كانت تدرك بوضوح أنها لا تحب هؤلاء الطلبة، لا تحب اندفاعهم من الباب، بنظارتهم السميكة وعيونهم المشدودة، وكيعانهم المدببة، واحتلالهم المقاعد الأمامية، وظهورهم المحنية تصبح في وجهها، وتحملق في أعناقهم من الخلف وترى من فوق حافة الياقة البيضاء البشرة السمراء واضحة المسام، ومنابت الشعر المقصوص وفتافيت كالدمامل الصغيرة.
وتهمس في أذن زميلتها بشيء، فتشهق الزميلة بالضحكة الأنثوية المكبوتة وتقول: اعقلي يا بهية، وفكري في مستقبلك.
إحساس خفي، لكنه قوي، ينبئها بأن مستقبلها ليس في هذه المحاضرات الطويلة المملة، وليس في الحصول على شهادة الطب، وتركيب اليافطة الطويلة في الميدان «دكتورة بهية شاهين»، واسترخاء الأليتين في مقعد السيارة الوثير. كل هذا يبدو لها، بإحساس خفي، بلا معنى، كالصفحة البيضاء الخالية تماما من الكتابة، كالليل الأسود الخالي من نجم واحد، كالكون الضخم، وقد أصبح كله أسود أو أبيض لا فرق، فهو كله بلون واحد.
حينئذ تدرك العبث، عبث الكون من حولها، وعبث الحياة، وعبث هذا الأستاذ الذي رشق السيجارة في زاوية فمه، وعبث هذه المحاضرة، وعبث هذه الظهور المحنية إلى الأمام والأعناق المرشوقة من الخلف بالفتافيت.
تضع كتبها وكشاكيلها داخل حقيبتها، وبحركة جانبية يصبح جسدها منفصلا عن المقعد، وبحركة إلى الخلف تخرج من الباب الخلفي للمدرج، وفي أقل من لحظة تصبح وحدها في فناء الكلية الواسع.
تسأل نفسها وهي تحرك ساقيها في مشيتها العادية ماذا تريد بحياتها، وتترك السؤال بغير جواب معلقا أمامها في الفضاء، يحركه الهواء أمام عينيها كبندول الساعة.
وتخبط الأرض بقدم واحدة بخبطة قوية واحدة، وتدرك عن يقين أنها تريد بحياتها شيئا معينا، شيئا يمكن تحديده بنقطة محددة، تستطيع أن تصنعها بسن الريشة فوق صفحة بيضاء، وتستطيع أن تلمسها بطرف أصبعها، تماما وباليقين نفسه الذي تلمس به جسدها وتحس حدوده الخارجية من تحت ملابسها، وتستطيع أن تميزه من كل الأجساد، وتفصله عن الأرض، بحركة من قدمها.
فوق سريرها في حجرتها الصغيرة، تحملق في السقف، ترى نفسها وهي جالسة على كرسيها الأحمر الصغير، وأمامها منضدتها الحمراء، فوقها الكراريس وكتاب المطالعة الرشيدة، غلافه أزرق، تتوسطه التكت البيضاء، الاسم: بهية شاهين، الفصل: أول ابتدائي، وتشد الورقة البيضاء من الكراسة، وبحركة من يدها الصغيرة تصنع بسن الريشة خطا واضحا، تدرك من شكله أنه خطها، وأن اليد يدها، والأصابع من حول الريشة أصابعها، تحركها بإرادتها، وتصنع فوق الصفحة البيضاء خطوطها المميزة، تصنع الدائرة الكبيرة ومن داخلها دائرتين صغيرتين، فيصبح أمامها وجه وعينان تنظران إليها من فوق الورقة البيضاء، سوداوان وواسعتان كعينيها تطلان من خلال المرآة، تتأمل خطوطها فوق الورقة كما تتأمل ملامحها، تعرفها كما تعرف وجهها لا تخلط بينه وبين الوجوه الأخرى، وتستطيع أن تميزه، وتلمس خطوطها فوق الورقة بأصبعها تماما، وباليقين نفسه الذي تلمس به جسدها، وتحس حدوده الخارجية من تحت ملابسها.
فتح أبوها الباب، فأخفت الورقة تحت كتاب المطالعة، لكن أصابعه الكبيرة رفعت الكتاب وشدت الورقة ومن فوقها الخطوط. ضربها على يدها الصغيرة بكفه الكبيرة وهو يقول: تضيعين وقت المذاكرة في الشخبطة! وكور الورقة في كفه الكبيرة وألقى بها في سلة المهملات.
حين تخرج، ترمق خطوطها المميزة مكورة إلى جوار قمامة البيت، وتظل تحملق بها كما تحملق في وجهها في المرآة، وتشد ورقة جديدة، وبحركة يدها الإرادية تصنع خطوطها، وتدرك رغم طفولتها أن شيئا ما يربط بينها وبين هذه الخطوط، كالأسلاك الكهربية غير المرئية أو الخيوط الحريرية الرفيعة بلون الهواء، تمتد مشدودة بينها وبين خطوطها فوق الصفحة البيضاء، تؤكد قدرتها على تمييز حركة يدها، وشكل أصابعها، وارتفاعة أنفها، وسواد عينيها.
Неизвестная страница