قلت: إنني أستريح قليلا لأنني متعبة. وجلس معي. كان اسمه إبراهيم، ممتلئ الجسم وقصير، شعره أسود مجعد، وعيناه سوداوان، رأيتهما أمامي في الظلمة، تنظران إلي تريانني رغم الظلمة، وكلما أبعدت رأسي تتبعانني، تمسكان بي ولا تتركاني، مهما أخفيت عيني بيدي تريانني، وبكيت ويدي فوق عيني، فأمسك يدي ورفعهما عن وجهي وقال: لم أرك أبدا تبكين، فما الذي حدث؟ قلت: لا شيء، لا شيء. قال: لا يمكن، لا بد أن شيئا حدث. قلت له: لم يحدث أي شيء. قال بدهشة: أتبكين بغير سبب! قلت له: لا أعرف السبب، ولم يحدث في حياتي شيء جديد.
ظل جالسا إلى جواري صامتا، عيناه السوداوان شاردتان في الظلمة، تغرورقان بالدموع فتلمعان لحظة، ويزم شفتيه ويبتلع الدموع، فتجف عيناه وتضيع اللمعة، وفي مرة زم شفتيه وابتلع الدموع، لكن دمعة ظلت باقية في عينيه، ثم سقطت على أنفه، فأخفى وجهه بيد، وأخرج منديله باليد الأخرى ومسح أنفه. قلت له: أتبكي يا إبراهيم؟ قال: لا يا فردوس. وأخفى منديله وابتلع ريقه وابتسم.
كان فناء الشركة صامتا ساكنا لا صوت ولا حركة، والدنيا ظلاما لا شمس ولا قمر، ووجهي ناحية وجهه، وعيناي في عينيه، ورأيت أمامي دائرتين من البياض الندي داخلهما دائرتان من السواد الشديد، تنظران وكلما كنت أنظر فيهما يشتد بياضهما ويشتد سوادهما، فكأن ضوءا ينفذ إليهما من مكان مجهول سحري، ليس فوق الأرض وليس في السماء؛ لأن الأرض مظلمة بالليل، والسماء سوداء بغير شمس ولا قمر.
أمسكت عينيه بعيني، ومددت يدي فأمسكت يده، وفي التلامس المفاجئ الغريب انتفض جسدي بلذة عميقة قديمة، أقدم من عمري الذي أعيه، وأعمق من وعيي الذي عاش معي، أحسها في مكان ما في كياني، فكأنها ولدت معي، وكبرت أنا وحدي وهي لم تكبر، أو أنني عرفتها قبل أن أولد، أو ولدت أنا وبقيت هي دون أن تولد.
تذكرت شيئا وانفرجت شفتاي لأقوله، لكن صوتي اختنق، كأنما نسيت الشيء لحظة تذكره، وقلبي اختنق بضربات قوية تشبه الخوف على شيء ضاع أو سيضيع، ويدي أمسكت يده في قبضة قوية، ولا يمكن لأي قوة أخرى أن تنزع يده من يدي.
وأصبحت في كل مرة ألقاه تنفرج شفتي بشيء أذكره وأنساه، ويدق قلبي بضربات خوف أو ما يشبه الخوف، وأود أن أمد يدي وأمسك يده، لكنه كان يدخل الشركة ثم يخرج دون أن يراني، وإذا نظر إلي فهو ينظر إلي كما ينظر إلى أي موظفة أخرى.
وفي اجتماع كبير لعمال الشركة سمعته يتحدث عن العدالة وإزالة الفوارق بين المديرين والعمال، وصفقنا له طويلا، وانتظرنا عند الباب لنصافحه، وأعطاني يده فأمسكتها، وعيناي أيضا أمسكتا بعينيه، واسمه «إبراهيم» أكتبه وأنا شاردة على ظهر مكتبي، أو على ظهر يدي، وما إن أراه وهو يجتاز فناء الشركة حتى أقف، كأنما سأذهب إليه، لكني أجلس مرة أخرى.
وتلمحني زميلتي فتحية وأنا أقف وأجلس، فتقترب مني وتهمس: ماذا حدث لك يا فردوس؟ وأقول لها: أبدا يا فتحية أبدا، لقد حدث. وتسألني: ما الذي حدث؟ وأحاول أن أقول لها ما حدث، لكني لا أعرف كيف أقوله، أو لا أجد ما أقوله، كأنما حدث شيء ونسيته، أو كأنما لم يحدث على الإطلاق.
وأغمض عيني أحاول أن أسترجع الصورة، وتتراءى لي الدائرتان الشديدتا السواد ومن حولهما البياض الشديد، أحملق فيهما، وكلما حملقت فيهما اتسع السواد واتسع البياض، ويصبح السواد كبيرا بحجم الأرض، والبياض ساطعا بحجم قرص الشمس، وعيناي تعرفان في البياض وفي البياض وفي السواد معا، تعميان عن البياض وعن السواد، وتختلط أمامهما الصور، فلا أعرف وجه أمي من أبي، ولا وفية من فتحية، ولا إقبال من إبراهيم، وأفتح عيني في ذعر كمن أوشك أن يفقد البصر، وأرى حدود وجه فتحية في السواد أو البياض لم تتركني بعد، وتقول لي: أتحبين إبراهيم يا فردوس؟
وأقول لها: أبدا يا فتحية. وتقول: لماذا إذن ترتجفين كلما سمعت اسمه؟ وأقول لها: أنا؟ أبدا، لم يحدث، أنت تبالغين دائما يا فتحية. وتقول فتحية: إبراهيم رجل ثوري ممتاز. وأقول لها: نعم، ولكنني موظفة صغيرة، فهل يمكن أن يحب إبراهيم فتاة فقيرة مثلي؟
Неизвестная страница