وعمل على الإحاطة بمسائله الكبرى وجزئياته، بل تعمق حتى بحث في خلجات النفس ودقائق الورع، وترك الإِنسان المسلم يواجه أفكاره وحركات نفسه، ويراقب الله وحده. . ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦].
ولا نعلم كتابًا قبل هذا الكتاب أفرد مسائل هذا الباب بهذه الكيفية وهذه الشمولية.
وإن مؤلفه أبا الحسن بن القطان إمام كبير، وناقد خطير، وحافظ جهبذ. .
إنه شيخ شيوخ الدولة الموحِّدية التي أطلقت الفكر من عقاله، وألحَّت على
ضرورة طوافه وتجواله للتجديد والإجتهاد، وإن أقوال هذا الإِمام وآراءه في علم الحديث والرجال انتهبَتهَا الدواوين، وتزينت بها الأسفار التي جاءت بعده وغدت متكأً للحفّاظ والنقّاد الكبار، ولئن كان كتابه الكبير (بيان الوهم والإِيهام، الواقعين في كتاب الأحكام) (١) هو الذي جعل صيته يطير شرقًا وغربًا، وسلَّم له بالإِمامة في علم الحديث كلُّ من اطَّلع عليه، فإن كتبه الأخرى -وخاصة هذا الكتاب- قد حظيت بكل قبول وتقدير، واهتبالٍ واحتفال، لما أبدى فيه من قوة عارضة، وسعة أُفق، وحسن تقدير.
لقد كسر المصنف كتابه هذا على ثمانية أبواب، متيمِّنًا بأبواب الجنة الثمانية التي هي محطُّ نظر المؤمنين على الدوام، جعلنا الله وإياه من أهلها، متدرِّجًا في أحكام البصر تدرُّجًا سليمًا وقويمًا، بدءًا من غضِّ البصر عما لا يحلُّ، ومشروعية ذلك، إلى ما لا يجوز إبداؤه للناظرين وما يجوز، ثم في نظر الرجال إلى الرجال في شتى الأحوال، ثم في نظر النساء إلى النساء، ثم في نظر الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، وهذان البابان قد بلغ فيهما الذروة، وسامى المجتهدين الكبار، ثم عالج مسألة الضرورات المبيحة، وختمه في تقلبات
_________
(١) حقق بإشرافنا وطبع بمقدمة لنا.
1 / 10