ولم يكن من ريب عندي في أن وراء هذه الزيارة سرا. إن مدام بيارسون تريد ألا أقابلها لسبب لا أعرفه، فهل كان مركانسون يقوم بهذه المهمة من تلقاء نفسه؟
ومضى النهار وتبعه الليل، فنهضت مبكرا وقصدت بيت مدام بيارسون، فوجدت الخادمة أمام الباب، وإذ استوضحتها الأمر قالت: إن سيدتها مريضة، وحاولت عبثا أن أجرها إلى الاعتراف حتى بنفحها ببدرة من المال، فلزمت الصمت ولم تبح بشيء.
وفي عودتي إلى القرية صادفت مركانسون على المتنزه وحوله تلامذة عمه، فدعوته إلى كلمة أقولها له على انفراد، ومشيت فتبعني إلى الميدان، وهنالك رأيتني مترددا حائرا لا أعلم ما أقول لأنتزع منه سره ، وأخيرا قلت: أرجوك يا سيدي أن تعلن لي الحقيقة عما أخبرتني به أمس؛ أهي مريضة أم أن هنالك أمرا آخر؟ فأنت تعلم أن ليس في هذه الجهات طبيب يعتمد، وفوق ذلك فإن لدي أسبابا أخرى لها أهميتها تدعوني إلى الوقوف على جلية الأمر.
فصمد الرجل بوجهي لا يحول عما قاله أولا، وأضاف إلى ذلك قوله: إنها هي دعته إليها، وكلفته إبلاغي ما أعلنه لي. وكنت وصلت وإياه إلى ممر ضيق عند مدخل الشارع وضقت ذرعا بهذا الرجل المتصلب، فقبضت على ساعديه فجأة فذعر وقال: أتريد إرغامي بالقوة؟ - لا، ولكنني أريد أن تتكلم. - إنني لا أخاف أحدا، وقد قلت ما يجب أن أقوله. - لقد قلت ما يجب لا ما تعلم. إن مدام بيارسون ليست مريضة. - وكيف عرفت ذلك؟ - عرفته من الخادمة. فما هو السبب يا ترى في إيصادها الباب دوني، وفي إرسالك بمثل هذه المهمة إلي؟ ورأى مركانسون أحد الفلاحين مارا بنا فناداه باسمه قائلا له: لي معك كلام فانتظر.
وتقدم الفلاح نحونا، وكان ذلك ما يرجوه الكاهن؛ لعلمه بأنني لن أتمادى في الحديث أمام ثالث، وهكذا اضطرني إلى سحب قبضتي عن ساعده، ولكنني دفعته بشدة حتى إنه تراجع فجأة واصطدم ظهره بشجرة وقته السقوط، فحرق الأرم وذهب دون أن يفوه بكلمة.
ومضى الأسبوع علي وأنا على أحر من الجمر، أذهب كل يوم إلى باب مدام بيارسون فأراه موصدا بوجهي، وتلقيت أخيرا منها كتابا تقول فيه: إن تكرار زيارتي لها قد أصبح موضوع قال وقيل في البلد؛ فهي لذلك ترجو أن أقلل من عدد هذه الزيارات. وكان كتابها مقصورا علي ذلك، فهي لم تأت على ذكر مرضها ولا على ذكر مركانسون.
وكدت لا أصدق أن الكتاب منها لأول وهلة لما أعلمه من أخلاقها وعدم مبالاتها بالأراجيف، وترفعها عن إخضاع ضميرها لغيرها، ولكنني اضطررت أخيرا إلى إرسال كتاب أقول لها فيه: إنني لا أجد بدا من إجابة نداء قلبي والخضوع، وما كانت عباراتي إلا لتنم عن مرارة لم يسعني كتمانها.
ولم أذهب لزيارتها في اليوم الذي سمحت لي فيه بالقدوم إليها؛ لأثبت لها أنني لم أخدع بخبر مرضها، وما كنت لأعرف السبب الذي دعاها إلى إقصائي عنها، فذهب بي الحزن كل مذهب حتى سئمت الحياة، وخطر لي أن أتحرر منها، فكنت أمضي طوال الأيام في الغاب حتى مرت ذات يوم صدفة حيث كنت، فرأتني على أسوأ حال، وما جسرت على طلب الإيضاح منها إلا تلميحا، فلم تجب بصراحة، وهكذا أكرهتني على ألا أحاول تناول الموضوع مرة أخرى.
وكنت أعد الأيام التي تفصلني عنها حتى إذا جاء ميعاد الزيارة هرعت إليها وأنا مصمم على الانطراح أمام قدميها لأشرح لها حالي، وما وصلت إليه من اليأس آملا إثارة إشفاقها، ولكنني كنت أذكر ما فعلت أولا، ويتمثل أمامي رحيلها وقسوتها فيستولي على الذعر، وأحاذر فقدها، وكنت أفضل الموت على هذا البلاء.
وهكذا كان مقضيا علي أن أتعذب ولا أتنفس بالشكوى، فما طال بي الحال حتى تهدمت قواي، وكنت أحس بوهن ركبتي عن حملي إلى بيتها؛ لأنني كنت أشعر بأن ليس فيه غير ما يستذرف شئوني، وما عدت مرة من زيارتها إلا لأطلق عنان مدامعي كأنني أبارحها كيلا أراها بعد.
Неизвестная страница