على محطة الترام نظرت في الساعة: كانت الثالثة والنصف، دق قلبها دقة عالية، وامتدت يدها تتحسس جيبها. اصطدم طرف أصبعها بالحافة المعدنية الصلبة فابتعدت يدها مرتجفة كأنما تحمل في طيات ملابسها قنبلة، ما أن تلمسها حتى تنفجر، وما أن تنفجر حتى يتناثر جسدها فوق الأسفلت أشلاء، وجاء الترام بزحامه وضجيجه فابتعدت عن الناس حتى لا يصطدم بها أحد، عدلت عن ركوب الترام وقررت العودة إلى البيت سيرا على الأقدام.
اجتازت شارع القصر العيني واتجهت إلى شارع النيل، الشمس كانت منعكسة بقوة على صفحة الماء، والهواء الدافئ المحمل برطوبة خفيفة منعشة يلمس وجهها برقة. أغمضت عينيها تحت اللمسات الدافئة. طريق الكورنيش كان خاليا في ذلك الوقت من الظهيرة، ونوافذ البيوت مغلقة بالشيش، ولا أحد أمامها أو خلفها، ووقع قدميها فوق الأسفلت في أذنيها واضح بتلك الدقات المنتظمة المألوفة. لكن ما يبدو مألوفا لأذنيها يصبح أمام عقلها غريبا شديد الغرابة، وهذه الدقات فوق الأسفلت ليست وقع قدميها، وإنما وقع قدمين أخريين خلفها. استدارت فلم تجد أحدا. شعرت بشيء يشبه خيبة الأمل. كأنها كانت تتوقعه، أو كان بينهما موعدا ولم يأت. وفي الوقت نفسه كانت تدرك أنه ليس خلفها، وإنما ينتظرها في شقته بالمقطم، في أي وقت من بعد الثالثة.
رمقت الساعة بطرف عين، كانت الرابعة إلا ربعا. صعد قلبها ثم هبط بخبطة واحدة، وعيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى، وجهها الطويل النحيل شاحب، وشعرها الأسود القصير متناثر فوق عنقها وأذنيها، وكتفاها النحيلتان تحت البلوزة لهما استدارة خفيفة، ونهداها الصغيران يختفيان ويظهران مع أنفاسها الصاعدة الهابطة، وأصابعها الحمراء تلتف حول الحقيبة الجلدية المنتفخة بكتب التشريح.
أصبحت في ميدان فم الخليج، أمامها شارع النيل والكوبري الذي يقود إلى بيتها في الروضة، وعن يمينها النيل، وعن يسارها الشارع الصاعد نحو المقطم، من يراها يظن أنها ستستدير بجسدها ناحية اليسار وتتجه إلى الشارع، لكنها لم تستدر، ظلت واقفة. كانت تدرك أن استدارتها هذه ستعني لها شيئا ضخما، شيئا خطيرا. ستعني أنها لم تصبح بهية شاهين، وأنها أصبحت الإنسانة الأخرى الأقوى التي بقدر ما تريدها وترهبها.
لحظة خطيرة مخيفة، تشبه الموت، بل هي نوع من الموت فعلا، يموت فيها الإنسان ويولد إنسان آخر، لحظة قصيرة يستدير فيها جسدها ناحية اليسار، لا تستغرق من الزمن إلا ما تستغرقه قدم ترتفع فوق الأرض ثم تنخفض أو جفن ينخفض فوق العين أو يرتفع، ومع ذلك بدت لها كلحظة العمر كله، ككل السنين التي عاشتها والتي ستعيشها، ككل حياتها وقد تكورت وأصبحت بحذاء قدمها ما إن ترفع قدمها وتخفضها حتى تدوسها وتسحقها كمسحوق ناعم من الرماد.
ولم يعد الشارع عن يسارها شارعا. الشوارع أيضا ككل الأشياء تتغير بتغير نظرتنا لحظة بعد لحظة، وتغير الدم في عروقنا دقة وراء دقة، وهواء الصدر مع كل نفس جديد، وماء البحر مع كل موجة. أصبح الشارع طويلا بارزا من بطن الجبل كذراع طويلة ممدودة، ومن فوقه شريط السماء المحصور بين الجبل والمباني كالذراع الثانية، ذرعان ضخمتان كذراعي الإله الخرافي، منفجرتان أمامها كفكي القدر ممدودتان في الأفق، بطول الأفق، وبعرض الأفق، مرفوعتان نحوها ومفتوحتان تنتظران استدارة جسدها نحوهما.
عن يقين كانت تريد أن تستدير، وتلقي نفسها بين الذراعين الممدودتين، لكن جسدها قاوم الاستدارة، ولم تستطع أن ترفع قدمها عن الأرض. انتفضت وهي واقفة، فسقطت الحقيبة الجلدية من يدها وتبعثرت كتب التشريح على الأرض.
رمقت بطرف عين التكت البيضاء فوق الغلاف السميك «بهية شاهين» أولى مشرحة ، وتقلصت ذراعها في الهواء، رفضتا أن تلتقطا الكتب، لكن جسدها انحنى فوق الرصيف فلمت الكتب ووضعتها في الحقيبة. هذه الانحناءة كانت كافية لأن تعيد إليها بهية شاهين بكل قوتها وسطوتها، وتوارت الإنسانية الأخرى في سردابها العميق، وبدأت قدماها تدبان بسرعة وقوة في الطريق نحو بيتها.
حركة جسمها وهي تسير تبدو حركة قوية منتصرة، لكن إحساسها الحقيقي كان شيئا آخر. كانت تشعر بالهزيمة وحينما رأت بيتها من بعيد غاص قلبها، كسجين مؤبد مساق إلى السجن، مساق بقوة كقوة الحديد، تلتف حول يديها وقدميها، كالسلاسل تماما كانت تحسها حول معصميها ورسغيها وعنقها، تشدها بغير رفق ولا رحمة إلى ذلك البيت الأحمر الصغير.
ومنذ تلك اللحظة لم يعد بيتها هو بيتها، ولا حجرتها هي حجرتها، ولا سريرها هو سريرها. الأشياء تتغير كالإنسان، ليس تغيرا في الشكل فحسب، وإنما في المعنى أيضا. حقيقة الأشياء نحن لا نعرفها أبدا، ولا نراها إلا بمقدار ما نعيها. إن وعينا هو الشيء الوحيد الذي يحدد شكل الكون من حولنا، وحجمه، وحركته، ومعناه.
Неизвестная страница