بعد أن ينتهي العمل أحمل حقيبتي الصغيرة وأعود إلى البيت، لم يكن بيتي الآن بيتا، وإنما حجرة صغيرة بغير دورة مياه، استأجرتها في بيت امرأة عجوز، تصحو كل صباح عند الفجر لتصلي، ثم تنقر على باب حجرتي، لم تكن مواعيد العمل تبدأ إلا في الثامنة صباحا، لكني كنت أستيقظ في الخامسة؛ لأحمل فوطة وجهي، وأهبط إلى دورة المياه حيث يقف طابور من الرجال والنساء، لم يكن مرتبي الضئيل يساعدني على أن أسكن إلا في هذا البيت، وفي هذه الحارة المزدحمة بدكاكين الحدادة والسمكرة، وعلي أن أجتاز عددا من الحواري وجزءا من الشارع حتى أصل إلى محطة الأتوبيس، ويأتي الأتوبيس، فتندفع فيه أجساد الرجال والنساء، كل منهم يصارع من أجل الدخول، وأصارع مثلهم حتى أدخل فرنا من الأجساد المتلاصقة المنصهرة في كتلة واحدة.
وكان للشركة بابان: باب يدخل منه كبار الموظفين لا يحرسه أحد، وباب آخر يدخل منه صغار الموظفين ويحرسه موظف على شكل بواب، يجلس على مكتب صغير من فوقه دفتر الحضور والانصراف، وأبحث عن اسمي في الكشف الطويل فأوقع أمامه، وينظر في ساعته، ثم يكتب أمام اسمي الوقت الذي حضرت فيه بالدقيقة، وعند الخروج من الشركة أيضا ينظر في ساعته، ويسجل أمام اسمي الوقت الذي أخرج فيه بالدقيقة.
كان كبار الموظفين يحضرون في أي وقت، ويخرجون في أي وقت، ولكل منهم سيارة صغيرة أو كبيرة، ألمح الواحد منهم وهو جالس داخلها، وأنا أقف على قدم واحدة داخل الكتلة الجسدية المحشورة في الأتوبيس، وذات مرة لمحني أحدهم وأنا أجري لأتعلق بالأتوبيس، فإذا بنظرته تسقط على رأسي وجسدي كالماء البارد، نظرة موظف كبير إلى موظفة صغيرة، واندفع الدم إلى رأسي، وتعثرت قدمي وأنا أجري فتوقفت، واقترب مني بسيارته وقال: يمكنني أن أوصلك. نظرت مباشرة إلى عينيه، عيناه تقولان: أنت موظفة فقيرة غير محترمة، تجرين وراء الأتوبيس، ولكني سأوصلك في عربتي؛ لأن جسدك الأنثوي أثارني، وسوف يشرفك أن يشتهيك موظف محترم مثلي، ومن يدري ربما أساعدك في المستقبل في الحصول على علاوة قبل زملائك.
حينما لم أرد، ظن أنني لم أسمعه، فقال: يمكنني أن أوصلك. وقلت بهدوء: إن ثمن جسدي أغلى من علاوة. واتسعت عيناه بدهشة، ولعله دهش كيف قرأت أفكاره بهذه السرعة، وانطلق بسيارته يجري.
وأدركت بعد ثلاثة أعوام قضيتها بالشركة أنني حظيت وأنا مومس باحترام أكثر وقيمة أكبر من جميع موظفات الشركة وأنا منهم، كنت أعيش وأنا مومس في بيت له دورة مياه خاصة، أدخلها في أي وقت، وأغلق علي الباب دون أن يتعجلني أحد. ولم يكن جسدي ينضغط بين الأجساد في الأتوبيس، ويتدافع عليه أعضاء الرجال من الأمام والخلف. ولم يكن ثمن جسدي بخسا، لا يزيد عن علاوة أو وجبة عشاء أو نزهة بالسيارة على كورنيش النيل، أو مجرد إرضاء المدير، أو تجنب غضب الرئيس.
قضيت هذه الأعوام الثلاثة دون أن يلمسني أي مدير أو موظف كبير بالشركة، لم أشأ أن أمتهن جسدي بهذا الثمن البخس، بعد أن تعودت على الثمن الغالي المرتفع، بل إنني كنت أرفض مجرد دعوة الغداء أو التنزه بالسيارة على كورنيش النيل. كنت أفضل أن أعود إلى سريري وأنام بعد ساعات العمل الطويلة، وأرقب بإشفاق زميلاتي الساذجات، وهن يعطين أجسادهن أو جهدهن كل ليلة نظير وجبة عشاء أو تقرير سنوي جيد، أو مجرد الاطمئنان إلى أن الواحدة منهن لن تضطهد أو تنقل إلى مكان آخر، وفي كل مرة يعرض علي أحد المديرين دعوته أقول له بهدوء: لست أشرف من زميلاتي، ولكن ثمني مرتفع عنهن.
وأدركت أن الموظفة تخاف على وظيفتها أكثر مما تخاف المومس على حياتها؛ فالموظفة تخاف أن تفقد وظيفتها وتصبح مومسا، وهي لا تدرك أن حياة المومس قد تكون أثمن من حياتها. وتدفع الموظفة ثمن هذا الخوف الوهمي من حياتها وصحتها وجسدها وعقلها، تدفع أبهظ شيء نظير أبخس شيء. وكنت أدرك أننا كلنا مومسات بأثمان متفاوتة، وأن المومس الثمينة أفضل من البخس والاحتقار الذي أراه كل يوم في عيون الموظفين الكبار وهم ينظرون إلى الموظفات الصغيرات، والانضغاطة المهينة بين أجساد الرجال في الأتوبيس، وطابور الصباح الطويل أمام دورة مياه تطفح على الدوام.
ولم أحرص كثيرا على وظيفتي، فأصبحت الشركة تحرص علي. ولم أحرص كثيرا على إرضاء أحد من الموظفين الكبار، فأصبح الموظفون الكبار يتنافسون على إرضائي. وانتشرت إشاعة في الشركة بأنني موظفة شريفة، بل أشرف الموظفات، وأن أحدا من الرجال لم ينجح في كسر كبريائي، وأن أكبر موظف عجز عن أن يجعل رأسي ينحني أو عيني تطرف.
وأحببت عملي رغم كل شيء؛ فأنا أقابل زميلاتي، يحدثنني وأحدثهن، ومكتبي أفضل من بيتي، ودورة المياه في الشركة لا يقف أمامها طابور طويل، ولا يتعجلني أحد وأنا أدخلها، وفناء الشركة فيه حديقة خلفية صغيرة، أجلس فيها آخر النهار قبل أن أعود إلى بيتي، وقد يقبل الليل وأنا جالسة، لا أتعجل العودة إلى الحجرة المعتمة، والحارة القذرة، ودورة المياه النتنة.
وذات يوم وأنا جالسة رآني أحد الموظفين، فزع أول الأمر حين رأى في الظلمة كتلة بحجم الجسم ثابتة. قال من بعيد وقبل أن يقترب مني: من؟ من جالس هناك؟ وقلت بصوت حزين: أنا، أنا فردوس. واقترب مني وعرفني، ودهش، فأنا من أحسن موظفات الشركة، وأحسن موظفات الشركة ينصرفن على الفور بعد انتهاء العمل.
Неизвестная страница