك الخطوة القوية الثابتة تشق الكون كربان ماهر يمسك بدفة سفينة متينة.
شدت اللوحة من وراء السرير، وسلطت ضوء اللمبة فوق الصفحة البيضاء وجلست على الشاشة الصغيرة فوق الأرض تحملق في ذرات العقيق السابحة في الشعاع، وحينما ضغطت بأصابعها على الفرشاة أحست برءوس الدبابيس تحت جلدها، وفي كل ضغطة تستشعر الألم كوخز الإبر، لكن يدها لا تكف عن الحركة، تروح وتجيء فوق اللوحة بتلك الحركة الإرادية، بتلك الرغبة الجارفة الملحة في استشعار الألم حتى نهايته، في الضغط على أصابعها حتى تنزف دمها وتنسحق ويكف الألم.
رغبة غامضة جارفة، تهز جسدها، وتهز الأرض من تحتها، وتسري من أصابعها إلى ذراعيها إلى عنقها إلى رأسها كأنما خلال سلك كهربي مشدود، وأصابعها تصبح مشدودة، وعنقها مشدودا، ورأسها ثابتا لا يتحرك.
من يراها في تلك اللحظة يظن أنها مصلوبة، لولا حركة يدها يظن أنها ميتة، أو نائمة وهي جالسة. لكنها يقظة شديدة اليقظة. عيناها المفتوحتان تريان أدق خط، تلتقطان النقطة وأصابعها بطرف الفرشاة تستطيع أن تشق الكون الأسود بخط رفيع أبيض كالشعرة، كخط الأفق يفصل الأرض عن السماء، والنهار عن الليل، خط أبيض تشوبه حمرة، حمرة داكنة قانية بلون الدم.
عيناها حين تريان اللون الأحمر القاني تتسعان، كذعر العينين أمام الدم الحقيقي. ما الذي يخيفها في لون الدم؟ تحملق في عروقها الزرقاء تحت جلدها، وتحس ذبذبة النبض المنتظمة المتصلة فوق معصمها، دقة بعد دقة بعد دقة، وبإحساس غامض خفي يخيل إليها أن الدقة القادمة هي آخر دقة، وأن الصوت سينقطع، وتكتم أنفاسها، وترهف سمعها وتكاد تقبل اللحظة بغير دقة، لكن أذنيها سرعان ما تلتقطانها خافتة ومقبلة بنفس الحركة، كالدقة السابقة، وكالدقة اللاحقة، كالأزيز أو الطنين المستمر في أذنها، ترغب بعنف في أن ينقطع ويتوقف، وبعنف أشد ترهف السمع في انتظار الدقة المقبلة، تخاف ألا تقبل.
تفتح عينيها في الصباح على صوت المنبه، وعينا أبيها الكبيرتان من فوق السرير، تشدانها خارج السرير، وخارج حجرتها، وخارج البيت وتتعقبانها في الترام، وفي الكلية، وكفه الكبيرة تدفعها في ظهرها داخل المشرحة.
تقف بجوار المنضدة الرخامية، على قدم واحدة، والقدم الثانية ترفعها في الهواء كأنما ترفس أحدا، ثم تضعها بكل قوتها وكل ثقلها على حافة المنضدة، وقفة لا تستطيع أن تقفها أية فتاة في ذلك الوقت، ولا أي فتى. الوحيد الذي يستطيع هو الدكتور علوي، يمر بين المناضد بنظارته البيضاء ومعطفه القصير الأبيض، وعند منضدتها يقف، قدم على الأرض وقدم على حافة المنضدة بجوار قدمها، وعيناه الزرقاوان تصبحان في عينيها. لكنها لا تطرق. عيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى شاخصتان إلى الأمام، تحملقان في الفضاء كأنما تبحثان. تفرزان ملايين الذرات السابحة في الجو، وتفحصان الكائنات الدقيقة العائمة في الكون، وتبحثان بين آلاف الكتل المتشابهة عن الوجه غير العادي، عن العينين اللتين تنظران إليها فتصبح بهما مرئية. العينان السوداوان اللتان تلتقطان وجهها من بين الوجوه، وتنتشلان جسدها من بين ملايين الأجساد الضائعة في الكون.
لكن الوجوه كلها متشابهة في المشرحة، وفي الشارع وفي الترام، وفي فناء الكلية الواسع المزدحم تحس أنها تغرق في بحر وحدها، دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، وأن وجهها أصبح كوجه زميلاتها، لا فرق بين بهية أو علية أو سعاد أو إيفون. وتجري بغير وعي هاربة من الزحام إلى ذلك الركن الصغير المنعزل بحذاء سور الكلية، وراء المبنى الضخم. تجلس على المقعد الخشبي بغير ظهر، تجلس محنية إلى الأمام، تحملق في قطعة صغيرة من الأرض بحجم كف اليد، لم ينبت عليها العشب الأخضر، ودون بقية الأرض من حولها ظلت طينية اللون، مشققة، ومن بين الشقوق الرفيعة تدخل وتخرج ملايين الكائنات الدقيقة بحجم النمل.
بهية! رن الاسم في أذنها غريبا كاسم واحدة أخرى، وانتفضت من فوق المقعد. رأت أمامها العينين السوداوين تخترقان عينيها، تنزعان عنها القناع وتشقان الغطاء، وتنفذان بغير رفق ولا تردد إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها، إن لحظة واحدة كافية لأن يصل إلى النهاية.
Неизвестная страница
لكنها هتفت بصوت خافت: سليم.
ظل واقفا صامتا ينظر إليها. قالت: لماذا تركتني بالأمس؟
عيناه ثابتتان في عينيها لا تتحركان. أخفت وجهها بيديها وبكت بصوت مسموع.
سألها بصوت هامس: لماذا تبكين؟
قالت: أنت لا تحبني بما في الكفاية.
قال: أنت لا تحبين أحدا بما فيه الكفاية. تخافين من الحب كالموت وتقفين في منتصف الطريق، هذه هي بهية شاهين.
صرخت: لا.
ناولها منديله الأبيض فمسحت دموعها. لمعت عيناها السوداوان في ضوء الشمس فابتسم.
سألها: ماذا فعلت ليلة الأمس؟
ردت: لا شيء.
Неизвестная страница